مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

ينحصر فيه عزوجل عقلا ونقلا كما يأتي عند قوله تعالى : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [سورة يونس ، الآية : ٦٥] إن شاء الله تعالى. هذا في العزة الحقيقة ، والظاهرية منها في الدنيا. وقد تحصل لبعض ادعاء لكن ليس كل ادعاء حقيقة بعد قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة المنافقون ، الآية : ٨] وقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من طلب العزة بغير الله ذل». وهذا الدعاء إنما كان بعد الفراغ من بناء البيت ، إذ لا يمكن تعمير هذا البيت العظيم إلّا ببقاء الحركة الدينية واستمرار المبادئ الإنسانية الكاملة ، وفي الحديث : «إنّ المؤمن أعظم حرمة من الكعبة إن الكعبة يستقل منها بالمعاول ولا يستقل من إيمان المؤمن شيئا» ولذا طلب منه إرسال الرسول ليشيد أركان العبادة.

بحوث المقام

بحث دلالي :

يظهر من الآيات المباركة أمور :

الأول : يستفاد من دعاء إبراهيم (عليه‌السلام) (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) ان هذا الإسلام غير الإسلام الذي نحن عليه لأن هذا الدعاء وقع بعد طي المراحل الأولية من الإسلام مثل كسر الأصنام والإحتجاج على بطلان عبادة الشمس والقمر ، والطعن على عبادة دون الله تعالى. فهو عبارة عن العبودية المحضة وتسليم الأمر اليه تعالى التي لخصها بعضهم بقوله : «العبودية جوهرة كنهها الربوبية» والأحاديث وشواهد العقل في عظمة هذه المرتبة من الإسلام والعبودية كثيرة جدا. وبناء عليه يكون ما طلبه (عليه‌السلام) لذريته إنما هم خواص ذريته ، كطلبه للإمامة لبعض الذرية ، كما عرفت.

الثاني : أنّ الإسلام الحقيقي وتسليم الأمر إليه تعالى في مقام العبودية المحضة يلازم الاصطفاء في الدنيا والصلاح في الآخرة فهما متلازمان في المبدأ والمنتهى ، وفي المراتب شدة وضعفا ، كمالا ونقصا.

الثالث : أنّ في تأخير ذكر إسماعيل (عليه‌السلام) عن المفعول به في

٤١

قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) إشارة إلى أن الباني هو إبراهيم (عليه‌السلام) وإسماعيل تبع له فهو كالعامل لديه ، كما عرفت سابقا.

بحث روائي :

في الكافي عن أحدهما (عليهما‌السلام) قال : «إنّ الله تعالى أمر إبراهيم ببناء الكعبة وأن يرفع قواعدها ويري النّاس مناسكهم فبنى إبراهيم وإسماعيل (عليهما‌السلام) البيت كل يوم سافا حتّى انتهى إلى موضع الحجر الأسود. قال أبو جعفر (عليه‌السلام) : فنادى أبو قبيس إنّ لك عندي وديعة فأعطاه الحجر فوضعه موضعه».

أقول : إنّ نداء أبي قبيس لإبراهيم (عليه‌السلام) ليس من قبيل النداءات الظاهرية المسموعة بكل سمع بل هو من سنخ الأمور الغيبية التي لا يعرفها إلّا المرتبطون بعالم الغيب وذلك لا ينافي الروايات الكثيرة الدالة على أن الحجر نزل من الجنّة ، إذ من الممكن أنه قد وضع في جبل أبي قبيس بعد الخروج من الجنّة.

وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «نزلت ثلاثة أحجار من الجنّة : الحجر الأسود استودعه إبراهيم ، ومقام إبراهيم وحجر بني إسرائيل. قال أبو جعفر (عليه‌السلام) : إن الله استودع إبراهيم الحجر الأبيض وكان أشد بياضا من القراطيس فاسود من خطايا بني آدم».

أقول : لا تنافي بين كون الحجر مستودعا عند إبراهيم (عليه‌السلام) ومستودعا في جبل أبي قبيس كما في الحديث السابق ، لإمكان تعدد محال الاستيداع حسب أهمية الوديعة والمصالح المقتضية لذلك.

وفي بعض الأخبار إنّ الله تعالى أنزل قواعد البيت من الجنّة.

أقول : يمكن أن يراد من الجنّة جنة الآخرة ، وكانت الأحجار فيها من عالمها فلما نزلت إلى الدنيا تمثلت تلك القواعد بصورة الأحجار لأجل تبدل عالمها بعالم الماديات ، كما في تصور جبرئيل بصورة الإنسان ـ كدحية الكلبي ـ وكما في قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ

٤٢

ما يَلْبِسُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ٩] ، وسيأتي في الخبر الآتي ما يدل على ما قلناه.

وقد ثبت في الفلسفة أن تنزل كل شيء من عالمه إلى ما دونه لو تصور بصورة ما كانت بصورة ما نزل إليه لا بصورته التي يكون عليها في الواقع.

إن قيل : إنّ جنّة الآخرة لم تخلق بعد فما معنى هذه الأخبار من أنها نزلت من الجنّة. يقال : المراد بعدم خلق جنة الآخرة اى خلق نتائج أعمال العباد وأما خلق ذات المكان وسائر خصوصياته فهو مسلّم ، كما تدل عليه ظواهر الآيات المباركة والسنة المقدسة. وبذلك يمكن أن يجمع بين الآراء فمن يذهب إلى أنها غير مخلوقة أراد جنة نتائج الأعمال ، وما يستفاد من الأدلة أنها مخلوقة أي بحسب الذات ، وسيأتي الكلام فيه مفصلا في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

وفي تفسير القمي عن هشام عن الصادق (عليه‌السلام) في حديث نزول هاجر وإسماعيل على أرض مكة قال (عليه‌السلام) : «فلما بلغ إسماعيل مبلغ الرجال أمر الله تعالى إبراهيم (عليه‌السلام) أن يبني البيت فقال : يا رب في أي بقعة؟ قال : في البقعة التي أنزلت على آدم القبة فأضاء لها الحرم فلم تزل القبة التي أنزلها الله تعالى على آدم قائمة حتّى كان أيام الطوفان أيام نوح (عليه‌السلام) فلما غرقت الدنيا إلّا موضع البيت فسميت البيت العتيق ، لأنه أعتق من الغرق ، فلما أمر الله عزوجل إبراهيم (عليه‌السلام) أن يبني البيت ولم يدر في أي مكان يبنيه فبعث الله جبرئيل فخط له موضع البيت فأنزل الله عليه القواعد من الجنّة وكان الحجر الذي أنزله الله على آدم أشد بياضا من الثلج فلما لمسته أيدي الكفار اسود ، فبنى إبراهيم البيت ، ونقل إسماعيل الحجر من ذي طوى فرفعه إلى السماء تسعة أذرع ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه إبراهيم (عليه‌السلام) ووضعه في موضعه الذي هو فيه وجعل له بابين بابا إلى المشرق وبابا إلى المغرب ، والباب الذي إلى المغرب يسمى المستجار ثم ألقى عليه الشجر والإذخر وعلّقت هاجر على بابه كساء كان معها وكانوا يكنّون تحته. فلما بناه وفرغ منه حج إبراهيم (عليه‌السلام) وإسماعيل

٤٣

ونزل عليهما جبرئيل يوم التروية لثمان من ذي الحجة فقال يا إبراهيم : قم فارتو من الماء لأنه لم يكن بمنى وعرفات ماء فسميت التروية لذلك ، ثم أخرجه إلى منى فبات بها ففعل به ما فعل بآدم (عليه‌السلام) فقال إبراهيم (عليه‌السلام) لما فرغ من بناء البيت : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). قال (عليه‌السلام) : من ثمرات القلوب ، أي حببهم إلى النّاس لينتابوا إليهم ويعدوا إليهم».

أقول : وردت روايات أخرى قريبة من ذلك من الفريقين ، ويدل على تفسير الثمرات بثمرات القلوب قوله تعالى : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [سورة ابراهيم ، الآية : ٣٧]. كما تقدم الوجه في كون القواعد من الجنّة في الحديث السابق.

في تفسير القمي في قوله تعالى : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) ـ الآية ـ قال : يعني ولد إسماعيل فلذلك قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنا دعوة أبي إبراهيم».

وفي تفسير العياشي عن الزبيري عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قلت له : أخبرني عن أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من هم؟ قال : أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بنو هاشم خاصة. قلت : فما الحجة في أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم؟ قال (عليه‌السلام) : قول الله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

فلما أجاب الله إبراهيم وإسماعيل وجعل من ذريتهما أمة مسلمة وبعث فيها رسولا منهم يعني من تلك الأمة يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ردف ابراهيم دعوته الأولى بدعوته الأخرى فسأل لهم تطهيرا من الشرك ومن عبادة الأصنام ليصح أمره فيهم ولا يتبعوا غيرهم ، فقال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي

٤٤

وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فهذا دلالة على أنّه لا تكون الأئمة والامة المسلمة التي بعث فيها محمد إلا من ذرية ابراهيم ، لقوله تعالى : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ).

أقول : ما ذكره (عليه‌السلام) استدلال حسن على أن ذرية ابراهيم والأمة المسلمة سوى من يسمى بالإسلام وأمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لأن هذه الآية وما في سياقها تخص الذرية والأمة المسلمة بخصوص من اجتباه الله تعالى وعطف عليهم إبراهيم بتلك الدعوات الخاصة لنفسه وذريته ، فتخرج البقية عن مورد الاجتباء تخصصا إذ لا مناسبة بين ما طلبه إبراهيم (عليه‌السلام) وما يرى في بعض المسلمين. وبالجملة هو القليل الذي يمدحه الله تعالى كثيرا وغيره داخل في الكثير الذي وقع مورد الذم في القرآن كذلك.

وفي الوافي نقلا عن الكافي عن ابن بكير قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) لأي علة وضع الله الحجر في الركن الذي هو فيه ولم يوضع في غيره؟ ولأي علة أخرج من الجنّة؟ ولأي علة وضع ميثاق العباد والعهد فيه ولم يوضع في غيره؟ وكيف السبب في ذلك؟ تخبرني جعلني الله فداك؟ فإن تفكيري فيه لعجب. قال (عليه‌السلام) سألت وأعضلت في المسألة واستقصيت فافهم الجواب وفرّغ قلبك واصغ بسمعك أخبرك إن شاء الله تعالى : إنّ الله تبارك وتعالى وضع الحجر الأسود وهي جوهرة أخرجت من الجنة إلى آدم فوضعت في ذلك الركن لعلة الميثاق ، وذلك أنّه لما أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم حين أخذ الله عليهم الميثاق في ذلك المكان ، وفي ذلك المكان ترا أى لهم ـ إلى أن قال ـ :

وأما القبلة والالتماس فلعلة العهد تجديدا لذلك العهد والميثاق وتجديد البيعة ، وليؤدوا اليه العهد الذي أخذ الله عزوجل عليهم في الميثاق فيأتوه في كل سنة ويؤدوا اليه ذلك العهد والأمانة اللذين أخذ عليهم ، ألا ترى انك تقول «أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة ـ إلى أن قال ـ يشهد لمن وافاه وجدد العهد والميثاق عنده لحفظ العهد والميثاق وأداء الأمانة ، ويشهد

٤٥

على كل من جحده وأنكره ونسي الميثاق بالكفر والإنكار.

فأما علة ما أخرجه الله من الجنّة؟ فهل تدري ما كان الحجر؟ قلت : لا قال (عليه‌السلام) : كان ملكا عظيما من عظماء الملائكة عند الله فلما أخذ الله من الملائكة الميثاق كان أول من آمن به وأقر ذلك الملك فاتخذه الله تعالى أمينا على جميع خلقه وألقمه الميثاق وأودعه عنده واستعبد الخلق ان يجددوا عنده في كل سنة الإقرار بالميثاق والعهد الذي أخذ الله عليهم ثم جعله الله مع آدم في الجنّة يذكّره الميثاق ويجدد عنده الإقرار في كل سنة فلما عصى آدم وخرج من الجنّة أنساه الله العهد والميثاق وجعله تائها حيران فلما تاب على آدم حول ذلك الملك في صورة درة بيضاء فرماه من الجنة إلى آدم بأرض الهند فلما نظر إليه آنس اليه وهو لا يعرفه بأكثر من أنه جوهرة فأنطقه الله عزوجل ، فقال له : يا آدم أتعرفني؟! قال : لا. قال أجل استحوذ عليك الشيطان فأنساك ذكر ربك ثم تحول إلى صورته التي كان مع آدم في الجنّة فقال لآدم : أين العهد والميثاق؟ فوثب إليه آدم وذكر الميثاق وبكى وخضع له وقبّله وجدد الإقرار بالعهد والميثاق ثم حوله عزوجل إلى جوهر الحجر درة بيضاء صافية ـ إلى أن قال ـ ثم إن الله عزوجل لما بنى الكعبة وضع الحجر في ذلك المكان ـ الحديث ـ».

أقول : المراد من قوله (عليه‌السلام) : «فوضعت في ذلك الركن لعلة الميثاق» ـ كما يستفاد من السنة الشريفة ، وسيأتي في الآيات المناسبة ـ أنّ ميثاق العباد لربهم كان في ذلك المكان وصار ذلك المكان مشرّفا ومباركا لأنه موضع أخذ الميثاق من الأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين على التوحيد ويأتي في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٢] وساير الآيات المباركة المناسبة بعض الكلام.

وأما قوله (عليه‌السلام) : «يشهد لمن وافاه وجدد العهد والميثاق ـ الحديث ـ» هذه الشهادة من قبيل شهادة ما ورد في قوله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)

٤٦

[سورة النور ، الآية : ٢٤] فهي منوطة بالحياة والإدراكات المعنوية الموجودة في الأشياء بالنسبة إلى الله تبارك وتعالى وما يرتبط به جلّ شأنه.

وأما قوله (عليه‌السلام) : «فلما أخذ الله من الملائكة الميثاق كان من أول من آمن به» يظهر منه أن الميثاق كما أخذ من بني آدم أخذ من الملائكة أيضا فأصل الميثاق واحد وإن كان المورد تارة بالنسبة إلى الملائكة وأخرى بالنسبة إلى بني آدم ، كما يظهر من مثل هذا الحديث أن أخذ الميثاق من الملائكة كان مقدما على أخذ الميثاق من ذرية آدم ويشهد له الاعتبار أيضا. كما يظهر منه اتحاد من التقم الميثاق في مقام البقاء وإن كانا مختلفين في مرحلة أصل الحدوث فزاد ذلك في فضل الركن ، ولأجل ذلك عبر عنه ب «يمين الله في الأرض» كما في بعض الروايات.

وأما قوله (عليه‌السلام) : «أنساه الله العهد والميثاق» فالمراد عدم الالتفات الفعلي لا ترك العهد والميثاق بالمرة وذلك لمصالح كما تقدم في قوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) [سورة البقرة ، الآية : ٣٦].

إن قيل : انه يمكن أن يكون المراد من العهد والميثاق أيضا عالم الدنيا وتعميرها من حيث العبور منها إلى الآخرة فلا يتحقق وجه للإنساء حينئذ. يقال : هذه النظر الآلية التبعية إلى الدنيا حصلت من الإنساء فتكون لنفس معصية آدم ونسيانه دخل في الجملة في تكوين الدنيا بنحو الاقتضاء إجمالا لا على نحو العلية التامة.

وأما قوله (عليه‌السلام) : «حوّل ذلك الملك في صورة درة بيضاء» فالمراد منه ظهور حقيقة عالم في صورة عالم آخر ـ كما تقدم ـ لا أن يكون من التناسخ الباطل ، فذات الحقيقة باقية وهذا صحيح وواقع بالأدلة العقلية والسمعية فما في بعض الأخبار من «ان الحجر الأسود يمين الله في ارضه يصافح بها عباده» تنزيل للأمر الغيبي بالأمر الحسي باعتبار أصله الذي كان من الملائكة واستلم ميثاق العباد.

وأما قوله (عليه‌السلام) : «فرماه من الجنّة إلى آدم وهو بأرض الهند» تقدم موضع هبوط آدم من الجنة إلى الأرض سابقا ، والمراد من الرمي هو

٤٧

تسليم الله الحجر إلى آدم. وفيه إشارة إلى أن التسليم وقع مباشرة منه جل شأنه من دون واسطة في البين ، وفيه من اظهار كمال الأهمية ما لا يخفى. والأرض كلها كانت أرض خليفة الله تعالى وكان يتجول فيها بقدرته تعالى ـ بما فيها الهند ـ وقد فصل المحدثون ذلك في السنة الشريفة.

وأما قوله (عليه‌السلام) : «فلما نظر إليه آنس اليه» المراد به الأنس المعنوي الذي يدركه أهل المعنى كما في قوله تعالى : (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) [سورة القصص ، الآية : ٢٩].

وأما قوله (عليه‌السلام) : «وهو لا يعرفه بأكثر من أنه جوهرة» فإن العلم بالحقائق الواقعية وملكوت الأشياء بما هي عليها يختص به تبارك وتعالى أو من علّمه الله عزوجل ؛ ولم تقتض المصلحة ان يعلم آدم حقيقة تلك الجوهرة حين رماها اليه.

وأما قوله (عليه‌السلام) : «فأنطقه الله عزوجل فقال له يا آدم أتعرفني؟» فذلك ممكن عقلا وواقع في الخارج أيضا بقدرة الله تعالى كتسبيح الحصى في كف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله). ومن هذا الحديث الشريف يظهر سر دعاء الحجيج عند استلام الحجر الأسود بقولهم : «أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة يوم القيامة» فكان لهذا الحجر الشريف مظاهر وشؤون وفي جميعها مبارك ومقدس وسيظهر له بعد ذلك بما هو أحسن وأولى في عالم آخر.

وأما قوله (عليه‌السلام) «إن الله عزوجل لما بنى الكعبة وضع الحجر في المكان» فإنه يستظهر منه أن أول بناء الكعبة المقدسة كان من الله تعالى بواسطة الملائكة. ويمكن أن يحمل على بناء ابراهيم (عليه‌السلام) فيكون نظير قولهم بنى الأمير المدينة.

والمتحصل انه يظهر من هذا الحديث وأمثاله من الأحاديث المعتبرة عظمة هذا البيت وأهمية الحجر الشريف بما لا يدع مجالا للشك والريب ، فليس هو من الأحجار التي لا تضر ولا تنفع ، وإنما اكتسب شرفا بالمجاورة كما

٤٨

يراه بعض المفسرين ، بل له كمال الزلفة والقداسة وله المنزلة العظمى ، كما له المظاهر المختلفة حسب تعدد العوالم.

بحث علمي :

تقدم في البحث الروائي بعض الأحاديث الواردة في بناء البيت وفضل الحجر الأسود ، ومضامين تلك الأحاديث متواترة بين الفريقين فلا وجه للمناقشة في أسانيد بعضها. نعم قد يكون بعض الروايات ضعيفة سندا ، ولكن ذلك لا يوجب رفع اليد عن بقية الروايات ورميها بالضعف والخرافات كما هو واضح. ومع ذلك فقد ناقش بعض المفسرين والكتّاب المحدثين في تلك الأحاديث فقال في عرض كلامه لتفسير الآية الشريفة : وهذه الروايات فاسدة في تناقضها وتعارضها ، وفاسدة في عدم صحة أسانيدها ، وفاسدة في مخالفتها لظاهر القرآن بل كل هذه الروايات خرافات إسرائيلية بثها زنادقة اليهود في المسلمين ليشوّهوا عليهم دينهم وينفروا أهل الكتاب منه.

ولا يخفى أنّ ما ذكره باطل من وجوه :

الأول : إنّه قد شهدت الأدلة العقلية والسمعية على أنّ لله تعالى في عالم الشهادة مظاهر من عالم الغيب إتماما للحجة ولمصالح لا يحيط بها إلّا الله تعالى وبعض خواص أوليائه ، ومن تلك المظاهر مقام إبراهيم (عليه‌السلام) والحجر الأسود وغيرهما مما أشرنا إليه سابقا وما ستعرفه بعد ذلك إن شاء الله تعالى ، وقد ثبت في الفلسفة ببراهين كثيرة إمكان ظهور شيء واحد في مظاهر مختلفة حسب العالم الذي يظهر فيه ولا ينافي ذلك واقعه الذي هو عليه ، فيمكن أن يكون شيء واحد من الروحانيات في عالم وهو في نفس الوقت من الماديات في عالم آخر ـ جوهرا كان أو عرضا ـ كما في الحجر الأسود فإنه إذا استلم كان بحسب الظاهر شيئا ماديا ولكنه في الواقع يمين الله ـ بالمعنى الذي تقدم ـ يصافح بها عباده كما في الحديث ، وحينئذ لا وجه لحصر حقيقته في ما ندركه بالماديات فقط بزعم أن العقول لا يمكن لها درك ما وراء عالم المادة فإن ذلك إما قصور أو تضييع وتعطيل للعقل عن مسيره

٤٩

الذي جعله الله تعالى له ، فإنه لم يحده بحد إلّا ما ورد في الشرع من النهي عن التعمق فيه. ومن ذلك يعلم أن جعل مضامين تلك الأخبار من الأقاصيص التي بثها زنادقة اليهود ، من الجهل بالحقائق والواقعيات.

الثاني : إنّ رمي الروايات بالضعف إنما هو سبيل العاجز وأسهل شيء في الأحاديث عند من لا يحيط بواقعها وحقائقها وقصر النظر على الظاهر فقط ، وتعطيل للعقل عن الاستكمال ، فإن نظر أهل المعرفة في العلوم إنما هو إلى الحقائق الكلية المختلفة مظاهرها حسب تعدد العوالم دون الأفراد الجزئية ، والفضل في الأولى دون الأخيرة كما هو المعلوم للخبير.

الثالث : إنّه يعلم مما ذكرناه عدم تحقق التناقض والتعارض في الروايات فإنّ ذلك إنّما يحصل من قصر النظر على نشأة دون أخرى وأما حقيقة الشيء المختلفة باختلاف النشآت حسب ظهورها في ذلك فلا وجه لعده من التناقض ، فما في بعض الروايات من كون الحجر ملكا وفي بعض آخر أنه درة بيضاء إنما يكون بحسب تعدد الظهور ومن شرط تحقق التناقض والتضاد وحدة الموضوع وهي مفقودة في المقام ، ولا وجه لتوهم التعارض مع القرآن.

الرابع : إنّ ما اعترف به من أنّ هذه الأمور مما شرفها الله تعالى كما شرف أنبياءه فهو حق لا ريب فيه ، لأنّ جميع تلك الأمور لا بد أن تنتهي جهة شرافتها اليه تعالى وذلك لا ينافي جريان الأسباب التي قدرها الله تعالى لشرافتها.

بحث فلسفي عملي :

العبادات التي شرعت في الإسلام إنما هي مبنية على مصالح كثيرة قد لا يحيط بها الإنسان إلّا إذا بينها الله تعالى على لسان نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله). والمستفاد من الآية المباركة والأخبار الكثيرة بعض تلك المصالح ، فإنها تدل على أن تلك العبادات من مظاهر عبودية العبد بالنسبة إلى معبوده ، وأنّها تجليات المعبود في قلوب المتعبدين بحسب مراتب قربهم اليه جلّ شأنه ، وأنها منازل للسير الاستكمالي في الإنسان الذي لا يتحقق إلّا

٥٠

بواسطة الأنبياء والمرسلين بتشريعاتهم وأنّ منها مثالا لمجاهدات المخلصين من أنبيائه (عليهم‌السلام) وصورا لمنازل العبودية التي بها بلغوا إلى مدارج استكمالهم ، ففي الحج مثلا يتجلى ما ذكرناه بوضوح فإنه عنوان مشير إلى منازل عبودية شرعها إبراهيم الخليل (عليه‌السلام) وأفعال الحج مثال لجهاده في مرضات الله تعالى ولذا شرع في الإسلام لأنه مشتمل على أعظم أنحاء العبادات وشموليته لجميع الجوانب ـ روحا وبدنا ومالا ـ فيكون انقطاعا اليه جلت عظمته بجميع أنحاء الانقطاعات كما فعله إبراهيم (عليه‌السلام) فهو لم يلاحظ في بناء هذا البيت الجانب المادي منه بل بنى بيت العبودية الحقيقية التي هي غاية كمال الإنسان وأكمله سيد المرسلين نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فصاروا جميعا من حجاب هذا البيت العظيم وسدنته ، وللمقام تتميم يأتي في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

بحث تاريخي :

كانت للكعبة المقدسة أهمية واحترام عند العرب قبل الإسلام من حين بنائها بل قد يستفاد من بعض التواريخ أنها كانت محترمة ومعظمة حتّى عند الأمم من غير العرب أيضا كالهنود والفرس والصابئة واليهود والنصارى وغيرهم.

أما الهنود فكانوا يعتقدون أن روح أحد عظمائهم [سيفا] قد حلت في الحجر الأسود حين زار بلاد الحجاز. وكان الفرس يعظمونها زاعمين أن روح هرمز قد حلت فيها. وأما الصابئة ـ وهم عبّاد الكواكب ـ فإنهم يعدونها من إحدى البيوت السبعة المعظمة لديهم. وكانت اليهود تحترم الكعبة ويعبدون الله تعالى فيها على دين إبراهيم (عليه‌السلام) وكان لهم فيها تمثال إبراهيم وإسماعيل (عليهما‌السلام) وغيرهما من عظمائهم. كما كانت الكعبة معظمة ومقدسة عند النصارى أيضا وكانت فيها صورة العذراء والمسيح وكان للعرب فيها أصنام ربما تقرب إلى ٣٦٠ صنما.

ولكن ذهاب هذه الأمم إلى أصل قداسة البيت وعظمته مما لا ينكره أحد. وأما ما ذهبوا اليه من حلول روح سيفا أو هرمز أو التقديس لها لأجل

٥١

صورتي العذراء والمسيح أو غير ذلك إن كان من جهة قصور عقولهم في تطبيق القداسة والعظمة على ما زعموه فلا شك أنه من باب الجهل المركب في تطبيق الواقع على مزاعمهم ، وإن كان مرادهم بذلك الموضوعية الخاصة فالآيات المباركة والسنة الشريفة وضرورة الدين المقدس تنكر جميع ذلك بل العقل لا يقبل ذلك أيضا كما ستعرف في الآيات المباركة المناسبة إن شاء الله تعالى

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى جملة من مجاهدات ابراهيم (عليه‌السلام) وما عهد اليه من بناء البيت وجعله معبدا وأنه كان يدعو إلى توحيد الله تعالى والعمل الصالح وإخلاص العمل له فصارت ملته مطابقة للفطرة التي يحكم بها العقل ، عقّب سبحانه وتعالى كالنتيجة لما سلف أنه إذا كانت ملته كذلك فليس للعاقل أن يرغب عن ملته إلّا إذا كان سفيها معرضا عن حكم العقل والفطرة ، ثم ذكر سبحانه وتعالى أنّ ابراهيم (عليه‌السلام) قد وصى بها بنيه وجعلها كلمة باقية عندهم فكانوا يعبدون الإله الواحد إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق. فالمناط كله على تسليم الأمر اليه تعالى لا على مجرد التسمية.

التفسير

قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ). الرغبة تأتي بمعنى الميل والإقبال ، فإذا عديت ب (إلى أو في) تفيد معنى الحرص على الشيء ، وإذا استعملت مع كلمة (عن) كانت بمعنى الكراهة والإدبار فهي من

٥٢

هذه الجهة من الأضداد. ومن للاستفهام الإنكاري أي : لا يرغب عن ملة إبراهيم الداعية إلى التوحيد والأخلاق والحنيفية إلّا السفيه.

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ). تقدم معنى السفه في آية ١٣ من هذه السورة ؛ وقلنا أنّ السفه والسفاهة بمعنى ضعف العقل وخفته ، سواء أكان في الأمور الدنيوية أم الأخروية أم هما معا. وعن بعض الأدباء والمفسرين أنّ السفه إن استعمل متعديا ـ كما في المقام ـ وقولهم سفه رأيه يكون بالكسر ، وإن استعمل لازما يكون بالضم ، لأنه من أفعال السجايا فلا يتعدى.

والمعنى : انه لا يرغب عن ملة إبراهيم (عليه‌السلام) إلّا من أهان نفسه واحتقرها وأهلكها ، فإن ملة ابراهيم (عليه‌السلام) تدعو إلى أحكام الفطرة الواضحة لدى العقول.

وإطلاق الآية الشريفة يشمل الفسق العملي في المسلمين أيضا.

إن قيل : على هذا يعم السفه جميع الناس (يقال) لا بأس به ، إذ المراد بهذا السفه هو السفه الأخروي دون الدنيوي ، وقد أطلق سبحانه السفه على من اعترض على الدين وعلى من عيّر المؤمنين ، فقال تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٢] وقال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٣].

فالسفه تارة : يكون في الأمور الدنيوية وهو المراد بقوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) [سورة النساء ، الآية : ٥] وله أحكام كثيرة مذكورة في فقه المسلمين. وأخرى : يكون في أمور الدين والآخرة وله آثار كثيرة مذكورة في أحاديث الفريقين وثالثة : يكون فيهما معا وسيأتي في البحث الآتي تفصيل الكلام.

قوله تعالى : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا). مادة (ص ف ي) تأتي بمعنى الخلوص عن كل شوب ونقص وتأتي بمعنى الإختيار لأنه لا يقع من الله تعالى إلّا بذلك أي : ولقد اخترنا ابراهيم (عليه‌السلام) ـ بعد اختباره وخلوصه عن كل دنس ورذيلة ـ للرسالة والأمانة والهداية في الدنيا وجعل

٥٣

الملك العظيم له ولبعض ذريته.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). الصالح من حكم له بالصلاح ولا يكون كذلك إلّا إذا كان جامعا للكمالات المعنوية وحقيقة العبودية التي هي جامعة للكمالات الإنسانية فمن كان كذلك في الدنيا يلزم أن يكون في الآخرة من الصالحين ، فالحكمان من المتلازمين.

وإنما خص تعالى الصلاح بالآخرة مع أنه معدود في الدنيا من الصالحين لأنه يظهر فيها صلاح الصالحين فيرى النّاس بأعينهم ما كانوا يسمعونه ، في الدنيا ، أو لأن صلاح الآخرة ملازم لصلاح الدنيا تلازم المعلول للعلة ، أو لأن صلاح أنبياء الله تعالى لا سيما هذا النبي العظيم الذي تعرفه جميع الملل والأديان في الدنيا معلوم لكل أحد ، وقد أراد سبحانه أن يبين صلاحه في الآخرة أيضا. وهذه الآية المباركة دليل قطعي على أن إنكار من يرغب عن ملة إبراهيم ليس إلّا ممن جنى على نفسه بالهلاك فإن ملة تكون لصاحبها هذه المنزلة عند الله تعالى لا تكون إلّا خيرا محضا في الدنيا والآخرة فلا يرغب عنها احد إلّا من كان سفيها.

وفي الآية الشريفة وعد لإبراهيم (عليه‌السلام) بصلاح حاله في الآخرة وبشارة له بذلك.

ثم إنّ للصلاح والعمل الصالح شأن كبير في القرآن والسنة بل وحكم العقل والمجتمع الإنساني. ولم يرد في الكتاب الكريم في تعريفهما شيء ، ولعل وضوحهما عند النّاس أغنى عن التعريف فإن مادة (ص ل ح) محبوب كل ذي شعور خصوصا إذا كان في مورد الصلاح الأبدي. والمذكور إنما هو الآثار المترتبة على العمل الصالح ، مثل إنه تعالى يرفعه ، قال جلّ شأنه : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [سورة فاطر ، الآية : ١٠] وإنه يتولى الصالحين ، قال تعالى : (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٩٦]. وإنه يرزق من عمل صالحا بغير حساب ، قال تعالى : (وَمَنْ عَمِلَ

٥٤

صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) [سورة غافر ، الآية : ٤٠]. وأن الصالح في مصاف الأنبياء الصديقين والشهداء قال تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) [سورة النساء ، الآية : ٦٩] وتلك الآثار المذكورة في الآيات المباركة إنما تترتب إذا كان الصلاح منبعثا عن الذات بحيث تكون الذات مقتضية له. وذلك في ما إذا ارتسم من مواظبة الأعمال الصالحة بحيث حدثت ملكة في النفس من ارتكاب تلك الأعمال ، لأن بين النفس والأعمال نحو تلازم في الجملة ربما تؤثر النفس في الأعمال على نحو الاقتضاء. كما انه ربما تؤثر في النفس كذلك ـ كما ثبت في الفلسفة العملية ـ فالله تعالى لا يدعو إلّا إلى العمل الصالح وكذلك يكون شأن رسله وأنبيائه (عليهم‌السلام) فإنهم لا يدعون إلّا إليه قولا وعملا فهم الصالحون في الدنيا والآخرة. وبالعمل الصالح يدرك مراتب الجنان كما أن به تخمد لهب النيران ويرتقي الإنسان إلى ذروة محبة الرحمن ؛ قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [سورة مريم ، الآية : ٩٦] ولو أردنا أن نعدد ما ورد في الكتاب في فضل العمل الصالح وفضائل الصالحين والصالحات لطال البحث وصار كتابا مستقلا ، ولعلنا نذكر بعض ذلك في الآيات المباركة المناسبة لها في مستقبل الكلام.

قوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ). الظرف متعلق بالاصطفاء والجملة لبيان العلة لحصول الاصطفاء والصلاح. والمراد بالقول هنا تلك الدعوة الحاصلة من الإشراقات المعنوية والإفاضات على قلب ابراهيم (عليه‌السلام) حسب مقتضيات الأحوال والخصوصيات والتي تنبئ عن كمال الخلة الواقعية بينهما ، وليس المراد به القول الظاهري الواقع في زمان خاص حتّى يبحث عن وقته كما عن جمع من المفسرين لأن المراد بالقول ما هو المبرز للمراد الواقعي ، ولا ريب في أن تلك الإشراقات أقوى واظهر فيه من مجرد القول ؛ ويمكن أن يكون المراد به القول الظاهري كما في جميع أقواله بالنسبة إلى أنبيائه (عليهم‌السلام).

٥٥

قوله تعالى : (قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ). تقدم معنى ، الإسلام ، كما تقدم تفسير (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) في سورة الحمد ، ويستفاد من قوله (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أنّ إسلامه معه في جميع العوالم التي يمر عليها. وفي الالتفات في الآية الشريفة من التكلم إلى الغيبة ثم من الخطاب إلى الغيبة إشارة إلى كمال الموافقة بين الخليلين ، فتارة يتكلم مع خليله بالحضور شوقا إلى اللقاء ، ويلتفت إلى الغيبة خوفا من المحو والفناء. وفي ابتهالات المعصومين (عليهم‌السلام) وتضرعاتهم مع الرب من ذلك شيء كثير.

قوله تعالى : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ). مادة (وص ي) تأتي بمعنى الوصل والعهد ، لأن الموصي يعهد بشيء في ما بعد موته ، ويوصل تصرفاته وأعماله في زمان حياته ببعد وفاته أيضا ، والضمير في «بها» يرجع إلى الملة المشتملة على الإسلام ، وكلمة الإخلاص أيضا المذكورة في قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) وهي الكلمة الباقية التي جعلها في عقبه كما قال تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) [سورة الزخرف ، الآية : ٢٨]. ويعقوب عطف على إبراهيم أي : ووصى بها يعقوب أيضا. وفي ذلك إشارة إلى كثرة اهتمام إبراهيم وحفيده يعقوب بحقوق الله تعالى وحرماته حتّى أنهما أوصيا بذلك ، بل يدل على أهمية الموصى به والاعتناء به ، وأنه كالوديعة في أيديهم يجب أن تحفظ في أعقابهم ، وهذا هو شأن جميع أنبياء الله وأوليائه في حفظ ودايع الله وأسراره ، ووصية لقمان مذكورة في القرآن ، ووصية علي (عليه‌السلام) لابنه الحسن (عليه‌السلام) معروفة في كتب الأحاديث.

قوله تعالى : (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ). هذا مقول قول كل منهما لا خصوص قول يعقوب كما يظهر من بعض التفاسير ، فإنهما قالا لبنيهما في مقام التوصية والتحريض إلى اتباع الملة الحنيفية. والمراد من الدين هو دين الحنيفية والإسلام الذي اختاره الله لهم خالصا عن كل عيب ودنس. والمراد من البنين هم الأولاد الأعم من الذكور والإناث.

قوله تعالى : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). كناية عن اتباعه

٥٦

حق الإتباع ، وعدم المفارقة عنه في وقت من الأوقات فيغتنم الشيطان ذلك فيردهم عن الملة الحنيفية ودين الإسلام فيموتوا غير مسلمين. وفي الكلام إيجاز بليغ.

قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ). أم تأتي للاضراب ، وانتقال الكلام إلى الاستفهام الذي هو بمعنى الجحود والإنكار جيء به كذلك ، لأنه أبلغ في الإلزام والإحتجاج. والشهداء جمع شهيد وهو بمعنى الحضور. والخطاب لأهل الكتاب إنكارا عليهم حيث زعموا أن إبراهيم ويعقوب (عليهما‌السلام) كانا على ملتهم كما حكى سبحانه عنهم ، قال تعالى (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٠] وقد أبطل الله تعالى حجتهم بأنه إن كان بدعوى حضورهم عند موت يعقوب ووصيته فهذه يبطلها الحس والوجدان ، وإن كان لأجل وصوله إليهم من التوراة والإنجيل فما أنزلت التوراة والإنجيل إلّا من بعده ، فاليهودية والنصرانية حدثتا من بعده بقرون. وإن كان لأجل أمر آخر ، فهو مردود عليهم. ولا يتطرق احتمال أن يدع إبراهيم (عليه‌السلام) الملة الحنيفية ويوصي باليهودية والنصرانية.

قوله تعالى : (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي). أي سألهم ليقروا على أنفسهم بالتوحيد الخالص بعد نبذ معبودات أهل الشرك والضلال. وإنّما أتى بلفظ (ما) تعميما للمعبودات من ذوي العقول وغيرهم.

قوله تعالى : (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ). تقدم معنى العبادة في سورة الحمد ، والإله يأتي بمعنى التحير ، وقد قال علي (عليه‌السلام) فيه «كلّ دون صفاته تحبير الصفات ، وضل هناك تصاريف اللغات» وتصاريف اللغات أي تحسينها وتزيينها ، وفيه إسقاط لكل ما يقال في حقيقة صفاته عزوجل فضلا عما يتوهم في حقيقة ذاته تعالى وتقدس. والمراد بالإله هنا هو المعبود بقرينة صدر الآية المباركة وذيلها.

٥٧

وإنّما أدرج إسماعيل في آباء يعقوب للتغليب إذ العم بمنزلة الأب ، وفي الحديث : «عم الرجل صنو أبيه». وإنما ذكر الآباء اسقاطا لزعم من يزعم أنهم على ملة غير الملة الحنيفية ، وإعلاما بأنهم كانوا يدعون إليها كما يعتقدونها.

قوله تعالى : (إِلهاً واحِداً). أي : لم نشرك به. وقد اختلفوا في لفظ الإله ـ كما اختلفوا في صفاته جلّ شأنه وأسمائه ، وتحيروا في حقيقة ذاته تعالى ـ فمن قائل : انه من اله أي تحير ، لما مر من قول علي (عليه‌السلام) : «كلّ دون صفاته تحبير الصفات وضل هناك تصاريف اللغات». وفي الحديث : «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله». ومن قائل إنّ أصله من وله فأبدل الواو ألفا ، وذلك لكون كل مخلوق والها نحوه إما بالتسخير فقط كالجماد والحيوان ، أو بالتسخير والإرادة معا كبعض النّاس. وعن بعض الفلاسفة «أنّ الإله محبوب كل شيء». وعن بعض العرفاء «أن الإله مجذوب كل شيء» ، واستشهد الفريقان بقوله تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٤]. ومن قائل إنه من لاه يلوه لولاها أي : احتجب عن الأبصار والعقول.

والكل صحيح ، لأن ذاتا لا تدرك حقيقته ، وهو متصف بجميع صفات الجمال والجلال تصح الإشارة اليه بأي جهة من جهات كماله الا إذا نهى الشارع عنها. وعلى أي تقدير يكون جمع إله وتثنيته اعتقاديا بالنسبة إلى المشركين لا واقعيا ، لأن ما انحصر في الفرد واستحال وجود فرد ثان له كيف يصح جمعه؟ إلّا بالجمع الاعتقادي الادعائي لا الواقعي.

واما الواحد فقد استعمل في القرآن غالبا فيه تعالى بالحصر والتأكيد قال تعالى : (أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [سورة ابراهيم ، الآية : ٥٢] ، وقال تعالى : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [سورة الأنبياء ، الآية : ١٠٨] ، وقال تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [سورة ص ، الآية : ٦٥] ، وقال تعالى : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [سورة النحل ، الآية : ٥١] وهذا هو

٥٨

مورد دعوة الأنبياء (عليهم‌السلام) جميعا ، لأنهم يدعون إلى المعبود الواحد حين كان لكل قبيلة بل لكل طائفة منها معبود خاص وينكرون وحدة الله جلت عظمته ويتعجبون منها قال تعالى : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [سورة ص ، الآية : ٥] بل لم يستعمل لفظ «واحد» في القرآن إلّا مضافا اليه عزوجل.

وفي الآية المباركة إيجاز بعد اطناب والتقييد بالوحدة لدفع توهم تعدد الآلهة كما عليه الوثنيون.

قوله تعالى : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). أي : نحن له منقادون ومستسلمون لإرادته. وهذا تثبيت للمطلب بنحو الجزم والعلم ، وبيان لكون العبادة لا تكون إلّا على طريق الإسلام.

قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ). مادة (ا م م) تأتي بمعنى القصد ، وتختلف استعمالاتها باختلاف المتعلق ، فتستعمل تارة في الجملة كما في المقام. واخرى : في الفرد الذي يكون كالجماعة في العقل والكمال والقدرة كما في قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) [سورة النحل ، الآية : ١٢٠]. وثالثة : في الملة والدين. ورابعة : في «حين» إلى غير ذلك من الاستعمالات التي تعرف بالقرائن.

و «خلت» بمعنى مضت كما في قوله تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣٧] وهو في الأصل الانفراد ، فكأن ما مضى قد انفرد عن الحاضر ، وفي الحديث : «إن الله خلو من خلقه وخلقه خلو منه».

والكسب العمل الذي يجلب به النفع أو يدفع به الضرر ، ولذا لا يطلق معناه على الله لاستحالته بالنسبة إليه تعالى. ويستعمل بالنسبة إلى كل من أعمال الجوارح والقلوب قال تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٢٥] ، وقال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) [سورة الروم ، الآية : ٤١]. وقد استعملت هذه المادة بهيئات مختلفة في القرآن الكريم.

٥٩

والمعنى : إنّ إبراهيم وإسماعيل ويعقوب وبنيه جماعة مضت وذهبت لها أعمالها التي تجزى بها ولكم أعمالكم التي تجزون بها فلا يسئل أحد الا عن كسبه وعمله ، لأن التكليف واستكمال النفس فردي كما أن الجزاء عليه أيضا كذلك هذا بالنسبة إلى ذات العمل المتقوم بذات العامل فقط. وأما بالنسبة إلى سائر الجهات فالأنبياء يسئلون عن الإبلاغ وإتمام الحجة على أممهم ، كما أن النّاس يسئلون عن الاقتداء بأنبيائهم وأئمتهم والتخلق بأخلاقهم كما يسئلون عن الحقوق الاجتماعية الدائرة بينهم ، ففي الحديث عن الصادق (عليه‌السلام) : «إن المؤمن يدع من حق أخيه شيئا فيسأل عنه يوم القيامة» فالآية المباركة أصلا وعكسا من القواعد العقلية المقررة في الشرايع الإلهية في التكاليف الفردية حيث أنها قائمة بالأفراد ولا تتعداهم الى غيرهم ، بل تحميل فرد تكليف آخر من الظلم القبيح ؛ قال تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦٤].

وذكر هذه الآية بعد الآيات السابقة بمنزلة النتيجة لها وبيان أن المناط كله على العمل دون غيره. كما عقّب سبحانه وتعالى الإيمان في جملة كثيرة من الآيات الشريفة بالعمل الصالح ، فلا يكفي في كمال النفس الاعتماد على صلاح الآباء ومنزلتهم عند الله تعالى ، بل لا بد أن يكون الإنسان صالحا في نفسه.

بحوث المقام

بحث دلالي :

يستفاد من الآيات المباركة أمور :

الأول : إطلاق الآية الشريفة في صلاح إبراهيم (عليه‌السلام) يدل على انه صالح من كل جهة فهو صالح في نفسه وصالح لغيره ، فيكون المصداق الحقيقي لقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من أصلح ما بينه وبين الله تعالى أصلح الله ما بينه وبين الناس»

الثاني : في قوله تعالى : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) إشارة إلى أن إسلام

٦٠