المناهج التفسيريّة في علوم القرآن

الشيخ جعفر السبحاني

المناهج التفسيريّة في علوم القرآن

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-357-485-7
الصفحات: ٢٦٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

٢. شهادة القرآن على عدم تحريفه :

آية الحفظ

إنّ القرآن هو الكتاب النازل من عند الله سبحانه ، وهو سبحانه تكفّل صيانة القرآن وحفظه عن أيِّ تلاعب ، قال سبحانه : ( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ * إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ). (١)

إنّ المراد من الذكر في كلا الموردين هو القرآن الكريم بقرينة ( نُزِّلَ ) و ( نَزَّلْنَا ) والضمير في ( لَهُ ) يرجع إلى القرآن ، وقد أورد المشركون اعتراضات ثلاثة على النبي ، أشار إليها القرآن مع نقدها ، وهي :

١. أنّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتلقّى القرآن من لدن شخص مجهول ، ويشير إلى هذا الاعتراض قولهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ) بصيغة المجهول.

٢. انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مختل الحواس لا اعتبار بما يتلقّاه من القرآن وينقله ، فلا نُؤمن من تصرّف مخيّلته وعقليّته في القرآن.

٣. لو صحّ قوله : بأنّه ينزل عليه الملك ويأتي بالوحي فـ : ( لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ).

فقد أجاب الوحي عن الاعتراضات الثلاثة ، ونقدّم الجواب عن الثاني والثالث بوجه موجز ، ثمّ نعطف النظر إلى الاعتراض الأوّل لأهميته.

______________________

١. الحجر : ٦ ـ ٩.

٢٠١
 &

أمّا الثاني ، فقد ردّه بالتصريح بأنّه سبحانه هو المنزِّل دون غيره وقال : ( إِنَّا نَحْنُ ).

كما رد الثالث بأنّ نزول الملائكة موجب لهلاكهم وإبادتهم ، وهو يخالف هدف البعثة ، حيث قال : ( وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ ).

وأمّا الأوّل ، فقد صرّح سبحانه بأنّه الحافظ لذكره عن تطرق أيّ خلل وتحريف فيه ، وهو لا تُغلب إرادته.

وبذلك ظهر عدم تمامية بعض الاحتمالات في تفسير الحفظ حيث قالوا المراد :

١. حفظه من قدح القادحين.

٢. حفظه في اللوح المحفوظ.

٣. حفظه في صدر النبي والإمام بعده.

فإنّ قدح القادحين ليس مطروحاً في الآية حتى تجيب عنه الآية ، كما أنّ حفظه في اللوح المحفوظ أو في صدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يرتبط باعتراض المشركين ، فإنّ اعتراضهم كان مبنيّاً على اتهام النبي بالجنون الذي لا ينفك عن الخلط في إبلاغ الوحي ، فالإجابة بأنّه محفوظ في اللوح المحفوظ أو ما أشبهه لا يكون قالعاً للإشكال ، فالحقّ الذي لا ريب فيه انّه سبحانه يخبر عن تعهده بحفظ القرآن وصيانته في عامّة المراحل ، فالقول بالنقصان يضاد مع تعهده سبحانه.

فإن قلت : إنّ مدّعي التحريف يدّعي التحريف في نفس هذه الآية ، لأنّها بعض القرآن ، فلا يكون الاستدلال بها صحيحاً ، لاستلزامه الدور الواضح.

قلت : إنّ مصبّ التحريف ـ على فرض طروئه ـ عبارة عن الآيات الراجعة إلى الخلافة والزعامة لأئمّة أهل البيت ، أو ما يرجع إلى آيات الأحكام ، كآية

٢٠٢
 &

الرجم ، وآية الرضعات ، وأمثالهما ؛ وأمّا هذه الآية ونحوها فلم يتطرّق التحريف إليها باتّفاق المسلمين.

آية نفي الباطل

يصف سبحانه كتابه بأنّه المقتدر الذي لا يُغْلَب ولا يأتيه الباطل من أي جانب ، قال : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ). (١)

ودلالة الآية رهن بيان أُمور :

الأوّل : المراد من الذكر هو القرآن ، ويشهد عليه قوله : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ) مضافاً إلى إطلاقه على القرآن في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ). (٢) وقال سبحانه : ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ). (٣)

الثاني : انّ خبر « انّ » محذوف مقدّر وهو : سوف نجزيهم وما شابهه.

الثالث : الباطل يقابل الحق ، فالحق ثابت لا يُغْلب ؛ والباطل له جولة ، لكنّه سوف يُغلب ، مثلهما كمثل الماء والزبد ، فالماء يمكث في الأرض والزبد يذهب جفاء ، قال سبحانه : ( كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ). (٤)

فالقرآن حقّ في مداليله ومفاهيمه ، وأحكامه خالدة ، ومعارفه وأُصوله مطابقة للفطرة ، وأخباره الغيبية حق لا زيغ فيه ، كما أنّه نزيه عن التناقض بين

______________________

١. فصلت : ٤١ ـ ٤٢.

٢. الحجر : ٦.

٣. الزخرف : ٤٤.

٤. الرعد : ١٧.

٢٠٣
 &

دساتيره وأخباره ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ). (١)

فكما أنّه حقّ من حيث المادة والمعنى ، حقّ من حيث الصورة واللفظ أيضاً ، فلا يتطرّق إليه التحريف ، ونعم ما قاله الطبرسي : لا تناقض في ألفاظه ، ولا كذب في أخباره ، ولا يعارض ، ولا يزداد ، ولا ينقص. (٢)

ويؤيّده قوله قبل هذه الآيات : ( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ). (٣) ولعلّه إشارة إلى ما كان يدخله في نفسه من إمكان إبطال شريعته بعد مماته ، فأمره بالاستعاذة بالله السميع العليم.

والحاصل أنّ تخصيص مفاد الآية ( نفي الباطل ) بطروء التناقض في أحكامه وتكاذب أخباره لا وجه له ، فالقرآن مصون عن أيّ باطل يبطله ، أو فاسد يفسده ، بل هو غضّ طريّ لا يُبْلىٰ وَلا يُفنىٰ.

آية الجمع

رُوي أنّه إذا نزل القرآن ، عجل النبي بقراءته ، حرصاً منه على ضبطه ، فوافاه الوحي ونهاه عنه ، وقال : ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ). (٤) فعلى الله سبحانه الجمع والحفظ والبيان. كما ضمن في آية أُخرى عدم نسيانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن وقال : ( سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَىٰ * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ ). (٥)

هذا بعض ما يمكن أن يستدلّ به ، على صيانة القرآن من التحريف

______________________

١. النساء : ٨٢.

٢. مجمع البيان : ٩ / ١٥ ، ط صيدا.

٣. فصّلت : ٣٦.

٤. القيامة : ١٦ ـ ١٩.

٥. الأعلى : ٦ ـ ٧.

٢٠٤
 &

بالقرآن ، والاستثناء في الآية الأخيرة نظير الاستثناء في قوله : ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ). (١) ومن المعلوم انّ أهل السعادة محكومون بالخلود في الجنة ويشهد له ذيل الآية ، أعني : قوله : ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) أي غير مقطوع ، ومع ذلك فليس التقدير على وجه يخرج الأمر من يده سبحانه ، فهو في كلّ حين قادر على نقض الخلود.

وأمّا الروايات الدالّة على كونه مصوناً منه ، فنقتصر منها بما يلي :

١. أخبار العرض

قد تضافرت الروايات عن الأئمّة عليهم‌السلام بعرض الروايات على القرآن والأخذ بموافقه وردّ مخالفه ، وقد جمعها الشيخ الحر العاملي في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي.

روى الكليني عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ على كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه ». (٢)

وروى أيّوب بن راشد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف ». (٣)

وفي رواية أيوب بن الحر ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة ، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف ». (٤)

______________________

١. هود : ١٠٨.

٢. الوسائل : الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠.

٣ و ٤. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٢ ، ١٥ وغيرها.

٢٠٥
 &

وجه الدلالة من وجهين :

ألف. انّ المتبادر من أخبار العرض انّ القرآن مقياس سالم لم تنلـه يد التبديل والتحريف والتصرف ، والقول بالتحريف لا يلائم القول بسلامة المقيس عليه.

ب. انّ الإمعان في مجموع روايات العرض يثبت انّ الشرط اللازم هو عدم المخالفة ، لا وجود الموافقة ، وإلّا لزم ردّ أخبار كثيرة لعدم تعرض القرآن إليها بالإثبات والنفي ، ولا تعلم المخالفة وعدمها إلّا إذا كان المقيس ( القرآن ) بعامة سوره وأجزائه موجوداً عندنا ، وإلّا فيمكن أن يكون الخبر مخالفاً لما سقط وحرّف.

٢. حديث الثقلين

إنّ حديث الثقلين يأمر بالتمسّك بالقرآن ، مثل التمسّك بأقوال العترة ، حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا » ويستفاد منه عدم التحريف ، وذلك :

ألف. انّ الأمر بالتمسّك بالقرآن ، فرع وجود القرآن بين المتمسّكين.

ب. انّ القول بسقوط قسم من آياته وسُوَره ، يوجب عدم الاطمئنان فيما يستفاد من القرآن الموجود ، إذ من المحتمل أن يكون المحذوف قرينة على المراد من الموجود.

أهل البيت وصيانة القرآن

إنّ الإمعان في خطب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وكلمات أوصيائه المعصومين عليهم‌السلام يعرب عن اعتبارهم القرآن الموجود بين ظهراني المسلمين ، هو

٢٠٦
 &

كتاب الله المنزل على رسوله بلا زيادة ولا نقيصة ، ويعرف ذلك من تصريحاتهم تارة ، وإشاراتهم أُخرى ، ونذكر شيئاً قليلاً من ذلك :

١. قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنزل عليكم الكتاب تبياناً لكلّ شيء ، وعمّر فيكم نبيّه أزماناً ، حتى أكمل له ولكم ـ فيما أنزل من كتابه ـ دينه الذي رضي لنفسه ». (١)

والخطبة صريحة في إكمال الدين تحت ظل كتابه ، فكيف يكون الدين كاملاً ومصدره محرّفاً غير كامل ؟! ويوضح ذلك انّ الإمام يحثّ على التمسّك بالدين الكامل بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو فرع كمال مصدره وسنده.

٢. وقال عليه‌السلام : « وكتاب الله بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه ، وبيت لا تهدم أركانه ، وعزٌّ لا تهزم أعوانه ». (٢)

٣. وقال عليه‌السلام : « كأنّهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم ». (٣)

وفي رسالة الإمام الجواد إلى سعد الخير (٤) : « وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه ، وحرّفوا حدوده ». (٥)

وفي هذا تصريح ببقاء القرآن بلفظه ، وانّ التحريف في تطبيقه على الحياة حيث لم يطبقوا أحكامه في حياتهم ، ومن أوضح مظاهره منع بنت المصطفى عليها‌السلام من إرث والدها مع أنّه سبحانه يقول : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ

______________________

١. نهج البلاغة : الخطبة ٨٦.

٢. نهج البلاغة : الخطبة ١٣٣.

٣. نهج البلاغة : الخطبة : ١٤٧.

٤. هو من أولاد عمر بن عبد العزيز ، وقد بكى عند أبي جعفر الجواد لاعتقاده أنّه من الشجرة الملعونة في القرآن ، فقال الإمام عليه‌السلام له : « لست منهم وأنت منّا ، أما سمعت قوله تعالى : ( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ). ( لاحظ قاموس الرجال : ٥ / ٣٥ ) ومنه يعلم وجه تسميته بالخير.

٥. الكافي : ٨ / ٥٣ ح ١٦.

٢٠٧
 &

الْأُنْثَيَيْنِ ). (١)

وقال سبحانه : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ). (٢)

وقال سبحانه عن لسان زكريا : ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ). (٣)

ولعلّ فيما ذكرنا كفاية ، فلنستعرض كلمات علمائنا.

الشيعة وصيانة القرآن

إنّ التتبع في كلمات علمائنا الكبار الذين كانوا هم القدوة والأُسوة في جميع الأجيال ، يعرب عن أنّهم كانوا يتبرّأون من القول بالتحريف ، وينسبون فكرة التحريف إلى روايات الآحاد ، ولا يمكننا نقل كلمات علمائنا عبر القرون ، بل نشير إلى كلمات بعضهم :

١. قال الشيخ الأجل الفضل بن شاذان الأزدي النيسابوري ( المتوفّى ٢٦٠ هـ ) ـ في ضمن نقده مذهب أهـل السنّـة ـ : إنّ عمر بن الخطاب قال : إنّي أخاف أن يقال زاد عمر في القرآن ثبتَ هذه الآية ، فانّا كنّا نقرؤها على عهد رسول الله : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة بما قضيا من الشهوة نكالاً من الله والله عزيز حكيم. (٤)

فلو كان التحريف من عقائد الشيعة ، لما كان له التحامل على السنّة بالقول بالتحريف لاشتراكهما في ذلك القول.

______________________

١. النساء : ١١.

٢. النمل : ١٦.

٣. مريم : ٥ ـ ٦.

٤. الإيضاح : ٢١٧. روى البخاري آية الرجم في صحيحه : ٨ / ٢٠٨ باب رجم الحبلى.

٢٠٨
 &

٢. قال أبو جعفر الصدوق ( المتوفّـى ٣٨١ هـ ) : اعتقادنا أنّه كلام الله ووحيه تنزيلاً ، وقوله في كتابه : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) وانّه القصص الحق ، وانّه لحقّ فصل ، وما هو بالهزل ، وانّ الله تبارك وتعالى مُحْدثه ومنزله وربّه وحافظه والمتكلّم به. (١)

٣. قال الشيخ المفيد ( المتوفّـى ٤١٣ هـ ) : وقد قال جماعة من أهل الإمامة انّه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة ، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليه‌السلام من تأويل وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتاً منزلاً ، وإن لم يكن من جملة كلام الله الذي هو القرآن المعجز ، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً ، وعندي انّ هذا القول أشبه بالحقّ من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل وإليه أميل. (٢)

وقال أيضاً في أجوبة « المسائل السروية » في جواب من احتج على التحريف بالروايات الواردة حيث ورد فيها « كنتم خير أئمّة أُخرجت للناس » مكان ( أُمَّة ) ، وورد كذلك « جعلناكم أئمة وسطاً » مكان ( أُمَّة ) وورد « يسألونك الأنفال » مكان ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ ) ، فأجاب : انّ الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يقطع على الله تعالى بصحتها ، فلذلك وقفنا فيها ، ولم نعدل عمّا في المصحف الظاهر. (٣)

٤. قال الشريف المرتضى ( المتوفّى ٤٣٦ هـ ) : مضافاً إلى من نقلنا عنه في الدليل الأوّل ، انّ جماعة من الصحابة ، مثل عبد الله بن مسعود وأُبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي عدّة ختمات ، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه

______________________

١. اعتقادات الصدوق : ٩٣.

٢. أوائل المقالات : ٥٣ ـ ٥٤.

٣. مجموعة الرسائل للمفيد : ٣٦٦.

٢٠٩
 &

كان مجموعاً مرتباً غير مستور ولا مبثوث. (١)

٥. قال الشيخ الطوسي ( المتوفّـى ٤٦٠ هـ ) : أمّا الكلام في زيادة القرآن ونقصه فما لا يليق به أيضاً ، لأنّ الزيادة مجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى ، وهو الظاهر من الرواية ، ثمّ وصف الروايات المخالفة بالآحاد.

٦. قال أبو علي الطـبرسي ( المتـوفّـى ٥٤٨ هـ ) الكلام في زيادة القـرآن ونقصانه ؛ أمّا الزيادة فيه فمجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة انّ في القرآن تغييراً أو نقصاناً ، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه. (٢)

٧. قال السيد علي بن طاووس الحلّي ( المتوفّى ٦٦٤ هـ ) : إنّ رأي الإمامية هو عدم التحريف. (٣)

٨. قال العلّامة الحلّي ( المتوفّى ٧٢٦ هـ ) في جواب السيد الجليل المهنّا : الحق انّه لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم ، وانّه لم يزد ولم يُنْقَص ، ونعوذ بالله من أن يعتقد مثل ذلك وأمثال ذلك ، فإنّه يوجب تطرّق الشك إلى معجزة الرسول المنقولة بالتواتر. (٤)

٩. قال المحقّق الأردبيلي ( المتوفّى ٩٩٣ هـ ) في مسألة لزوم تحصيل العلم : بأنّ ما يقرأه هو القرآن ، فينبغي تحصيله من التواتر الموجب للعلم ، وعدم جواز الاكتفاء بالسماع حتى من عدل واحد ـ إلى أن قال : ـ ولما ثبت تواتره فهو مأمون

______________________

١. مجمع البيان : ١ / ١٠ ، نقلاً عن جواب المسائل الطرابلسية للسيد المرتضى.

٢. مجمع البيان : ١ / ١٠.

٣. سعد السعود : ١٤٤.

٤. أجوبة المسائل المهنائية : ١٢١.

٢١٠
 &

من الاختلال ... مع أنّه مضبوط في الكتب حتى أنّه معدود حرفاً حرفاً ، وحركة حركة ، وكذا طريق الكتابة وغيرها ممّا يفيد الظن الغالب بل العلم بعدم الزيادة على ذلك والنقص. (١)

١٠. وقال القاضي السيد نور الله التستري ( المتوفّى ١٠٢٩ هـ ) : ما نسب إلى الشيعة الإمامية من وقوع التحريف في القرآن ليس ممّا يقول به جمهور الإمامية ، إنّما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد لهم فيما بينهم. (٢)

ولو استقصينا كلمات علمائنا في هذا المجال لطال بنا الموقف. إلى هنا ظهر الحقّ بأجلى مظاهره فلم يبق إلّا دراسة بعض الشبهات ودحضها.

______________________

١. مجمع الفائدة والبرهان : ٢ / ٢١٨ ، في محل النقاط كلمة « لفسقه » فتأمل.

٢. آلاء الرحمن : ١ / ٢٥.

٢١١
 &

شبهات مثارة حول صيانة القرآن

اعتمد بعض الأخباريين في قولهم بالتحريف بوجوه لا يصلح تسميتها بشيء سوى كونها شبهاً ، وإليك بعض شبهاتهم.

الشبهة الأُولى : وجود مصحف لعلي عليه‌السلام

روى ابن النديم ( المتوفّى ٣٨٥ هـ ) في « فهرسته » عن علي عليه‌السلام انّه رأى من الناس طيرة عند وفاة النبي ، فأقسم أن لا يضع عن ظهره رداءه حتى يجمع القرآن ، فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن. (١)

روى اليعقوبي ( المتوفّى ٢٩٠ هـ ) في « تاريخه » : روى بعضهم أنّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان جمعه ـ القرآن ـ لمّا قبض رسول الله ، وأتى وحمله على جمل ، فقال : هذا القرآن جمعته ، وكان قد جزّأه سبعة أجزاء ، ثمّ ذكر كلّ جزء ، والسور الواردة فيه.

يلاحظ عليه : أنّ الإمعان فيما ذكره اليعقوبي انّ مصحف علي لا يخالف المصحف الموجود في سوره وآياته ، وإنّما يختلف في ترتيب السور ، وهذا يثبت انّ ترتيب السور كان باجتهاد الصحابة والجامعين ، بخلاف وضع الآيات

______________________

١. فهرست ابن النديم ، نقله الزنجاني في تاريخ القرآن : ٧٦.

٢١٢
 &

وترتيبها ، فانّه كان بإشارة النبي ، وما ذكره ابن النديم يثبت انّ القرآن كان مكتوباً في عصر النبي كلّ سورة على حدة وكان فاقداً للترتيب الذي رتّبه الإمام على سبعة أجزاء ، وكلّ جزء يشتمل على سور ، وقد نقل المحقّق الزنجاني ترتيب سور مصحف الإمام في ضمن جداول تعرب عن أنّ مصحَف عليّ عليه‌السلام كان في سبعة أجزاء ، وكلّ جزء يحتوي على سور ، فالجزء الأوّل يسمّى بالبقرة وفيه سور ، والجزء الثاني يسمى جزء آل عمران وفيه سور ، والثالث جزء النساء وفيه سور ، والرابع جزء المائدة وفيه سور ، والخامس جزء الأنعام وفيه سور ، والسادس جزء الأعراف وفيه سور ، والسابع جزء الأنفال وفيه سور ، والظاهر منه انّ التنظيم لم يكن على نسق تقديم الطوال على القصار ولا على حسب النزول ، وإليك صورته :

٢١٣
 &

ترتيب السور في مصحف علي عليه‌السلام

الجزء الأول

الجزء الثاني

الجزء الثالث

الجزء الرابع

البقرة

يوسف

العنكبوت

الروم

لقمان

حۤم السجدة

الذاريات

هل أتى على الإنسان

ألم تنزيل

السجدة

النازعات

إذا الشمس كورت

إذا السماء انفطرت

إذا السماء انشقت

سبح اسم ربّك الأعلى

لم يكن

آل عمران

هود

الحج

الحجر

الأحزاب

الدُّخان

الرحمن

الحاقة

سأل سائل

عبس وتولى

والشمس وضحيهٰا

إنا أنزلناه

إذا زلزلت

ويل لكل همزة

ألم تر كيف

لإيلاف قريش

النساء

النحل

المؤمنون

يۤس

حَمعسق

الواقعة

تبارك ... الملك

يا أيُّها المدثر

أرأيت

تبت

قل هو الله أحد

والعصر

القارعة

والسماء ذات البروج

والتين والزيتون

طس

النمل

المائدة

يونس

مريم

طسم

الشعراء

الزخرف

الحجرات

ق والقرآن المجيد

اقتربت الساعة

الممتحنة

والسماء والطارق

لا أُقسم بهذا البلد

ألم نشرح لك

والعاديات

إنّا أعطيناك الكوثر

قل يا أيها الكافرون

فذلك جزء البقرة

فذلك جزء آل عمران

فذلك جزء النساء

فذلك جزء المائدة

٢١٤
 &

الجزء الخامس

الجزء السادس

الجزء السابع

الأنعام

سبحان

اقترب

الفرقان

موسى

فرعون

حمۤ

المؤمن

المجادلة

الحشر

الجمعة

المنافقون

ن والقلم

إنّا أرسلنا نوحاً

قل أوحي إليّ

المرسلات

والضحى

الهيٰكم

الأعراف

إبراهيم

الكهف

النور

ص

الزمر

الشريعة

الّذين كفروا

الحديد

المزمل

لا أُقسم بيوم القيامة

عمّ يتساءلون

الغاشية

والفجر

والليل إذا يغشى

إذا جاء نصر الله

.........

.........

الأنفال

براءة

طه

الملائكة

الصافات

الأحقاف

الفتح

الطور

النّجم

الصَّف

التغابن

الطلاق

المطففين

المعوذتين

.........

.........

.........

........

فذلك جزء الأنعام

فذلك جزء الأعراف

فذلك جزء الأنفال

٢١٥
 &

فالإمعان في هذا الجدول يثبت بأنّ السور الموجودة فيه ، هي نفس السور في المصحف وإنّما الاختلاف في ترتيبها ، وقد نقل الشهرستاني ـ حسب ما نقله المحقّق الزنجاني ـ ترتيب السور في مصحف عبد الله بن عباس ، فترتيب السور فيها يخالف ترتيب المصحف ولكن السور ، نفسها.

وممّا يدل على أنّ الفرق بين مصحفه عليه‌السلام وسائر المصاحف كان منحصراً في كيفية ترتيب السور فقط ، ما رواه الشيخ المفيد عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : « إذا قام قائم آل محمد عليه‌السلام ضرب فساطيط لمن يعلّم الناس القرآن ، على ما أنزل الله ـ جلّ جلاله ـ فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم ، لأنّه يخالف فيه التأليف ». (١)

الشبهة الثانية : تشابه مصير الأُمّتين

روى الفريقان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « والذي نفسي بيده لتركبن سنّة من قبلكم حذو النعل بالنعل ، والقُذة بالقذة لا تخطئون طريقهم ». (٢) وقد حرّفت اليهود والنصارى كتبهم ، فيلزم وقوع مثله في الأُمّة الإسلامية.

يلاحظ عليه : مضافاً إلى أنّه خبر واحد لا يحتج به في العقائد ، بأنّ الاستدلال لا يتم إلّا بتعيين وجه التشابه بين الأُمم السالفة والأُمّة الإسلامية ، فهناك احتمالان :

ألف : التشابه بين الأُمّتين ، في جوهر الحوادث وخصوصياتها ولبّها وكيفياتها.

______________________

١. الإرشاد للمفيد : ٣٦٥.

٢. صحيح مسلم : ٨ / ٥٧ ، باب اتباع سنن اليهود والنصارى ؛ وصحيح البخاري : ٩ / ١٠٢ ، كتاب الاعتصام ؛ وسنن الترمذي : ٥ / ٢٦ ، كتاب الإيمان.

٢١٦
 &

ب : التشابه في أُصولها وذاتياتها ، لا في ألوانها وصورها.

أمّا الأوّل ، فهو ممّا لا يمكن القول به ، إذ لم تواجه الأُمّة الإسلامية ، ما واجهت اليهود في حياتهم ، وذلك :

١. انّهم عاندوا أنبياءهم فابتلوا بالتيه في وادي سيناء ، لمّا أمرهم موسى بدخول الأرض المقدّسة واعتذروا بأنّ فيها قوماً جبارين ، وانّهم لن يدخلوها حتى يخرجوا منها ، فوافاه الخطاب بأنّها ( مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ). (١) مع أنّ المسلمين لم يبتلوا بالتيه.

٢. انّهم عبدوا العجل ـ اتّخذوه إلهاً ـ في غياب موسى قال سبحانه : ( ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ). (٢) والمسلمون ـ بفضل الله سبحانه ـ استمروا على نهج التوحيد ولم يعبدوا وثناً ولا صنماً.

٣. عاش بنو إسرائيل في عصر عجّ بالحوادث ، أشار إليها القرآن ولم يُر أثر منها في حياة المسلمين ، كلّ ذلك يدلّ على أنّ ليس المراد التشابه في الصور والخصوصيات.

مثلاً انّ بني إسرائيل ظُلّلوا بالغمام ونُزّل عليهم المنُّ والسلوى ، ولم يُر ذلك في المسلمين.

وأمّا الثاني ، فهو المراد ـ إذا صحّت هذه الأخبار ولم نقل انّها أخبار آحاد غير مروية في الكتب المعتبرة ولا يُحتج بخبر الواحد في باب العقائد ـ ويشهد التاريخ بابتلاء المسلمين بنفس ما ابتليت به الأُمم السالفة في الجوهر والذات.

ألف. فقد دبّ فيهم دبيبُ الاختلاف بعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتفرّقوا إلى فرق مختلفة كاختلاف الأُمم السالفة ، ولو انّهم افترقوا إلى إحدى وسبعين أو اثنين وسبعين

______________________

١. المائدة : ٢٦.

٢. البقرة : ٥١.

٢١٧
 &

فرقة ، فالمسلمون افترقوا إلى ثلاث وسبعين فرقة.

ب. ظهرت بين الأُمّة الإسلامية ظاهرة الارتداد ، مثلما ارتدّ بعض أصحاب المسيح ودلّ اليهودَ علىٰ مكانه ، وهذا هو البخاري يروي في حديث أنّ أصحاب النبي يُمنعون من الحوض ، ويقول النبي : لماذا يمنعون ، مع أنّهم أصحابي ، فيجاب أنّهم ليسوا من أصحابك ، انّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، انّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. (١)

ج. انّهم خصّوا العقوبات بالفقراء دون الأغنياء ، فإذا سرق الفقير منهم أجروا عليه الحد ، وإذا سرق الغني ، امتنعوا منه ـ على ما رواه مسلم في صحيحه (٢) ـ فقد ابتلت الأُمّة بهذه الظاهرة منذ رحيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد عُطِّلَت الحدود في خلافة عثمان ، كما نطق به التاريخ.

د. انّهم حرّفوا كتبهم ، بتفسيرها على غير وجهه ، ويكفي في التشابه هذا المقدار من التحريف ، وقد روي عن الإمام الجواد عليه‌السلام انّه قال : « المسلمون : أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده ، فهم يروونَه ولا يرعونه » (٣).

فقد ورد في العهدين أوصاف النبي على وجه يعرفون بها النبي كما يعرفون أبناءهم ، قال سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ) (٤) ، وقال سبحانه : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ) (٥) ومع ذلك كانوا يؤوّلون البشائر ويفسّـرونها على غير

______________________

١. جامع الأُصول : ١١ / ١١٩ ـ ١٢١.

٢. صحيح مسلم ج ٥ ، باب قطع السارق ص ١١٤.

٣. الكافي : ٨ / ٥٣ ح ١٦.

٤. البقرة : ١٤٦.

٥. الأعراف : ١٥٧.

٢١٨
 &

واقعها ، ومن قرأ تاريخ النبي مع اليهود المعاصرين له يقف على أنّهم كيف كانوا يضلّلون الناس بتحريف كتبهم ، بتفسيرها على غير وجهها ؟

ولعلّ وجه التشابه ما أوردناه في الوجه الثاني ، ومعه لا يصحّ لأحد أن يقول : إنّ التشابه بين الفريقين ، هو انّ التحريف قد مسّ جوهر الكتاب المقدّس ، فإنّ ما بأيدي اليهود إنّما كُتب بعد رحيل موسى بخمسة قرون ، ومثلها الإنجيل فإنّه أشبه بكتاب روائيّ يتكفّل ببيان حياة المسيح إلى أن صُلِب وقُبر ، وأين هو من الكتاب السماوي ؟!

نعوذ بالله من الزلل في الرأي والقول والعمل.

الشبهة الثالثة : عدم الانسجام بين الآيات والجمل

وهذه الشبهة أبدعها الملاحدة حول آيات القرآن الكريم ، واتّخذها القائلون بالتحريف ذريعة لعقيدتهم وقد كتب « سايل الانكليزي » كتاباً في هذا الصدد ، ونقله إلى العربية هاشم العربي ـ وكأنّ الاسم اسم مستعار ـ وردّ عليه المحقّق البلاغي بكتاب أسماه « الهدى إلى دين المصطفى » ولنذكر نماذج :

١. آية الكرسي وتقديم السنة على النوم

قال سبحانه : ( لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ) (١) مع أنّ الصحيح أن يقول لا تأخذه نوم ولا سنة ، فإنّ الرائج في هذه الموارد هو التدرّج من العالي إلى الداني كما يقال : لا يأخذني عند المطالعة ، نوم ولا سنة.

والجواب : إنّ الأخذ في الآية بمعنى الغلبة واللازم عندئذٍ هو التدرّج من الداني إلى العالي كما هو واضح ، والآية بصدد تنزيهه سبحانه عن كلّ ما يوجب

______________________

١. البقرة : ٢٥٥.

٢١٩
 &

الغفلة ، مثلاً لو فرضنا انّ زيداً أشجع من عمرو وأراد المتكلِّم أن يصف شجاعته الفائقة يقول ما غلبني عمرو ولا زيد فيقدم الضعيف على الشجاع ، ولو عكس يكون مستهجناً ويكون ذكر الضعيف زائداً.

٢. آية الخوف عن إقامة القسط

قال سبحانه : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ). (١)

وجه الاستدلال : انّه لا صلة بين الشرط والجزاء ، فكيف يترتّب الإذن في نكاح النساء ( مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ) على الخوف من عدم إقامة القسط في اليتامى ؟

يلاحظ عليه : أنّ القرآن يعتمد في إفهام مقاصده على القرائن الحالية بلا إيجاز مخلّ ، وقد ذكر أمر اليتامى في نفس السورة في الآيات التالية :

١. ( وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ). (٢)

٢. ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ ... ). (٣)

٣. ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ). (٤)

٤. ( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَىٰ بِالْقِسْطِ ). (٥)

______________________

١. النساء : ٣.

٢. النساء : ٢.

٣. النساء : ٣.

٤. النساء : ١٠.

٥. النساء : ١٢٧.

٢٢٠