المناهج التفسيريّة في علوم القرآن

الشيخ جعفر السبحاني

المناهج التفسيريّة في علوم القرآن

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-357-485-7
الصفحات: ٢٦٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

المناهج التفسيريّة

١
 &

المناهج التفسيريّة

٢
 &

المناهج التفسيريّة

٣
 &

المناهج التفسيريّة

٤
 &

المقدّمة :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم

الحمد لله الذي نزّل الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً للعالمين.

والصلاة والسلام على من نزل الكتاب على قلبه ليكون من المنذرين ، وعلى العترة الطاهرة أعدال الكتاب وقرناؤه.

أمّا بعد ؛ فهذه رسالة موجزة تتكفّل ببيان المناهج التفسيرية صحيحها وسقيمها ، وتُبيّن الفرق بين المنهج التفسيري والاهتمام التفسيري ، فأُصول المنهج لا تتعدّى عن أصلين :

أ. التفسير بالعقل.

ب. التفسير بالنقل.

لكنّ لكلّ صوراً :

أمّا الأوّل فصوره عبارة عن :

١. التفسير بالعقل الصريح.

٢. التفسير على ضوء المدارس الكلامية.

٣. التفسير على ضوء السنن الاجتماعية.

٤. التفسير على ضوء العلم الحديث.

٥
 &

٥. التفسير حسب تأويلات الباطنية.

٦. التفسير حسب تأويلات الصوفية.

أمّا الثاني فصوره عبارة عن :

أ. تفسير القرآن بالقرآن.

ب. التفسير البياني للقرآن.

ج. تفسير القرآن باللغة والقواعد العربية.

د. تفسير القرآن بالمأثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام.

فهذه الصور العشر من فروع المنهجين الأصليّين ، وفي ثنايا البحث نشير إلى ما لا غنى للباحث المفسر عنه ، وأرجو منه سبحانه أن تكون الرسالة بإيجازها نافعة لقارئها الكريم بإذن منه.

وما ذكرناه من تقسيم منهج التفسير إلى التفسير بالعقل والنقل أمر ذائع.

وفي مقدّمة معالم التنزيل للإمام البغوي ( المتوفّى عام ٥١٦ هـ ) ما هذا لفظه :

التفسير بالمنقول : هو التفسير بالمأثور الذي رواه الصحابة والتابعون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو ما روى علماء الأثر عن الصحابة والتابعين أيضاً ممّا يتعلّق بالقرآن الكريم من كلّ الوجوه ، هو من التفسير بالأُمور.

ومصادره القراءات القرآنية سواء منها المتواتر والمشهور والشاذ ، والأحاديث النبوية ، وأقوال الصحابة والتابعين ، والأئمّة المجتهدين.

التفسير بالمعقول : هو التفسير العقلي الذي يعتمد فيه علم الفهم العميق ، والإدراك المركّز لمعاني الألفاظ القرآنية ، بعد إدراك مدلول العبارات القرآنية التي تنظم في سلكها تلك الألفاظ الكريمة وفهم دلالاتها فهماً دقيقاً.

٦
 &

وهذا القسم من التفسير يقوم على الاجتهاد في فهم النصوص القرآنية وإدراك مقاصدها ومعرفة مدلولها ، عن طريق معرفة المفسر لكلام العرب ومناحيهم في القول وأساليبهم في التعبير ، ومعرفة دلالة الألفاظ ووجوهها ، وآلة هذا النوع من التفسير علوم الاستنباط وأُصول التشريع. (١)

وقبل أن ندخل في صلب الموضوع نقدّم مباحث تمهيدية لها أهمّيتها الخاصّة في عالم التفسير ، كما أنّ لها صلة وثيقة بالمناهج التفسيرية.

جعفر السبحاني

قم ـ مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام

تحريراً في ٢٧ رجب المرجّب من شهور عام ١٤٠٩

______________________

١. مقدّمة معالم التنزيل : ١ / ١٠ ـ ١١.

٧
 &

المناهج التفسيريّة

٨
 &

المناهج التفسيريّة

٩
 &

المناهج التفسيريّة

١٠
 &

التفسير و حاجة القرآن إليه

التفسير مأخوذ من « فسَّر » بمعنى : أبان وكشف.

قال الراغب : الفَسْر ، والسَفْر متقاربا المعنىٰ كتقارب لفظيهما ، والفرق بينهما أنّ الأوّل يستعمل في إظهار المعنى المعقول ، كقوله سبحانه : ( وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ) (١) أي أحسن تبييناً.

والثاني يُستعمل في إبراز الأعيان للأبصار ، يقال : أسفر الصبحُ ، أو سفرتْ المرأة عن وجهها. (٢)

وأمّا في الاصطلاح فبما انّ التفسير علم كسائر العلوم فله تعريفه وموضوعه ومسائله وغايته.

أمّا التعريف فقد عرف بوجوه ، منها :

١. هو العلم الباحث عن تبيين دلالات الآيات القرآنية على مراد الله سبحانه.

وبعبارة أُخرى : إزالة الخفاء عن دلالة الآية على المعنى المقصود.

وهناك تعريفات أُخرى نشير إلى بعضها.

______________________

١. الفرقان : ٣٣.

٢. مقدّمة التفسير : ٣٣.

١١
 &

وعرّفه الزركشي بقوله : علم يعرف به فهم كتاب الله تعالى المنزل على نبيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيان معانيه ، واستخراج أحكامه وحكمه. (١)

وأمّا موضوعه فهو كلام الله سبحانه المسمّى بالقرآن الكريم.

وأمّا مسائله فهي ما يستظهر من الآيات بما أنّه مراده سبحانه.

وأمّا الغرض منه فهو الوقوف على مراده سبحانه في مجالي المعارف والمغازي والقصص واستنباط الأحكام الشرعية منه.

ثمّ إنّ الرأي السائد بين المسلمين أنّ القرآن غير غني عن التفسير ، إمّا من جانب نفسه كتبيين معنى آية بأُختها ، أو تبيينه بكلام من نزل على قلبه.

يقول سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (٢) ولم يقل « لتقرأ » بل قال : ( لِتُبَيِّنَ ) إشارة إلى أنّ القرآن يحتاج وراء قراءة النبي ، إلى تبيين ، فلو لم نقل أنّ جميع الآيات بحاجة إليه ، فلا أقل أنّ هناك قسماً منها يحتاج إليه بأحد الطريقين : تفسير الآية بالآية ، أو تفسيرها بكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والذي يكشف عن حاجة القرآن إلى التبيين أُمور ، نذكر منها ما يلي :

١. إنّ أسباب النزول ، للآيات القرآنية ، كقرائن حالية اعتمد المتكلم عليها في إلقاء كلامه بحيث لو قطع النظر عنها ، وقُصِّـر إلى نفس الآية ، لصارت الآية مجملة غير مفهومة ، ولو ضمّت إليها تكون واضحة شأن كل قرينة منفصلة عن الكلام ، وإن شئت لاحظ قوله سبحانه : ( وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن

______________________

١. البرهان في علوم القرآن : ١ / ٣٣.

٢. النحل : ٤٤.

١٢
 &

لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (١).

ترى أنّ الآية تحكي عن أشخاص ثلاثة تخلّفوا عن الجهاد حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، فعند ذلك يسأل الإنسان نفسه ، مَن هم هؤلاء الثلاثة ؟ ولماذا تخلّفوا ؟ ولأيّ سبب ضاقت الأرض والأنفس عليهم ؟

وما المراد من هذا الضيق ؟ ثم ماذا حدث حتى انقلبوا وظنّوا أنّه لا ملجأ من الله إلّا إليه ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المتراكمة حول الآية ، لكن بالرجوع إلى أسباب النزول تتخذ الآية لنفسها معنى واضحاً لا إبهام فيه. (٢)

وهذا هو دور أسباب النزول في جميع الآيات ، فإنّه يُلقي ضوءاً على الآية ويوضح إبهامها ، فلا غنىً للمفسّر من الرجوع إلى أسباب النزول قبل تفسير الآية كما سيوافيك تفصيله في مؤهلات المفسر.

٢. إنّ القرآن مشتمل على مجملات كالصلاة والصوم والحجّ لا يفهم منها إلّا معاني مجملة ، غير أنّ السنّة كافلة لشرحها ، فلا غنىً للمفسّر عن الرجوع إليها في تفسير المجملات.

٣. إنّ القرآن يشتمل على آيات متشابهة غير واضحة المراد في بدء النظر ، وربما يكون المتبادر منها في بدء الأمر ، غير ما أراد الله سبحانه ، وإنّما يعلم المراد بإرجاعها إلى المحكمات حتى تفسّر بها ، غير أنّ الذين في قلوبهم زيغ يتبعون الظهور البدائي للآية لإيجاد الفتنة وتشويش الأذهان ويجعلونه تأويل الآية ، أي مرجعها ومآلها ، وأمّا الراسخون في العلم فيتّبعون مراده سبحانه بعدما يظهر من سائر الآيات التي هي أُم الكتاب.

______________________

١. التوبة : ١١٨.

٢. سيوافيك الكلام في الآية أيضاً عند البحث عن مؤهّلات المفسّر لاحظ : ٣٩.

١٣
 &

قال سبحانه : ( مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) (١).

وعلى هذا لا غنى من تفسير المتشابهات بفضل المحكمات ، وهذا يرجع إلى تفسير القرآن نفسه بنفسه ، والآية بأُختها.

٤. إنّ القرآن المجيد نزل نجوماً ، لغاية تثبيت قلب النبي طيلة عهد الرسالة.

قال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ) (٢) ، فمقتضى النزول التدريجي تفرق الآيات الباحثة عن موضوع واحد في سور مختلفة ، ومن المعلوم أنّ القضاء في موضوع واحد يتوقف على جمع الآيات المربوطة به في مكان واحد حتى يستنطق بعضها ببعض ، ويستوضح بعضها ببعض آخر ، وهذا ما يشير إليه الحديث النبوي المعروف : « القرآن يفسّر بعضه بعضاً » (٣).

وقال الإمام علي عليه‌السلام : « كتاب الله تبصرون به ، وتنطقون وتسمعون به ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، ولا يختلف في الله ولا يخالف بصاحبه عن الله » (٤).

وفي كلامه عليه‌السلام ما يعرب عن كون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المفسّر الأوّل للقرآن الكريم يقول : « خلّف فيكم ( أي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) كتابَ رَبِّكم ، مبيّناً حلالَه وحرامَه ، وفرائضَه ، وفضائلَه وناسخَه ومنسوخَه ، ورُخَصَه وَعَزَائمَه ، وخاصَّه

______________________

١. آل عمران : ٧.

٢. الفرقان : ٣٢.

٣. حديث معروف مذكور في التفاسير ولم نقف على سنده. ولكن يوجد مضمونه في كلام الإمام علي عليه‌السلام التالي.

٤. نهج البلاغة : الخطبة رقم ١٣٣.

١٤
 &

وعامَّه ، وعِبَره وأمثالَه ، ومُرسَلَه وَمَحْدوده ، ومُحْكَمه ومتشابهه ، مفسِّـراً مجمله ، ومبِّيناً غوامضه » (١).

وهذه الوجوه ونظائرها تثبت أنّ القرآن لا يستغني عن التفسير.

سؤال وإجابة

أمّا السؤال : فربما يتصوّر أنّ حاجة القرآن إلى التفسير ينافي قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) (٢).

ونظيره قوله سبحانه في موارد مختلفة : ( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) (٣) فإنَّ تَوصيف القرآن باليسر وَكَونِه بِلسانٍ عَرَبي مُبين يهدفان إلى غناه عن أيّ إيضاح وتبيين ؟

وأمّا الإجابة : فإنّ وصفه باليسر ، أو بأنّه نزل بلغة عربية واضحة يهدفان إلى أمر آخر ، وهو أنّ القرآن ليس ككلمات الكهنة المركّبة من الأسجاع والكلمات الغريبة ، ولا من قبيل الأحاجي والألغاز ، وإنّما هو كتاب سهل واضح ، من أراد فهمه ، فالطريق مفتوح أمامه ؛ وهذا نظير ما إذا أراد رجل وصف كتاب أُلّف في علم الرياضيات أو في الفيزياء أو الكيمياء فيقول : أُلّف الكتاب بلغة واضحة وتعابير سهلة ، فلا يهدف قوله هذا إلى استغناء الطالب عن المعلِّم ليوضح له المطالب ويفسر له القواعد.

ولأجل ذلك قام المسلمون بعد عهد الرسالة بتدوين ما أُثر عن النبي أو الصحابة والتابعين أو أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في مجال كشف المراد وتبيين الآيات ، ولم تكن الآيات المتقدّمة رادعة لهم عن القيام بهذا الجهد الكبير.

______________________

١. نهج البلاغة : الخطبة رقم ١. والظاهر أنّ قوله : مبيِّناً ، بيان لوصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والضمائر ترجع إلى القرآن الكريم لا إلى الله سبحانه.

٢. القمر : ١٧.

٣. الشعراء : ١٩٥. وفي النحل : ١٠٣ ( وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ).

١٥
 &

نعم إنّ المفسّرين في الأجيال المتلاحقة ارتووا من ذلك المنهل العذب ( القرآن ) ولكلِّ طائفة منهم منهاج في الاستفادة من القرآن والاستضاءة بأنواره ، فالمنهل واحد والمنهاج مختلف : ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) (١).

القرآن وآفاقه اللامتناهية

يتميّز القرآن الكريم عن غيره من الكتب السماوية بآفاقه اللامتناهية كما عبّـر عن ذلك خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال :

« ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، له تخوم ، وعلى تخومه تخوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه » (٢).

وقد عبّـر عنه سيد الأُوصياء عليه‌السلام ، بقوله :

« وسراجاً لا يخبو توقّده ، وبحراً لا يدرك قعره ـ إلى أن قال : ـ وبحر لا ينزفه المستنزِفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون » (٣).

ولأجل ذلك صار القرآن الكريم ، النسخة الثانية لعالم الطبيعة الذي لا يزيد البحث فيه والكشف عن حقائقه إلّا معرفة أنّ الإنسان لا يزال في الخطوات الأُولى من التوصّل إلى مكامنه الخفية وأغواره البعيدة.

والمترقّب من الكتاب العزيز النازل من عند الله الجليل ، هو ذاك وهو كلام. من لا تتصوّر لوجوده وصفاته نهاية ، فيناسب أن يكون فعله مشابهاً لوصفه ، ووصفه حاكياً عن ذاته ، وبالتالي يكون القرآن مرجع الأجيال وملجأ البشرية في جميع العصور.

______________________

١. المائدة : ٤٨.

٢. الكافي : ٢ / ٢٣٨. وفي بعض النسخ : له نجوم ، وعلى نجومه نجوم.

٣. نهج البلاغة : الخطبة ١٩٨.

١٦
 &

ولما ارتحل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتحق بالرفيق الأعلى ، وقف المسلمون على أنّ فهم القرآن وإفهامه يتوقف على تدوين علوم تسهل التعرّف على القرآن الكريم ، ولأجل ذلك قاموا بعملين ضخمين في مجال القرآن :

الأوّل : تأسيس علوم الصرف والنحو واللغة والاشتقاق وما شابهها ، لتسهيل التعرّف على مفاهيم ومعاني القرآن الكريم أوّلاً ، والسنّة النبوية ثانياً ، وإن كانت تقع في طريق أهداف أُخرى أيضاً لكن الغاية القصوى من القيام بتأسيسها وتدوينها ، هو فهم القرآن وإفهامه.

الثاني : وضع تفاسير لمختلف الأجيال حسب الأذواق المختلفة لاستجلاء مداليله ، ومن هنا لا نجد في التاريخ مثيلاً للقرآن الكريم من حيث شدّة اهتمام أتباعه به ، وحرصهم على ضبطه ، وقراءته ، وتجويده ، وتفسيره ، وتبيينه.

وقد ضبط تاريخ التفسير أسماء ما ينوف على ألفين ومائتي تفسير وعند المقايسة يختص ربع هذا العدد بالشيعة الإمامية (١).

هذا ما توصّل إلى إحصائه المحقّقون من طريق الفهارس ومراجعة المكتبات

______________________

١. لاحظ معجم المفسّرين لـ « عادل نويهض » وطبقات المفسّرين لـ « الحافظ شمس الدين الداودي » المتوفّى عام ٩٤٥ هـ ، وما ذكرنا من الإحصاء مأخوذ من « معجم المفسرين » ، كما أنّ ما ذكرنا من أنّ ربع هذا العدد يختص بالشيعة مأخوذ من ملاحظة ما جاء في كتاب « الذريعة إلى تصانيف الشيعة » من ذكر ٤٥٠ تفسيراً للشيعة.

ولكن الحقيقة فوق ذلك ، فإنّ كلّ ما قام به علماء الشيعة في مجال التفسير باللغات المختلفة في العصر الحاضر لم يذكر في الذريعة ، ولأجل ذلك يصح أن يقال : إنّ ثلث هذا العدد يختص بالشيعة ، كما أنّه فات صاحب « معجم المفسرين » ذكر عدّة من كتب التفسير للشيعة الإمامية وإن كان تتبعه جديراً للتقدير. ولقد أتينا بذكر أُمّة كبيرة من المفسرين الشيعة من عصر الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا ، من الذين قاموا بتفسير القرآن بألوان مختلفة ، في تقديمنا لكتاب « التبيان » لشيخ الطائفة الطوسي قدس‌سره وقد طبع مع الجزء الأوّل. كما طُبع أيضاً في نهاية الجزء العاشر من موسوعاتنا التفسيرية « مفاهيم القرآن ».

١٧
 &

عدا ما فاتهم ذكره مما ضاع في الحوادث المؤسفة كالحرق والغرق والغارة.

وعلى ضوء هذا يصعب جداً الإحاطة بعدد التفاسير وأسمائها وخصوصياتها طيلة أربعة عشر قرناً حسب اختلاف بيئاتهم وقابلياتهم وأذواقهم.

١٨
 &

٢ مؤهلات المفسِّر أو شروط المفسِّر وآدابه

فتح علماء التفسير باباً باسم « معرفة شروط المفسِّر وآدابه » وذكروا كلّ ما يحتاج إليه المفسر في تفسير كلام الله العزيز ، فمنهم من اختصر كالراغب الاصفهاني في « مقدّمة جامع التفاسير » ، ومنهم من أسهب كالزركشي في كتابه « البرهان في علوم القرآن » والسيوطي في « الإتقان » ، ونحن نسلك طريقاً وسطاً في هذا المضمار. وبما انّ ما ذكره الراغب أساس لكل من جاء بعده ، نأتي هنا بملخص ما ذكره ، ثمّ ندخل في صلب الموضوع ، فنقول :

ذكر الراغب الاصفهاني في « مقدّمة جامع التفاسير » الشروط التالية :

الأوّل : معرفة الألفاظ ، وهو علم اللغة.

الثاني : مناسبة بعض الألفاظ إلى بعض ، وهو الاشتقاق.

الثالث : معرفة أحكام ما يعرض الألفاظ من الأبنية والتعاريف والاعراب ، وهو النحو.

الرابع : ما يتعلّق بذات التنزيل ، وهو معرفة القراءات.

الخامس : ما يتعلّق بالأسباب التي نزلت عندها الآيات ، وشرح الأقاصيص

١٩
 &

التي تنطوي عليها السور من ذكر الأنبياء عليهم‌السلام والقرون الماضية ، وهو علم الآثار والأخبار.

السادس : ذكر السنن المنقولة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمّن شهد الوحي ممن اتّفقوا عليه وما اختلفوا فيه ممّا هو بيان لمجمل أو تفسير لمبهم ، المنبأ عنه بقوله تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (١) وبقوله تعالى : ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) (٢) ، وذلك علم السنن.

السابع : معرفة الناسخ والمنسوخ ، والعموم والخصوص ، والإجماع والاختلاف ، والمجمل والمفصّل ، والقياسات الشرعية ، والمواضع التي يصحّ فيها القياس والتي لا يصحّ ، وهو علم أُصول الفقه.

الثامن : أحكام الدين وآدابه ، وآداب السياسات الثلاث التي هي سياسة النفس والأقارب والرعية مع التمسك بالعدالة فيها ، وهو علم الفقه والزهد.

التاسع : معرفة الأدلّة العقلية والبراهين الحقيقية والتقسيم والتحديد ، والفرق بين المعقولات والمظنونات ، وغير ذلك ، وهو علم الكلام.

العاشر : علم الموهبة ، وذلك علم يورثه الله مَنْ عَمِلَ بما علم ، وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « قالت الحكمة : من أرادني فليعمل بأحسن ما علم » ثمّ تلا : ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (٣).

وما روي عنه حين سئل : هل عندك علم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقع إلى غيرك ؟ قال : لا ، إلّا كتاب الله وما في صحيفتي (٤) ، وفهم يؤتيه الله من يشاء وهذا هو

______________________

١. النحل : ٤٤.

٢. الأنعام : ٩٠.

٣. الزمر : ١٨.

٤. الثابت عندنا غير هذا ، وكتاب علي عليه‌السلام بإملاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المخزون عند الأئمة الطاهرة عليهم‌السلام ، لا يلائمه.

٢٠