مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

مكاتبته وقد أدى بعضها. قال (عليه‌السلام) : «يؤدى عنه من مال الصدقة فإنّ الله عزوجل يقول : وفي الرقاب».

أقول : سيأتي بيان ذلك في آية الزكاة : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [سورة التوبة ، الآية : ٦٠].

وفي المجمع عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «ابن السبيل المنقطع به».

في تفسير القمي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ) قال (عليه‌السلام) : «في الجوع ، والعطش ، والخوف ، وقوله تعالى : (حِينَ الْبَأْسِ) ، قال (عليه‌السلام) عند القتال».

أقول : كل ذلك من باب التطبيق.

في الدر المنثور : «أن رجلا سأل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن البر فأنزل الله تعالى هذه الآية فدعا الرجل فتلاها عليه ، وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلّا الله وان محمدا عبده ورسوله ثم مات على ذلك ، وجبت له الجنّة فأنزل الله تعالى هذه الآية».

أقول : يدل الحديث على أن التوحيد الحقيقي لا يحصل إلّا بذلك لأن الآية الشريفة حينئذ بمنزلة الشرح لكلمة التوحيد ، كما يدل عليه ما استفاض من طرقنا عن مولانا الرضا (عليه‌السلام) : «قال الله تعالى كلمة لا إله إلّا الله حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي ، قال بشرطها وشروطها وأنا من شروطها».

بحث قرآني :

تدعو الآية الشريفة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والرسل ، وإتيان الأعمال الصالحة ، وتهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة وقد وصف سبحانه العامل بما تضمنته هذه الآية الشريفة بأنه من الصديقين ، وأنه من المتقين ، وقد أعد لهم من الدرجات المعنوية والمنازل العالية كما بينها في

٣٠١

آيات أخرى ، وهي تشرح حقيقة الإنسان من حيث نظر القرآن الكريم ، وكل واحد من هذه الأمور له آثار خاصة تؤثر في النفس وتظهر في العمل وحياة الفرد في الدنيا والعقبى بما يجلب له السعادة في الدارين. ونشير هنا إلى بعض ما هو المقصود في القرآن الكريم من الإعتقاد المطلوب شرعا.

وقد أمر سبحانه الإنسان بالإيمان بالله واليوم الآخر في مواضع كثيرة من القرآن الكريم ، والمراد به الإيمان الذي يترتب عليه الآثار التي ذكرها في هذه الآية ، وآيات أخرى في سياقها التي تكون كاشفة عنه في مقام الإثبات على نحو كشف المعلول عن العلة ، وهي :

الأول : إنّ الإيمان المطلوب ما كان يدعو إلى العمل الصالح ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [سورة الكهف ، الآية : ١١٨] ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٤٢] إلى غير ذلك من الآيات التي يقترن الإيمان والعمل الصالح فيها ، فان ذلك من الجمع بين المتلازمين.

الثاني : إنّ الإيمان المطلوب هو الذي يبعث على اتباع الرسول وما جاء به الأنبياء ، قال تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٣] ، وقال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [سورة آل عمران ، الآية : ٣١].

الثالث : انّ الإيمان المطلوب هو الذي يبعث السكينة لصاحبه والراحة في النفس والاطمينان في القلب ، قال تعالى : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) [سورة الفتح ، الآية : ٢٦] وقال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [سورة الرعد ، الآية : ٢٨] وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ

٣٠٢

كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢٥].

الرابع : إنّ الإيمان المطلوب هو ما كان باعثا على حب الله ورسوله بحيث يكونان أحب إليه من غيرهما ، قال تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [سورة التوبة ، الآية : ٢٤].

الخامس : انّ الإيمان الصحيح يدعو صاحبه على الصبر في الحوادث والمصائب ، لأنّ صاحبه يعلم بأنّ المصيبة إنّما هي في الدين وأنّها أشد من المصائب في النفس والمال ، وقال تعالى : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٦].

السادس : إنّ الإيمان يدعو صاحبه إلى اجتناب المحارم وإنّه إذا عرضت له المعاصي والآثام أعرض عنها ، ولو صدرت منه معصية لغفلة أو جهل أو نسيان يبادر إلى التوبة والانابة ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٥٣].

السابع : إنّ الإيمان المطلوب ما كان يدعو إلى التسليم والرضا بالقضاء والقدر ، قال تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [سورة الحج ، الآية : ٣٥] ، وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٤٢].

الثامن : إنّ الإيمان الصحيح يدعو صاحبه إلى مراقبة النفس وتزكيتها بأنواع البر والاجتهاد في طلب مرضات الله تعالى وتهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة.

التاسع : إنّ الإيمان بالله واليوم الآخر ما كان يدعو إلى الإيمان بالغيب وجميع ما أنزل الله تعالى قال عزوجل : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ

٣٠٣

الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٣].

العاشر : إنّ الإيمان الصحيح هو ما يجلب لصاحبه سعادة الدارين وما أعده الله تعالى للمؤمنين من المنازل والدرجات وهي مذكورة في آيات كثيرة.

وأجمع آية تشتمل على كثير مما ذكرناه في الإيمان المطلوب هي الآية التي سبق تفسيرها ، فإنها تبين المراد من الإيمان ، وأنّه الداعي لإتيان الأعمال الصالحات ، والباعث لتهذيب النفس وتزيينها بالأخلاق الفاضلة الموجب كل ذلك لكون المتصف بها من الصديقين والمتقين ، فللإيمان كمال ونقص ، والكامل منه ما ذكرناه.

بحث أخلاقي :

الآية الشريفة التي تقدم تفسيرها هي من أجمع الآيات القرآنية لصنوف البر والأخلاق الفاضلة ، وهي بانضمام آيات أخرى من القرآن الكريم تبين مفهوم الأخلاق في الإسلام ، فان له نظرا خاصا فيه يخالف سائر المذاهب الأخلاقية ، ولكنه في ذاته يعتبر امتدادا لسائر الاتجاهات الأخلاقية الصحيحة.

وبتعبير آخر : إنّه يكون تركيبا لتراكيب ، فهو يشتمل على روح التوفيق لشتى النزعات في المذاهب الأخلاقية الأخرى ، فهو واقعي ومثالي ، ومحافظ ، وتقدمي ، وتطوري ، وعقلي ، وصوفي ، ومتحرر ، ونظامي ، كما انه يلبّي جميع المطالب الفردية والاجتماعية ، الشرعية والأخلاقية. ولا يمكن الإلمام بجوانب هذا المفهوم القرآني للأخلاق إلّا بعد معرفة النظريات الأخرى ولو على سبيل الإيجاز ثم الحكم بأفضليته وأكمليته من الجميع.

المذاهب الأخلاقية :

يختلف العلماء والباحثون في علم الأخلاق النظري في تقسيم المذاهب الأخلاقية المتعددة بين مفصل لها بتعداد سائر الاتجاهات ، وبين مجمل لها بذكر أصولها ، والسبب في ذلك أن طائفة منهم ربطت المذاهب الأخلاقية بالمذاهب الفلسفية في المعرفة الإنسانية من الواقعية والمثالية ،

٣٠٤

والعقلية ، والحدسية ، والتجريبية ، والمادية ، والتشكيكية وغير ذلك. وهذا المسلك وإن أمكن تطبيقه على بعض المذاهب الأخلاقية ، فإنه يكون امتدادا لتلك المسألة إلّا أنه لا يمكن تطبيقه على البعض الآخر مثل الأخلاق المسيحية فإن لها خصائص ما يخالف تلك الاتجاهات.

وطائفة أخرى أرجعت الاختلاف بعينه إلى الاختلاف في الغاية ، وانها هي المنفعة ، سواء كانت فردية أو اجتماعية وابتغاء اللذة والسرور ودفع الآلام والشرور. وهذا المنهج كسابقه فان كثيرا من المذاهب يخرج عن هذا التقسيم.

وطائفة ثالثة ذهبت إلى أنّ المناط هو الوجدان والزهد والتقشف ؛ كما يراه الاتجاه الصوفي.

والحق أنّ شيئا مما ذكر لا يصلح لأن يكون المناط في تقسيم المذاهب الأخلاقية ، بل إنّ جميعها تتفق على أنّ الكمال والسعادة هما الغاية القصوى والمقصد الأسنى للإنسان ، وإنّما الاختلاف في ما يصدق عليه الكمال والسعادة فالاختلاف في المصداق فقط ، وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم المذاهب الأخلاقية إلى ثلاثة :

الاتجاه العقلي :

الاتجاه الذي يعتبر العقل هو الذي يحدد الغاية في حياتنا ، وأنه الباعث الذي يحفزنا إلى ابتغاء الحياة السعيدة والغزوف عن اللذات وأنّه الداعي إلى الطاعة لأوامر الشرع أو العقل ، وأصحاب هذا الاتجاه يعترفون بأصول مسلّمة لا يمكن العدول عنها كحسن العدل ، وقبح الظلم وأمثال ذلك ، فلا بد للإنسان ـ الذي يتميز عن سائر الكائنات بطبيعته العاقلة ـ ان يتصرف وفق القوانين المجعولة من قبل العقل أو الشرع ، وفي ذلك ابتغاء السعادة. ويشمل هذا الاتجاه من المذاهب الأخلاقية المذهب الحدسي ، والواقعي ، والمثالي ، وبعض المذاهب اليونانية القديمة أمثال الرواقيين والأفلاطونيين وغيرهم.

الاتجاه المادي :

وهذا الاتجاه يرفض كل القيم الإنسانية المسبقة التي تحدد للإنسان

٣٠٥

سلوكه والتي لها التأثير في تشكيل حياته ، بل يعتبر عامل المادة له الأثر الكبير في سلوك الإنسان ، وزاد بعضهم أن الأفكار والمشاعر والرغبات والقيم الخلقية والجمالية هي وليدة النظام الاقتصادي وما يستلزمه من العلاقات بين الأفراد بعضهم مع بعض ، وان المنفعة سواء في شكلها الحسي أو العقلي هي وحدها الخير الأقصى والمرغوب لذاته ، وانها السعادة ، والضرر والألم وحده هو الشر الأقصى ، فالأفعال الإنسانية لا تكون خيرا إلّا إذا حققت النفع مطلقا وإذا جلبت ضررا أو عاقت عن وصول النفع كانت شرا.

وبالجملة : إنّ في هذا الاتجاه على اختلاف مذاهبه يتوجه النظر على نتائج الأفعال وآثارها ، بلا فرق بين أن تكون المنفعة فردية حسية عاجلة ، كما في مذهب القورنائيين أو حسية وعقلية وروحية كما في مذهب الابيقوريين ، وجميعهم أصحاب اللذة الفردية الانانية. نعم ، تحول بعض المذاهب إلى منفعة المجموع والقول بالصالح العام ولكنه لا تخرجها عن ابتغاء اللذة والمنفعة ، ولذا دعوا جميعا ب (الانانيين) حتّى في تصورهم للصالح العام ، وتشترك جميع هذه المذاهب في تقييد حرمة الفرد ، والقول بالجبر الأخلاقي والفوضى في الأخلاق. ومن ذلك يعرف أنّه لا علاقة بين الفكر الفلسفي والمذهب الخلقي في هذا الاتجاه.

الاتجاه الصوفي :

وفي هذا الاتجاه يتنكر الإنسان للمادة في جميع مظاهرها ، وأنّ العزوف عن ملاذ الدنيا هو المناط في الأخلاق الفاضلة ، ويرى أصحابه أنّ السعادة هي الابتعاد عما يشغل بال الإنسان عن التفكر ، والكمال هو الوصول إلى مرحلة يصل بها إلى درك الحقائق ، وفي هذا الاتجاه تعتبر المحبة أصلا لكل خير.

هذه هي الاتجاهات الأساسية للمذاهب الأخلاقية المختلفة المتعددة وهي جميعها قد أخفقت في حلّ المشكلات الخلقية للإنسان سواء الفردية أو الاجتماعية ، ولم يصل الفرد بها إلى ما يصبو من السعادة والكمال بل لم تجلب للإنسان إلّا الشقاوة ، والوقوع في صراعات فكرية لا يجتنى منها فائدة تذكر.

٣٠٦

المفهوم الأخلاقي في القرآن :

إنّ الطابع العام الأخلاقي الذي يستمد من القرآن الكريم يختلف كثيرا عما ذكرناه في المذاهب الأخلاقية المختلفة ، سواء من الناحيتين النظرية والعملية فهو يحل جميع المشكلات الخلقية ويضع كل شيء في موضعه المعين ، ويربط بين الفضل والفضيلة ، فطالما يكون المرء فاضلا ولا يعرف الفضيلة ، ولذا ترى أنّ المفهوم الأخلاقي في القرآن الكريم لا يقتصر على الحاجة العقلية فقط ؛ بل إنّ الجانب النظري والعملي كل واحد منهما مكمل للآخر وتكون لهما وحدة خاصة تشبع الحاسة الأخلاقية التي أودعها الله تعالى في الإنسان.

كما أنّ المفهوم الأخلاقي فيه يمتاز عن غيره في انه يشتمل على روح التوفيق بين سائر النزعات الأخلاقية ، ويلبي جميع المطالب للإنسان ، فهو ينظر إلى الفرد كما ينظر إلى المجتمع ، ويعطي لكل واحد منهما حقه ، ولهذه النزعة الأخلاقية خصائص يمكن تلخيصها في ما يلي :

خصائص الأخلاق في القرآن :

الأولى : إنّ في الإنسان انبعاثا داخليا فطريا إلى الأخلاق يساير جميع مراحله يمكن التعبير عنه به (الحاسة الأخلاقية) التي يميز بها بين الخير والشر ، كما يميز بالحاسة الجمالية المودعة فيه بين الجميل والقبيح ، قال تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [سورة الشمس ، الآية : ٨]. ومن هذه الحاسة الخلقية نستطيع أن نؤسس القواعد الخلقية والقانون الأخلاقي العام.

ولكن قد يلقى هذا النور الباطني الفطري موانع توجب طمسه ، وهي كثيرة مثل العادات ، والوراثة ، والبيئة ، وشواغل الحياة المادية بل إنّ نفس القواعد الخلقية الفطرية لم تكن كافية في إرضاء الجميع بحيث تكون قاعدة عامة تجلب رضاء الكل ، ولهذا كان لا بد من بعث الأنبياء ذوي النفوس المصطفاة الملهمة بالوحي ليثيروا للنّاس دفائن العقول ، ويزيلوا الغشاوة عن النور الفطري ويكملوا ما كانوا يحتاجون اليه في إكمالهم ، فكان نور الوحي

٣٠٧

الإلهي مكملا لنور الفطرة التي أودعها الله في الإنسان فكان «نور على نور».

الثانية : إنّ القواعد الخلقية هي تلك القواعد التي تخاطب الضمير الإنساني ، ويرغب إليها الإنسان لأجل الحقيقة ذاتها وأهميتها الخلقية فهي لم تكن غريبة عليه ، فكانت لها صفة الإلزام ، قال تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) [سورة القيامة ، الآية : ١٥]. ويظهر ذلك بوضوح في تلك الآيات القرآنية التي ترجع الإنسان إلى عواطفه ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [سورة الحجرات ، الآية : ١٣] ، وقال تعالى : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [سورة الحجرات ، الآية : ١٢].

الثالثة : إنّ القرآن الكريم يقرر أنّ الإنسان مسئول عن عمله ، فقد أظهر فكرة المسؤولية الأخلاقية الفردية والاجتماعية بالمعنى الكامل قال تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [سورة النجم ، الآية : ٣٩] ، وقال تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [سورة الإسراء ، الآية : ١٥] ، فكل شخص مسئول بالشروط المقررة عن أفعاله الخاصة الشعورية والإرادية ، كما انه فرد من مجتمع يحمل جانبا من المسؤولية الاجتماعية.

الرابعة : إنّ الإنسان حرّ في اختيار أفعاله الإرادية ، ولا شيء ـ سواء كان داخليا أو خارجيا ـ يستطيع إرغامه وسلب حريته ، قال تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٤] ، وقال تعالى : (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٥٤] بل يعتبر القرآن أنّ أساس المسؤولية هي الحرية ، وقد مضى في ضمن الآيات القرآنية البحث عن ذلك مفصلا وقد تنبّه إلى ذلك الفيلسوف الغربي [كانت] بقوله «يستحيل علينا ان نتصور عقلا في أكمل حالات شعوره ، يتلقى بشأن احكامه توجيها من الخارج ... فارادة الكائن العاقل لا تكون إرادته التي تخصه بالمعنى الحقيقي الا تحت فكرة الحرية».

الخامسة : الجزاء الأخلاقي وفقا لقانون أن كل مسئولية لا بد لها من

٣٠٨

جزاء. وقد بين القرآن الكريم أنّ كل عمل له جزاء خاص يلائمه وقد تقدم في الآيات السابقة ما يرتبط بالمقام.

السادسة : النية وأنّ كل عمل لا بد له من نية وإعطاء الأهمية للنية والبواعث الكامنة في النفس وراء العمل ، ويعتبر أن قيمة كل عمل تدور مدار شدة التنزه ، وأن الهدف من كل عمل هو ابتغاء وجه الله تعالى.

السابعة : أنّ كل عمل لا بد أن يقرن بالاعتقاد ، كما هو ظاهر الآيات الشريفة التي يقرن فيها بين الإيمان والعمل الصالح ، قال تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [سورة سبأ ، الآية : ٤] ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٩].

الإنسان كائن أخلاقي :

يتميز الإنسان عن سائر الكائنات الحية في أنه مزيج قوى متخالفة متصارعة ، فهو مركب من عقل ، وقلب وإرادة أي : له حياة عقلية ، وانفعالية ، وفاعلة. ولكل واحدة من هذه الثلاث آثارها ووظائفها التي من امتزاجها في هذا الكائن الخاص يكون إنسانا وهذا مما لا ريب فيه ، وقد دلت عليه التجارب وأثبتته البراهين العلمية.

وبتعبير آخر : وهو المتبع في علم الأخلاق ـ إنّ الإنسان مركب من قوى ثلاث : هي القوة الشهوية التي هي مصدر الرغائب من محبة المال والنساء وغيرهما من الشهوات الحيوانية ، والأفعال المنسوبة إلى هذه القوة هي الأفعال التي تجلب المنفعة ؛ كالأكل والشرب ونحو ذلك.

والقوة الغضبية ، وهي مصدر العواطف كالشجاعة ، والغضب ، والأفعال المنسوبة إليها هي الأفعال التي تدرأ المضار كالدفاع عن النفس والمال والعرض وغير ذلك.

والقوة العاقلة ، وهي التي تدبر البدن وتسوسه ، والأعمال الفكرية كلها منسوبة إلى هذه القوة.

٣٠٩

ولكل واحدة من هذه القوى الثلاث آثارها وخصائصها ، وهي متباينة في صفاتها وذواتها ، ولكن من اجتماعها ينشأ الإنسان المفكر الدراك ، وباتحادها تنشأ وحدة تركيبية تصدر منها أفعال خاصة ، وبها يبلغ الإنسان إلى سعادته التي خلق لأجلها ، ووظيفته هي أن يحافظ على هذه الوحدة التركيبية ، وان لا تخرج قوة من هذه القوى الثلاث عن حد الاعتدال إلى حدي الإفراط أو التفريط ، وإنّ بذلك يصل إلى الغاية المرجوة من خلقه وهي السعادة الفردية والنوعية في الدنيا والآخرة ولأجل ذلك كان الإنسان أخلاقيا دون سائر الكائنات الحية.

وعلم الأخلاق يبحث عن كيفية المحافظة على الحد الوسط التي هي الفضيلة والاجتناب عن طرفي الإفراط والتفريط اللذين هما الرذائل ، لتصدر منه أفعال يصل بها إلى السعادة المرجوة.

الاعتدال في الأخلاق :

ذكرنا أنّ وظيفة الإنسان ـ ككائن أخلاقي ـ هي المحافظة على حد الاعتدال لكل واحدة من القوى الثلاث المتقدمة. والمراد بحد الاعتدال ـ هو الوسط الأخلاقي ـ أي استعمال كل قوة على ما ينبغي ليجلب بها السعادة.

وقد جعل العلماء حد الاعتدال في القوة الشهوية هي العفة ، والجانبين ـ الإفراط والتفريط ـ الشره ، والخمول. وفي القوة الغضبية الشجاعة والجانبين التهور ، والجبن. وفي القوة الفكرية الحكمة والجانبين الجربزة ، والبلادة.

ثم قالوا إنّ في اجتماع تلك الملكات في النفس تحصل ملكة رابعة وهي العدالة والمراد بها هي وضع كل شيء موضعه الذي ينبغي له ، وبها يمكن الإنسان ان يحافظ على حد الاعتدال في القوى الثلاث ، فيخرج عن الظلم والانظلام.

وهذه الأربعة هي أصول الأخلاق الفاضلة تكون نسبتها إليها كنسبة الجنس إلى النوع ، وهي كثيرة ـ كالجود والسخاء والقناعة والشكر والصبر ونحو ذلك كما هو مفصّل في كتب الأخلاق.

٣١٠

وهذا هو التقسيم الشايع بين علماء الأخلاق منذ عصر أرسطو ، وهو لا يخلو عن المناقشة ، ولكن الأمر سهل بعد أن كان ذلك لأجل تصنيف الفضائل والرذائل والتمييز بينها.

إلّا أنّ للقرآن نظرية خاصة في الوسط تغاير النظريات الأخرى فقد اعتمد القرآن على التقوى التي ورد ذكرها فيه أكثر من مأتين وخمسين مرة ، قال تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [سورة الشمس ، الآية : ٨] واعتبرها محور الكمالات الإنسانية ومعيار الفضائل ، قال تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٩] ، وقال تعالى : (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) [سورة النمل ، الآية : ٥٣] ، وقال تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [سورة المائدة ، الآية : ٢٧] ، وقال تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٠٢] ، وقال تعالى : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) البقرة ، الآية : ١٩٧] ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [سورة التوبة ، الآية : ٧] ، وقال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [سورة التوبة ، الآية : ١٢٣].

والمراد من التقوى في نظر القرآن : هي الجهد المحمود ـ الحاصل من الفرد ـ المتواصل في خدمة التكليف في جميع نشاطاته وعلاقاته مع نفسه ، ومع ربه ، والناس أجمعين ، وهذا هو المراد مما ورد في النصوص الكثيرة بأنها «إتيان الواجبات وترك المحرمات».

وتظهر أهمية هذا الملاك عن نظرية «الوسط العادل» أي : تجنب الإفراط والتفريط في أنّه يربط بين العمل والنية ، فلا يمكن التفكيك بينهما ، فيعتبر العمل بلا نية لا قيمة له ، كما أنّ النية الخالية عن أي عمل لا ثمرة لها ، كما يظهر ذلك بوضوح من الآيات التي تقارن بين التقوى والعمل الصالح ، كما تقدم. قال تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) [سورة الشعراء ، الآية : ١١٠].

كما أنّ بالتقوى يصير الإنسان بارا ويصبح من الصديقين ، وإنّ بها يتهيّأ لقبول الملكات الفاضلة ويحدد سلوكه الأخلاقي ، وبها يصير الإنسان عادلا

٣١١

موفقا بين رغباته وأحاسيسه وعواطفه ، فهي المقياس الحسي للفضائل يسهل معرفته لكل أحد ويسلم عن الخطأ والالتباس من دون أن يقع في متاهات النظرية الوسطية القديمة ؛ وهي العلة الغائية في السلوك الأخلاقي والعلة الفاعلية لاكتساب الفضائل وإزالة الرذائل. وأخيرا هي القاعدة العامة التي يمكن التوفيق بها بين سائر التكاليف ويجلب بها الكمال ، والدين الذي أمرنا باتباعه. وبها صارت هذه الأمة وسطا في جميع الشؤون. نعم لها مراتب ، كما تقدم سابقا ، ويأتي بيانها مفصلا.

طرق اكتساب الأخلاق الفاضلة :

ذكرنا أنّ الأساس الذي يبتني عليه الأخلاق في القرآن هو التقوى فإنّها الطريق إلى التخلق بالأخلاق الفاضلة واكتساب الفضائل وإزالة الرذائل ، وتقدم أنّ التقوى هي الجهد التواصل من الفرد ، فلا تتحقق إلّا بالتواصل والعمل الدؤوب وتكرار الأعمال الصالحة لتتمكن الأخلاق الفاضلة في النفس ويتعذر إزالتها. وفي التقوى يرتبط العمل بالنية فكل ما كانت النية خالصة لله تعالى خالية عن الأغراض الدنيوية ازدادت قيمة العمل وقرب إلى القبول وصلح للجزاء الأوفى.

بل يعتبر القرآن أنّ الغايات المرجوة من الأعمال سواء كانت لجلب النفع ، أو لدفع الضرر هي نقص في مقابل الكمال المطلق ، قال تعالى : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [سورة يونس ، الآية : ٦٥] ، وقال تعالى : (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٧] ، وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي تحصر الكمال فيه عزوجل. ولهذا الأمر أثر كبير في النفس حيث يجعل العمل خالصا لوجه الله منزها عن كل غاية من غير الله تعالى ، وأنّ الغاية هي الله تعالى والتخلق بأخلاقه ، وهذا مسلك جديد لم يكن معروفا من قبل نزول القرآن ويختلف عن سائر المسالك المتّبعة في تهذيب النفس بوجهين :

الأول : أنّ في هذا المسلك يعد الإنسان إعدادا علميا وعمليا لقبول الأخلاق الفاضلة والمعارف الإلهية بحيث لا يبقى مجال للرذائل ، وفيه تختلف

٣١٢

الفضائل عن غيره من المسالك.

الثاني : أنّ في هذا المسلك يكون الفعل صادرا عن العبودية المحضة والحب العبودي ، فيكون الغرض هو وجه الله تعالى فقط ، فهو مبني على التوحيد الخالص بخلاف غيره.

وهنالك مسالك أخرى في تهذيب الأخلاق :

أحدها : هو تهذيب النفس بالآراء المحمودة والعقائد العامة الاجتماعية في الحسن والقبح والغايات الصالحة الدنيوية ، وهذا هو المعروف في علم الأخلاق ، فهذا المسلك يدعو إلى الخلق الاجتماعي ، والغاية هي حياة سعيدة دنيوية يحمدها كل الناس ؛ ولم يرد في القرآن الكريم ما يدل على حسن هذا المسلك. نعم في بعض الموارد إشارة إلى بعض الأمور الاجتماعية ، قال تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٠] ، حيث علل الحكم بأن لا يكون للناس عليكم حجة ، وقال تعالى : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [سورة الأنفال ، الآية : ٤٦] ، حيث علل ترك الصبر أو الاتحاد بالفشل وذهاب الريح. ولكن ذلك كله يرجع إلى الثواب والعقاب الاخرويين.

ثانيها : تهذيب النفس بما جاء به الأنبياء (عليهم‌السلام) والكتب السماوية من العقائد والتكاليف الدينية والآراء المحمودة بالغايات الأخروية ، وقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٥٧] ، وقال تعالى : (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) [سورة لقمان ، الآية : ٢١] ، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [سورة الكهف ، الآية : ٣٠] ، وقال تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [سورة الزمر ، الآية : ١٠]. وغير ذلك من الآيات الشريفة التي ذكر فيها الأجر الأخروي بألسنة مختلفة.

٣١٣

ومن مبادئ هذا المسلك هو إعداد الإنسان علميا بأنّ كل ما يصدر منه من الأفعال ، وما يقع من الأمور كلها صادرة عن قانون القضاء والقدر الإلهي ؛ قال تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة التغابن ، الآية : ١١].

وإنّه لا بد من التخلق بأخلاق الله تعالى والتذكر بأسمائه الحسنى حتّى يمكن تهذيب النفس بالغايات الأخروية المتكفلة لسعادة الدارين ، فإنّ الكمال الحقيقي والسعادة الواقعية هي الحياة السعيدة في الآخرة وتلازمها سعادة هذه الدنيا أيضا.

وهذا المسلك هو الغالب في الديانات الإلهية ، وقد دعا اليه الأنبياء والمرسلون ، وهو متين يغاير المسلك الأول في الغاية والسبب.

ثالثها : التغير في الأخلاق والتبدل في الفضائل ، والقول بالتطور والتكامل في الأخلاق فلا يمكن أن يكون للحسن والقبح أصول مسلمة مطلقا ، والمناط كله هو ابتغاء المنفعة ودفع المضرة سواء أكانتا فرديتين او اجتماعيتين ، وهذا مذهب قديم في الأخلاق دعا اليه بعض الماديين كما أشرنا اليه سابقا ، وهو مذهب فاسد ، وسيأتي في الموضع المناسب ذكر حججهم ودحضها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩))

ما ورد في الآيتين من التشريعات الكلية النافعة في النظام الفردي والاجتماعي للإنسان ، وقد لوحظ فيهما بقاء النوع وتهذيبهم بالأخلاق الفاضلة ونبذ الانتقام والعدوان ، وقد اعتبر في القصاص المساواة بين القاتل ومن يراد الاقتصاص له. وفيهما إشارة إلى بعض العادات السيئة التي كانت متبعة قبل هذا التشريع ، ولذلك كله لا تخلو من الارتباط بالآيات السابقة.

٣١٤

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). تقدم الكلام في مثل هذا لخطاب في آيتي ١٠٤ و ١٥٣. وكتابة هذا التشريع على المؤمنين لأجل الشرف لا يدل على نفيه عن غيرهم.

قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى). الأصل في مادة (كتب) هو الجمع والتثبت في جميع موارد استعمالاتها ، سواء لوحظ ذلك بالنسبة إلى علم الله تعالى ، أو اللوح المحفوظ أو الكتب النازلة من السماء. أو الإيجاب على العباد ـ تكليفا أو وضعا ـ أو التحقق العيني الخارجي ، فالكل كتاب ، والجميع يدل على الثبوت والدوام ، والتحفظ. والمراد به في المقام هو الفرض والإيجاب.

ومادة (ق ص ص) تأتي بمعنى تتبع الأثر ، وحيث إنّ وليّ المقتول ، يتبع أثر القاتل ليأخذ منه جريمة ما فعله ، وكذا المجروح يتبع أثر الجارح كذلك ، يقال له القصاص.

ومنه القصة والقصّاص ، لأنه فيها تتبع أثر ما وقع في الخارج كما أن منه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار.

والمراد بالقصاص شرعا هو أخذ الجاني بمثل جنايته إن أراد وليّ المقتول ذلك ، وهو مطلق لا بد من تقييده بما إذا كانت الجناية عمدية ، لخروج الجناية الخطأية عن تحت هذه الآية بقوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) [سورة النساء ، الآية : ٩٢].

والآية تبين أصل تشريع القصاص ؛ وقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) يبين حكمة هذا التشريع.

وفي الآية إشعار بأنّه لا بد من التساوي بين المقتول ومن يراد القصاص منه ، وأنه لا بد من العدل في القصاص وملاحظة المثلية. وفي ذلك رد على ما كان يفعل في الجاهلية من المغالاة في سفك الدماء وقتل الأبرياء

٣١٥

كالاقتصاص من رئيس القبيلة والسيد في قتل العبد ظلما وعدوانا.

والقتلى : جمع القتيل بمعنى المقتول ، والقتل زوال الروح إذا أضيف إلى المتعدي إليه (أي من وقع عليه القتل). وإذا أضيف إلى ذات الشخص فهو موت فلا فرق بينهما إلّا بالإضافة والاعتبار ، كما يقال : مات بالشهادة ، أو مات بالقتل ، ومات بالمرض. نعم يصح اعتبار التغاير بينهما بلحاظ السبب كما قال تعالى : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٤٤]. والجامع هو زوال الروح.

وعموم الخطاب يشمل الوضعي والتكليفي كما في جملة من الخطابات المتعلقة بإتلاف الأموال ففي المقام بالأولى ، والأحكام التكليفية هي الأحكام الخمسة المعروفة.

وأما الأحكام الوضعية وهي ما تعلق بها غرض الشارع المقدس ولم تكن من الخمسة التكليفية ، وهي كثيرة كالضمان ، والولاية ، والطهارة ، والنجاسة ، وقد يجتمع الحكمان في شيء واحد كاشتغال الذمة بعوض فهو وضعي ووجوب تفريغها تكليفي ، وقد ذكر التفصيل في محله فراجع كتابنا [تهذيب الأصول].

ثم انه ذكر سبحانه وتعالى بعض موارد المساواة والتكافؤ بين المقتول ، ومن يراد الاقتصاص منه.

قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ). الحر : خلاف العبد لخلوصه عن الرقية ، والحر من كل شيء خالصه ، وأحرار البقول ما يؤكل غير مطبوخ.

والعبد من فيه الرقّية ، وفي اصطلاح الكتاب والسنة هي المملوكية للغير بالملكية الظاهرية. وعند جمع من أهل العرفان : كل من كان له علاقة بغير الله تعالى فهو عبد له ، وقالوا : إنّ عبد الشهوة والهوى أشد رقّية من العبد المملوك للغير ، واستشهدوا لذلك بأدلة عقلية ونقلية لعلنا نتعرض لذلك في محله.

وكيف كان ، والمراد منه هنا المعنى الأول.

٣١٦

وفي الآية من البلاغة ما لا يخفى وفيها إشارة إلى بيان ذكر المثلية إجمالا.

قوله تعالى : (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى). كان في أهل الجاهلية بغي وحمية وكانت القبائل تتحكم بحسب القوة والمنعة ، فان قتل من حي أهل منعة وعز أحد لا بد لهم من الاقتصاص وكانوا لا يكتفون من القاتل فقط ، وإذا قتل منهم أنثى لا يقتصون من أنثى مثلها بل يقتصون من الذكر. وقد أنكر الشارع هذه العادة وحكم بالمساواة بين القاتل والمقتول فإذا كان القاتل أنثى فلا بد وان يقتص منها لا من غيرها ، وفيها بيان للمثلية أيضا أي الحرة بالحرة والأمة بالأمة.

قوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ). بعد ان ذكر وجوب القصاص وأنّه أساس العدل في الجنايات ، وأنّه الأصل في ردع الجاني من الاستمرار في الجناية بيّن هنا جواز العفو بل رجحانه وهو تعالى ينظر إلى الجانب الأخلاقي في هذا التشريع ويعطي أهمية خاصة إلى التراحم والتعاطف بين أفراد البشر في ظرف تسيطر على النفس الغرائز الدفينة والعادات السيئة الموروثة من الجاهلية ، فكان هذا التشريع موفقا في الجمع بين الجانب العاطفي في الإنسان والجانب الغريزي والشهودي فيه.

ومادة عفو تأتي بمعنى المحو والزوال ونفي الأثر ، والتجافي عن الذنب ، ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم ، قال تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٩٩] ، وقال تعالى : (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) [سورة المائدة ، الآية : ٩٥] ، وقال تعالى : (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) [سورة الشورى ، الآية : ٢٥].

والعفوّ ـ بالتشديد ـ من أسماء الله الحسنى ، وفي بعض الدعوات : «اللهم إنّي أسألك العفو والعافية والمعافاة». والأول محو الذنب ، والثاني الصحة من الأسقام والأمراض ، والأخير الحفظ عن أن يظلم أحدا أو أن يظلمه أحد.

والفرق بين العفو والغفران أنّ الثاني يختص استعماله بالله تعالى غالبا

٣١٧

وإن استعمل في غيره تعالى أحيانا ؛ قال سبحانه : (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة التغابن ، الآية : ١٤] ؛ بخلاف الأول فانه يستعمل في غيره عزوجل كثيرا ، قال تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [سورة البقرة ، الآية : ٢٣٧] ، وقال تعالى : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٣٧]. ويقال : عفت الدار إذا انمحت آثارها.

ويمكن الفرق بينهما باعتبار المورد أيضا ، فان العفو يصح استعماله بالنسبة إلى مطلق سوء الأخلاق وإن لم يكن من الذنب الشرعي كما يصح استعماله بالنسبة إليه أيضا بخلاف الغفران.

والتعبير بالأخ ترغيب إلى العفو والمراد به ولي الدم.

و «شيء» صفة للمفعول المطلق النائب عن الفاعل أي بعض العفو وشيء منه ، وهو حق الاقتصاص أولا ويشمل البدل والمبدل أيضا.

والمعنى : ومن عفا لأخيه عن جنايته ولم يرد القصاص ورضي بالدية فهو خير له.

قوله تعالى : (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ). المعروف : ضد المنكر ، ومعناه كلفظه ؛ والمراد به كل ما حسن عند العقلاء ولم ينه عنه الشرع سواء كان واجبا أو مندوبا أو مباحا. وهو يختلف باختلاف الأعصار والأمصار. وقد وقع هذا اللفظ في القرآن الكريم والسنة الشريفة كثيرا ، قال تعالى : (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٠] ؛ وقال تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٢٨] ، وقال تعالى : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٦٣] إلى غير ذلك مما يقرب من أربعين موردا. وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «كل معروف صدقة».

والمعنى : إن رغب في العفو عن القصاص لا بد له من إتباعه بالمعروف على الجاني بأن لا يرهقه في الدية ، أو ينظره إلى الميسرة إن كان ذا عسرة ، أو الطلب منه بالرفق ، أو يعفو عن بعض ونحو ذلك مما لا يستنكره

٣١٨

العرف ، وذلك مرغوب فيه لا سيما في هذه الحال التي يكون الإنسان فيها أقرب إلى قوى البطش والانتقام منها إلى العقل.

قوله تعالى : (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ). أي أداء من الجاني إلى الولي بالإحسان كما أحسن اليه بالعفو وإتباعه بالمعروف.

قوله تعالى : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ). أي : أن تشريع القصاص والعفو عنه والانتقال الى الدية والاتباع بالمعروف والأداء بالإحسان كلها تخفيف على الأولياء والجانين ورحمة لهم ، لأنه جل شأنه قادر أن يشرع عليكم بما يكون أشد من ذلك ، فقد راعى عزوجل الوسط بين الإفراط ، والتفريط. مع أن في هذا التشريع الجديد تخفيفا بالنسبة إلى ما كانوا قد اعتادوا عليه في الجاهلية فقد كان ذلك ثقلا كبيرا عليهم ورحمة عليكم في الامتناع عن إراقة الدماء ظلما وعدوانا ، فلا يبقى بعد ذلك مجال للظلم والاعتداء.

قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ). أي : فمن اعتدى وانتقم من الجاني بعد العفو ، أو تعدى عن الحد الذي قرره الله تعالى فله عذاب أليم ، لأنه متعد عن القانون الإلهي وكل متعد كذلك لا بد وأن يعاقب عقلا وشرعا ، فيكون مصيره إلى النار.

قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ). بعد أن شرّع تعالى القصاص وحكم بأنّه لا بد من التساوي والتكافؤ بين الدماء. ذكر هنا حكمة هذا التشريع الجديد وعلته بأفصح بيان وأبلغه وأوجز عبارة تفي بالمطلوب. فكان أحسن كلام يقرع الأسماع وابلغ نظم يؤديه البيان ، قرن فيه بين التلطف والعتاب فما أجمل هذا الخطاب فاح نسيم الوحي من السماء فانفتح الكمام وتواضع كل من يدعي الفصاحة أمام حسنه ، وأعيى كل من جهد نفسه في البلاغة ، ولو قورنت هذه العبارة مع ما قيل في مثل المقام كقولهم : (القتل أنفى للقتل) وقولهم : (قتل البعض إحياء للجميع) ، وقولهم (أكثروا القتل ليقل القتل) لكان ما ورد في القرآن كالنور في الظلماء ، والنار على المنار من حيث البلاغة والفصاحة ، وسيأتي في البحث الأدبي ما يتعلق

٣١٩

بذلك.

والمعنى : أنّ في القصاص المذكور الحياة للفرد والمجتمع ، أما بالنسبة إلى المجتمع فإنّه أحسن رادع عن الإقدام على قتل النفوس ، إنّ فيه حفظ النّاس عن اعتداء بعضهم على بعض ، وأما بالنسبة إلى الفرد فإنّ فيه حفظ من يريد الجناية فإذا علم بالقصاص يرتدع عنه ، وبذلك يحفظ نفسه ومن أراد قتله ولو فعله كان ذلك عبرة لغيره ممن يريد الإقدام على ذلك ، ففي القصاص حياة الناس والأفراد بل فيه تسلية لولي المقتول حيث يخفف عنه لوعة المصاب ، فكانت الغاية من القصاص وما يجتنى من عواقبه حميدة يعرفها كل من اعطي حق التأمل في هذا الحكم.

قوله تعالى : (يا أُولِي الْأَلْبابِ). الألباب جمع اللب ، وهو العقل الخالص عن الشوائب ، لأنّ لب الشيء خالصه وصفوته ، ولذا جعل الله تعالى أولي الألباب. مورد خطابه وعنايته في جملة كثيرة من الآيات القرآنية ، لأنّ ذا اللب هو الذي يعرف حقائق الأشياء وموازينها ، وآثارها وما يترتب عليها. قال تعالى : (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٧] ، وقال تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) [سورة الزمر ، الآية : ٩] ، وقال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) [سورة الزمر ، الآية : ٢١] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

وقد فسر سبحانه اللب في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) [سورة الزمر ، الآية : ١٨].

ولم يرد لفظ اللب مفردا في القرآن الكريم كما لم يرد لفظ العقل كذلك. والمتأمل في الآيات المتضمنة لذكر أولى الألباب يعلم أنها وردت في مدحهم بخلاف العقل فإنّه ليس كذلك ، قال تعالى : (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٦٧] ، وقال تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [سورة النور ، الآية : ٦١].

ولعل السر في عدم ورود المفرد لهذين اللفظين الإشارة إلى أنّهما من

٣٢٠