مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة النحل ، الآية : ١٢٥]. وقد شرحت السنة المقدسة تلك الجهات قولا وعملا ووضع أهل الفلسفة العملية في ذلك كتبا ورسائل نافعة من المسلمين وغيرهم.

ومن تأكيد القرآن الكريم على مراعاة تلك الجهات يستفاد أنه لا بد للعلماء وأهل النظر من رعاية ما ورد في الكتاب والسنّة ، وما وضع في الفلسفة العملية في منهج التعليم والتربية ليكون ذلك داعيا إلى إقبال النّاس على العلم ، وأثبت في تكميل النفوس ؛ وأشد ربطا لقلوب المتعلمين بالمعلمين والمربين.

بحث روائي :

في تفسير العياشي في قوله تعالى : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) قال الصادق (عليه‌السلام) : «إن الحنيفية هي الإسلام».

أقول : لأنه تبارك وتعالى أمر نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) باتباع ملة إبراهيم ، فأصل الحنيفية جامع بين ملة إبراهيم (عليه‌السلام) ودين محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، ولو فرض اختلاف فهو جزئي بحسب اختلاف الظروف.

وفيه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «ما أبقت الحنيفية شيئا حتّى أن منها قص الشارب وقلم الأظفار والختان».

أقول : هذه الرواية ظاهرة في أن جميع المعارف الإلهية والأحكام التشريعية العملية داخلة في الحنيفية حتّى الجزئيات التي ندب إليها الشرع بالنسبة إلى التزيين والتطهير ، كما في الحديث الآتي ، فيكون قد ذكر الأدنى ليعرف أنّ شمول الحنيفية للأعلى بالفحوى.

وفي تفسير القمي قال : «أنزل الله تعالى على إبراهيم (عليه‌السلام) الحنيفية ، وهي الطهارة ، وهي عشرة أشياء ، خمسة في الرأس ، وخمسة في البدن. فأما التي في الرأس : فأخذ الشارب ، وإعفاء اللحى ، وطمّ الشعر ، والسواك ، والخلال. وأما التي في البدن : فحلق الشعر من البدن ، والختان ،

٨١

وقلم الأظفار ، والغسل من الجنابة ، والطهور بالماء ، وهي الحنيفية الظاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم ينسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة».

أقول : قد ورد ذلك في عدة روايات عن العامة والخاصة ، ولكل ذلك آداب وشروط مذكورة في كتب أحاديث الفريقين وفقههم وطمّ الشعر جزّه ، أو قصه في مقابل الحلق ، ومنه الحديث : «ثلاثة من اعتادهنّ لم يدعهنّ : طمّ الشعر ، وتشمير الثوب ، ونكاح الإماء». وتقدم ما يتعلق به في الرواية السابقة.

وفي أسباب النزول في قوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا). قال ابن عباس : «نزلت في رؤوس يهود المدينة كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، وأبي ياسر بن أخطب. وفي نصارى أهل نجران ، وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله تعالى من غيرها ، فقالت اليهود : نبينا موسى (عليه‌السلام) أفضل الأنبياء ، وكتابنا التوراة أفضل الكتب ، وديننا أفضل الأديان ؛ وكفرت بعيسى (عليه‌السلام) والإنجيل ، ومحمد والقرآن. وقالت النصارى : نبينا عيسى أفضل الأنبياء ، وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب ، وديننا أفضل الأديان. وكفرت بمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والقرآن ، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين : كونوا على ديننا ، فلا دين إلّا ذلك ودعوهم إلى دينهم».

أقول : هذه شيمة كل من كان على الجهل المركب ، واعتقد بحسر شيء مع عدم التوجه إلى غيره.

وفي تفسير العياشي عن حنان بن سدير عن الباقر (عليه‌السلام) في الأسباط قال (عليه‌السلام) : «إنهم كانوا أولاد الأنبياء ، ولم يكونوا فارقوا الدنيا إلّا سعداء تابوا وتذكروا ما صنعوا».

أقول : ومثله ورد في عدة روايات ، والحديث نص في كونهم أولاد الأنبياء لا منهم ، كما يدل على أن ما صدر منهم ليس منقصة لهم بعد تحقق التوبة منهم.

٨٢

وفي الكافي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله سبحانه : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً). قال (عليه‌السلام) : «الصبغة هي الإسلام».

أقول : ورد ذلك في عدة روايات ، وتقدم ما يدل على ذلك.

وفي الكافي وتفسير العياشي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما‌السلام) في قوله تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ). قال (عليه‌السلام) : «صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق».

أقول : هذا من باب التطبيق بالنسبة إلى بعض مراتب الصبغة ، فان لها مراتب كثيرة ، كمراتب الإيمان والإسلام ، وذلك لا ينافي عموم الآية المباركة بالنسبة إلى جميع أهل التوحيد.

وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) قال (عليه‌السلام) : «إنما عنى بذلك عليا وفاطمة والحسن والحسين وجرت بعدهم في الأئمة (عليهم‌السلام)».

أقول : رواه العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) ، وفي مجمع البيان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام). وهذا من باب التطبيق على بعض خواص أهل الإيمان فلا ينافي تعميمه بالنسبة إلى الجميع.

وفي الفقيه في وصايا أمير المؤمنين (عليه‌السلام) لابنه محمد بن الحنفية : «وفرض على اللسان الإقرار والتعبير عن القلب بما عقده عليه ، فقال عزوجل : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا».

أقول : الحديث في مقام بيان لزوم الموافقة بين مقام الإثبات ومرحلة الثبوت ، فإن الأول يعرف باللسان والبيان ، والثاني بالاعتقاد وعقد القلب.

بحث فلسفي :

قد شاع بين الفلاسفة والمتكلمين أن الذاتي غير قابل للتغيير والتبديل ويعتبرون ذلك من القواعد المسلّمة بينهم. وكلامهم هذا يشمل كلا قسمي الذاتي أي : ما هو داخل في الذات ، كالجنس والفصل. وما هو خارج عنه

٨٣

ولازم للذات ـ المصطلح بذاتي باب البرهان ـ أي لازم الماهية ، كالزوجية للأربعة. وتكرر في كلمات ابن سينا «أنه ما جعل الله تعالى المشمش مشمشا بل أوجده». والأصل في هذه القاعدة يرجع إلى عدم إمكان الجعل التأليفي بين الماهية وذاتياتها ولوازمها ، وأطالوا القول في ذلك بإيراد شواهد ومؤيدات.

والحق أن يقال : إن ذلك وإن كان صحيحا في الجملة بالنسبة إلى الجعل والقدرة الإمكانية لأنها هي التي تقع مورد الإدراك الإنساني والفهم البشري.

وأما أنّها كذلك حتّى بالنسبة إلى القدرة الأزلية التي غاية ما يمكن دركها للعقول إنما هي نفي العجز عنه تعالى ـ كما في الحديث ـ فهو تعالى قادر أي : لا يعجزه شيء ، ولا يصح قياس ما هناك على ما نتعقل إلّا أن يكون تحديدا في قدرته على ما نتعقله ، وهو مناف لعموم قدرته وقيموميته تعالى من كل حيثية وجهة ، وفي الحديث : «هو الذي أين الأين ؛ وكيف الكيف». وفي حديث آخر : «إن الله تعالى مجسّم الأجسام وموجدها».

إن قلت : بعد ما ثبت استحالة الجعل التأليفي ، فكلما ورد من مثل هذه الأحاديث لا بد من حملها وتأويلها. فإن قدرته لا تتعلق بالمحال ، كما عرفت في أحد مباحثنا السابقة.

قلت : الاستحالة إن كانت من البديهيات الأولية ، فلا بد من الحمل أو التأويل ، كما ورد في حديث جعل الدنيا في البيضة. وإن كانت من النظريات القابلة للبحث والجدل ، فقدرة الله تعالى تكون فوق ذلك كله.

وبناء على ذلك يمكن أن تدخل صبغة الله تعالى وفطرته ، والسعادة والشقاوة تحت قدرته ؛ بل هي ليست من الذاتيات الأولية ، ولا من لوازم الذات حتّى تقع مورد النقاش ، وإنما هي أعراض خارجة عن الذات لها دخل في الذات على نحو الاقتضاء ، لا العلية التامة المنحصرة ، وإلّا لطرأ البطلان على جملة كثيرة من مسائل المبدأ ، والمعاد ، كما سنبينها في المباحث المستقبلة إن شاء الله تعالى. وفي بعض كلمات الأقدمين من فلاسفة اليونان أن القيوم المطلق : «مذوت الذوات».

٨٤

ويمكن الجمع بين شتات الكلمات أن القاعدة التي أسسوها من عدم إمكان الجعل التأليفي بين الذات وذاتياته. أي في مورد الجعل الاستقلالي ، وأما الجعل التبعي فلا محذور فيه من عقل ، بل قد وافقه النقل ، وللمقام تفصيل يطلب من محله.

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥))

هذه الآيات المباركة والتي تتلوها وردت في تشريع أهم جهات وحدة المسلمين وهي وحدة قبلتهم ، ومن كثرة أهمية ذلك أكّد سبحانه وتعالى عليها بتعبيرات مختلفة هي بمنزلة البرهان والدليل على ثبوتها ، وبيان جهات إثباتها ، وهي من حيث كونها محاجة مع أهل الكتاب ترتبط بالآيات التي قبلها بعبارات متسقة ، ونظم بليغ.

التفسير

قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ). السفه : هو الخفة والضعف والرداءة ، سواء أكان في الجسم ، أم في النفس ؛ يقال : ثوب سفيه ، أي خفيف النسج ورديئه ، وشخص سفيه أي ضعيف العقل. وسواء أكانت السفاهة في الرأي أم في الأخلاق ، أم كانت في الدين أم الدنيا أم

٨٥

فيهما معا ، يقال : سفه حلمه ورأيه ونفسه. والمراد بهم هم الذين خفّت حلومهم وأعرضوا عن الفكر والنظر ، فاعترضوا على الدين من دون علم بحقائق الأمور ، وهم المنكرون على تغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين.

قوله تعالى : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها). التولي : الصرف ، والعدول عن الشيء. وهو من الصفات ذات الإضافة التي تختلف باختلاف المتعلق ، فإن قيل : تولى عنه يكون بمعنى الإدبار. وإن قيل : تولى إليه يكون بمعنى الإقبال.

والمعنى : انه سيقول السفهاء الذين ضعفت عقولهم واعترضوا على تحويل القبلة ماذا جرى للمسلمين ان يصرفوا عن قبلتهم التي كانوا عليها ـ وهي بيت المقدس ـ التي كانت قبلة الأنبياء باعتقادهم؟!.

والمقام ـ أي تقديم الإخبار على الاعتراض ـ من العتاب قبل الجناية ، وهو من المحسنات البديعية ، وله فوائد كثيرة : منها توطين النفس ، وتقليل التأثير ، لأن المفاجأة بالمكروه أشد إيلاما من غيرها. ومنها : الإعداد للجواب عن المعترض ومقابلته بالاحتجاج وتلقين الحجة ، فيكون أقطع. ومنها : بيان أن المعترض متصف بالسفاهة ذاتا من دون أن يكون للاعتراض دخل في ثبوتها. ومنها : أن الوقوع بعد الإخبار معجزة له (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

قوله تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ). هذا هو الدليل لتحويل القبلة وتبديلها ، فإن من بيده أزمة أمور التكوين والتشريع وله الحكمة البالغة في جميع الأشياء ، وإنّ الجهات بجميعها له تعالى ، فلا تحويه جهة خاصة. وإنّ استقبال إحدى الجهات من الأمور التعبدية يجريه بحسب الحكمة والمصلحة ، فليس اعتراضهم على تحويل القبلة إلّا من السفه.

ولا بد أن يكون سبب اعتراضهم هذا أحد أمور كلها باطلة ، فإما أن يكون قد زعموا أنّ الله تعالى تحويه جهة خاصة ، وهي بيت المقدس بحسب زعمهم ، أو أن بعض الجهات تستحق الاستقبال لما فيها من الآثار دون

٨٦

غيرها ، أو للعصبية التي عندهم وإعلام النّاس بأن قبلتهم أحقّ أن تتبع من غيرها. وهذه الأمور كلها سببها الجهل بالحكمة الإلهية ، واتباع الهوى.

قوله تعالى : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). هذه الآية تعليل للتغيير والتحويل من ان المحول اليه هو الصراط المستقيم ومن مورد مشيته الأزلية في هدايته وتقدم في سورة الحمد تفسير كل من الهداية والصراط المستقيم ، فراجع.

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً). لفظ (كذلك) إشارة إلى ما مضى من جعل هدايته لمن يشاء إلى صراط مستقيم ، وهو قرينة لتعيين معنى الوسطية في الجملة ، كما يأتي ، والجعل : الإيجاد ، والخلق ، والتقدير ، وقد استعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم في ما يربو على مائة وخمسين موردا ، مجردا تارة ، كقوله تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) [سورة المائدة ، الآية : ٩٧] ، ومضافا إلى ضمير الخطاب ، أو الغيبة أو غيرهما أخرى ؛ كقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [سورة المائدة ، الآية : ٤٨] ، وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) [سورة الفرقان ، الآية : ٤٥] ، وفي الجميع يدل على عظمة الجاعل وجلاله وكبريائه. والجعل في المقام تشريفي تعظيمي ، كما يقتضيه كل جعل يتعلق بالشاهد الأمين.

والأمة الجماعة ، وهي من الألفاظ الإضافية تقع على الكثير والقليل والأقل ، وسياق الآية المباركة بقرينة سائر الآيات الشريفة يدل على أن المراد بها في المقام هو الأخير ، كما ستعرف.

والوسط معروف ، فإن أضيف الى ما هو متصل ـ كالأجسام ـ أو ما هو منفصل ـ كالأعداد ـ يكون معيارا لتعيين الطرفين ، وإن أضيف إلى المعنويات يكون معيارا لتمييز مرتبتي الإفراط والتفريط ، وعليه تبتنى الفلسفة الأخلاقية.

وتفسيره بخيار الشيء ، أو الصلاح والعدل ، والاستقامة والإستواء لا بأس به ، فإن هذه الألفاظ وإن كانت لها مفاهيم متعددة لكنها مظاهر لشيء واحد في الواقع ، وفي النفس الإنساني. وذلك لأن الوسط هو المتوسط بين جانبي

٨٧

الإفراط والتفريط المذمومين ؛ ومن جوامع كلمات نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «خير الأمور أوساطها». ولأجل ذلك فسر الوسط في الأخبار بالعدل ، ومن المعلوم أن العدالة ـ التي هي من أهم كمالات النفس ـ هي المرتبة الوسطى بين مرتبتي الإفراط والتفريط من الملكات النفسانية.

وإذا كان معنى الوسط هو الخيار والعدل ونحو ذلك ، فهل تكون جميع الأمة ، كذلك ، أو أنّ المراد منها بعض الأمة فقط؟ ذهب جمع من المفسرين إلى الأول ، وقال إن المراد بالأمة هم المسلمون جميعا ، فإن الإسلام قد جمع الله فيه بين حق الروح ، وحق الجسد ، فهي روحانية جسمانية ، فليس المسلمون من أرباب الغلو في الدين المفرّطين ، ولا من أرباب التعطيل المفرطين.

ولكن الحق أن يقال : إنّ الخطاب موجه إلى البعض فقط ، ولا يمكن شموله لجميع المسلمين ، وذلك لعدة أمور :

الأول : إنه من المعلوم أن الله تعالى قد ذم أكثر الأمة في آيات كثيرة تارة : بأنهم لا يعقلون ؛ وأخرى : بأنهم لا يعلمون ، وثالثة : بأنهم لا يشكرون ، ورابعة : بأنهم لا يؤمنون ، وخامسة : بأن أكثرهم الفاسقون ، أو أكثرهم يجهلون ، أو أن أكثرهم ، للحق كارهون. ومن كان هذه حاله كيف يمكن أن يتصف بالخيار والعدل وكونهم شهداء على النّاس.

الثاني : إنّ المراد بالشهادة في الآية الشريفة ليست الشهادة الجسمانية ـ تحملا وأداء ـ بل الشهادة الحضورية المعنوية على أعمال الجوارح والجوانح إحاطة حضورية من الله تعالى في مقام التحمل في الدنيا ، وفي مقام الأداء في الآخرة ، ويستلزم ذلك إحاطة الشاهد إحاطة معنوية من قبل الله تعالى ، ولا يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة كل أحد مع ما هم عليه ، فمثل هذه الشهادة تختص بالأقل من أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله). فالشهادة مما تختلف باختلاف العوالم ، وإنّ الشهادة على الأمور الظاهرية الدنيوية شيء ، وهي بالنسبة إلى النشأة الأخرى شيء آخر.

الثالث : إنه يستفاد من لفظ الوسط ـ بأي معنى لوحظ ـ اختصاص الأمة

٨٨

بالبعض دون الجميع.

الرابع : إنّ سوق الآية المباركة في سياق قصة إبراهيم (عليه‌السلام) ، واختصاص قوله تعالى : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٨] بالبعض ، ثم جعل الشهادة في سياق شهادة الرسول كل ذلك يدل على أن المراد بالأمة قسم خاص منها.

الخامس : إنّ شهادة الفرد في الدنيا تحتاج إلى قيود وشروط في الشريعة ، وإلّا فلا تقبل شهادة كل فرد ، فإذا كانت هذه حال الشهادة على الفرد ، فكيف تكون الشهادة على النوع في النشأة الآخرة فهل تقبل بلا قيد وشرط؟!!.

السادس : لا بد في أداء الشهادة النوعية في الآخرة من أن يكون تحملها في الدنيا بعرض أعمال الناس على الشاهد من قبل الله تعالى ، وإلّا فلا يمكن أن يتحقق التحمل فلا يترتب الأداء في النشأة الآخرة. ومن يعرض عليهم أعمال النّاس عدة مخصوصة ، كما ورد في نصوص كثيرة. وبالجملة : أنه لا بد للشاهد على نوع البشر يوم الحشر الأكبر من اطلاعه على صحة أعمال الخلق وفسادها ، والتمييز بين جيدها ورديئها ، وذلك لا يكون إلا في طائفة مخصوصة.

إن قيل : إنّ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) [سورة الحديد ، الآية : ١٩] يعم جميع الأمة بلا اختصاص له بطائفة ، فليكن المقام نظير هذه الآية المباركة أيضا.

يقال : إنه لا ربط للمقام بالآية الشريفة المتقدمة ، فإن المقام في الشهادة على النّاس ، والآية المتقدمة في مقام بيان أن للمؤمن مرتبة الشهادة عند الله تعالى ، وهما مختلفان ، وقد ورد في جملة من الأخبار : «أنّ المؤمن شهيد ولو مات في فراشه».

ومن ذلك كله يعرف أن الآية المباركة لا تشمل جميع الأمة. وما ذكره بعض المفسرين لا شاهد له لا من عقل ولا نقل ، بل هو معترف في ضمن

٨٩

كلامه بأن المراد بالوسط من كان متبعا لشريعة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وانه هو المثال الأكمل لمرتبة الوسط فاقتصر على الأمة التي تكون متبعة للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وإلّا فليس كل أحد انتحل الإسلام دخل في الآية الشريفة.

وأما إذا كان مراده من تعبيره شرح دين الإسلام من حيث أنه حائز للمرتبة الوسطى بين الجسمانية المحضة والروحانية الصرفة مع قطع النظر عن المتدين به ، فلا ريب في كونه حقا ولكنه خلاف ظاهر الآية المباركة.

وربما يتوهم أن مقتضى إطلاق الآية المباركة وكونها وردت في مقام الامتنان هو التعميم لجميع الأمة. ولكنه باطل ، فإن المراد بالوسط هو الحقيقي منه ، كما في نظائره من الصفات ـ كالإيمان ، والخير ، والصلاح ، والعدل ، والصدق ونحو ذلك مما ورد في القرآن الكريم ـ دون مجرد الإطلاقي الظاهري ، وذلك لا يتحقق إلّا في المسلم الحقيقي المتصف بحقيقة الإسلام حتّى يكون مفخر الأنام وشاهدا يوم الحساب ، ولا امتنان في جعل من لا يعرف من الإسلام إلّا اسمه ، ومن الدين إلّا رسمه ، ولا يعلم من القرآن حتّى درسه شهيدا بين الأمم ، ولا أظن أحدا يرتضي ذلك.

ثم إنّ جعل الله تعالى الأمة وسطا يتصور على أقسام :

الأول : أن يكون من مجرد الجعل التكويني الذي لا اختيار للعبد فيه ، كسائر مجعولاته التكوينية ، قال تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) [سورة الاسراء ، الآية : ١٢] ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٣٠] ، وقال تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) [سورة الأنبياء ، الآية : ٣٢] إلى غير ذلك من الآيات المباركة مما هو كثير في القرآن.

الثاني : الجعل الاجتماعي الانتظامي المشوب باختيار العبد في الجملة كقوله تعالى : (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) [سورة الحجرات ، الآية : ١٣] وقوله تعالى : (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ٦٦].

٩٠

الثالث : الجعل الذي يكون تمام سببه كمال العبد في نفسه بينه وبين الله تعالى ، وهذا القسم كثير في القرآن الكريم أيضا ، قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) [سورة السجدة ، الآية : ٢٤].

والجعل في المقام من هذا القسم ، حيث أن أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هم الوسط في جميع المعارف والكمالات النفسية ، ودينهم هو الحد الفاصل بين الروحانية البحتة والمادية الصرفة ولأجل ذلك صاروا شهداء على النّاس جعلا تفضليا ، ولكنه يستلزم الجعل التشريعي الإلهي في المعارف والأحكام وسائر الكمالات النفسية ، إلّا أن ذلك لا يستلزم كون جميع الأمة شهداء ، وتوجيه الخطاب إلى النوع وارادة الصنف شايع في المحاورات العرفية لأغراض ومصالح ، والقرآن ورد على هذا الطريق المحاوري المقبول ، كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٧٣] وغيره مما يكون فيه الظهور الاستعمالي العموم ، والمراد الحقيقي هو الشخصي الخارجي ، كما أن عكسه أيضا صحيح ووارد في القرآن الكريم. قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [سورة الطلاق ، الآية : ١] وليس ذلك من المجاز في شيء ، كما أثبتناه في الأصول ، بل هو من شؤون البلاغة والفصاحة لإفادة فوائد مختلفة.

قوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). إنما جيء بلفظ «على» لبيان الإحاطة والاستيلاء لجميع أعمال المشهود عليهم جليّاتها وخفياتها ، فهو (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الحجة الإلهية بالنسبة إلى عباده ، لأنه الفرد الأكمل في الكمالات الإنسانية والمعارف الإلهية. وتشمل الآية المباركة جميع أنحاء شهاداته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كشهادته بالإبلاغ وإتمام الحجة ، وشهادته لبعضهم بالإطاعة وعلى الآخرين بالمخالفة ، وشهادته على أمته بالاستقامة والانحراف ، فهو الشاهد على جميع أمته في عالم الجمع.

وذكر شهادة الرسول عقيب شهادة الأمة من قبيل ذكر العلة بعد ذكر المعلول ، يعني تكونوا شهداء على الناس ، لأن الرسول شهيد عليكم بأنّكم

٩١

تتصفون ـ علما وعملا ـ بما علمكم الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله). وقد شرح سبحانه هذه الآية شرحا وافيا في آية اخرى قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [سورة الحج ، الآية : ٧٨]. فجعل المناط في الشهادة على الناس وشهادة الرسول عليهم المجاهدة في الله حق جهاده ، فيصير بعد رد شارحها إلى مشروحها ، ومفصلها إلى مجملها هو أن الشهادة على الناس إنما تكون بالمجاهدة في الله والاعتصام به جلت عظمته وكل من كان كذلك فقد اجتباه تعالى ، ولا يكون ذلك إلّا في عدة مخصوصة ، وهي مورد دعوة إبراهيم خليل الرحمن ووصاية الأنبياء من بعده ، وأهم مقاصد خاتم الأنبياء في تشريع شريعته.

ومن ذلك يعلم أنّ مقام مثل هذا الشاهد الذي يحتمل شهادة اعمال الخلائق في الدنيا وأداءها كاملة في العقبى من أجلّ المقامات وارفعها ، إذ لا بد أن يتصف بصفات عالية ويرتقي إلى درجات الكمال حتّى يصل الى هذا المقام ، ويتسم بوسام العلم ، كما قال تعالى : (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [سورة الكهف ، الآية : ٦٥] ولا يليق بذلك الا الأخص من الخواص ، كما عرفت.

والخطاب لجميع الأمة تشريفي بمقتضى السير الاستكمالي في البشر حيث يقتضي أن تكون أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أشرف الأمم وأرفعها ، ونفس هذا السير التكاملي يقتضي أن يكون في هذه الأمة صنف خاص ، وطائفة مخصوصة هي أشرفها وأعظمها ؛ فيكون المراد من ذكر الكل هو البعض وهو شايع في المحاورات ، وقد تقدم في قوله تعالى: (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٢] أنّ التفضيل باعتبار خصوص أنبيائهم لا جميعهم.

٩٢

وبذلك يظهر الجواب عما يتوهم من أنّ الوسطية لا تختص بامة خاتم الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، بل قد تتحقق في جميع الأمم الماضين ، بل مقتضى قوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [سورة الواقعة ، الآية : ١٣] أنها فيهم أكثر ، فلا تكون الشهادة منحصرة في أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو في بعضهم. فان السير التكاملي يقتضي أن يكون خاتم الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أشرفهم ، وقد برهن بالبراهين الكثيرة أن مقامه مقام جمع الجمع ، جامع لجميع مقامات الأنبياء مع الزيادة عليها التي لا يحيط بها إلّا الله تعالى ، فهو بدء الخلق وغاية التكوين.

كما أن شرف ورفعة كل أمة بنبيها فتكون أمته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أشرف الأمم ، وشريعته أكمل الشرايع الإلهية وأتمها ، فيصير العاملون بها شهداء الخلق ، للارتباط بين الغاية وذيها تكوينا ، والواسطة في الإفاضة وذويها طبعا ، فلا يبقى مجال بعد ذلك لغيرهم الذين هم دونهم في الدرجة. وفي الحديث انه قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إن لواء الحمد بيدي وآدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة».

وربما يتوهم أيضا أنه لا فائدة في هذه الشهادة ، لأنّها إما في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما معا. أما الشهادة في الدنيا فليس لها أثر ؛ وأما في الآخرة فلا فائدة فيها بعد كون اليوم يوم ظهور الحقائق وبروزها يوم تبلى السرائر ، والإشهاد إنما هو لإبراز المخفيات لا ما هو ظاهر للعيان.

الجواب إنّه يقال : إنّ الإشهاد فيهما معا ، أما الإشهاد في الدنيا فلأجل بيان أن له العمل. وأما في الآخرة فلابطال ما يعتذر به العبد ، وبذلك تتم الحجة عليه ، فالشهادة متحققة في المعاد حتّى يقع الخلود في الجنّة أو في النار ، فإن كل قضية كثرت اهميتها كان الإحتجاج عليها أشد ولا قضية مطلقا في عالم الوجود أهم من الخلود فانه من أهم قضايا المبدأ والمعاد ، وأهم ما يتعلق بأصل العبودية والربوبية العظمى فلا بد من إتمام الحجة لتمييز الأخيار من الأشرار ، وأهل الجنّة من أهل النار ، وبذلك تتم الحجة في الدارين لئلا يكون للنّاس على الله حجة.

٩٣

ومن ذلك يعلم أنّ الشهادة ليست قولية فقط ، بل يحتمل أن تكون تكوينية أيضا ؛ والمراد من الأخيرة هي : أن أمة الإسلام بالمعنى المتقدم هي بنفسها تكوينا تكون بارزة بحقائقها ومعارفها وأحكامها وتشهد على جميع الأمم والأديان ، كما تشهد الجوهرة النفيسة بين جملة الأحجار أن ليس للأخيرة شأن مقابلها ، أو شهادة المؤمن الكامل الإيمان والمعرفة بنفسه على سائر الأفراد بأن ليس لهم شأن ، وانه على الصراط المستقيم ، وأن ما سواه على غير الصراط فيكون ما ورد في الآية الشريفة من القضايا الفطرية.

ثم إنه يستفاد من الآيات الشريفة والروايات الكثيرة أنّ الشهداء على الخلائق في يوم المعاد لا تنحصر بالرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأمته ، فإن الله تبارك وتعالى أحد الشهداء على بريته ، قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٣١] ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) [سورة آل عمران ، الآية : ٥] ، وقال تعالى : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [سورة يونس ، الآية : ٦١]. ولا معنى لقدرته التامة ، وحكمته البالغة ، وقيمومته المطلقة إلّا ذلك.

ومن الشهداء الملائكة ، قال تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [سورة ق ، الآية : ١٨].

كما أنّ منهم جوارح كل فرد من أفراد الإنسان ، قال تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة النور ، الآية : ٢٤].

ومنهم الأنبياء ، قال تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) [سورة النحل ، الآية : ٨٩].

ومن الشهداء القرآن ، والزمان ، والمكان وغير ذلك مما يأتي شرح ذلك كله في مباحث الحشر والنشر.

٩٤

والإشكال على شهادة هؤلاء الشهداء ، بأنها بدون فائدة بعد قوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [سورة آل عمران ، الآية : ٣٠] ، وقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزال ، الآية : ٨]. وبعد العيان لا وجه للشاهد والبيان ، مع أن جميع الممكنات بجميع أطوارها وشؤونها ، وتمام جهاتها وجزئياتها تحت قدرته المطلقة وقيمومته المهيمنة عليها فلا وجه للإشهاد والشهود. فاسد ، يظهر الجواب عنه مما تقدم من أن ذلك كله لرفع الجحد ، وإتمام الحجة حسب اختلاف الاستعدادات في النفوس.

قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ). القبلة من المقابلة ، ومفهومها قائم أولا بمن يستقبل غيره ، فهي الحالة التي يكون عليها المقابل ـ كالجلسة التي هي حالة الجلوس ـ ثم شاع استعمالها في نفس الجهة التي يستقبلها النّاس في الصلاة. ولم ترد هذه الكلمة في القرآن إلّا في آيات تشريع القبلة وتحويلها ، وفي قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) [سورة يونس ، الآية : ٨٧].

ومادة (ع ق ب) تشتمل على معنى التأخر في الجملة ، ومنه إطلاقها على مؤخر الرجل ـ إذا كان بفتح الأول وكسر الثاني وسكون الأخير ـ وعلى الأولاد والأحفاد لتأخرهم بالنسبة إلى الآباء ممن تقدمهم ، قال تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) [سورة الزخرف ، الآية : ٢٨] ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم ، والجميع كناية عن الإدبار والإعراض. وأما ما ورد في الحديث عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ويل للأعقاب من النار» فهو كناية عن عدم التحرز والتنزه عما كان يصيب مؤخر الرجل من رشاش البول وغيره مما يضر بالطهارة المشروطة بها الصّلاة وبيان ذلك مذكور في كتب الفقه.

والآية لبيان بعض الحكمة في جعل القبلة التي كان عليها الرسول قبل

٩٥

تحويلها إلى غيرها ، وذلك للتمييز بين متابعي الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والثابت على إيمانه عن مخالفيه ومن لاثبات له على الإيمان فارتد على أعقابه ، لأن تحويل القبلة إنما كان سببا لظهور طوائف : قوم هداهم الله تعالى فآمنوا بالرسول وثبتوا على إيمانهم ، وقوم ارتدوا على أعقابهم ، وقوم نافقوا في ذلك. وقد أشار سبحانه وتعالى إلى هذه الطوائف الثلاثة في هذه الآيات المباركة فأراد تعالى أن يميز بين تلك الطوائف ويتميز كل فريق عن صاحبه.

ومثل هذا التعبير ـ في قوله تعالى : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) في المقام أو «ليعلم» في غيره ـ في القرآن كثير ، كما في قوله تعالى : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) [سورة الكهف ، الآية : ١٢] ، وقوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) [سورة محمد ، الآية : ٣١] ، وقوله تعالى : (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) [سورة المائدة ، الآية : ٩٤] ، وقوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٦٦] ، وقوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٥] إلى غير ذلك. ومن المعلوم أن علمه أزلي قديم وعين ذاته ، ولا يتصور فيه التغيير والتجدد والوجه في هذه التعبيرات أحد أمور :

الأول : إنّ مقارنة علمه تعالى لوجود المعلوم أثر كبير في الزجر والتوبيخ ، أو البشارة عند الإنسان.

الثاني : أن يكون المراد بالعلم هو علم الوقوع والظهور ، وأن القضية الحادثة مطابقة لعلمه الأزلي ويترتب عليه الجزاء من الثواب والعقاب.

الثالث : إنّ التعبير بلفظ المستقبل إنما يكون لدفع شبهة الجبر وبيان أن العلم الأزلي ليس علة تامة لحصول المعلوم خارجا ، ولا يعتذر العبد بأنه لا يقدر على ترك الفعل ، لأنه يلزم الانقلاب في علمه.

الرابع : إنّه لبيان فائدة الإعلام إلى الإنسان بأنّ الله تعالى عالم بالأشياء.

الخامس : الجري على عادة العظماء حيث ينسبون حالات أتباعهم

٩٦

منزلة شؤون أنفسهم ، ونسبة فعل الأتباع إلى النفس باب من أبواب البلاغة تترتب عليه فوائد وحكم كثيرة.

السادس : إتمام حجة الإختيار على المخاطبين ، وجميع هذه الوجوه صحيحة يمكن الاعتماد عليها في مثل هذا النهج من التعبير ، كما في قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ) الوارد في أكثر من عشرين موضعا في القرآن الكريم.

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ). كبيرة أي عظيمة وثقيلة. وقد وردت مادة (كبر) في القرآن بهيئات مختلفة ، والكبير والصغير من الأمور الإضافية يتصف بهما جميع الجواهر والأعراض ، بل الاعتباريات أيضا ، كما هو معلوم. ويطلق الكبير على الله تعالى قال سبحانه : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) [سورة الرعد ، الآية : ٩] ، وقال تعالى : (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [سورة الحج ، الآية : ٦٢].

والضمير في «كانت» يرجع إلى القبلة من جهة تحويلها أي : انه عظم أمر القبلة في تحويلها على أهل الكتاب والمنافقين وغيرهم ممن لم يثبت على الإيمان إلّا أن الذين هداهم الله تعالى إلى دينه وهم الذين صدقوا الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وآمنوا به بحقيقة التصديق والإيمان لم يفرقوا بين القبلة الأولى المحول عنها والقبلة الثانية المحول إليها ، وأنهم يعلمون أن ذلك من أمر الله تعالى العالم بالمصالح والحكم ، والمبين لعبده ما لم يكن يعلم ، فاستسلموا لأمره وأطاعوا رسوله. وفي الآية إشارة إلى الطائفتين من الطوائف الثلاثة المتقدمة وهم المنافقون والمؤمنون.

قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ). الضياع الهلاك والفساد ، والآية المباركة في مقام الجواب عما ارتكز في النفوس عن شأن الأعمال التي تقع على طبق الحجة السابقة إذا تبدلت إلى حجة اخرى ؛ فكان الجواب أنها صحيحة ومقبولة لدى الله تعالى ويجزي عليها بالجزاء الأوفى.

وفي الآية بشارة للمؤمنين وإيماء إلى أن أعمالهم إنما كان مبعثها هو الإيمان بالله تعالى والتسليم لأمره.

٩٧

والقول بأنّ المراد من الإيمان ـ في المقام ـ هو الصلاة ، كما قال به جمع من المفسرين وورد به الحديث إنما هو من بيان أحد المصاديق وإلّا فإن سياق هذه الآية يدل على أن المراد به هو معناه المعهود. وقد ورد مفاد هذه الآية في عدة آيات أخرى ، قال تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [سورة الكهف ، الآية : ٣٠].

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ). الرأفة أخص من الرحمة من جهتين : من كونها أشد من الرحمة ، ومن أنها لا تكاد تقع في الكراهة بخلاف الرحمة. وهما من أسماء الله الحسنى وغالب ما تستعمل الكلمة في الدعوات مع الرحيم. وقد وردت في القرآن الكريم كثيرا إما مقرونة باللام ـ كما في المقام ـ واما غير مقرونة به ، كقوله تعالى : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٠٧] وهذه الآية في مقام بيان العلة للحكم السابق أي : لا يضيع ، إيمانكم لأنه رؤوف رحيم. وإنما ذكر سبحانه الرأفة لتعميمها بالنسبة إلى العاصي والمطيع.

وقوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ). مادة راى لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة. وفي مضارعها تحذف الهمزة مطلقا ، كما في المقام. وسعة استعمال الكلمة تعم الدنيا والآخرة بل الرؤيا وحتى الحيوانات. وتستعمل بالنسبة إلى الله جل شأنه ، قال تعالى : (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) [سورة التوبة ، الآية : ٩٤].

والمعنى الجامع : هو الإدراك بما له من المراتب الكثيرة ، فيشمل علم الله تعالى وإدراكات المجردات وإدراكات القوى الحاسة الظاهرية والباطنية ، والوهم ، والخيال ، والتفكير والوجدان ، والعلم والظن كل ذلك بحسب مراتبها.

والتقلب التحول من حال إلى حال ، أو التردد المرة بعد المرة ، وسمي القلب قلبا لتحوله وتصرفه من حال إلى حال ، والمراد به في المقام تحويل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وجهه المبارك في السماء من جهة إلى أخرى تطلعا للوحي وانتظارا لأوامر الله تعالى.

٩٨

ويستفاد من الآية الكريمة أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان ينتظر تحويل القبلة وكان الله تعالى يعلم بأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يرغب في قبلة جديدة.

قوله تعالى : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها). أي سنأمرك باستقبال القبلة التي ترضاها ، ولذا قرنه تعالى بالأمر ، وقال عزوجل : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). ولا تختص التولية بتشريع الحكم ، بل المراد الأعم منه ومن تحقق التولية خارجا بواسطة أخذ جبرائيل (عليه‌السلام) بيد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وتوليه إلى المسجد الحرام.

والآية الكريمة لا تدل على أن القبلة الأولى لم تكن مرضية لله تعالى ولا لرسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بأي وجه من الدلالات ؛ فإن إثبات الرضا في استقبال الكعبة لا ينافي ثبوت الرضا في استقبال البيت المقدس ما دام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يستقبله لمصلحة كما جميع التكاليف المنسوخة والمتبدلة لمصالح مختلفة ، بل يمكن أن يستفاد من ظاهر الآية أن القبلة الحقيقة هي الكعبة المقدسة التي هي مورد محبته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : لأنها أقدم القبلتين وقبلة إبراهيم (عليه‌السلام) ومجمع العرب وملاذهم وأهم ما يفتخرون به فكان ذلك مورد خطور قلب نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومحبته وان لم يظهره على لسانه تأدبا مع ربه ، بل كان يردد وجهه الى آفاق السماء منتظرا لما هو المعلوم من إرادة الله تعالى.

وعليه يكون التوجه إلى القبلة الأولى من قبيل التكاليف الامتحانية والصّلاة إليها قبل التحويل ـ على فرض عدم تصادف الكعبة في البين ـ من الصلاة الاضطرارية التي تصلى الى غير القبلة لمصالح كثيرة ، منها المماشاة مع اليهود الذين هم ألدّ الخصام ، وجلب قلوبهم.

قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). الشطر يطلق على القسم المنفصل من الشيء ، أي النصف ، والجزء ومنه الحديث : «السواك شطر الوضوء» ، وقوله (عليه‌السلام) : «من أعان على مؤمن ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله».

والمراد به هنا النحو والجهة. ولم تستعمل هذه الكلمة في القرآن الكريم

٩٩

إلّا في تشريع القبلة إلى المسجد الحرام. وإنما ذكر المسجد الحرام ، لتوسعة الأمر ، وأن الاستقبال اليه طريق إلى استقبال الكعبة المقدسة ، وإلّا فإن القبلة هي الكعبة ، لنصوص متواترة بين الفريقين كما يأتي في البحث الفقهي.

قوله تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). تعميم للمستقبلين في جميع أنحاء العالم بأن يولوا وجوههم نحو المسجد الحرام ، وتعميم أيضا لجميع الجهات خلافا للنصارى حيث يستقبلون جهة المشرق فقط.

قوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ). الحق يأتي لمعان متعددة ، منها الإيجاد ، والحكمة التامة ومطابقة الواقع ، وغير ذلك. وقد ورد في القرآن العظيم بالنسبة الى جميع المعارف من المبدأ والمعاد ، وصفات الباري عزوجل وأفعاله وتشريعاته المقدسة.

وعن جمع من أعاظم الفلاسفة أن الحق يقال للمطابق للمخبر عنه وللموجود الحاصل بالفعل ، والموجود الذي لا سبيل للبطلان اليه أبدا فهو تعالى حق من حيث ذاته وصفاته وأفعاله وجميع شؤونه ، وقد خصص بعض أكابرهم في شرح هذه المادة صفحات من كتابه الكريم وكلها تنطبق على المعارف الربوبية.

وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من أربعمأة مورد ، فسبحان الذي يكون هو أصل الحق ومنبعه ومرجعه. ولا حق غيره وما سواه باطل.

وقد عد الحق من أسماء الله الحسنى ، وينبعث شعاعه إلى جميع تشريعاته المقدسة. ولا يخلو الحق عن الحقيقة بخلاف الباطل ، ففي الحديث عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) : «على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نور».

١٠٠