مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

الحقائق التي لا تحصل إلّا من الاجتماع إما بعضهم مع بعض ، أو مع الأنبياء والإيمان بهم والعمل بما جاؤا به. مع أن مثل هذه الخطابات نوعية اجتماعية ملقاة الى المجتمع لا إلى الفرد المعين.

واللب والعقل هما من أسرار الله تعالى التي أودعها في الإنسان ، وقد قال عزوجل حين خلقه كما في الحديث : «وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحب إليّ منك إياك آمر ، وإياك أنهى ، وبك أثيب وأعاقب» ، وهو أصل الإنسان وما سواه من القشر ، وهو مبدأ الاستكمالات واليه المنتهى ، وبالعمل والتقوى والصلاح يرتقي العقل واللب ، ومنهما ينشأ الخير ، فيصح أن يقال : قد اجتمعت العلة الفاعلية والغائية فيهما.

والحاصل : إنّ اللب والعقل والفلاح والصلاح والتقوى كلها مفاهيم مختلفة لمعنى واحد إذا لوحظت النشآت فانها مرتبطة بعضها مع بعض ؛ فان «الدنيا مزرعة الآخرة» كما قال نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) خصوصا بناء على الحركة الجوهرية التي أثبتها بعض أعاظم الفلاسفة. نعم أصل هذه المزرعة وأساسها العمل وبه يرتقي العقل ثم منه ينشأ الخير الذي يرجع بالآخرة إلى العقل أيضا.

وإنّما ذكرهم في المقام للتنبيه على أنّ هذا الحكم بما فيه من المصالح والآثار لا يعلمها إلّا أولوا الألباب الذين يفقهون سر هذا الحكم باستعمال عقولهم. ولذلك فمن ينكر هذا الحكم فهو ممن ليس له لب وعقل ، فكان هذا كالدليل لما تقدم.

قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). أي لعلكم تتقون الله في كل أموركم حيث شرع لكم هذا التشريع العظيم الذي ينبّئ عن الحكمة والعلم ، أو تتقون الظلم خوفا عن القصاص فتكفون عن سفك الدماء أو يتقي بعضكم بعضا حرصا على الحياة.

ومنه يستفاد أن اللب السليم يرشد إلى التقوى ، وسبب استكمال ذوي الألباب.

٣٢١

بحوث المقام

بحث أدبي :

أنّ قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أبلغ آية في القرآن الكريم وأفصحها وهي في إيجازها قد ارتقت سماء الإعجاز لما اشتملت على فنون البلاغة والإيجاز وجمعت بين قوة الاستدلال وبراعة اللفظ ؛ فتحدت فرسان الفصاحة والبيان ، وقد أفادت حكما لم يكن من قبل معروفا في أسلوب رصين وعذوبة في الألفاظ وتضمنت من الفوائد والحكم في تنظيم النظام ما لا يبلغ به عقول الأنام ، واشتملت على أنحاء من البلاغة ما لا يوجد في أي أثر منقول عن العرب ونحن نذكر بعضا منها :

الأول : الطباق بين القصاص والحياة فإنّ الأول يفوّت الثاني فهو في مقابلها.

الثاني : فصاحتها في تلائم الألفاظ وعذوبتها وسلامتها ورصانتها في الأسلوب ، والإيجاز في العبارة فقد جمعت بين جمال اللفظ وسموّ المعنى.

الثالث : اشتمالها على جعل الضد متضمنا لضده أي الحياة في الاماتة.

الرابع : تعريف القصاص بلام الجنس ليشمل كل أنواع القصاص من القتل والجرح والضرب.

الخامس : تنكير الحياة للإشعار بأنّ في الحكم حياة عظيمة لا يمكن الاستهانة بها ، او لأجل أنّ القصاص لم يكن سببا لمطلق الحياة بل لنوع من أنواعها فيكون التنوين فيها إما لأجل التعظيم أو لأجل التنويع.

السادس : جعل القصاص ظرفا للحياة ، لبيان أنّ القصاص يحمي الحياة من الآفات ، وهذا من غرائب الحكم.

السابع : تقرير أنّ الحياة هي المطلوبة وأنّ القصاص وسيلة إليها وهذا من أسمى الحكم في جعل هذا التشريع.

الثامن : الإطراد في أنّ كل قصاص حياة.

٣٢٢

التاسع : اشتمالها على التسلية لأولياء المقتول.

العاشر : اشتمالها على التخويف والارتداع لمن تسول له نفسه الجريمة.

الحادي عشر : تحريض المجتمع ـ الذي تقوم به الحياة النوعية ـ على حفظ الأفراد.

الثاني عشر : خلوّ الآية المباركة من التعقيد والتكرار والإبهام وغير ذلك مما ذكروه في المأثور عن العرب في المقام.

وهذا نزر يسير مما يمكن ذكره في هذه الآية الشريفة وقد صنف بعض العلماء كتابا في الأنحاء الأدبية لهذه الآية الكريمة ، وهو لم يصل إلى الغاية كيف وقد صدرت ممن لا نهاية لكماله ، ولهذه الآية وقع في النفوس في مثل المقام فإنّ فيه توطينا على تقبل هذا التشريع الجديد ، وإنّ براعتها وعذوبتها لتخفف مما يترتب على هذا الحكم من إزهاق النفوس فسبحان من جلت آلاؤه وبهرت آياته وتمت حكمته.

بحث فقهي :

هذه الآية الشريفة تتضمن من الأحكام ما يلي :

الأول : يستفاد من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) أنّ الحكم الأولي في الجنايات مطلقا هو القصاص والتبديل إلى الدية إنما يكون لجهات أخرى ولفظ «كتب» يشمل الحكم الأولي والثانوي.

الثاني : إنّها مسوقة لبيان التساوي والتكافؤ بين الدماء خلاف ما كانت عليه العادة في الجاهلية كما تقدم. وقد ذكر فيها بعض الأفراد إلّا أنّها لا تدل على الحصر فيهم ، وقد وردت في السنة الشريفة ما يبين حصول التكافؤ والتساوي في القصاص ، ومن ذلك التفرقة بين دية الرجل والمرأة وقتل واحد

٣٢٣

لجماعة أو بالعكس ، وقتل العبد للحر ، فإنّ لكل واحد من هذه أحكاما خاصة مذكورة في الفقه مفصلا.

الثالث : إنّ اطلاق قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) يدل على القصاص في الجناية ، سواء كانت في القتل أو القطع أو الجرح كما هو مفصل في قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٥].

الرابع : إنّ إطلاقها يشمل ما إذا كانت الجناية عمدية أو خطئية ولكنها خصصت بالأولى ، لقوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) [سورة النساء ، الآية : ٩٢].

كما أنّها خصصت بموارد :

منها : قتل الأدب لابنه وإن كان عمديا ، للإجماع والنصوص.

ومنها : قتل الحر للعبد ، إجماعا ونصوصا.

ومنها : قتل المسلم للكافر على ما هو المفصل في الفقه ، ومن شاء فليراجع كتابنا [مهذب الأحكام].

بحث روائي :

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «في رواية الحلبي في قوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ). قال (عليه‌السلام) : «ينبغي للذي له الحق أن لا يعسر أخاه إذا كان قد صالحه على دية وينبغي للذي عليه الحق أن لا يمطل أخاه إذا قدر على ما يعطيه ويؤدي اليه بإحسان».

وعنه (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ). قال (عليه‌السلام) : «هو الرجل يقبل الدية أو يعفو أو يصالح ثم يعتدي فيقتل فله عذاب أليم ، كما قال الله عزوجل».

٣٢٤

أقول : روي مثله في عدة روايات.

في تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) قال (عليه‌السلام) : «لا يقتل الحر بعبد ولكن يضرب ضربا شديدا ، ويغرم دية العبد وإن قتل رجل امرأة فأراد أولياء المقتول ان يقتلوا أدوا نصف ديته إلى أهل الرجل».

أقول : الحديث يفسر التكافؤ في الدماء والجراحات ، كما هو مفصل في الفقه.

في الإحتجاج عن علي بن الحسين (عليهم‌السلام) في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) : «لكم يا أمة محمد في القصاص حياة ، لأن من همّ بالقتل فعرف أنه يقتص منه فكفّ لذلك عن القتل كان حياة للذي همّ بقتله ، وحياة للجاني الذي أراد أن يقتل وحياة لغيرهما من الناس إذا علموا أن القصاص واجب لا يجترءون على القتل مخافة القصاص ـ الحديث ـ».

أقول : ذكر أمة محمد من باب ذكر أفضل الأفراد لا التخصيص ، لأن الحكم عام للجميع.

وفي تفسير القمي قال : «لو لا القصاص لقتل بعضكم بعضا».

وفي الدر المنثور في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) : «كان بين حيين من أحياء العرب قتال ، وكان لأحد الحيين طول على الآخر فقالوا : نقتل بالعبد منا الحر منكم وبالمرأة الرجل فنزلت هذه الآية».

أقول : تقدم وجه ذلك.

بحث علمي :

ذكرنا أنّ آية القصاص نزلت في قوم كان الانتقام متبعا بينهم بأقبح الصور ، فقد كانوا يقتلون لواحد جماعة وربما قتل الحر بالعبد أو الرجل بالمرأة ، والرئيس بالمرؤوس ، بل ربما وقعت حروب وغارات بسبب قتل

٣٢٥

حيوان من قوم ذوي منعة وشرف ، وكان المناط كله على قوة القبائل وضعفها ، والمتبع هو القتل والانتقام ، والاقتصاص من دون أن يكون في البين قانون يحدده أو قواعد تهذب تلك العادات كما هي عادة الأقوام البدائية والشعوب الهمجية.

نزلت آية القصاص ولم يكن أحد يعرف الصلح والوئام بدل القتل والانتقام ، وكان ذلك تشديدا منهم على أنفسهم ؛ كما يستفاد من ذيل الآية الشريفة قال تعالى : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ).

ومن المعلوم أنه لا ينكر أحد أنّ حب الانتقام طبيعة من طبايع الحيوان فضلا عن الإنسان ، وان دفع التعدي غريزة من غرائزه ، وأنّه على ذلك مجبول ومفطور.

كما أنه ليس ثمة من ينكر أن العفو والرحمة غريزة أخرى من غرائز الإنسان بها يحنو على بني نوعه ، ويدفع عن أهله البلاء ويكافح في سبيلهم العيش والرفاه.

وبحسب تلك الأسس والغرائز نزلت آية القصاص ؛ وقررت تشريع حق الاقتصاص لولي الدم ، وأهدرت دم الجاني لولي المجني عليه فقط ، ومهدت له السبيل وأمكنته كل التمكين من القصاص بشروط خاصة لإشباع غريزة الانتقام في الإنسان فكان ذلك أول خطوة في تهذيب هذه الغريزة.

لكنه تعالى لم يغفل عن الغريزة الأخرى الكامنة فيه فحبّب اليه العفو بمختلف الأساليب فتارة : رغب اليه العفو بأخذ الدية وأداء اليه بإحسان. وأخرى : بالثواب في الآخرة ، ورضاء الله تعالى ، والعفو والمحبة للمحسنين ، قال تعالى : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [سورة الشورى ، الآية : ٤٠] ، وقال تعالى : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣٤].

ولقد راعى الإسلام في هذا التشريع جميع من يهمه هذا التكليف القاتل ، والمقتول ، ووليه ، والمجتمع ، والصالح العام ، فحكم بالمعادلة بين

٣٢٦

القاتل والمقتول ، فقال عزوجل : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) فحفظ بذلك التهجم على الدماء ، ووقف الإسراف في القتل.

واهتم عزوجل بالجانب التربوي فحبب إلى الإنسان الرحمة والعطف ورغّب النّاس على نبذ مسلك الانتقام والوعد لمن راعى هذا الجانب بعظيم الأجر والإحسان.

ولذلك كان هذا التشريع موفقا كل التوفيق في رفع الخصام ، وحلول الصلح والوئام الذي هو السبب في حفظ الأمن والنظام هذا بالنسبة إلى الإسلام.

أما بالنسبة إلى سائر التشريعات الإلهية فإنّها تختلف بين إثبات تشريع القصاص والإلغاء ؛ ففي التشريع اليهودي اعتبر الحكم في الجنايات هو القصاص ولم يسنّ للعفو والدية أحكاما إلّا في حالات معينة راجع ما ورد في التوراة في الفصل الحادي والعشرين ، والثاني والعشرين من سفر الخروج ، والخامس والثلاثين من سفر العدد ، كما حكى عنها القرآن الكريم ، فقال تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٨].

وأما التشريع في الدين المسيحي فلا يرى في مورد الجنايات إلّا العفو والدية ، وليس للقتل والقصاص فيه سبيل إلّا في موارد خاصة.

وأما سائر التشريعات ، سواء كانت وضعية أو غيرها فهي تختلف في هذا الحكم ، ولا يمكن جعلها تحت ضابطة كلية ، وإن كانت لا تخلو عن القصاص في الجملة.

ومما ذكرنا يعرف أن الإسلام اختار الطريق الأمثل وسلك مسلكا وسطا بين الإلغاء والإثبات ، فحكم بالقصاص ولكن ألغى تعيينه فأجاز العفو والدية ، ولا حظ جميع جوانب هذا الحكم وأحكمه أشد الأحكام وسدّ باب الجدال والخصام ، وأبطل شبهات المعترضين.

٣٢٧

ومع ذلك فقد اعترض على تشريع القصاص في الإسلام خصومه فادعوا انه خلاف إنسانية الإنسان. وأنت بعد الإحاطة بما ذكرناه تعلم أن ما ذكروه في المقام واضح الفساد.

وقد استدل على إلغاء هذا الحكم بأمور هي :

الأول : ان تقرير حق الاقتصاص إقرار للعادات السيئة التي كانت سائدة في الشعوب الجاهلية ، والأقوام البدائية.

وهذا باطل أما أولا : فلأنّ نظر الإسلام في هذا الحكم هو تربية الإنسان تربية صالحة يرفض معها كل ظلم وانتقام ، ولم يكن ينظر إلى تقرير عادة أو إبطالها.

وثانيا : ذكرنا أنّ حب الانتقام غريزة من غرائز الإنسان والإسلام إنّما أراد تهذيبها وكبح جماحها خلاف ما كانت بين الأقوام وقت نزول القرآن.

وثالثا : فائدة تشريع القصاص إنّما ترجع إلى الجماعة والصالح العام شأنه شأن غالب التكاليف الإلهية.

الثاني : إنّ القوانين الوضعية التي وضعتها الملل الراقية لا ترى جواز عقوبة الإعدام مطلقا ، وترفض إجراءها بين البشر معتمدين في ذلك على أنّ القتل مما ينفر عنه الطبع ويستهجنه وجدان كل إنسان.

وأنّ القتل على القتل يكون فقدا على فقد.

وأنّ القتل بالقصاص فيه من القسوة والانتقام زيادة على نفس القتل الواقع من الجاني ولا بد من إزالة هذه الصفة من بين الناس بالتربية العامة وعقاب القاتل بما هو أدون كالسجن والأعمال الشاقة.

الثالث : إنّ المجرم إنّما يكون مجرما وأقدم على الجريمة لأجل عذر له إما للجهل أو عدم التربية الصالحة ، أو لمرض عقلي فيجب في هذه الحالة علاجه إما بالتربية الصالحة أو معالجة مرضه.

وإنّ إبقاء الفرد الجاني أولى من إفنائه لأنّ في إبقائه منفعة للمجتمع ولا ملزم لأن نقبل عقوبة القصاص إلى الأبد فيعاقب الجاني بما يعادل القتل ، وفي

٣٢٨

نفس الوقت نستفيد منه فيكون توفيقا بين حق المجتمع وحق أولياء الدم ، وغير ذلك من الوجوه. ولأجل ذلك عدلت القوانين الوضعية عن القصاص والقتل إلى عقوبات أخرى لردع الجناة أشدها عقوبة الحبس ؛ سواء كان محدودا بوقت أو غير محدود به مع الأشغال الشاقة مثلا.

ولكن كل ذلك باطل أما أولا : فلأنّ في تشريع القصاص تهذيبا للطبيعة الإنسانية في حب الوجود وملاحظة الجانب التربوي في هذا التكليف ، بل جميع تكاليف الإسلام وقوانينه إنما وضعت لأجل ذلك ، ولذلك حث على العفو ، ولم يكن الإسلام ليمنع من رفع هذه العقوبة بعد التربية الصالحة وإعداد الأفراد في صالح المجتمع ، ونبذ التخاصم والانتقام ، والأمم الراقية إنما ذهبت إلى ذلك بعد جهد جهيد في تربية الأفراد وتنفير القتل بينهم ، وهذا شيء حسن لم ينكره أحد ، وهو مما يريده الإسلام كما تشير اليه نفس الآية الشريفة.

وثانيا : فلأنّ الإسلام إنّما لا حظ في هذا التشريع الصالح العام ومصالح النوع كما هو شأن كل قانون ، سواء كان إليها أو وضعيا ، ويعتبر أن الاعتداء على فرد كالاعتداء ، على الأمة ، قال تعالى : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) [سورة المائدة ، الآية : ٣٢] ، ولا ريب أن الدفاع عن الأمة والجماعة أمر غريزي ، ولذا نرى أن الأمة تهبّ في دفع الأعداء ومن يريد إهلاكهم فلا يتوقفون عن الدفاع عن أمتهم فكيف يمكن القول بالرأفة في هذه الحالة فهل تقبل الطبيعة الإنسانية مثل هذه الرأفة في هذه الحالة؟! بل لا تكون الرأفة إلّا إبادة للأمة واختلالا للنظام.

وثالثا : فلأنّ ما ذكروه في تبرير قتل القاتل إنّما هو في الحقيقة تبرير لتطبيق قانون العقوبة ، لا أنّه عيب في نفس القانون كم فرق بينهما ؛ مع أنّ الإسلام قد لاحظ جميع الخصوصيات في القتل ، كما هو مفصل في الفقه ، فلا يبقى عذر بعد ملاحظة ذلك ، مع أنّ ذلك تلقين للمجرم ، وإعطاء السلاح بيد المجرم كما يقال.

٣٢٩

وأخيرا إنّ تبديل هذه العقوبة إلى عقوبة أخرى أنفع للمجتمع وللفرد ، فإنّه يسأل منهم هل كانت هذه العقوبات ناجحة في ذلك؟! وهل رفعت الفساد الأخلاقي؟!! وهل كان الحبس مطلقا ناجحا في رفع المشكلات وتقويض الجنايات؟! مع أنّ الملاحظ يعترف أنّه قد أدى تطبيق هذه العقوبة إلى نتائج خطيرة وجلبت مشاكل دقيقة :

منها : قتل الشعور بالمسؤولية في نفوس المجرمين ، وأنّها سببت زيادة في سلطان المجرمين وإفسادا للمسجونين ، وأوجبت انعدام قوة الردع إلى غير ذلك من المشاكل ، وبعد ذلك كله فهل يمكن الاستفادة من المجرمين؟!

ولعمري انه لا يمكن تفضيل أي قانون على القانون الإسلامي لما عرفت من أنه يراعى فيه جميع جوانب الحياة ، وما أورد عليه يكون من قبيل الشبهة في البديهيات ، قال تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [سورة الحج ، الآية : ٤٦].

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢))

الآية تبين حكما قد لوحظ فيه الجانب المادي والاجتماعي ، ولذا أكد عزوجل عليه ، وأوعد على من يبدله ، وأمر بإصلاحه إن كان فيه الانحراف ، ويناسب هذا الحكم ما تقدم في الآيات السابقة باعتبار أنّ القصاص يوجب إزهاق الروح ، وإنّ الوصية توجب استمرارية التصرف لما بعد الموت.

التفسير

قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ). المراد بالكتابة هنا الثبوت الشرعي ، وهو أعم من الوجوب والندب وتستعمل في كل منهما مع

٣٣٠

القرينة ، والمنساق في المقام عدم الوجوب بقرينة كون الوصية للوالدين والأقربين من أنحاء البر. نعم لو كان المورد واجبا كالديون المالية تكون الوصية واجبة ، كما قرر في الفقه مفصلا.

ومادة حضر تأتي بمعنى وجود الشيء بحيث يمكن أن يدرك بإحدى الحواس ، وهي من الصفات ذات الإضافة المتقومة بأكثر من واحد. ويعم استعمال هذا اللفظ بالنسبة إلى الدنيا والآخرة ، والخالق والمخلوق فإن من أسماء الله الحسنى [حاضر] فهو تعالى حاضر لدى الخلق بالحضور الإيجادي الإحاطي ، كما أن الخلق حاضر لديه تعالى بالحضور العلمي. وقال تعالى : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) [سورة النساء ، الآية : ١٢٨] ، وقال تعالى : (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [سورة يس ، الآية : ٥٣] ، وقال تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) [سورة آل عمران ، الآية : ٣٠].

ولو قيل إنّ الحضور بمعناه العام الشامل لجميع الموجودات ـ من الجواهر والأعراض والواجب والممكن ـ هو شعاع من حضور الأحدية المطلقة فيما سواها لكان حقا ، فالكل منه تعالى والجميع يعود إليه عزوجل ، ولعلنا نتعرض لهذا البحث النفيس في ما يأتي إن شاء الله تعالى.

والمراد من حضور الموت حصول موجباته التي ليس لها حد محدود. وقد نسب الحضور إلى الموت في هذا المقام ، والآيات التي ذكر فيها حضور الموت ولم ينسب إلى الشخص ، ولعله لعدم تهيئة النفوس واستعدادها له ، أو لعدم أنسها به كما هو الشأن بالنسبة إلى أولياء الله تعالى ، فقد نسب إلى علي (عليه‌السلام) انه قال : «والله ان ابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه ما يبالي أوقع على الموت أو وقع الموت عليه».

قوله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) الخير معروف أي كل ما فيه نفع ، وهو من الأمور النسبية الإضافية التشكيكية ، وله مراتب كثيرة.

والمراد به كل ما فيه النفع عينا كان أو منفعة ، ولكن نسب إلى

٣٣١

علي (عليه‌السلام) أنه فسره بالمال الكثير في المقام ، ويمكن استفادة ذلك من قوله تعالى : (لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ). فإن الوصية لهم تقتضي عادة أن يكون المال كثيرا دون المال القليل أو مطلق ما فيه النفع ، فإنّ النّاس لا يهتمون بذلك ، فما قاله علي (عليه‌السلام) من باب تعدد الدال والمدلول ، لا أن يكون معنى لغويا.

وقوله تعالى : (لِلْوالِدَيْنِ) أي بما هما والدان لا باعتبار الاجتماع كما أن قوله تعالى : (وَالْأَقْرَبِينَ) باعتبار النّاس لا التقييد بالجمع.

وتقدم معنى الوصية في قوله تعالى : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٣٢].

المعروف : هو العدل ، وعدم الإفراط والتفريط في كل من الموصى اليه بأن لا يرجح أحدا على احد ، والموصى به بأن لا يكون مجحفا بالورثة أو قليلا يوجب الاستخفاف.

قوله تعالى : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). حقا منصوب على المصدر المؤكد ، أو على تقدير الفعل أي يحق ذلك حقا ، أو حال من الوصية وهو تأكيد للكتابة.

وذكر المتقين لبيان أنّ التقوى هي موضوع كل عمل ينتفع به في الآخرة لا لتخصيص الوصية بهم فقط.

قوله تعالى : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ). التبديل التغيير مطلقا ويشمل الإنكار والكتمان بالأولى. والضمير في إثمه راجع إلى التبديل وسائر الضمائر إلى الوصية ، وهي مصدر يجوز فيه الوجهان أو إلى الإيصاء المدلول عليه بذكر الوصية.

والمراد من قوله عزّ شأنه (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) أي من بعد ما تمت عنده الوصية ولو بالبينة.

قوله تعالى : (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ). أي أنّ الإثم المترتب على التبديل والمخالفة على الذين يبدلونه ، وأما الموصي فقد خرج عن

٣٣٢

العهدة وثبت له الأجر. وفيه التفات من الأفراد ، لبيان تعميم الإثم للمباشر للتبديل ، وكل من يرتب عليه الأثر بالقول أو العمل ؛ فيكون كالربا الذي لعن الله دافعه ، وآخذه ، وشاهده وكاتبه. أو كالخمر التي لعن الله شاربها ، وصانعها ، وغارسها. وبالجملة ، التبديل سواء كان فرديا ، حدوثا وبقاء ، أو كان جميعا حدوثا وفرديا بقاء ، أو بالاختلاف. وسواء كان بالقول أو بالعمل كل ذلك حرام يشمله إطلاق الآية الشريفة.

وإنما ذكر تعالى : (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) ولم يقل عليهم للاعلام بأن سبب الإثم إنما هو التبديل ، وترتيب الأحكام التالية.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). أي : إنّ الله سميع بإيصاء الموصين ، عليم بتبديل المبدلين وفيه من الوعد للموصين ، والوعيد للمبدلين.

وقد جمع تعالى بين السمع والعلم اهتماما بهذا العمل الذي هو آخر ما يفعله العبد في هذه الدنيا وللإعلام بأن الموصي وإن لم يكن حاضرا ولكن الله تعالى عالم بالوصية رقيب عليها.

وفي الآية إشارة إلى انه تعالى عالم بالجزئيات كما أنه عالم بالكليات.

قوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً). الجنف هو الانحراف والميل من الإستواء والاستقامة إلى الخلاف ، أو الميل عن الحق إلى الباطل فيشمل الظلم في الحكم ، ولم تستعمل هذه المادة في القرآن الكريم إلّا في موردين : أحدهما في المقام ، والثاني في قوله تعالى : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) [سورة المائدة ، الآية : ٣].

وعن الخليل إن الجنف الميل عن الحق إلى الباطل في الحكم ، والحيف مطلق الميل عن الحق إلى الباطل في كل شيء.

ومن مقابلة الجنف مع الإثم يستفاد أنّ الميل عن الحق إلى الباطل قسمان : قسم فيه إثم ، وهو ما إذا كان الميل عن تقصير ؛ وقسم آخر لا إثم فيه ، وهو ما إذا كان ذلك عن قصور ، كالجهل ونحوه.

والمراد بالخوف هنا الاطمينان بوقوع المخوف من باب ذكر اللازم

٣٣٣

وإرادة الملزوم وهو كثير في كلام الفصحاء.

والخطاب متوجه إلى أولياء الأمور ، ومع العدم أو القصور فإلى حكام الشرع ، أو يقال : إنّ الخطاب موجه إلى كل من يعرف حال الوصية ، سواء أكان من الورثة أم من غيرهم.

والآية متفرعة على الآية السابقة فإنّه لما حكم تعالى بالإثم على كل من بدّل الوصية استثنى منه حالة ، وهي ما إذا كانت الوصية خارجة عن المعروف ، وفيها الجنف أو الإثم ، فيجوز التبديل للإصلاح وإزالة التنازع ، فلا إثم في هذه الحالة.

قوله تعالى : (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ). أي : إذا عرف كمال الوصية فأصلحها بتبديل الجنف والإثم حسب الموازين الشرعية فلا إثم عليه ؛ لأنه من تبديل الباطل إلى الحق ، وإزالة المفسدة بالمصلحة والإصلاح بين حق الموصى له والموصي والورثة. ومن كان صالحا في قصده ومصلحا في فعله فلا إثم عليه.

وذكر تعالى الصلح للدلالة على الترغيب والتحريض اليه وهو مما يحكم بحسنه العقل والفطرة ، فاكتفى برفع توهم الحظر ، لأن جهة الوجوب في مثل هذه الحالة معلومة.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). للمذنبين ، وهو عام يشمل الإثم الواقع في أصل الوصية التي تحقق فيها الجنف ، وإثم الإصلاح والتبديل في الوصية ، فانه يكون بمنزلة التوبة فالله يغفر للمصلح ، وللموصي ويثيبه على عمله.

بحوث المقام

بحث علمي :

المشهور بين العلماء أن قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) يدل على وجوب الوصية ، وأن لسان الآية لسان الوجوب ، ثم قالوا إنها منسوخة بآية المواريث ، وهي قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ

٣٣٤

لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [سورة النساء ، الآية : ١١] ، فان الأخيرة نزلت بعد الأولى ، وبالسنة فقد ورد في الحديث : «لا وصية لوارث».

وذكر بعضهم أنها لو كانت منسوخة فالمنسوخ إنما هو الفرض دون الندب وأصل المحبوبية.

وذكر بعض آخر أن الوجوب المذكور في الآية الشريفة كان في بدء الأمر وأوائل تغيير الشريعة لمواريث الجاهلية ، فالحكمة اقتضت ان يكون التغيير تدريجيا بنحو الوصية أولا ثم بأحكام المواريث.

والحق أن يقال : إنّ آية الوصية غير منسوخة بشيء لا بآية المواريث ، ولا بالنسبة الشريفة ، وآية الوصية تدل على محبوبيتها ، والكتابة يراد بهاهنا مطلق الثبوت الأعم من الوجوب والندب ، كما ذكرنا ، فقد تكون الوصية واجبة كما في الوصية بالحقوق الواجبة. وقد تكون مندوبة كما في الوصية بالتبرعيات ، وفي الأخيرة يشترط أن لا تكون أكثر من ثلث المال ، وفي الأولى لا يشترط فيها ذلك بل لا بد وأن تخرج من جميع المال ، ولا ربط لآية الإرث بآية الوصية وهما موضوعان مختلفان فأين يتحقق النسخ؟ مع أنّ الإرث متأخر عن الدين والوصية.

وما ذكروه من تأخر آية الإرث عن آية الوصية فتكون منسوخة.

ففيه أولا : أنه لم يثبت ذلك.

وثانيا : على فرض الثبوت لا فرق بين الناسخ والمنسوخ في المتقدم والمتأخر بينهما ، كما تقدم في بحث النسخ.

وأما الاستدلال بالسنة على نسخ آية الوصية.

ففيه : أولا : عدم ثبوته ، كما ذكر جمع من علماء الفريقين.

وثانيا : أن حديث : «لا وصية لوارث» يمكن حمله على أنه لا وصية لوارث إذا كان أكثر من الثلث.

٣٣٥

والحاصل : أن آية الوصية غير منسوخة بشيء. نعم بين أحكام المواريث والأحكام المتعلقة بالوصية جهات لا بد من مراعاتها كما هو مفصل في الفقه.

بحث فقهي :

يستفاد من الآية أمور :

الأول : تدل الآية على رجحان الوصية والاهتمام بها وقد أكد تعالى عليها بأنحاء التأكيد ، كما ورد في السنة المقدسة أيضا ، ولا بد أن يراعى فيها جميع الشروط المذكورة في الكتب الفقهية ، منها العدل والمعروف ، وعدم الإضرار بالورثة كما يستفاد من قوله تعالى : (بِالْمَعْرُوفِ).

الثاني : أنّ الوصية في الآية الشريفة هي الوصية التمليكية لما ذكر فيها الخير. وأما الوصية العهدية فلا يشترط فيها وجود المال ، بل يكفي فيها وجود نفع للموصي.

الثالث : إطلاق الآية الشريفة يشمل الوصية بالقول ، أو الكتابة أو الإشارة المفهمة مع العذر.

الرابع : تدل الآية على عدم تقوم الوصية بالوصي بل تتحقق بدونه ، والمعتبر إنفاذ الوصية ولو من قبل الحاكم الشرعي.

الخامس : يستفاد من الآية الشريفة حرمة التبديل وأنه من الكبائر وقد دلت عليه نصوص خاصة.

السادس : يمكن أن يكون الإذن في الإصلاح من باب الإرشاد إلى الحكم إن كان الموصي جاهلا بالحكم ، ويصح أن يكون من باب النهي عن المنكر ان كان عالما به ، ويصح تصديه من كل أحد يعرف الحكم. ولا بد أن يكون هذا الإصلاح مطابقا للموازين الشرعية ، والا فلا يجوز ، فقد ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «الصلح جائز بين المسلمين ما لم يحلل حراما أو يحرم حلالا».

٣٣٦

بحث روائي :

في الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «الوصية حق وقد أوصى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فينبغي للمسلم أن يوصي».

أقول : الروايات في استحباب الوصية ورجحانها كثيرة ، وفي بعض الروايات عن علي (عليه‌السلام) : «من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية». والمراد بالمعصية مطلق العمل المرجوح لا العصيان الموجب لاستحقاق العقاب.

وفي الكافي أيضا عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «سألته عن الوصية للوارث ، فقال (عليه‌السلام) : تجوز ثم تلا هذه الآية : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)».

أقول : قد روي قريب من ذلك في عدة روايات.

وفي الفقيه عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). قال (عليه‌السلام) : «هو شيء جعله الله عزوجل لصاحب هذا الأمر قلت : فهل لذلك حد؟ قال (عليه‌السلام) : نعم. قلت : وما هو؟ قال (عليه‌السلام) : أدنى ما يكون ثلث الثلث».

ومثله في تفسير العياشي إلّا أن فيه أدناه «السدس وأكثره الثلث».

أقول : المستفاد من مجموع هذه الروايات أنّ الوصية في قوله تعالى تشمل وصية السابق للاحق بأصول الإعتقاد بذوي القربى ، كما في قوله تعالى : (وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) وحيث لا نبوة بعد نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فتكون الوصية حينئذ بالنسبة إلى ذوي قرباه.

وأما تفسير المال بالسدس ، أو الثلث ، وهو أيضا صحيح من باب تطبيق الكلي على بعض المصاديق ، والا فقد ورد في روايات أخرى أن أدناه الربع. وليس ذلك في مقام التحديد والحصر ، بل المراد بيان أنّ المال

٣٣٧

الموصى به يكون معتنى به في الجملة ، كما ذكرنا في التفسير.

وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما‌السلام) في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ). قال (عليه‌السلام) : «هي منسوخة نسختها آية الفرائض التي هو المواريث».

أقول : يمكن أن يحمل النسخ في المقام على غير معناه الاصطلاحي كما يمكن أن يحمل على نسخ بعض مراتب الإلزام ، دون أصل الرجحان أو الوجوب في مورد وجوب الوصية كما في الوصية بالديون.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) : إنما هي منسوخة بقوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).

أقول : تقدم وجه ذلك.

في تفسير القمي أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) : «إذا أوصى بوصية فلا يحل للوصي أن يغير وصيته ، بل يمضيها على ما أوصى ، إلّا أن يوصى بغير ما أمر الله فيعصي في الوصية ويظلم ، فالموصى اليه جائز له أن يرده إلى الحق. مثل رجل يكون له ورثة فيجعل المال كله لبعض ورثته ويحرم بعضا فالوصي جائز له أن يرده إلى الحق ، وهو قوله تعالى : (جَنَفاً أَوْ إِثْماً). فالجنف الميل إلى بعض ورثته دون بعض ، والإثم أن يأمر بعمارة بيوت النيران ، واتخاذ المسكر ، فيحلّ للوصي أن لا يعمل بشيء من ذلك».

أقول : ما ذكر في بيان الجنف والإثم من باب ذكر بعض المصاديق ، كما هو معلوم. ويستفاد من لفظ «فأصلح» الوارد في الآية الشريفة أنّ كل ما يكون خلاف الصلاح الشرعي يجري عليه حكم الجنف.

في الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «في رجل أوصى بماله في سبيل الله ، فقال (عليه‌السلام) : أعطه لمن أوصى به له وإن كان يهوديا أو نصرانيا إنّ الله تعالى يقول : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)».

٣٣٨

أقول : الروايات في ذلك كثيرة ، ولا بد من تقييدها بما إذا لم يكن صرف المال إليهم من الصرف إلى المحرم ، كما يظهر من سائر الروايات.

في تفسير العياشي عن محمد بن سوقة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ). قال (عليه‌السلام) : «نسختها التي بعدها ، وهي قوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) يعني : الموصى اليه إن خاف جنفا من الموصي في ولده في ما أوصى به اليه في ما لا يرضى الله به من خلاف الحق فلا إثم عليه ، أي على الموصى اليه أن يبدله إلى الحق ، وإلى ما يرضى الله به من سبيل الخير».

أقول : المراد بالنسخ التقييد ، لا النسخ الاصطلاحي.

في العلل عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ). قال (عليه‌السلام) : «يعني : إذا اعتدى في الوصية».

أقول : ومثله في تفسير العياشي إلّا أن فيه «وزاد على الثلث». وما ورد في الروايتين من باب ذكر بعض مصاديق الجنف ، وليس من جملتهما ما إذا لم يمض الورثة ما زاد عن الثلث ، وإلّا فلا إثم حينئذ.

وفي المجمع : «الجنف أن يكون على جهة الخطأ من حيث لا يدري انه يجوز ، قال : روي ذلك عن أبي جعفر (عليه‌السلام).

أقول : هذا لا إثم فيه إن كان خطؤه مع قصور ، وأما إذا كان مع التقصير فيكون مثل الرواية الآتية.

في الفقيه أيضا عن علي (عليه‌السلام) : «أنّ الجنف في الوصية من الكبائر».

أقول : يستفاد ذلك من عدة روايات. والله العالم.

٣٣٩
٣٤٠