مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

١
٢

٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

نحمدك اللهم على ما فضلتنا به من الإستضاءة بأنوار كتابك والصّلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد رسلك وآله وأصحابه والسابقين إلى المتثال أمرك.

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤))

شرع سبحانه وتعالى في بيان بعض أحوال إبراهيم (عليه‌السلام) تمهيدا لبيان بناء البيت وتشريع القبلة للمسلمين ، وأهمية البناء وعظمته تنبئان عن عظمة الباني وأهميته ؛ ولذا خصه الله تعالى ـ وبعض ذريته ـ بالإمامة الكبرى ، كما أنّ في تأخير ذكره عن أهل الكتاب ترغيبا لهم بالإيمان بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأنه ليس من حق اليهود الذين ينسبون أنفسهم إلى إبراهيم (عليه‌السلام) أن يعرضوا عن الأساس الذي بني عليه الإسلام ، بل أساس النبوة العظمى والإمامة الكبرى ، فهو (عليه‌السلام) محور الكمالات الإنسانية ، فلا عذر في الإعراض عن تعاليمه.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ). مادة «بلي» تأتي بمعنى الخلق الذي هو ظهور لحمته وسداه ، وبروز واقعه وحقيقته للناس ولصاحب الثوب ، واستعملت في الامتحان والاختبار من هذه الجهة ، لأنهما يظهران حقيقة الشيء وواقعه.

والمراد بهذا الظهور هو الظهور للنفس ولمن يجهل الحقائق ، لا بالنسبة إلى الله الذي هو علّام الغيوب ، والمطلع على كل سر محجوب.

٥

وقد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ، قال تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٦٨] ، وقال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٣٥] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

ويصح استعمال هذه المادة في الخير والنعمة لتظهر كيفية الشكر عليهما. وفي الشر والنقمة ليعلم كيفية الصبر عليهما.

وإبراهيم كلمة سريانية تفيد معنى الأب الرحيم على ما قيل ، ويشهد له التأمل في أحوال هذا الرجل العظيم من حبه للضيوف والمساكين وكثرة مداراته مع المعاندين ، ورأفته بأطفال المؤمنين في عالم البرزخ كما في النصوص الى غير ذلك من الصفات الحسنة مما تأتي الإشارة إليها.

وقد تكرر اسمه الشريف في الكتب السماوية ، ففي القرآن المجيد في ما يقرب من سبعين موردا. وهو الذي دعا إلى عبادة الإله الواحد الأحد القيوم خالق السموات والأرض ، فلقي ما لاقاه من قومه المشركين ، وكان من انقطاعه إلى رب العالمين ، ما أوجب تحير الملائكة فيه أجمعين ، وكان من بذل نفسه للرحمن وماله للضيفان وولده للقربان أن اتخذه الله تعالى خليلا لنفسه ، وأراه ملكوت السموات والأرض وجعل النبوة والحكمة والملك العظيم في ذريته ، وفدى ولده بذبح عظيم.

وهو أول من رفع قواعد البيت الحرام بعد الطوفان وأول من أتى بشرائع الإسلام ، وأول من قاتل في سبيل الله تعالى وأول من اتخذ الرايات في الدعوة إلى رب السموات ، فحقيق له أن يكون خليلا لله تعالى ، وحق لله سبحانه وتعالى أن يتخذه خليلا.

وإنّما قدّم على الفاعل في الآية الشريفة اهتماما به ، ولاتصال الفاعل بضمير المفعول الموجب لتقديم الأخير عليه.

وإنما بدأ سبحانه وتعالى في ذكر قصة إبراهيم (عليه‌السلام) بذكر الابتلاء والامتحان ، إعلاما لخلقه بأنّ الأنبياء والأوصياء إنما وصلوا إلى

٦

مراتبهم العالية بالاختبار والامتحان ، وأن إبراهيم (عليه‌السلام) قد خرج عن هذا الابتلاء والامتحان بأحسن وجه ، وبأن فضله وكماله بإتمام ما كلفه الله سبحانه وتعالى به.

قوله تعالى : (بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ). الكلمات جمع كلمة. تظلق على الأثر الحاصل غالبا للسمع أو البصر. فمن الأول عامة الكلمات الشايعة المستعملة. ومن الثاني الجرح المحسوس بالبصر ، فالألفاظ المسموعة كلمات والمعاني التي تحتها كلمات أيضا ، لمكان الاتحاد بينهما في الجملة من هذه الجهة. كما أن المعاني كلمات الله تعالى من حيث دلالتها عليه سبحانه ومظهريتها له تعالى ، سواء وجدت بالوحي ، أم الإلهام ، أم القذف في القلوب وغير ذلك من وجوه المعرفة والاتصال مما لا يعلمها إلّا الله تعالى.

كما تطلق الكلمات على الذوات قال تعالى : (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) [سورة آل عمران ، الآية : ٣٩].

والمراد بكلمة الله تعالى أو كلماته حيث تطلق في الكتاب والسنة ما أنشئ عن ذاته المقدسة ، سواء أكان جوهرا بحسب مراتبه أم عرضا وإنما أطلق لفظ الكلمة عليه من باب ضيق التعبير ، وإلّا فإن منشآته عزوجل تكفي فيها الإرادة والأمر التكويني ، كما قال تعالى : (إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس ، الآية : ٨٢]. وما ورد عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) في بعض الأدعية المأثورة : «مضت على إرادتك الأشياء فهي بمشيتك دون قولك مؤتمرة». وأن أمره التكويني عبارة عن إرادته تعالى ، كما أن إرادته فعله.

والمراد بالكلمات في المقام الأعم من المظاهر الأخلاقية النفسانية أو التكليفية ، أو الذوات الخارجية الذي هم مظاهر الحقيقة الإنسانية كالأنبياء والأوصياء الذين هم من نسل إبراهيم (عليه‌السلام).

فلا بد أن تكون الكلمات هي ما تقع في طريق الاستكمال الإنساني لأنه المقصد الأسنى من خلق الإنسان ، ومن اتخاذ إبراهيم خليلا ، وموسى كليما ، ومحمدا مرسلا إلى العالمين. وقد شرحت السنة المقدسة تلك الكلمات ، ويأتي التعرض لها في البحث الروائي.

٧

ومادة (ت م م) تستعمل في انتهاء الشيء بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر خارج عنه ، وهو ضد النقص. وقد استعملت في القرآن كثيرا ، قال تعالى : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٢] ، وقال تعالى : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٠] إلى غير ذلك من الآيات المباركة. وإتمام الصّلاة إتيانها بحيث لا نقص فيها ولا قصر ؛ وفي الحديث «اللهم رب هذه الدعوة التامة» أي لا نقص فيها في ربط العبد بمعبوده ، ولو كان نقص في البين فإنه من نفس العبد.

والمراد به في المقام أي : أكملهنّ كما هو حقها ووفّاها كمال الوفاء بلا نقص فيها ولا خلل.

قوله تعالى : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً). الجعل من الألفاظ العامة ؛ وهو أعم من الفعل والصنع ونحوهما.

ويستعمل في موارد شتى منها : الخلق والتكوين ، والتشريع ، والحق ، والباطل وغير ذلك ، فمن الأول قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١] ، وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) [سورة يونس ، الآية : ٥] وقوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [سورة النحل ، الآية : ٧٨] ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٣٠] ، إلى غير ذلك من الآيات المباركة الكثيرة.

ومن الثاني قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٣] ، وقوله تعالى : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) [سورة يونس ، الآية : ٨٧] ، وغيرهما من الآيات المباركة.

ومن الثالث : قوله تعالى : (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) [سورة يوسف ، الآية : ١٠٠] ، وجميع ما مر من الآيات المباركة ونظائرها.

ومن الأخير قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) [سورة الرعد ، الآية : ٣٣] ، وقوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) [سورة النحل ، الآية : ٥٧] ، إلى

٨

غير ذلك من الآيات المباركة.

والمراد به في المقام الجعل التشريعي ، نظير قوله تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً) [سورة ص ، الآية : ٢٦] ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٧٣] ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) [سورة السجدة ، الآية : ٣٥].

والجعل التكويني ما ليس لاختيار الغير دخل فيه بخلاف التشريعي فإنه في مورد اختيار الغير ، ويصح كل منهما بالنسبة إلى الله تعالى وبالنسبة إلى الإنسان ، فالفعل الاختياري الصادر منه كالقيام والقعود مثلا جعل تكويني ، وأمره الغير بشيء ونهيه عنه جعل تشريعي.

والإمام كل ما يقتدي به النّاس سواء أكان كتابا سماويا ، قال تعالى : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) [سورة هود ، الآية : ١٧] ، وقال تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) [سورة يس ، الآية : ١٢]. أم رجلا إلهيا ، قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) [سورة السجدة ، الآية : ٣٥].

ويستعمل في كل من الحق والباطل ، قال تعالى : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) [سورة التوبة ، الآية : ١٢] ، وقال تعالى : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) [سورة الفرقان ، الآية : ٧٤].

والإمامة في عرف المليين هي الزعامة الإلهية والرئاسة الربانية على النّاس ، والإمام هو الزعيم والمقتدى في أمور الدين والدنيا ، فهو القوة المجرية لأحكام الله تعالى وتدبيراته في خلقه من حيث التشريع فتكون رئاسته من الحق وبالحق.

وإذا لوحظت مطلقا من غير شرط فهي تجامع النبوة والرسالة ، وإذا لوحظت (بشرط لا) فهي تختص بغيرهما فإنّ مجرد إنزال التشريعات السماوية على من يختاره الله تعالى يكون نبوة ، وامره تعالى ذلك النبي أن يرسل ويبلغ

٩

ما أنزل عليه إلى النّاس يكون رسالة. كما أنّ أمر الله تعالى ذلك الرسول بإخراجها في النّاس وإقامته فيهم يكون إمامة ، وبين الجميع تصادق في الجملة والحقيقة واحدة ولكن لها مراتب مختلفة.

ويصح انفكاك الأول عن الأخيرين كما في جمع كثير من الأنبياء (عليهم‌السلام) مثل لوط ، ويونس ، وهود وغيرهم. كما يصح انفكاك الأخير عن الأولين ، كخلفاء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ويصح اجتماع الجميع كما في إبراهيم وموسى وعيسى وخاتم النبيين (صلّى الله عليهم). فلا ملزم أن يكون كل نبي أو رسول إماما كما لا ملزم أن يكون كل إمام نبيا أو رسولا. ولها فروع منها القضاوة التي هي الحكم بين النّاس بالحق بإذن من إمام الأصل (عليه‌السلام) ، كما فصل في الفقه.

فالإمامة هي السلطة الفعلية الإلهية على تنظيم أمور الرعية بما يريده رب البرية ، ولا ريب في أنها أعلى مقامات الإنسانية لكونه أمين الله تعالى في خلقه وأمين الخلق بينهم وبين الله تعالى ؛ فلا بد أن يكون أعلم النّاس بأحكام الله تعالى ، وأتقاهم في دينه ، وأعقلهم وأسوسهم في ترتيب أمور العباد وتنظيم البلاد بما يفاض عليه من الله تعالى ، كما في نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وإبراهيم (عليه‌السلام) ، أو من الشريعة التي يتدين بها ، كما في الأئمة الهداة المعصومين (عليهم‌السلام).

ثم إنه ذكر جمع من المفسرين أن المراد بالإمامة في المقام النبوة لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من يقتدي به النّاس ويؤتم به فليست الإمامة شيئا زائدا على النبوة والرسالة الإلهية.

ولكن التأمل في الآية المباركة وسائر الآيات الشريفة النازلة في سياقها يرشد إلى أنها غير الرسالة ، وأن الإمامة كانت بعد الرسالة.

أما أولا : فلأن ظاهر قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) أن الابتلاء والامتحان كان بعد وجدان ابراهيم (عليه‌السلام) لمرتبة النبوة وخروجه عن الامتحانات الإلهية وإتمامه لهنّ ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) إذ الظاهر أنّ الجعل تعلق بأمر جديد وكان بعد خروجه عن

١٠

الامتحان والابتلاء ، وإلّا لا معنى لأن يتعلق الجعل بأمر كان حاصلا له.

وثانيا : ظاهر قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) يدل على كون الجعل في المستقبل ، وصرفه إلى معنى (جعلت) في الماضي خلاف الظاهر ويحتاج إلى دليل ، وقد ذكر علماء الأدب أن اسم الفاعل إنما يعمل إذا كان بمعنى المستقبل.

وبالجملة أنّ توهم كون المراد بالإمامة هي النبوة خلاف الظاهر المنساق من الآيات المباركة الواردة في القصة. وقد وردت روايات مستفيضة عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) تدل على أن إمامة إبراهيم (عليه‌السلام) كانت بعد النبوة يأتي التعرض لها في البحث الروائي.

والمستفاد من جميع ما تقدم أن النسبة بين النبوة والإمامة هي العموم من وجه ، فليس كل نبي إماما كما أنه ليس كل إمام نبيا ، ومورد الاجتماع إبراهيم (عليه‌السلام) ، ومحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

قوله تعالى : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي). مادة (ذرأ) تأتي بمعنى الفرق والتفرق ، وأبدلت الهمزة ياء ، سواء كان أصلها من ذرأ بمعنى الخلق ، أم ذرر من لفظ الذر ، أم من ذري أو ذرو بمعنى الإلقاء والتفريق ؛ يقال : ذريت الحب ، أو ذروته. وهي بمعنى النسل سمي ذرية ، للاختلاف في الخصوصيات والهيئة ، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم كثيرا لا سيما في قضايا إبراهيم (عليه‌السلام) ، قال تعالى حكاية عنه (عليه‌السلام) : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٨] ، وقال تعالى : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٣٧].

والظاهر من سياق الآية المباركة أنّ إبراهيم (عليه‌السلام) كما بشر بالإمامة العظمى بعد الابتلاء العظيم من ربه دعا الله تعالى أن يجعل هذه الموهبة العظيمة في ذريته أيضا إما جزاء لابتلائه ، أو رغبة منه فاستجاب تعالى ذلك له بقوله تعالى : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [سورة النساء ، الآية : ٥٤].

١١

وإنما طلب الإمامة لبعض ذريته كما تقتضيه (من) التبعيضية ولم يطلبها لجميعهم ، لأنه كان يعلم بحسب العادة أن ذريته مختلفون في الصلاح لعدمه ، وقد طلبها للصالحين من ذريته ، وطلب هذا المقام الخطير لغير الأهل لا يليق بمقام إبراهيم ، بل هو خلاف أدب الدعاء ولم يكن جديرا بالإجابة.

أو لأنّ الله تعالى أعلمه أسماء الأئمة (عليهم‌السلام) من ذريته في ضمن الكلمات ، كما تدل عليه الأخبار. وسيأتي نقلها في البحث الروائي ، فحينئذ لم يكن يطلب الزيادة على ما أخبره تعالى ، فيكون دعاؤه مزيدا للاستبشار والبهجة ، أو الشكر.

قوله تعالى : (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). يستفاد من هذه المحاورة كمال الخلة والمحبة بينه تعالى وبين عبده إبراهيم (عليه‌السلام) وكيف لا يكون كذلك ، وهو خليل الرحمن.

والنيل نظير الإدراك واللحوق. والمراد بالعهد الإمامة.

وإنما عبر به لبيان كمال أهمية مرتبة الإمامة ، وأنّ جعلها مختص بالله تعالى دون غيره ، كما يأتي في تفسير قوله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [سورة القصص ، الآية : ٦٨].

والظلم هو التجاوز عن الحد المقرر شرعا ، وله مراتب متفاوتة ، ولهذه المادة استعمالات كثيرة يمكن حصرها في أنواع ثلاثة :

الأول : ظلم الإنسان لنفسه.

الثاني : ظلمه بينه وبين الله تعالى

الثالث : ظلمه لغيره. والعقل مستقل بقبح الجميع وقررته الكتب السماوية ، والقرآن الكريم ، والمراد به في المقام جميع ذلك.

ثم إنّ هذه الجملة تدل على عدم إمكان اجتماع عهد الله تعالى مع الظلم ، بل فيها إشارة إلى غاية بعد الظلم عن الله تعالى ، والظالم ليس بأهل

١٢

لأن يقتدى به فكيف يليق لأن يعهد إليه منصب إمامة الناس وتعهد الرعية ، وإرشادهم إلى الصلاح ، وكف الظلم عنهم. فاجتماعهما في شخص من قبيل اجتماع النقيضين ، والتنافي بين الإمامة وبين صرف وجود الظلم واضح. ولا يعدو عن كونه أمرا فطريا وحكما عقليا يجري عليه عامة النّاس في شؤونهم الدنيوية ، فمنصب الإمامة كالنبوة من هذه الجهة في أنهما لا تعهدان إلى الظالم ، وأن الظلم ينافي العصمة التي دلت الأدلة العقلية على اعتبارها فيها.

وظاهر الآية المباركة أن صرف وجود الظلم يكون مانعا ، وأن التلبس به يخرجه عن القابلية لهذا المنصب بسبب النقص الحاصل فيه ، والناس بالنسبة إلى الظلم وعدمه على أربعة أقسام :

الأول : من اتصف بالطاعة والارتباط مع الله تعالى من أول عمره إلى آخر ارتحاله.

الثاني : من اتصف بالظلم والمخالفة كذلك.

الثالث : من يكون مثل الأول في أول عمره ، ومثل الثاني في آخر عمره.

الرابع : من يكون مثل الثاني في أول عمره ، ومثل الأول في آخر عمره.

ولا يليق بمنصب الغيب المكنون ، والسر المصون والإمامة العظمى إلّا الأول ، وإنّ إطلاق الآية الشريفة ينفي بقية الأقسام. كما أن إطلاقها يشمل جميع أقسام الظلم سواء كان شركا أو غيره. وما ورد في بعض الأخبار أنه عبادة الصنم إنما هو من التطبيق على بعض المصاديق.

ومما تقدم يعلم أنه لا حاجة إلى إدخال المقام في مسألة المشتق المعنونة في الكتب الأدبية والأصولية وأطيل القول فيها من أنه لو كان المشتق حقيقة في الأعم من المتلبس بالمبدأ وما انقضى عنه المبدأ ، فلا يليق بالإمامة من ظلم ثم تاب ، وأما إذا كان حقيقة في خصوص المتلبس فقط فلا يصح الاستدلال بالآية المباركة بالنسبة إلى من تاب وآمن.

فإنه لا ربط للآية المباركة بمسألة المشتق ، وإنّ سياق الآية الشريفة كما

١٣

ذكرنا يدل على أن صرف وجود الظلم ينافي جعل هذا المنصب الخطير ؛ لأن الإمام أمين الله تعالى على خلقه ، ومنشأ الاتصال بينه وبين عباده ، والظلم موجب لسقوطه عن هذا المنصب ، سواء كان سابقا عليه أم مقارنا أم لا حقا.

بحوث المقام

بحث دلالي :

يستفاد من الآية المباركة أمور :

الأول : إنّ فصل قوله تعالى : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) عن الجملة السابقة ، ومن إضافته إليه تعالى يرشد إلى شرف الإمامة وأنّها فضل من الله تعالى ولطف إلهي ، وهي لا تنال بالكسب.

الثاني : يستفاد من سياق الآية المباركة أن الإمامة كانت بعد النبوة ، فإن إبراهيم (عليه‌السلام) إنما طلب الإمامة لذريته بعد أن صار له أولاد يرجو أن يكون لهم ذرية ، وأما قبل ذلك فقد كان نبيا. و «جاعل» بمعنى أجعلك في المستقبل لا بمعنى جعلت في الماضي كما لا يخفى.

الثالث : أن قوله تعالى : (لِلنَّاسِ) إشارة إلى الامتنان عليهم وأن الإمامة هبة ولطف إلهي ومن أكبر مصالحهم.

الرابع : يستفاد أدب الدعاء من سؤال إبراهيم (عليه‌السلام) فإنه كان عالما ومتوجها إلى أن في ذريته من لم يكن أهلا للإمامة فلم يطلبها لجميع ذريته وإلّا لا يناسب مقامه (عليه‌السلام).

الخامس : في الآية المباركة تنبيه إلى أن المانع عن الإمامة منحصر في الظلم وأن فيه تنفير ذرية إبراهيم (عليه‌السلام) من الظلم وتبغيضه إليهم ليجتنبوا عنه.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) شرف الإمامة وفضيلتها العظمى وعظيم مقامها ، فإنها عهد من الله تعالى بما فيها من القيام بمصلحة النّاس والتعهد بهم وسياسة الأمة.

١٤

بحث روائي :

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «قد كان إبراهيم (عليه‌السلام) نبيا وليس بإمام حتّى قال الله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). من عبد صنما ، أو وثنا لا يكون إماما». ومثله ما رواه الشيخ المفيد لكن بزيادة «أو مثالا».

أقول : يأتي إن شاء الله تعالى أن إمامته (عليه‌السلام) إنما جعلت له في أواخر عمره وبعد رسالته واصطفائه تعالى له كما في قوله سبحانه وتعالى : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٣٠].

وأما عدم لياقة من عبد الصنم ، أو الوثن ، أو المثال للإمامة فهو قريب من الفطريات ، لأن صرف وجود الإشراك به تعالى يسقطه عن هذا المقام الرفيع.

إن قيل : روى الفريقان عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «الإسلام يجبّ ما قبله» فكيف لا يليق بالإمامة بعد الإسلام. (يقال) : الجب عما قبل الإسلام ، وقبول الإسلام والتوبة شيء ووصول النفس إلى مقام الإمامة العظمى شيء آخر ، ينبو عنه الطبع حتّى مع توبته كما هو المشاهد بالوجدان.

وما ذكر في الحديث إنما هو من باب المثال لكل ظلم كما هو الظاهر من إطلاق الآية الشريفة ، وليس المقام من باب الإطلاق والتقييد ، لإباء الإطلاق ـ في مقام إفاضة هذا المنصب العظيم الإلهي الأبدي المستلزم لتشريع القوانين الإلهية ـ عن التقييد بهذه الثلاثة.

في الكافي أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) : «إن الله عزوجل اتّخذ إبراهيم (عليه‌السلام) عبدا قبل أن يتخذه نبيا. وإن الله تعالى اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا. وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه إماما ، فلما جمع له الأشياء قال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). قال (عليه‌السلام) : لا يكون السفيه إمام التقي». وقد روي بطريق آخر أيضا.

١٥

أقول : جمع أبو عبد الله (عليه‌السلام) في هذه الكلمة الوجيزة أصول ما جمعه الفلاسفة في الفلسفة الإلهية العملية ، وما جمعه العرفاء بعد نهاية جهدهم في شرح مقامات الإنسانية ، وهو قوله (عليه‌السلام) : «إن الله تعالى اتخذ إبراهيم (عليه‌السلام) عبدا قبل أن يتخذه نبيا».

والمراد به ـ مضافا إلى العبودية التكوينية التي هي من لوازم جميع المخلوقات ـ العبودية العملية أيضا لا خصوص الأولى فقط ، فإنها لا تختص بإبراهيم (عليه‌السلام) بل تشمل الكل. والعبودية العملية مفتاح السعادة البشرية ومبدأ جميع الكمالات المعنوية التي تفاض عليه ، بل هي الحياة الأبدية من حيث البقاء فيصير العبد بذلك ظلّ الحي القيوم بقاء وإن لم يكن كذلك حدوثا ، لفرض المسبوقية بالعدم ، فالنبوة والرسالة. والخلّة ، والإمامة متشعبة عن هذا المقام الشريف.

وما ذكره علماء الكلام في الإمامة من الشروط السبعة ـ أي : العصمة الإلهية ، والجعل من الله تعالى ، وعدم حجب أعمال العباد عنه ، وعلمه بجميع ما يحتاج النّاس إليه ، واستحالة وجود أفضل منه ، وكونه مؤيدا من الله تعالى ، وعدم خلو الأرض عنه ـ متشعبة من ذلك. وتشهّد المسلمين في صلواتهم كل يوم وليلة : «وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» إشارة إلى هذا المقام الأجل الأكمل الذي هو رمز السعادة الأبدية بين الأمة وبين الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وبينهما وبين الله تعالى ، لأن العبودية المطلقة لله تعالى بالنسبة إلى القائد والمقتدى (بالفتح) من أبرز المفاخر للتابع والمقتدي (بالكسر) وكذلك من تلبس بالإمامة من ذرية خليل الرحمن المتفانين بجميع شؤونهم في العبودية المحضة للحي القيوم فإنهم المرآة الأكمل لرؤية الخلق خالقهم على نحو ما بينت الكتب السماوية في صفات جماله وجلاله وأفعاله وتفصيل البحث بأكثر من ذلك يطلب من الكتب الموضوعة له.

وأما قوله (عليه‌السلام) : «لا يكون السفيه إمام التقي» السفه : عدم كمال العقل في الدين أو الدنيا أو هما معا. ومن جعل الإمام (عليه‌السلام) هنا السفيه في مقابل التقي يستفاد أن كل من ترك التقوى ولم يتصف بها يكون

١٦

سفيها وإن لم يكن سفيها بالمعنى المصطلح في الفقه ، وقد أطلق لفظ السفه في كثير من الأخبار على كل من أحب الدنيا من حيث هي ، وهو كذلك لأن حب الدنيا بأية مرتبة من المحبة وأية مرتبة من الدنيا رأس كل خطيئة ، كما عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

ثم إنّ ما ذكره (عليه‌السلام) قضية طبيعية يعرفها كل أحد بعد ما يرجع إلى فطرته الأولية ، فمن ستر عنه الواقع وتلبس بالظلم أو السفاهة لا يصير سببا لإراءة طريق الحق للغير فضلا عن أن يكون موجبا للوصول إليه.

والإمامة التي هي الغاية للنبوة والرسالة لا يعقل أن يهملها الله تعالى في الخلق وإن إهمالها نقصان في حكمته جل شأنه ، فكما يجب عليه لطفا بعث الأنبياء والرسل ، يجب عليه كذلك جعل الإمامة أيضا وإلّا لاختلت حكمة بعث الأنبياء والرسل. وسيأتي التفصيل في محله إن شاء الله تعالى.

العياشي عن صفوان الجمال في قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) قال (عليه‌السلام) : «أتمهنّ بمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وعلي (عليه‌السلام) والأئمة من ولد علي (عليهم‌السلام)».

أقول : صفوان بن يحيى من أجلاء أصحاب الكاظم (عليه‌السلام) وهو ثقة عين فكل ما يروي فهو عن الإمام (عليه‌السلام).

والرواية تدل على أن الإمامة تتم في ذرية إبراهيم (عليه‌السلام) إلى الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف). كما يأتي في الحديث اللاحق.

القمي في قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) قال (عليه‌السلام) : «هو ما ابتلاه به مما رآه في نومه من ذبح ولده فأتمها إبراهيم (عليه‌السلام) وعزم عليها وسلم ، فلما عزم قال تبارك وتعالى ثوابا لما صدق وسلّم وعمل بما أمره الله : إني جاعلك للنّاس إماما فقال إبراهيم : ومن ذريتي. قال جلّ جلاله : لا ينال عهدي الظالمين أي لا يكون بعهدي إمام ظالم ، ثم أنزل عليه الحنفية وهي الطهارة وهي عشرة أشياء خمسة في الرأس وخمسة في البدن ـ الحديث».

١٧

أقول : مثل هذه الروايات وجملة من الآيات المباركة ظاهرة في أنّ الله تعالى لا يدع أجر عمل عامل في الدنيا والآخرة ، كما أنّ الظاهر أنّ تفسير الكلمات في هذه الروايات بما ذكر بالعشرة المذكورة إنما هو من باب المثال لكل تكليف إلهي بالنسبة إلى إبراهيم (عليه‌السلام).

وعن الشيخ في الأمالي عن ابن مسعود قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «أنا دعوة أبي إبراهيم (عليه‌السلام) قلنا : يا رسول الله وكيف صرت دعوة أبيك إبراهيم؟ قال : أوحى الله عزوجل إلى إبراهيم : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) فاستخف إبراهيم الفرح. فقال : يا رب ومن ذريتي أئمة مثلي ـ إلى أن قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ـ فانتهت الدعوة إليّ وإلى أخي علي لم يسجد أحد منّا لصنم قط فاتخذني الله نبيا وعليا وصيا». ومثله ما رواه ابن المغازلي في كتاب المناقب.

أقول : تقدم شرحه في الأحاديث السابقة فيكون ذكره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لعدم السجدة للصنم ، مثالا لعدم صدور أي ظلم منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وفي الدر المنثور عن علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لا طاعة إلّا في المعروف».

أقول : المراد بالمعروف هو إطاعة الله تعالى فتصير كل معصية من غير المعروف وهي مسقطة لهذه المرتبة العظيمة ، كما بينه في حديث آخر : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».

بحث أدبي :

ومتعلق «إذ» في قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) وغيرها من الآيات المباركة يصح أن يكون فعلا مقدرا مثل (أذكر) أو يكون فعلا مستفادا من نفس الآية المباركة ، ففي المقام يصح أن يكون متعلقه (أذكر) فيدل سياق الآية المباركة على أن قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) تفسير

١٨

للكلمات ، والفاعل في أتمهنّ هو الله تعالى ، ويرشد إلى ذلك بعض الروايات.

ويصح أن يكون المتعلق قوله تعالى : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ) فتكون الكلمات شيئا آخر.

ثم إنّ متعلق «للناس» يصح أن يكون (إماما) وقدم للاهتمام به وللتصريح بعموم الإمامة للناس وارتباطها بمصالحهم العامة والخاصة.

وقوله تعالى : «إماما» مفعول ل «جاعلك» وهو لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي ، كما لا يخفى.

بحث كلامي :

تقدم أنّ الإمامة هي السلطة الإلهية لتقويم العباد وتنظيم أمورهم الدينية والدنيوية بما يريده الله تعالى ، فتكون الإمامة من قسم الهداية الموصلة إلى المطلوب لا مجرد إراءة الطريق وإلّا لزم الخلف. والآيات الكثيرة المشتملة على هذا العنوان تشير إلى ذلك ، قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) [سورة السجدة ، الآية : ٢٤] فذكر الصبر والثبات يشعر بما تحملوا ـ في إيصال الخلق إلى المطلوب ـ من المتاعب والبلايا ، وكذا قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) [سورة الأنبياء ، ٧٣] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

إن قيل : لو كانت حقيقة الإمامة هي الإيصال إلى المطلوب لا مجرد إراءة الطريق فقد نرى خلافه في الخارج من عدم وصول عامة النّاس الى المطلوب الحقيقي مع تماديهم في غيهم وضلالهم.

يقال : إنّ الإيصال الى المطلوب بنحو الاقتضاء لا العلية التامة المنحصرة وإلّا لبطل الجزاء ، فمهما تخلل الإختيار في البين يكون الإيصال بنحو الاقتضاء ، كما هو معلوم. وسيأتي التفصيل في المباحث الآتية.

ثم إنّ الإنسان لا بد له من إمام يقتدي به في أفعاله وأعماله ويدبر له

١٩

أموره الدينية والدنيوية ولم يختلف أحد في ذلك وإنما الخلاف في أمور أخرى ذكرها العلماء في مبحث الإمامة في الكتب الكلامية والحديثية ، وغيرهما حتّى ألّفوا فيها كتبا ورسائل مستقلة. والمتأمل في المجموع يعترف أن جملة كثيرة منها أقرب إلى الأغراض الجزئية من المباحث العلمية.

وبعد التدبر في مجموع الآيات المباركة والروايات يظهر أن الإمامة ـ كالنبوة ـ فتارة : يبحث فيها عن الإمامة العامة الشاملة لإمامة إبراهيم وموسى ، وعيسى ، ومحمد (عليهم‌السلام). وأخرى : عن الإمامة الخاصة.

أما الأولى فهي كالنبوة العامة فإنها وإن كانت من جهات التشريع لكن لها دخل في نظام التكوين أيضا ، فإن تكميل النفوس الناقصة بالمعارف الحقة الواقعية من أهم جهات التكوين ، ولا يتم ذلك إلّا بإرسال الرسل وبعث الأنبياء وإنزال التشريعات الإلهية ، وجعل التشريع بلا وجود قوة مجرية لغو ، وهو قبيح بالنسبة إليه عزوجل.

فالإمامة هي القوة المجرية لجهات التشريع السماوي فيجب لطفا عليه تعالى جعل الإمام وهذه القاعدة تجري في الإمامة الخاصة أيضا ولا يكفي في القوة المجرية مجرد العقل والعقلاء فإنه لا بد فيهما من التقرير بالحجة الظاهرة ومع غلبة النفس الأمّارة والأهوية الشيطانية كيف يصلح أن يكون العقل والعقلاء قوة مجرية لوحي السماء.

ولا يخفى أن ذلك من حكمة نصب الإمام لا أن يكون من العلة التامة وإلّا فإن الإمامة شيء واقتضاء الظروف والحالات وسائر الجهات لكونه قوة مجرية لوحي السماء شيء آخر لا ربط لأحدهما بالآخر.

يضاف إلى ذلك أن التشريع الذي يقتضي سعادة الإنسان والمتكفل لجميع جوانب الحياة الإنسانية في الدنيا والآخرة لا بد أن يستند إلى الله تعالى رب السموات والأرض ، أو عقل من ملكوته الأعلى وإلّا فلا يكون التشريع جامعا أو نظاما إنسانيّا لكثرة ما نراه من اختلاف آراء الناس بالفطرة ، وقد قال تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٧١] فإذا كان حدوث التشريع من قبل الله تعالى على

٢٠