مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

إبراهيم (عليه‌السلام) كان بعد أن رأى من آيات ربه ، وأنّ إسلامه كان عن حجة ومعرفة بأنّ للعالم خالقا له الربوبية العظمى والتدبير الأتم.

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ان الأثر من الإسلام وسائر الصفات الحسنة إنما يترتب على الموت متصفا بهما لا على صرف وجودهما وإن كان في خاتمة العمر على غيرهما ، وتدل على ذلك روايات كثيرة ، منها قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «كما تموتون تبعثون ، وكما تبعثون تحشرون». كما ان في الدعوات الكثيرة المشتملة على طلب حسن العاقبة عند الموت من الله تعالى دلالة على ذلك.

الرابع : في قوله تعالى : (إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) إشارة إلى أنّ دين الله تعالى واحد في كل الأعصار وعلى لسان كل نبي ، وانه عبادة الإله الواحد ، والاستسلام لأمره جلت عظمته ، كما قال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩]. والوصية به جارية ومستمرة في الأنبياء والأوصياء إلى الأبد ، وسنبين في الآيات المباركة المناسبة تلازم المبدأ والمعاد ثبوتا وإثباتا إن شاء الله تعالى.

الخامس : إنّ في تكرار لفظ الإسلام في الآيات الشريفة السابقة دلالة على أنّ المراد به حقيقته دون مجرد الاسم فقط ، للتأكيد المستفاد منه.

بحث روائي :

في الكافي عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) قال : «لأنسبنّ الإسلام نسبة لا ينسبه أحد قبلي ، ولا ينسبه أحد بعدي إلّا بمثل ذلك : إنّ الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو العمل ، والعمل هو الأداء. إنّ المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ولكن أتاه من ربه فأخذه. إنّ المؤمن يرى يقينه في عمله والكافر يرى إنكاره في عمله ، فو الذي نفسي بيده فاعرفوا أمرهم فاعتبروا إنكار الكافرين والمنافقين بأعمالهم الخبيثة».

أقول : المراد بالإسلام في المقسم هو الإسلام بالمعنى الأخص أي الإيمان بقرينة ذيل الحديث ، وهو الذي أشار إليه نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله)

٦١

فيما رواه الفريقان : «المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه».

والمراد من التسليم من كل جهة قلبا ولسانا وعملا ، كما صرح (عليه‌السلام) في ذيل الحديث. والمراد بالأداء هو خلوص العمل ووصوله الى الله تعالى ، وهو إشارة إلى أن كل ذلك أمانة من الله تعالى لا بد وان تؤدى وتصل اليه عزوجل ، ومقتبس من قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٧٢] وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [سورة النساء ، الآية : ٥٨] ، وأغلى تلك الأمانات وأجلها هو الإيمان فلا بد أن يرد اليه تعالى كما شرعه من دون ان يخان فيه قلبا أو لسانا أو عملا ، وفي المقام تفاصيل تأتي في الآيات التالية.

وفيه عن البرقي عن علي (عليه‌السلام) قال : «الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين».

أقول : هذا بيان لبعض مراتب الإسلام بقرينة الحديث الآتي.

وفيه أيضا عن سماعة عن الصادق (عليه‌السلام) : «الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله ، والتصديق برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) به حقنت الدماء ، وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس. والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام».

أقول : هذا هو أدنى مراتب الإسلام الظاهري الذي عليه عامة المسلمين.

وفي الكافي عن القاسم الصيرفي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «الإسلام يحقن به الدم وتؤدى به الأمانة ويستحل به الفروج والثواب على الإيمان».

أقول : قوله (عليه‌السلام) أولا : بيان لأدنى مرتبة الإسلام وقوله أخيرا بيان لبعض مراتبه العالية.

وفي المجمع عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «قال الله تعالى أعددت

٦٢

لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر».

أقول : ما أعده الله تعالى لعباده الصالحين له مراتب كثيرة بل غير متناهية ، وما ورد في الحديث من بعض مراتبه.

وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) عن الباقر (عليه‌السلام) : «إنها جرت في القائم».

أقول : المراد من القائم النوعي منه أي القائم بالعدل فيشمل كل إمام مفترض الطاعة ، فان من شأنه إيصاء ما وصى به إبراهيم (عليه‌السلام) بنيه إلى من بعده ، لتتصل الوصية والحجة إلى يوم القيامة ، كما تقدم.

بحث علمي :

في كل شيء مراتب متفاوتة سواء كان ذلك الشيء من الأعراض أم من الاعتباريات أم من الجواهر بعد ما أثبت أكابر الفلاسفة بالأدلة العقلية والنقلية الحركة الجوهرية فتثبت المراتب في الجواهر ، كما دلت عليه الشواهد العقلية.

وعليه يكون للإسلام مراتب ، والمرتبة العليا منها هي المؤثرة في السير التكاملي الإنساني في ما يرد عليه من العوالم ، وهذه المرتبة هي مراد الله تعالى ومورد دعاء الأنبياء (عليهم‌السلام) ودعوتهم. نعم حيث أن استعدادات النفوس مختلفة جدا فلا بد من ملاحظتها في مقام التشريع عقلا ونقلا ، ولأجل مصالح كثيرة اكتفت الشرايع السماوية بأدنى مرتبته وهي الإسلام القولي الظاهري ، حفظا للنظام ، وجمعا لشمل الأنام ، فمقام التوسعة على الأمة شيء ومقام بيان الحقيقة والدعاء للتوفيق لها شيء آخر ، وتقدم انه يمكن أن يراد بالإسلام المعنى الأعم الشامل لجميع مراتبه ، فيكون للمخلصين مرتبته العليا ولغيرهم سائر المراتب ، فيصير الانطباق بحسب المراتب قهريا ، كما هو الشأن في جميع الحقائق التشكيكية ان ذكرت بنحو الإطلاق :

٦٣

بحث فلسفي :

قد ذكر الفلاسفة والمتكلمون للوحدة أقساما كثيرة ، وهي : إما حقة حقيقية بحال الذات وهي مختصة بالله الواحد القهار جل جلاله أو بالغير وهو إما في الجنس ، كوحدة الفرس والإنسان مثلا في الحيوانية ، أو في النوع كوحدة الأفراد والأشخاص في النوعية ، مثل زيد وعمرو ، أو عرضية من الأعراض على أقسامها التسعة كوحدة الخطوط في الكمية ، أو وحدة الألوان في الكيفية ، أو وحدة الأخوان في الإضافة إلى غير ذلك من الأقسام. هذا في الوحدة الذاتية المفهومية.

ولهم قسم آخر من الوحدة وهي الوحدة الوجودية من حيث الذات أو وحدة حقيقة الوجود والموجود وتمتاز هذه الوحدة عن غيرها بأنها عبارة عن السعة الوجودية ، وهي تارة في نفس الوجود من حيث هو مع بقاء الإضافات ، ويعبر عنه بوحدة الوجود ، وأنها مبنية على اشتراك حقيقة الوجود بين الواجب والممكن بجميع اقسامه من الجوهر والعرض مطلقا.

وأخرى : في نفس الوجود أيضا كما تقدم لكن بإسقاط جميع الإضافات والخصوصيات وعبروا عنه ب (وحدة الوجود والموجود) ولهم في المقام أقسام أخرى قد فصلت في الكتب الفلسفية ، ولعلنا نتعرض لها مع شرحها في الآيات المباركة المناسبة لها إن شاء الله تعالى.

بحث أدبي :

قد يذكر اللغويون للفظ معنى يكون لذلك المعنى لوازم متعددة ثم يذكرون كل واحد من تلك اللوازم في معاني اللفظ فيجعلونه من المشترك اللفظي ، وهذا شايع عندهم كما قدمناه.

وفي المقام أصل السفه مرض عقلي يعبر عنه بضعف العقل وخفته ومن لوازمه الهلاك والفساد وتحقير النفس وزوال النظم ، وقد جعلوا كل ذلك من معاني السفه. وهذا لا وجه له بل ينبغي أن يكون من لوازم أصل المعنى ؛ كما يقتضيه التحليل العقلي ، ولو بني على عدّ لازم المعنى معنى ، مستقلا ، لانعدم متحد اللفظ والمعنى من اللغات مطلقا. ولعل هذا من أحد

٦٤

منا شيء تكثير المعاني للألفاظ في اللغة.

ثم إنّهم اختلفوا في إعراب «نفسه» الوارد في الآية المباركة ، فقيل : إنه منصوب على أنه مفعول «سفه». وقيل : انه منصوب على التمييز ، وأشكل عليه بأن التمييز لا بد أن يكون نكرة. وفي الآية معرفة ـ لا ان يكون نكرة ـ لإضافته إلى الضمير.

ويدفع الإشكال : بأنّ لفظ «نفسه» في المقام بمنزلة ذات نفسه أو نفسه ذاته ، وهذا لا يخرجه عن التنكير إلى التعريف ، كما لا يخفى.

وقد فرّق الأدباء بين الواحد والأحد بوجوه :

منها أنّ الواحد أعم موردا من الأحد ، لأن الواحد يطلق على من يعقل وغيره ، بخلاف الأحد ، فانه يختص بمن يعقل.

ومنها : أنّ الواحد يدخل في العدد إيجادا وإفناء ، بخلاف الأحد.

ومنها : أنّ الواحد هو المتفرد بالذات ، والأحد هو المتفرد من سائر الجهات ، وعن علي (عليه‌السلام) في وصفه تعالى : (واحد لا بعدد) أي : لا يعقل أن يكون عددا يعد اثنين وثلاثة وهكذا كما في كل واحد عددي.

وأما قول علي بن الحسين (عليه‌السلام) : «لك يا إلهي وحدانية العدد» فمعناه المبدئية لكل شيء.

يعني : كما أن الواحد مبدأ إيجاد الأعداد ومفنيها يكون الله تعالى مبدأ إيجاد الممكنات ومفنيها ، ولعلنا نتعرض لذلك في الآيات المباركة المناسبة إن شاء الله تعالى.

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ

٦٥

وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)).

بعد أن ذكر سبحانه وتعالى في ما سلف من الآيات المباركة حقيقة ملة إبراهيم (عليه‌السلام) وأنّها التوحيد الخالص والاستسلام لله تعالى ، وبيّن أنها دين الله تعالى الواحد على لسان الأنبياء وإن اختص كل واحد منهم ببعض الأحكام بحسب المصالح.

بيّن سبحانه في هذه الآيات أنّ أهل الكتاب قصروا نظرهم على ما امتاز به كل دين عن غيره وجهلوا الحقيقة المشتركة بين الأديان ، فادعى كل واحد أن دينه الحق وغيره على الباطل ، وأن أنبياء الله تعالى على دينهم ، فأبطل سبحانه وتعالى مزاعمهم وحكم بأن الإيمان بالله جلّ شأنه ، وما أنزله تعالى والاستسلام لأمره هي الحقيقة المطلوبة لدى الأنبياء من دون فرق بين أحد منهم ، وأنّ ذلك هو دين الفطرة التي أودعها في الإنسان ولا دخل لأحد فيها ، فمن كان محاجا في ذلك فهو في شقاق.

ثم أقام الحجة على ذلك بأنه تعالى هو الرب والمدبر للجميع ، وأنه لا علم لهم بأن الأنبياء السابقين على دينهم كيف وقد بشروا بنبوة خاتم النبيين (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهم قد كتموه.

وختم الكلام بأن كل واحد له جزاء عمله فلا يسئل عما يفعله غيره. فعلى كل فرد أن يجتني ثمار أعماله.

التفسير

قوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا). الضمير في قالوا يرجع إلى أهل الكتاب ، و (أو) للتنويع ، والجملة لبيان عقيدتهم.

٦٦

أي : قالت اليهود إنّ دينهم على الحق وأنّ الهداية محصورة في اليهودية ، وكذلك ادعت النصارى ، بل إنّ ذلك معتقد كل ذي دين أنّ دينهم خير الأديان ، وأنّ كتابهم أبدي لا يقبل التغيير والتبديل ، وطرق الهداية منحصرة في دينه ، ومقتضى ذلك أن يدعو كل واحد من الفريقين النّاس إلى دينه ، وهذا النوع من المنهج من الفطريات لكل من يعتقد بشيء ويرى صحته ، وهو من الجهل المركب وداء ابتلي به جميع الأمم حتّى بعض فرق المسلمين الذي يعتقد صحة مذهبه أو عقيدته وبطلان غيرهما ، وقد أبطل سبحانه مدعاهم بدليل إلزامي لهم ، فقال مخاطبا لنبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إتماما للحجة والبيان ، وتلقينا للبرهان ، وتثبيتا لشريعته ونبوته ، بل إظهارا للوحدة بين أصل الوحي وقول الموحى اليه في الحجية ، وتوطئة لأمر المسلمين بهذا المقال.

قوله تعالى : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً). مادة (حنف) تأتي بمعنى الميل أي : الميل من الضلالة إلى الهداية ومن الباطل إلى الحق فصارت تطلق على الموحد التابع لدين الحق ، وهي بخلاف (جنف) فانه الميل من الحق إلى الباطل.

وقد استعملت هذه المادة بالنسبة إلى ملة إبراهيم في القرآن الكريم كثيرا ، قال تعالى : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة آل عمران ، الآية : ٩٥] وقال تعالى : (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦١] وقال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة النحل ، الآية : ١٢٠]. وتطلق على أصل الملة والدين أيضا ، قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) [سورة الروم ، الآية : ٣٠]. وفي الحديث : «أحب الأديان إلى الله تعالى الحنيفية السمحة».

والوجه في إطلاق الحنيفية على إبراهيم وملته دون غيره من الأنبياء السابقين أنّ إبراهيم كان في قوم مشركين ، عبدة الأوثان وقد جاهد (عليه‌السلام) في دعوتهم الى التوحيد ونبذ الأوثان وعبادتها وابتلى من قومه بما ابتلى حتّى اختاره الله تعالى لأقصى درجات الخلة والإمامة ومنحه الملة التي

٦٧

كانت بمنزلة المادة لجميع الأديان الإلهية الكبرى ـ اليهودية والنصرانية والإسلام ـ مع أنه (عليه‌السلام) يعتبر مؤسس حركة التوحيد في العالم ، وبه ابتدأت الشرايع الإلهية. وأما شرايع من قبله من الأنبياء فلم تكن لها تلك الأهمية التي جعلها الله لملة إبراهيم ، ولذلك كانت ملته الملة الحنيفية الجامعة للمعارف الإلهية والكاملة في التوحيد ونفي الشرك. والارتقاء في معارج الكمال ، وقد أنزلها تبارك وتعالى حسب المصالح ومقتضيات الظروف حتّى انتهى الأمر إلى الإسلام الدين الجامع لجميع الكمالات والمشتمل على أقصى المعارف الإلهية.

ومن ذلك يعرف أن اختلاف المفسرين في معنى الحنيف وبيان المأخذ لا وجه له ، بل هو اختلاف مصداقي. والجامع هو الصحة والتمامية والسهولة وعدم الضيق والحرج.

وإنما ذكر سبحانه إبراهيم (عليه‌السلام) وأمرهم باتباع ملته لأنه لا ينازع أحد من أهل الكتاب في أنه كان مهتديا ، بل يعتبر إمام المهتدين ، فإذا كان ادعاء كل واحد منهم صحيحا لكان إبراهيم (عليه‌السلام) غير مهتد ، وهم لا يقبلونه.

ومن ذلك يستفاد أن الهداية منحصرة في اتباع ملة إبراهيم (عليه‌السلام) ، وأن موسى وعيسى (عليهما‌السلام) أيضا كانا متبعين لملته لأنها الدين الحنيف القائم على الصراط المستقيم ، والمبني على التوحيد والإخلاص ونفي الشرك ، والحق أحق أن يتبع.

قوله تعالى : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). أي لم يكن إبراهيم من المشركين بالله تعالى. وفيه إشارة إلى اختلاط اليهودية والنصرانية المخترعتين لنوع من الشرك والتناقض على ما يأتي تفصيله.

قوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ). الأسباط جمع سبط وهو بمعنى الانبساط في سهولة ، وسمي ولد الولد سبطا لانبساطه وتفرعه من الجد. ومنه

٦٨

سمى الحسن والحسين (عليهما‌السلام) سبطي الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

والأسباط في بني يعقوب كالقبائل في بني إسماعيل. وكانوا اثنى عشر سبطا كل سبط ينتهي إلى ولد من ولد يعقوب ، كل واحد منهم أمة وجماعة من النّاس ، قال تعالى : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) [سورة الأعراف ، الآية : ١٦٠] ولذلك لم يستعمل في القرآن إلّا جمعا. وسموا بذلك أيضا في التوراة وغيرها.

والنزول مساوق للإيتاء في الجملة ، لأنه يشمل الجواهر والأعراض والتشريعات قال تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٥] وقال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٦]. وقال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [سورة الحجرات ، الآية : ٢١]. وقال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٤] إلى غير ذلك من موارد استعمالات هذه المادة في القرآن الكريم التي هي كثيرة جدا بهيئات مختلفة. فأصل المادتين ـ الإيتاء والإنزال ـ متحدتان في جامع قريب هو الإيصال والوصول ، إلّا أنه لوحظ في النزول الانحطاط من العلو في الجملة بخلاف الإيتاء ، لكنه إذا أضيف الممكن إلى الواجب بالذات والمخلوق إلى الخالق الغني بالذات ينطبق عليه الانحطاط من العلو ـ لوحظ ذلك أو لم يلحظ ـ ، فكل إيتاء منه عزوجل إنزال دون العكس.

ولعل الوجه في التعبير بالنسبة إلى إبراهيم (عليه‌السلام) ومن تبعه بالإنزال للإعلان بأنه مؤسس الحركة الدينية والملة الحنفية فلا بد من إفاضة ذلك من عالم الغيب.

ثم إنه قد يستدل على أنّ الأسباط كانوا أنبياء بالآية المباركة ، وبقوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى) [سورة النساء ، الآية : ١٦٣].

٦٩

وفيه : أن الآية المباركة أعم من حدوث الوحي وإبقائه ومناط النبوة هو الأول دون الثاني ، فيكون من حفظ الوحي غير من أنزل الوحي عليه ابتداء ، كما ستعرف قريبا. وفي بعض الأحاديث : «إن الله تعالى جعل النبوة في ولد بنيامين ونزعها من ولد يوسف» وعن أبي جعفر (عليه‌السلام) نفي كون الأسباط أنبياء ؛ ولكنهم كانوا أسباطا أولاد الأنبياء ، ولم يكونوا فارقوا الدنيا إلّا سعداء.

ومن ذلك يظهر الوجه في قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» أي في جهة حفظ الدين والوحي المبين فان العلماء أمناء الله تعالى في أرضه ما لم يميلوا إلى الدنيا.

وهذه الآية المباركة دعوة عقلية إلى نبذ الاختلاف والعصبية والأهواء ، وهي تدعو الناس إلى الوحدة والاتحاد بين جميع أفراد البشر في المبدأ والتشريع والمعاد ، والترغيب إلى الإيمان بأصل الدين الذي لا خلاف فيه بين جميع أنبياء الله تعالى. فكما أن البشر متحدون في أصل التكوين الإلهي كذلك لا بد وان يكون بينهم اتحاد في نظام التشريع الربوبي. والاختلاف إنما ينشأ من المصالح الزمنية ، وما يقتضيه السير التكاملي في الإنسان ، كما أنه يختلف حفّاظ الوحي باختلاف العصور والقرون.

والمراد بقوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) القرآن وجميع المعارف والتشريعات الإلهية التي أتى بها نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وباعتبار النزول عليه وعلى سائر الأنبياء صدق النزول علينا أيضا.

كما أن المراد بقوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ) الصحف التي أنزلت عليه وملته الحنفية المقدسة التي أمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) باتباعها.

وإنّ المراد بما أنزل على إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ذلك أيضا ، لأنهم الحفظة للملة الحنيفية علما وعملا وبيانا ، وإلّا لم يعهد نزول كتاب عليهم كما أن علماء أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كذلك ، كما

٧٠

عرفت.

قوله تعالى : (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ). مادة (ا ت ي) تأتي بمعنى المجيء ، بسهولة ، وتستعمل في الأعيان والأعراض ، والخير والشر. والكل مذكور في القرآن الكريم ، قال تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [سورة الشعراء ، الآية : ٨٩] ، وقال تعالى : (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) [سورة التوبة ، الآية : ٧٠] ، وقال تعالى : (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٤٧] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

وما اوتي موسى وعيسى عبارة عن التوراة والإنجيل وما حباهما الله تعالى من كرامة الوحي وسائر المعجزات الباهرات. وإنما خصهما بالذكر لكثرة الاهتمام بهما ، ولأن المقام مقام المحاجة مع اليهود والنصارى والإحتجاج عليهما. وإلّا فهما كسائر أنبياء الله تعالى يدعوان إلى التوحيد والإسلام ، ولذا أكد سبحانه وتعالى بعد ذلك ب :

قوله تعالى : (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ). فلم يكن ذلك خاصا بموسى وعيسى ، فيكون تعميما بعد التخصيص ، وإيضاحا للسبيل ، وإتماما للحجة. والإشارة إلى أن أنبياء الله تعالى متحدون في الدعوة إلى الحق ، وهو أيضا أعم من المعارف التشريعية والمعجزات التي خص الله تعالى بها كل نبي.

قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). أي : قولوا لا نفرق بين أحد من الرسل والأنبياء ونحن لله تعالى مسلمون.

قوله تعالى : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا). (الباء) في (بمثل) بمعنى التشبيه فقط ، ولفظة «مثل» تفيد معنى الآلية التي ينظر بها جيء به إتماما للحجة ، وقطعا للخصومة ، وهذا شايع ومتعارف عند الناس فليست الكلمة زائدة بل بمعنى التوسعة في المثلية في جميع القرون اللاحقة.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ). التولي هو الإعراض

٧١

ومادة (ش ق ق) تأتي بمعنى الثقب والخرم ، ويلزمهما الفصل والتجزئة. وهي تستعمل في القرآن كثيرا ، قال تعالى : (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) [سورة عبس ، الآية : ٢٦] ، وقال تعالى : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) [سورة الحج ، الآية : ٣٥] ، وقال تعالى : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) [سورة ص ، الآية : ٢].

وللشقاق مراتب كثيرة بالنسبة إلى الأصول والفروع والأخلاق ، والشقاق بالنسبة إلى الله ورسله بمعنى الكفر والضلالة ؛ فالكافر في شق والمؤمن في شق ، والمصلي في شق وتارك الصلاة في شق آخر ، والعادل في شق والفاسق في شق آخر وهكذا. فكل شيء وغيره يمكن أن يكونا من شقين ولو كانا من صنف واحد في الجملة. وفي أحاديث آخر الزمان : «لا بد من فتنة يسقط فيها الحاذق الذي يشق الشعرة شعرتين». أي بحذاقته وفكره.

قوله تعالى : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). كفى يأتي بمعنى سدّ الخلة وبلوغ المراد في الأمر ، قال تعالى : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) [سورة الأحزاب ، الآية : ٢٥] ، وقال تعالى : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [سورة الحجر ، الآية : ٩٥] وغير ذلك من الاستعمالات القرآنية التي يأتي التعرض لها. فهو السميع لأقوالهم ، العليم بأعمالهم وما في ضمائرهم وما يقدّره على عباده وما ينفذه فيهم ، فهو الكافي من كل شيء ولا يكفي منه شيء.

والآية الشريفة من البرهان العقلي الذي قرره القرآن الكريم ، بأن يقال : الإيمان بالأنبياء والرسل سبب للهداية فكل من كان على إيمانهم فهو مهتد ، فاليهود والنصارى إن كانوا على إيمانهم فهم مهتدون ، ثم نقول إنهم ليسوا على إيمان الأنبياء والرسل وكل من كان كذلك فهو في شقاق مع الله ورسله ، فاليهود والنصارى في شقاق مع الله ورسله وكذا كل من يكون مثلهما في المخالفة الاعتقادية أو العملية مع الله ورسله ، هذا بالنسبة إلى أصل ثبوت الموضوع. وأما الأثر المترتب عليه فهو أنّ الله تعالى يكفي أنبياءه ورسله والمؤمنين بهم من كيد أهل الشقاق ونفاقهم ، كما يقتضيه نظام التكوين والتشريع.

٧٢

وفي الآية المباركة تسلية للمؤمنين بالنصر ووعد لهم بالكفاية ولن يخلف الله وعده ، وقد ظهر صدقه مرارا. وسيظهر كذلك في ما بعد إلى آخر الزمان. كما أن هذه الآية المباركة من أدلة نبوة نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ورسالته.

قوله تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً). الصبغة اسم للكيفية الحاصلة من صبغ الشيء. فكما أنّ للأجسام ألوانا تظهر للبصر ، كذلك للنفوس والأرواح ، ما هو بمنزلة اللون يظهر لأهل البصائر والبصيرة من بياض وسواد ، وصفاء وكدر ، ونور وظلمة ، وطهارة وخباثة.

وتضاف إلى الله تعالى تارة : إذا حصل من الإيمان بالله وما أنزله على رسله والاستسلام لأمره. وإظهار العبودية له عزوجل وهذا بياض معنوي ، بل لمعان أنوار في النفس بحيث يكون نورا في ذاته ومنورا لغيره ، ولها مراتب كثيرة ودرجات متفاوتة. وأخرى : تضاف إلى غيره تعالى ، وهي الظلمة والكدورة التي تحجب عن مبدأ النور.

فيكون المراد بالصبغة هو العقل الذي يعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان الذي تجتمع فيه الشرايع الإلهية على ما يأتي من التفصيل المعبر عنها بالفطرة السليمة ، وما سوى ذلك ليس من صبغة الله تعالى ؛ فصبغة الله تعالى هي الطهارة عن كل دنس روحي ومعنوي ، ولا يمكن أن تجتمع مع الشرك والكفر والنفاق والرذائل النفسانية فلا تتأثر بالتقاليد والأهواء والعصبية ، وإنما هي من صنع الله تعالى التي تبقى وتدوم ، وهي المؤثرة في الإنسان في جميع العوالم التي ترد عليه. وهي التي تميز من كان على الصبغة الإلهية التي يظهر أثرها الكريم من التوحيد والأخلاق الفاضلة والأعمال الشريفة من غيرها الذي يكون على الصبغة البشرية التي هي في اضطراب وتعدد وتفرق.

فما يفعله النصارى من تعميد أولادهم لا ينفع لدنياهم ـ مع ما هم عليه من الكفر ـ إلّا إذا كان ما قرره الإنجيل مصدقا بالقرآن فحينئذ ينفعهم التعميد لأنه من دين الله.

وبالجملة : صبغة الله ترجع إلى ارتباط العبد مع الله تعالى بنحو ما يشاء

٧٣

الله تعالى ويريده لا بما يشاؤه العبد ويريده ، كما يدل عليه صدر الآية المباركة وذيلها ، فان قوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ). وقوله تعالى : (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) بيان للصبغة والعلة لتحققها ، والإيمان والعبودية إنما يتحققان بما يشاء الله المعبود بالحق لا بما يشاؤه العابد.

ومن ذلك يظهر أن تفسير الصبغة بالإسلام ، أو ملة إبراهيم ، أو دين الله كل ذلك صحيح وينبئ عن شيء واحد. وهو : التوجه إلى الله تعالى والانقطاع عن غيره ؛ كما سيأتي في البحث الروائي.

ثم إن هذه الصبغة تنسب إلى الله تعالى نسبة الفعل إلى الفاعل ، كما تنسب إلى العبد نسبة الشيء إلى قابله ، وكل منهما على نحو الاقتضاء لا العلية التامة.

ومن ذلك يظهر أحسنية هذه الصبغة من حيث الذات والمورد والفاعل ، فأصل اللون هو التوحيد والإيمان ومكارم الأخلاق ، ومورده المؤمن ، وفاعله هو الله عزوجل ، وغايته السعادة والخلود في الجنان. ومن آثارها العبودية التي كنهها الربوبية ، فلا يتصور في العالم شيء أفضل وأحسن من هذه الصبغة ، وفيها قال تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [سورة الروم ، الآية : ٣٠].

قوله تعالى : (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ). أي : لا نشرك في العبادة والألوهية غيره تعالى. وهو في موضع الحال ، وبيان العلة لأحسنية الصبغة. كما أن نصب «صبغة الله» بالفعل المقدر ، أي : اتبعوا ، أو بدل من ملة إبراهيم ، وإن كان الأخير هو الأوفق ، كما عرفت.

ثم إن كمالات النفس الإنسانية على أقسام ثلاثة :

الأول : ما تكون للدنيا ومن الدنيا وفيها أيضا ولا تتجاوز عنها وهذا هو الكثير الذي ابتلي عامة النّاس به ولا ربط له بصبغة الله تعالى أبدا. نعم هو مورد قضاء الله وقدره.

٧٤

الثاني : ما تكون للدنيا والآخرة معا بحيث يجعل الدنيا وسيلة وذريعة للوصول إلى الكمال الأخروي.

الثالث : ما تكون للآخرة فقط بحيث لا نظر إلى الدنيا إلّا على نحو الآلية والمرآتية ، كما قال علي (عليه‌السلام) : «صحبوا الدنيا أبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى». والقسمان الأخيران من صبغة الله ؛ ولكل منهما درجات متفاوتة ومراتب كثيرة.

قوله تعالى : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ). المحاجة : المجادلة ، ومادة (ح ج ج) : تأتي بمعنى القصد والطلب ومنه «حج البيت» ، وحيث أن كل واحد من المتخاصمين والمتنازعين يطلب الغلبة على الآخر ويقصد جذبه أطلقت عليه المحاجة.

وتستعمل في كل من الحق والباطل ؛ قال تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ٨٣]. وقال تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ٨٠]. والعلوم الاستدلالية مشحونة من الإحتجاجات المتضادة المتناقضة مع العلم بكذب أحد الطرفين ، والعلماء وضعوا علما مستقلا مفصلا لبيان الحجة الصحيحة مادة وصورة والتمييز بينها وبين أنحاء المغالطة.

والمعنى : أتجادلوننا في الله وتدعون أنكم أحباء الله وأبناؤه والموحدون له وان دينكم الحق ، وأن النبوة فيكم مع أنّ رحمته وسعت كل شيء وكل عبيده ولا تختص رحمته بقوم دون آخرين ، وجميع تلك المقترحات باطلة ، وأن الله يختار ما يشاء و (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [سورة القصص ، الآية : ٦٨] ، وكيف يخصكم برحمته دون غيركم؟ (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) ، والجميع عباده ، ورحمته واسعة ؛ وهو الرب والكل مربوبون له.

قوله تعالى : (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ). مادة خلص ؛ تأتي بمعنى ذات الشيء وخاصته وزوال كل ما يشوبه وينافيه ، وقد استعملت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ، قال تعالى : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ

٧٥

بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) [سورة ص ، الآية : ٤٦] ، وقال تعالى (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [سورة الزمر ، الآية : ٢] ، وقال تعالى : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [سورة الحجر ، الآية : ٤٠] ، وقال جل شأنه : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) [سورة الزمر ، الآية : ٣] إلى غير ذلك من الآيات المباركة ، وكل ما قيل في حقيقة الإخلاص يكون دون حده ورتبته ، وقد قال علي (عليه‌السلام) : «بالإخلاص يكون الخلاص ، وطوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء». وهو من الأمور الإضافية فيضاف إلى أصل التوحيد تارة بدرجاته ، وفي مقابله الشرك بمراتبه. وإلى العبادة أخرى ، وفي مقابلها الرياء بمراتبه. وإلى سائر الأعمال ثالثة ، وفي مقابلها كثير من مفاسد الأخلاق ، والجامع بين الجميع الإخلاص في الدين.

والعلماء والعرفاء ذكروا للخلوص والإخلاص معاني متعددة ، فعن الفقهاء ان معناه إتيان العمل لله تعالى ، بأن يكون الداعي على إتيانه هو الله تعالى ؛ وقد فصلنا القول فيه في الفقه. وعن بعض العرفاء : إن الإخلاص ؛ سر من أسرار الله تعالى يستودعه قلب من يحب من عباده. وعن آخر : إنه لا يحب أن يحمد على شيء من عمله. وقد ينسب هذان القولان إلى الحديث أيضا.

والحق إنه من الحقائق التي لها مراتب كثيرة جدا ، فأولى مرتبته أن يكون الداعي على إتيان العمل هو الله تعالى ، وأقصى مراتبه ما تنتهي إلى حبه تعالى وفي هذه المرتبة أيضا درجات غير محدودة حتّى ينتهي إلى ما أثبتوه من الفناء في الله الذي هو عين البقاء بالله تعالى. وبالجملة أصل الحقيقة وجدانية عملية ، لا ان تكون قولية بيانية ؛ فكم من حقائق تقصر الألفاظ عن بيانها وإن كثرت والعبارات عن شرحها وإن تعددت.

والمعنى إنّ التفاضل يأتي من ناحية الأعمال فكل امرئ رهين عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، والمدار على الإخلاص ، وفيها تعريض لهم بعدم الإخلاص لهم.

٧٦

والآية من الآيات التي تبين كيفية رد من يخاصم الإسلام سواء أكان من أهل الكتاب أم من غيرهم ، ونظير الآية المباركة بوجه أبسط من المقام قوله تعالى : (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [سورة الشورى ، الآية : ١٥] وهذه الآية شارحة لجميع الآيات الواردة في هذا السياق.

والمستفاد منها أن منشأ النزاع والتخاصم مع دين الإسلام إما أن يرجع إلى المبدأ ، أو إلى المعاد أو إلى أحقية دين الإسلام ، أو إلى جهات أخرى دنيوية. وجميع ذلك غير مقبول بالنسبة إلى الإسلام.

أما الأول : فإذا كان المعادي من لا يعترف بالمبدأ فلا بد له من الرجوع إلى الأدلة العقلية والبراهين الساطعة التي يثبت بها المبدأ ؛ وقد أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله : (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ).

وأما الثاني : فلأنّ إثبات الجزاء للأعمال يستلزم الاعتراف بالمعاد ، لأن العمل لا يعقل بدونه بعد الإعتقاد بالمبدإ فهما متلازمان ثبوتا وإثباتا ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) وهو من قبيل ذكر اللازم وإرادة الملزوم.

وأما الثالث : وهو أحقية الإسلام ـ ويندفع بالآيات البينات والمعجزات الباهرات ، وإليه يشير قوله تعالى : (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ).

وأما الرابع : وهو الأغراض الدنيوية كالتي يدعيها اليهود والنصارى فإخلاص دين الإسلام لله عزوجل ينفي ذلك كله ، إذ لا معنى للدين الخالص الا ما كان له تعالى ، فكل ما سواه باطل خصوصا ما يتعلق بمعبوديته وعبادته.

قوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى). بيّن تعالى حجة أخرى لإبطال دعواهم بأحسن بيان وأتم حجة أي : أتقولون إن إبراهيم (عليه‌السلام) وأولاده وأحفاده كانوا هودا أو نصارى ، وأن اليهودية أو النصرانية هما المرضيتان عند الله ولا

٧٧

ينجو أحد إلّا بهما وأن ما عداهما كفر وضلال؟!! : كيف وقد كان إبراهيم (عليه‌السلام) وأبناءه وأحفاده على الملة الحنفية المرضية ـ التي بدأت بخليل الرحمن وختمت بسيد المرسلين ـ الداعية إلى أصول المعارف الإلهية في المبدأ والمعاد. والأحكام الشرعية ، والبداهة والبرهان تدلان على كذبهم ، وأن اليهودية والنصرانية إنما حدثنا بعد إبراهيم (عليه‌السلام) وأولاده وأحفاده بقرون ، وهذا ادعاء باطل ، قال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٦٥]. إلّا إذا ادعوا أنهم كانوا شهداء حين حضر هؤلاء الأنبياء الموت فأوصوا لأعقابهم بالتهود والتنصر ، وهذا كسابقه باطل ، ولذا رد عليهم سبحانه.

وفي قوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ) توبيخ وتعيير لهم بابطال جميع محتملات كلامهم ثم إظهار ما هو الحق.

و «أم» متصلة ومعادلة لما قبلها أي : إن كانت المحاجة في الله تبارك وتعالى فأنتم والمسلمون تعترفون بأنه تعالى رب الكل. وإن كانت في أن إبراهيم (عليه‌السلام) وأولاده وأحفاده كانوا هودا أو نصارى ، فهو خلاف الوجدان والبرهان ، لأن التوراة والإنجيل نزلا بعد إبراهيم بقرون. وأن الله هو الجاعل للنبوة لإبراهيم وأولاده وأنه أنزل الكتب السماوية على رسله فهو أعلم بذلك منكم.

قوله تعالى : (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ). أي : أنتم أعلم بالواقع مع ادعائكم الباطل أم الله الذي أخبر بأن إبراهيم كان حنيفا وأنه ارتضى لكم ملته؟! أو أن أولاده رضوا بعبادة الله إلها واحدا. كما عرفت ، وأنه أنزل الكتب السماوية على رسله فهو أعلم بذلك منكم. ولا ريب في أنهم يعترفون بالثاني فيكون ادعاؤهم باطلا.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ). كتم بمعنى ستر ، وكتم الشهادة أي سترها. وهو وشهادة الزور من المعاصي

٧٨

الكبيرة. والمراد من الشهادة في المقام شهادة التحمل ، كما هو الظاهر ، فيكون التوبيخ والتعيير حقيقيا لأجل كتمان الواقع وإيقاع النفس في الكبيرة الموبقة والهلاك الأبدي ، ومثل هذا كثير في القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ٢١] ، وقوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) [سورة الزمر ، الآية : ٣٢] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

والمراد بالمشهود عليه إما رسالة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وقد أخبر الله تعالى اليهود بأنه يقيم لهم نبيا من إخوتهم ويجعل كلامه في فيه ، كما أخبر المسيح برسول يأتي من بعده اسمه أحمد ، وقد كتموا هذه الشهادة تعصبا وإنكارا للحق. أو الشهادة بأن إبراهيم (عليه‌السلام) كان على دين الحق والإسلام والملة الحنيفية ولم يكن يهوديا ولا نصرانيا ، وقد كتموا الشهادتين ظلما.

ومن المحتمل أن يكون المراد شهادة الأداء أي من أظلم من الله لو كان قد كتم الشهادة على أن إبراهيم (عليه‌السلام) كان يهوديا أو نصرانيا ، وقد بيّن خلافها ، فيكون الشرط تقديريا ، ويصح مثل هذا التعبير في المحاورات حتّى مع امتناع المتعلق ، كما في جملة كثيرة من القضايا الشرطية وما في سياقها. ويكون المراد من مثل هذا التعبير هو إيهام الطرف بأن كتمان الشهادة من الظلم القبيح ، وفيه من المفسدة العظيمة ولا سيما إذا كانت الشهادة في المعارف الإلهية والأمور الدينية فيكون أظلم ، ولذا أوعد عليه تبارك وتعالى.

قوله تعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). تقدم معنى الغفلة في آية (٧٥) من هذه السورة. وقد ذكرت هذه الكلمة في القرآن العظيم كثيرا ، قال تعالى : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سورة النمل ، الآية : ٩٣] ، وقال تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٩٩] إلى غير ذلك من الآيات الشريفة. وبعد فرض إحاطته تعالى بما سواه إحاطة ربوبية قيومية تستحيل الغفلة بالنسبة إليه جل شأنه ، لأنه من الجمع بين

٧٩

النقيضين ، فالغفلة منه ممتنعة وتقع من عباده بالنسبة إليه تعالى ، ولها مراتب كثيرة جدا. هذا ولكن ليس من القبيح عقلا ولا شرعا غفلته تعالى عن سيئات عباده ، وهي في الحقيقة ترجع إلى تغافله تبارك وتعالى عنها.

قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ). تقدم معناها وإنما كررت تأكيدا لسوء أخلاقهم ، وبيانا لعدم اقتداء الخلف بالسلف الصالح ، فكانت إحدى الآيتين بالنسبة إلى أصل الحدوث لطائفة ، وهم الأنبياء والرسل ، والأخرى كانت ناظرة إلى البقاء بالنسبة إلى طائفة أخرى ، أي : أنهم يسألون عن أعمالهم مع هذا الدين الجديد ومعاملتهم مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

والآية المباركة تشير إلى إنكار رذيلة الاستكبار عن قبول الحق والإصرار على الباطل ، والافتخار بالدعاوى التي لا واقع لها ، والتعلل زورا بمن مضى. وفي تكرارها تأكيد أيضا إلى ارتباط السعادة بالعمل الصالح الذي أكد القرآن الكريم عليه ، فكل يجزى بعمله ، ولكن ذلك لا ينافي ثبوت أصل الشفاعة كما لا دل عليها ، فان انتفاع الناس بعضهم ببعض في الدنيا والآخرة مما لا ريب فيه عقلا وشرعا فالمقام كالآيات الشريفة الدالة على عدم تملك نفس عن نفس شيئا ؛ قال تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [سورة الإنفطار ، الآية : ١٩] التي لا تنفي الشفاعة ، وسيأتي الكلام في الشفاعة مفصلا إن شاء الله تعالى.

بحوث المقام

بحث دلالي :

مما تتضمنه الآيات السابقة كيفية المحاورة والمجادلة مع الخصم ومحاجته ، فقد أقام سبحانه وتعالى أربع حجج على بطلان ما ادعاه أهل الكتاب بأسلوب يقبله الطبع السليم متدرجا من ما هو المتسالم عند الخصم ، ثم إلزامه بنتيجة مدعاه ، ثم تلقينه بما أراده سبحانه. وللقرآن الكريم منهج رفيع في احتجاجاته ومراعاة الأدب الكامل في هذه الجهة ؛ وملاحظة مدركات الخصم كمية وكيفية ، ثم الترقي من الداني بأسلوب رصين ، قال

٨٠