مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [سورة الأنفال ، الآية : ٧٥] أي في حكم الله ، والأصل في ذلك ان ما يراد تثبيته يجمع في الذهن ابتداء ثم في الإرادة ثانيا ثم يحكم به ثالثا ويكتب رابعا.

ولهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة أكثر من مأتين وخمسين موردا.

والمراد من الكتاب في المقام مطلق ما كتبه الله تعالى على عباده ، والقرآن مهيمن على ذلك كله ، فلا فرق بين أن يكون المراد من الكتاب هو القرآن أو جميع الكتب السماوية غير المنسوخة إذا الجميع واحد في الحقيقة وان اختلف في الصور.

وتقدم معنى الحق في آيتي ١٤٤ و ١٤٧ من هذه السورة.

وقد أسس الفلاسفة قاعدة كلية أحكموها ببراهين عقلية وفرعوا عليها أمورا ، وهي : «ان من كان حقا بذاته ومن ذاته يكون حقا من جميع جهاته ، في صفاته وأفعاله ، وجميع شؤونه» فإذا كان المبدأ القيوم حقا في الأزل الذي لا يتصور له أول كذلك يكون في ما لم يزل الذي ليس له آخر شأنا وصفة وفعلا ، وفي كل ما يتعلق به تعالى من الجهات التكوينية والتشريعية.

ومن فروع هذه القاعدة التلازم بين المبدأ والمعاد في كل ما يتعلق بشؤون العباد سيأتي في الموضع المناسب شرحها مفصلا.

وللمفسرين في اعراب محل (ذلك) في قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ) أقوال :

منها : الرفع على أنّه مبتدأ خبره محذوف ، أي ذلك الشأن.

ومنها : أنّه خبر لمبتدأ محذوف أي الشأن ذلك.

ومنها : النصب بفعل مقدر رأي : جعلنا ذلك ، وكل واحد منها صحيح بعد عدم ثبوت الترجيح في البين.

٢٨١

والمعنى : إنّ ذلك الذي تقرر في شأنهم إنّما هو بسبب أنّ الكتاب نزل بالحق وأنّهم على الباطل ، ولا يمكن للباطل مغالبة الحق الذي هو بيّن دلائله وواضح معالمه.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ). الاختلاف ضد الاتفاق الذي لا ينفك عنه كل مجتمع المنتهي إلى الاختلاف في الأفكار ، وهو ينتهي إلى الاختلاف في الفهم والاستعدادات ، وهو طبيعي بالنسبة إلى الإنسان ، ولذلك وجب الرجوع إلى الكامل في تدبير شؤون المجتمع وادارته ، وإلّا انتهى الأمر إلى التنابذ والاختلاف واختلال النظام ، وقد جعلوا ذلك من الأدلة العقلية على وجوب وجود النبي والإمام بين النّاس.

والشقاق عبارة أخرى عن الاختلاف كأن كل واحد من المختلفين يصير في شق ، وفي الدعاء المأثور : «اللهم إنّي أعوذ بك من الشقاق والنفاق» والمراد به هنا الاختلاف البعيد أي : آخر مراتب الشقاق الذي لا يمكن فيه الايتلاف بوجه من الوجوه.

ومن ذلك يعلم أن الاختلاف في الكتاب وأمور الدين موجب للابتعاد عن الصراط المستقيم الذي يدعوا اليه الكتاب ، والسلك في سبل متعددة ، والابتعاد عن الحق قال تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٥٣].

بحث دلالي :

تدل الآيات الكريمة على أمور :

الأول : أنّ قوله تعالى : (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) يدل على تجسم الأعمال ، وسنخية العقاب مع العمل ، فان كتمانهم للحق كان لأجل كسب المال والجاه والاستفادة منه في إشباع بطونهم وكان جزاء هذا العمل الشنيع ان أبدل الله تعالى تلك الأثمان إلى النار التي تستعر في بطونهم ، نظير ذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ

٢٨٢

وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٥] وآية الربا وسيأتي البحث في تجسم الأعمال.

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) ان الله تعالى إنما أنزل الكتاب والمعارف الحقة والأحكام التشريعية للألفة والاتحاد ونبذ الاختلاف ، وما كان خلاف ذلك فهو الباطل الذي لا يجلب منه إلّا الفساد والتنازع ، كما يدل عليه ذيل الآية الشريفة وآيات أخرى.

الثالث : يصح أن يستدل بالآية الشريفة على أنّ القرآن الكريم ناسخ لجميع الكتب السماوية إلّا إذا قرر القرآن العظيم شيئا منها. والنسخ بهذا المعنى موافق لقانون العقل القاضي بالسير التكاملي في الإنسان ، وهذا أمر طبيعي حتى بالنسبة إلى القوانين الوضعية.

الرابع : يمكن أن يستفاد من قوله تعالى : (فِي بُطُونِهِمْ ناراً) اضطراب قلوبهم في الدنيا بما ارتكبوه من كتمان الحق بعد ما عرفوه فكانوا مخلدين في عذاب الضمير في هذه الدنيا وفي البرزخ.

الخامس : لا منافاة بين هذه الآية المباركة أي : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) والآية التي تدل على سؤال الناس أجمعين يوم القيامة قال تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة الحجر ، الآية : ٩٢] لإمكان اختلاف الجهة إما ان يراد بالمنفي كلام التلطف والعناية وبالمثبت السؤال عن جرائم ما فعلوه ، أو للتوبيخ والإهانة ، أو يراد اختلاف المواقف والمقامات ، لأن ليوم القيامة مواقف كثيرة.

بحث روائي :

في الكافي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) قال (عليه‌السلام) : «ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنه يصيّرهم إلى النار» ورواه العياشي في التفسير.

وفي تفسير القمي في تفسير الآية المباركة (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) : «يعني ما أجرأهم على النار».

٢٨٣

وروي عن الصادق (عليه‌السلام) : «ما أعملهم بأعمال أهل النار».

أقول : هذه الروايات قريبة المعاني ومن باب ذكر السبب وارادة المسبب ، والاجتراء على السبب الذي يوجب الدخول في النار اجتراء على النار لا محالة.

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧))

الآية على اختصارها تشتمل على أصول المعارف الإلهية ، وهي اجمع آية في القرآن العظيم للكمالات الإنسانية ، وفيها يدعو الله عزوجل الإنسان إلى مكارم الأخلاق التي بها يفضل على الاملاك ، فقد ذكر سبحانه وتعالى الخصال الخمس عشرة الجامعة لأصول الإيمان والاعتقاد وهي الإيمان بالمبدأ والمعاد ، والملائكة رسل الوحي ومنزلي الكتب ثم الإيمان بالأنبياء والمرسلين ، وأصول الأعمال الصالحة وهي إيتاء المال وإقام الصلاة ، وأخيرا ذكر أصول مكارم الأخلاق وهي الوفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء وحين البأس ، وبذلك يرشد الإنسان إلى الصراط المستقيم ، ويعتبر العامل بها من الصديقين والمتقين فجدير لكل فرد أن يستنير بهدي الكتاب المبين وقول الحكيم العليم ، وحقيق لمن عمل بهذه الآية أن يكون قد استكمل بها إيمانه كما قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

التفسير

قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ). الآية الشريفة تشتمل على مقاطع ثلاثة في كل مقطع مجموعة من الخصال تعتبر أصول المعارف الإلهية وأساس الكمالات الإنسانية.

الأول : في الاعتقاديات من المبدأ والمعاد.

٢٨٤

الثاني : في تهذيب النفس بأعمال الجوارح.

الثالث : الأخلاق والمعاشرة بين الناس.

مادة (ب ر ر) تدل على الاتساع والشمول في أي هيئة استعملت ويأتي البر (بفتح الباء) في مقابل البحر لاتساعه ، وكذا لفظ (بر) بالفتح أيضا إذا أطلق على الله عزوجل قال تعالى : (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [سورة الطور ، الآية : ٢٨] أي واسع خيراته وإفاضاته ، وكذلك إذا اطلق على الإنسان قال تعالى حكاية عن عيسى : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) [سورة مريم ، الآية : ٣٢] وقال عزوجل كذلك : (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) [سورة مريم ، الآية : ١٤] فانه يكون بمعنى كثرة الخير ومنه (البر) بالضم وهي الحنطة الغذاء المتسع لنوع الإنسان ولكنه لم يرد في القرآن الكريم.

ويجمع على «بررة» في القرآن الكريم ، قال تعالى : (مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ* بِأَيْدِي سَفَرَةٍ* كِرامٍ بَرَرَةٍ) [سورة عبس ، الآية : ١٦] وهو يختص بالملائكة والوجه في ذلك أنّ استعمال لفظ البر (الخيرات) أولى من لفظ البار لأنه أبلغ كقول زيد عدل أبلغ من عادل. والبار يجمع على الأبرار قال تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) [سورة الإنفطار ، الآية : ١٣].

ولهذا اللفظ استعمالات كثيرة في القرآن الكريم كلها مقرونة بالمدح والإختصاص بالمقامات العالية قال تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩٣] وقال تعالى : (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [سورة المطففين ، الآية : ١٨].

والمراد به في المقام هو كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من الخير والفعل المرضي.

ويأتي البر (بالكسر) بمعنى فعل الخير إن أضيف إلى الناس ، وإن أضيف إليه تعالى يكون بمعنى الاتساع في الثواب والإحسان.

وقبل (بكسر القاف وفتح الباء) هو الجهة والناحية.

والمشرق والمغرب هما جهتا قبلة أهل الكتاب. ويمكن أن يكون على

٢٨٥

سبيل المثال لكل جهة وعمل يعتقد كونه برأ ، كما يحتمل أن يكون كناية عن طرفي الإفراط والتفريط.

ويجوز رفع (البر) على أن يكون اسم ليس ، ويكون خبره جملة (ان تولوا). كما يجوز نصبه على ان يكون خبر ليس وجملة (ان تولوا) الاسم وهذان الوجهان جائزان في كل مورد يقع بعد (ليس) معرفتان فيجعل أيهما الاسم والخبر إلّا إذا اقترن أحدهما بالباء فيتمحض في الرفع ، قال تعالى : (لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٩]. ولا يفرق المعنى على الوجهين.

كما يصح ان يكون بمعناه المصدري مبالغة ، او يكون بمعنى الفاعل أي البار ، أو بالتقدير أي : ليس البر بر من آمن بالله فحذف المضاف.

والكل صحيح ولا ترجيح في البين بعد صحة الاستعمالات وبناء المحاورات عليها.

والمعنى : ليس البر بتولي الوجه قبل المشرق والمغرب وكل ما يعتقد كونه برا مما يوجب الدخول في الجنّة بزعمهم ، فنفى عزوجل البر عن كل ما يعتقده الإنسان برا إلّا ما تنطبق عليه الآية الشريفة.

وظاهر الخطاب وإن كان موجها إلى أهل الكتاب بدعوى ظهور لفظ (المشرق والمغرب) اللذين هما قبلة اليهود والنصارى ، فيكون توبيخا لهم في افتعالاتهم وردعا لذلك ولكنه من باب المثال لكل من كان خارجا عن الصراط المستقيم.

قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ). قرئ (لكن) بالتخفيف والتشديد وهذا هو القسم الأول الذي يتعلق بالاعتقاد والإيمان بالمبدأ والمعاد ، أي : إنّ البر يجب الاهتمام به هو الإيمان بالله الواحد الأحد حق الإيمان ، وابتدأ به لأنّه أساس كل بر وأصل كل خير ولا يكون كذلك إلّا إذا كان متمكنا في النفس بحيث يظهر أثره عليها بالتسليم والإذعان والخشوع والاطمينان فلا يهدم ايمانه بالشرك واتباع الهوى ومخالفة أحكام الله ، وبهذا

٢٨٦

الإيمان يكون الفرد كاملا ويرتفع من حضيض البهيمية إلى أوج الإنسانية.

قوله تعالى : (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). أي يوم القيامة والاعتقاد به يعني : الاعتقاد بعالم آخر يحيا فيه الناس للحساب والجزاء والايمان به يوجب سعي المؤمن لتحصيل ما ينجي به نفسه ويصرفها عن الحياة الفانية ولا يجعل أكبر همه الدنيا وحق الإيمان باليوم الآخر إنما هو في ما إذا ظهر أثره على الجوارح والجوانح.

وإنّما أخر سبحانه الإيمان باليوم الاخر عن الإيمان بالله لأنه لا يتحقق حقيقة الإيمان بالله إلّا بالإيمان باليوم الآخر لتلازم المبدأ والمعاد ورجوع كل منهما إلى الآخر.

قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةِ). تقدم في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) [سورة البقرة ، الآية : ٣٠] اشتقاق الكلمة ؛ والإيمان بهم لأنهم رسل الله تعالى إلى الأنبياء ، والإيمان بوجودهم إيمان بالوحي وسائر ما أنزل على الأنبياء والمرسلين ، والإيمان بهم إيمان بالغيب ، لأن الملائكة من عالم الغيب وإنكارهم إنكار الوحي والنبوة وبالأخرة إنكار لليوم الآخر ، وقد تقدم في قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) [سورة البقرة ، الآية : ٩٧] بعض ما يتعلق بالمقام ، ومن ذلك يعرف وجه تقديم الملائكة على الكتب.

قوله تعالى : (وَالْكِتابِ). المراد بالكتاب جنس كتب الله تعالى ، لعدم الاختلاف فيها أبدا بالنسبة إلى المعارف الإلهية والمبدأ والمعاد ، ولو كان اختلاف فهو في بعض الأحكام وهذا طبيعي بالنسبة إلى السير التكاملي الحاصل للإنسان ، أو القرآن الكريم فإنّ الإيمان به إيمان بجميع الكتب السماوية لذكرها فيه ، ولأنه أعظمها وأتمها وأجمعها ، وكتاب الله في الحقيقة هو قانون إلهي أنزل لتربية الإنسان وتكميله بجميع الكمالات الدنيوية والأخروية المشتمل على القواعد المتقنة والأحكام والعلوم التي ينتفع بها الإنسان في جميع نشأته.

ويصح أن يراد بالكتاب في المقام الكتب الأربعة التي أثبتها أهل

٢٨٧

العرفان من التدويني ، والتكويني ، والآفاقي ، والأنفسي التي يأتي شرحها في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

ويمكن أن يكون المراد بالكتاب جنس ما فرضه الله تعالى على عباده ولو على ألسنة أنبيائه.

والإيمان بالكتاب هو إيمان بما جاء به الأنبياء والمرسلون وهو يستدعي الامتثال بما جاء فيه.

وإنّما أتي عزوجل هذا اللفظ مفردا للإشارة إلى عدم الفرق بين جميع الكتب الإلهية ما لم يثبت النسخ بالقرآن فإنّ القانون واحد نزل من واحد لغرض واحد كما عرفت.

قوله تعالى : (وَالنَّبِيِّينَ). النبي هو معلم البشر من قبل الله تعالى يبين القانون الإلهي ، وهو يدعو إلى الكتاب والكتاب يدعو إلى النبي فهما متحدان في الواقع ومختلفان بالاعتبار بل يصح أن يقال : إنّ النبي عقل من الخارج والقوة المدركة للكتاب المميز بين الحق والباطل أو بين الخير والشر عقل من الداخل ، وكل منهما يدعو إلى الآخر فلا أثر لقول الأنبياء مع عدم العقل ، كما لا اثر للعقل مع عدم الاعتقاد بالأنبياء ، هذا ما أثبته أكابر الفلاسفة والمتكلمين في مباحث النبوة وتدل عليه نصوص كثيرة ستأتي في موردها.

والإيمان بالأنبياء هو الاهتداء بهديهم والاستنان بسنتهم وامتثال أوامرهم والانتهاء عما نهوا عنه.

وإنّما أتى سبحانه «النبيين» بلفظ الجمع للدلالة على أن المطلوب الإيمان بجميع الأنبياء لا سيما خاتمهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فإنّ الإيمان به إيمان بجميع من سبقه من الأنبياء لأنّه المخبر عنهم والحاكي قصصهم والناقل إلينا معاجزهم ، ولو لا ذلك ما وجدنا إلى معرفتهم سبيلا وبذلك تنتهي أصول الإعتقاد.

قوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ). من هنا يبتدئ القسم الثاني الذي يتعلق بتهذيب النفس بالأعمال الصالحة.

٢٨٨

الإيتاء : يأتي بمعنى الإعطاء ، والمال من (م ى ل) بمعنى التوجه والعطف ، وسمي المال مالا لأنه يميل من صاحبه إلى غيره ولا يبقى عنده أبدا. أو لميل الطباع اليه ، ويسمى عرضا أيضا. وقد ذكرت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة وسياق الجميع ليس سياق المدح قال تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) [سورة سبأ ، الآية : ٣٧].

والضمير في «حبه» يرجع إلى الله تعالى المدلول عليه سياق الآية الشريفة. أي : على حب الله خالصا لوجهه الكريم. ويصح أن يرجع إلى نفس المال يعني : انه على حبه للمال ينفقه.

وعلى الأول تستفاد الإضافة إلى الله عزوجل بالمطابقة ، وعلى الثاني بالالتزام لأن إنفاق المحبوب لا بد أن يكون لغرض أعلى وأجل وهو الله تعالى ، كما في قوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) [سورة الدهر ، الآية : ٨].

والمعنى : أنّ البر هو إعطاء المال مع حبه له وبذله على الأصناف الآتية طلبا لمرضاة الله وخالصا لوجهه الكريم.

قوله تعالى : (ذَوِي الْقُرْبى). أي : قرابة المعطي كما هو ظاهر اللفظ ، وحسن الإنفاق عليهم مما تحكم به فطرة كل ذي شعور لما يمت إليهم بصلة القرابة والنسب ويشدهم الرحم فيألم لهم أشد مما يألم لغيرهم إذا نزل فيهم حاجة أو فاقة ولذا قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لا صدقة وذو رحم كاشح» لأنّ الصدقة على غير ذوي القربى وهم معدمون محتاجون بعيدة عن الفطرة ويحكم بمرجوحيتها العقل والعقلاء.

ويحتمل أن يراد به قرابة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ويكون الإنفاق عليهم أبعد من الدواعي النفسانية وأقرب إلى مرضاة الله تعالى ، فيكون المراد بالمال المال الذي جعله الله تعالى لهم في سورة الأنفال.

قوله تعالى : (وَالْيَتامى). اليتيم في الإنسان كل صبي انقطع عن أبيه ، وفي الحيوان ما انقطع عن أمه ، كما تستعمل المادة في كل شيء

٢٨٩

ينحصر بالفرد في نوعه ، يقال : درة يتيمة. والجامع هو الانقطاع. وتستعمل في القرآن الكريم كثيرا مفردا وجمعا قال تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) [سورة الضحى ، الآية : ٩] وقال تعالى : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) [سورة النساء ، الآية : ١٢٧].

والإنفاق على اليتيم مع انقطاعه عن من يكفله مما يحكم بحسنه الفطرة ، ويحبذه العقل والعقلاء.

قوله تعالى : (وَالْمَساكِينَ). المسكين هو الذي أسكنه الفقر والحاجة وألزمه الحياء والعفة عن السؤال فيكون أشد

فقرا من مطلق الفقير ، ولكنه أعم استعمالا منه ، إذ يستعمل في غير الفقراء أيضا قال الشاعر :

مساكين أهل الحب حتى قبورهم

علاها تراب الذل بين المقابر

وفي دعاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين» والمراد به الخضوع وذل العبودية لله تعالى الذي هو أعلى درجات الغنى. وفي مساعدتهم تجيب لهم وانقاذ لنفوسهم المنكرة.

قوله تعالى : (وَابْنَ السَّبِيلِ). وهو المسافر البعيد المنقطع عن أهله وقرابته حتّى كان السبيل ربّاه وبمنزلة أبيه ، وفي التعبير من اللطف ما لا يخفى.

قوله تعالى : (وَالسَّائِلِينَ). وهم الذين اضطرتهم الحاجة إلى السؤال والتكفف.

قوله تعالى : (وَفِي الرِّقابِ). أي : عتقهم أما بالشراء أو بإعانتهم ليؤدوا مال الكتابة فيعتقون بمقتضى القرار الذي وقع بينهم وبين مواليهم. وتشمل المديونين من الناس الذين عليهم الدين ولم يتمكنوا من أدائه المعبر عنهم ب (الغارمين) كما في آية أخرى وهي : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ) [سورة التوبة ، الآية : ٦٠] وذلك لأنّ رقبته مرهونة عند الدائن لأجل

٢٩٠

الدين.

قوله تعالى : (وَأَقامَ الصَّلاةَ). إقامة الصّلاة هي أداؤها كاملة بحدودها والمواظبة عليها والالتزام بإتيانها في أوقاتها. وهي من أعظم مظاهر العبودية وأقوى الروابط الروحانية بين المخلوق وخالقه إذا أقيمت بشرائطها ، وهي أول دعوة الأنبياء وآخر وصية الأوصياء ولها الآثار العظيمة في تزكية النفوس وتطهيرها من الرذائل والفحشاء ، وبسببها يكون الشخص خاضعا خاشعا ، وبها يصل الإنسان إلى جنة اللقاء ولذا اعتبرها الله تعالى من البر الذي يوجب الوصول إلى الكمال. وقد تقدم في قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٣] بعض ما ينفع المقام.

قوله تعالى : (وَآتَى الزَّكاةَ). أي أعطى الزكاة المفروضة على وجهها المطلوب شرعا. والزكاة من أقوى الروابط بين أفراد المجتمع وهي ركن من أركان الإسلام وبها يستكمل المؤمن ايمانه ، وهي قرينة الصلاة في القرآن الكريم في عدة مواضع قال تعالى : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) [سورة التوبة ، الآية : ٥] وقال تعالى حكاية عن عيسى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) [سورة مريم ، الآية : ٣١] وقال تعالى : (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) [سورة مريم ، الآية : ٥٥] وقال تعالى : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [سورة التوبة ، الآية : ٧١].

فان في الصلاة تهذيب الروح وفي الزكاة توثيق الصلات والروابط والإنسان الكامل هو الجامع بينهما ، ولو عمل المسلمون بهاتين الخصلتين لنالوا ذرى المجد وفاقوا الجميع.

قوله تعالى : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا). هذا هو القسم الثالث من الخصال التي هي البر في الأخلاق وتهذيب المجتمع وهي الوفاء بالعهد ، والصبر في الأمور. والوفاء بالعهد مما يجب بفطرة العقول ، وهو يشمل العهود الواقعة بين النّاس بعضهم مع بعض ، والعهود الإلهية مع الخلق التي هي عبارة عن التكاليف الشرعية والمستقلات العقلية كقبح الظلم وحسن العدل.

٢٩١

وحفظ العهود ـ ومنها العقود ـ حفظ كيان المجتمع وحفظ الوحدة بين الأفراد وبه تتم الثقة بينهم.

قوله تعالى : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ). البأساء أنحاء الفقر والشدة. والضراء أنحاء العلل والأمراض وموت الأحبة. والبأس الحرب ومنه قول علي (عليه‌السلام) : «كنا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فلم يكن أحد منا أقرب الى العدو منه» و (حين) أي : حين القتال ومقاتلة العدو. والجامع بين البؤس والبأس والبأساء هو شدة الكروب بالمراتب المختلفة.

والصبر محمود في جميع الأمور وفي جميع الأحوال ، وإنما خص هذه المواطن لما فيها من الفضيلة الكبرى ، فان بالصبر في شدة الفقر وتسليم الأمر اليه تعالى يهون على الصابر شدة وطأته ويسلمه عن المخاطر ، وكذا في الصبر في الضراء ، فان بالصبر عليها يحصل الشكر والثبات والسلامة في المآل ، كما أن الصبر في الحرب ومقارعة العدو نصرة الحق والسلامة من الضلال والارتداد. وبالصبر في هذه المواطن يوجب توطين النفس في غيرها فقد أمكن الصبر من نفسه فيكون على غيرها أصبر.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا). أي : إنّ الذين جمعت فيهم هذه الخصال هم الذين اتصفوا بالصدق في دعواهم الإيمان فاتصفوا بصدق النية والأقوال والأعمال.

قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). الذين اتقوا بأنفسهم عن حضيض الحيوانية ومتابعة الشيطان وأوصلوها إلى أوج مقام الإنسانية ومتابعة الرحمن فاتخذوا لأنفسهم وقاية عن سخطه وخذلانه في الدنيا والآخرة.

وترتب الحكمين على جميع ما سبق من ترتب المعلول على العلة التامة المنحصرة.

٢٩٢

بحوث المقام

بحث دلالي :

يستفاد من الآية المباركة أمور :

الأول : تقدم أنّ في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) فيه من روعة الأسلوب وبلاغته ما لا يخفى ، فانه يخرج الكلام من الفرض والتقدير إلى الوقوع ، فكأن البر هو الإيمان وما ذكرت في الآية من الصفات والأعمال باعتبار تمثلها في الشخص وهذا أبلغ تأثيرا في النفس من اسناد المعنى إلى المعنى ، والغرض من ذلك هو الإشارة إلى تحققها والإحتجاج بمن تلبس بها ، لا مجرد المقابلة بين البر وتولية الوجه ومن لم يكن متلبسا به.

الثاني : يستفاد من الآية الشريفة تحقق من عمل بها لكونها في مقام الإحتجاج ولا ريب في أن أكمل فرد وأجلى مصداق من اجتمعت فيه هذه الخصال الأنبياء خصوصا سيدهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومن يتلو تلوه الذي نزله رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) منزلة نفسه فقال «علي مني بمنزلة هارون من موسى» على ما رواه الفريقان ، مع أنا قد اثبتنا في محله انه لا يمكن ان تخلو الأرض من حجة لله قائمة.

الثالث : أنّ الشرط في قوله تعالى : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) إشارة إلى شمول العهد للعهود المتقومة بالإثنين أو العهد القائم بشخص واحد. وفيه من التعريض إلى من يخالف العهد وخروجه عن مقتضى الفطرة ما لا يخفى.

الرابع : أنّ النفي والإثبات دليل الحصر كما هو الثابت في العلوم الأدبية ، والآية الكريمة تنفي البر مطلقا بنفي أبرز جهاته وأظهر آثاره وهو تولّي الوجه قبل المشرق والمغرب وتثبته في المذكورات فلا بر مطلقا إلّا في ما تضمنته وهي كمالات فردية ، واجتماعية ، دنيوية ، واخروية وهي الصراط المستقيم الذي أمرنا باتباعه وغيرها من السبل التي أمرنا بالابتعاد عنها.

الخامس : إنّما قدم سبحانه وتعالى الإيمان بالله لأنه رأس كل

٢٩٣

بر ، ولعدم الفائدة في الجميع إلّا به ، ثم ذكر الإيمان باليوم الآخر للتلازم بين المبدإ والمعاد. ثم ذكر الملائكة ، لأنّهم رسل الوحي ووسائل الفيض الربوبي ثم ذكر الكتب ، لأنّها الوحي المبين المنزل من الله تعالى بواسطة الملائكة على الأنبياء والمرسلين ، ثم ذكر إيتاء المال ، لأن الإيمان لا بد وان يظهر آثاره على العمل ومن أشد الأعمال هو إعطاء المال وبذله لكثرة علاقة النفوس به ، ولذا قال علي (عليه‌السلام) : «ينام الرجل على الثكل ولا ينام على الحرب» ثم ذكر إقام الصّلاة لأنها أول الفرائض وأرفعها شأنا في تهذيب النفس ثم ذكر إيتاء الزكاة لأن بها يستكمل الإنسان إيمانه فإن الصّلاة يلاحظ فيها الجانب الروحي ، وفي الزكاة يلاحظ الجانب العلمي المادي. ثم ذكر الوفاء بالعهد ، لتقوم الجانب الأخلاقي في جميع التكاليف الإلهية والعهود المراعاة بين الخلق بالوفاء به ثم ذكر الصبر أخيرا لأن في الإخلال بالعهد ونبذه إيماء إلى إعلان الحرب وهو يتقوم بالصبر ، أو لأن جميع الأمور المذكورة إنما تتقوم وتتحقق بالصبر ، وعدم الظفر بالنتيجة إلّا به ولذا أخره عن الجميع كتأخر الغاية عن ذيها.

السادس : أنّ الآية الشريفة مشتملة على أصول هي أصول نظام الإنسانية الفردية والاجتماعية وهي محور جميع الشرايع الإلهية ، وأساس الفلسفة العملية ، وبها يرتبط الإنسان بعالمي الغيب والشهادة وهي :

الأصل الأول : الإيمان بالله واليوم الآخر ، وهو الكمال الذي ليس فوقه أي كمال ، وينطوي فيهما ما أوحي على المرسلين وهما أساس ما استلهمه أهل الفلسفة العلمية والعملية. ولا ريب في أنّ الإيمان كذلك له مراتب متفاوتة.

الأصل الثاني : الإيمان بالملائكة بما انهم وسائط في التدبير والتنظيم وإتقان الصنع فهم وسائط فيض الله تعالى ؛ فكما أنّ شكر المنعم واجب بحكم العقل كذلك يجب شكر الوسائط ، والشكر لا يتحقق إلّا بعد المعرفة.

والملائكة من عالم الغيب الذي هو مقابل عالم الشهادة التي نحن فيها المتضمنة لأنواع الحيوان والنبات والجماد ، ولا يمكن درك أسراره وان بذل

٢٩٤

غاية الجهد.

الأصل الثالث : الإيمان بالكتب والأنبياء معلمي البشرية وهاديها ولا يخفى أنّ بالتعلم والتعليم يقوم نظام إنسانية الإنسان وإلّا لبقي على أصل الحيوانية ، وان بهما يتحقق السير الاستكمالي له وانهما وسيلة لإخراج ما هو المكنون في الكون من الأسرار ، ولا يتحققان إلّا بقوانين تنظم شؤون الفرد والمجتمع وترشده إلى الطريق المستقيم ومعلم يهديهم إلى ذلك. والأول هو الكتاب والثاني هو النبي ، وبدونهما يكون التشريع لغوا وباطلا وهو محال عليه تعالى ، والجميع يرجع إليه تعالى فهو أول من وضع الكتاب وأول واضع لنظام التعليم والتعلم وأول من أرسل المعلم ، والآيات القرآنية تبين ذلك بوضوح.

الأصل الرابع : إيتاء المال وبذله لأن كل مجتمع ـ بدائيا كان أو حضاريا ـ فيه طبقات تختلف في الغنى والفقر ، وهذا من مقتضيات نفس العالم إن لوحظت بالنسبة إلى النظام الأحسن ، وحينئذ يحكم العقل بحسن بذل المال وعدم احتكاره تقديما لحفظ المجتمع على مالكية الفرد أو سدا لحاجة الفقراء أو دفعا لسطوة الأغنياء ، وهذا هو الأصل الذي ارتضاء العقلاء وقررته الكتب السماوية خصوصا القرآن الكريم ولذلك كله حدود وقيود مذكورة في الفقه الإسلامي.

ولا يقال : إنّ بذل المال مجانا يوجب ازدياد الكسل والبطالة ، وبالأخرة الفساد الاجتماعي والأخلاقي ولأجل ذلك أنكرت بعض المذاهب الاقتصادية الصدقات والعطيات والكفارات.

وفساد ذلك بيّن فإنّ الشرايع الإلهية التي تحبذ على الصدقات والعطيات إنما تجعل حدودا وقيودا في بذلها منها الحاجة الماسة أي : فقر الآخذ ، وعجزه عن التكسب اللائق بحاله ، كما أنّ اهتمام العقلاء ببذل المال إنما هو لأجل عدم تمركز الثروة في فئة قليلة بل لا بد من توزيعها بالتدريج ـ بمثل ما هو المقرر في الشريعة ـ لئلا «يتبيّغ [يتأثر] بالفقير فقره».

الأصل الخامس : إقام الصّلاة بما فيها من الارتباط بعالم الغيب والاستمداد منه ، وفيها تتحقق المخاطبة بين العابد والمعبود ويتجلّى المعبود

٢٩٥

في مظاهر عبودية العابد ، وليس المراد من إتيان الصّلاة هو مجرد الذكر اللساني والأفعال الخاصة الفاقدة لروح العبودية بل المراد إقامتها على وجهها المطلوب شرعا بشرائطها الخاصة لتؤثر آثارها العظيمة ، وقد ذكر لها الفقهاء شروطا خاصة مذكورة في كتب الفقه وهي شرائط الصحة. وأما شرائط القبول فقد جمعها سبحانه وتعالى في قوله : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [سورة المائدة ، الآية : ٢٧].

الأصل السادس : إيتاء الزكاة المفروضة ، وهي أقل جزء وأيسر ما فرضه الله تعالى على الأغنياء لرفع حاجة المحتاجين ، ومن تتبع تاريخ الحضارات ويلاحظ تاريخ الإسلام والمقارنة بينهما يرى بوضوح اهمية هذا التكليف في رفع كثير من المشكلات الاقتصادية الناشئة من تكتل الثروات والفقر ولقد راعى الإسلام في الزكاة المفروضة حق المالك وحق الفقير ولأجل ذلك كان لهذا التكليف أهمية عظمى في تاريخ الإسلام والمسلمين. وقد جعل الشارع لها حدودا وقيودا في الصرف والمصرف مذكورة في كتب الفقه وتعرضنا لها في كتابنا [مهذب الأحكام].

الأصل السابع : الوفاء بالعهد ، والأهمية حفظ العهد في المجتمع الإنساني أكد عليه سبحانه وتعالى في مواضع متعددة في القرآن الكريم وذلك لأن في نقض العهد انهيار للوحدة المتجانسة بين أفراد المجتمع وحلول الغدر والخيانة والفحشاء فيهم بدل الصلح والوئام والاحترام.

الأصل الثامن : الصبر وهو الركيزة الأولى في كل عمل يعمله الإنسان في حياته العملية فإن بالصبر يصل الفرد إلى كماله اللائق بحاله أو بالصبر يتصف الفرد بالأخلاق الفاضلة ، فتكون نسبته إلى سائر الخصال كنسبة الروح الى الجسد ، ونظام الأفعال التكوينية يقوم على التأني والتأمل فضلا عن الأفعال الاختيارية ، فهو محبوب في كل موطن وكل حال. وإنّما اقتصر سبحانه على ذكر «البأساء والضراء وحين البأس» لأهمية هذه المواطن ولأن الصبر فيها يمكن الإنسان على الصبر في غيرها بطريق أولى.

بل يمكن أن يكون المراد من «حين البأس» حين المجاهدة مع النفس

٢٩٦

المعبر عنها بالجهاد الأكبر ، لتقومه بالصبر والثبات أكثر مما يتقوم به الجهاد الأصغر.

بحث أدبي :

ذكرنا أنّه يجوز قراءة «ليس البر» بالنصب على أنه خبر مقدم أو بالرفع على أنه اسم ، وهذا جار في كل مورد يكون بعد (ليس) المعرفتان.

وقوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) إخبار عن المعني بالذات وهو من أحسن أساليب الفصاحة والبلاغة ، وهو يرجع إلى تغيير أسلوب الكلام من بيان الصفات إلى بيان الذات المتصفة بها لبيان إجلال تعظيم مثل هذه الذات ، وان المقصود إنما هو الذات المتصفة لا مجرد تعداد الصفات.

فما ذكره بعض المفسرين وغيرهم في المقام من التقدير وحذف المضاف صحيح بحسب القواعد النحوية ولكنه لا يفيد ما ذكرناه من براعة الأسلوب وحسن تأديته. وله نظائر كثيرة في الأساليب العربية الفصحى ، قال الحطيئة :

وشر المنايا ميت وسط أهله

كهلك الفتى قد أسلم الحي حاضره

وأما رفع قوله تعالى : (وَالْمُوفُونَ) فلأجل العطف على «من آمن» ، كما أنّ نصب «والصابرين» يكون على المدح والإختصاص.

ويمكن أن يكون الرفع والنصب كلاهما على المدح أي : وهم الموفون وأعني الصابرين ، لأن النعوت والصفات إذا طالت جاز الاعتراض بينهما بالمدح أو الذم ، قال الشاعر :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وذا الرأي حين تغم الأمور

بذات الصليل وذات اللجم

فنصب ليث الكتيبة ، وذا الرأي على المدح. والأحسن هو الاختلاف في الإعراب في المقام ليكون النصب في «الصابرين» إشارة إلى أنّ في المقام سرا مكنونا ، وهو بيان مقام الصبر وأهميته.

٢٩٧

بحث فقهي :

تدل الآية المباركة على جملة من الأحكام الفقهية :

الأول : إنّها تدل على رجحان إيتاء المال وبذله في إعانة المحتاجين والهدايا وصرفه في الخير وهو محبوب عقلا أيضا ، إلّا أنه قد يكون واجبا كالزكاة ، والكفارات ، والنذور ، وأداء الديون.

وقد يكون مندوبا وهو في ما إذا كان يراعى فيه الوظيفة الشرعية ولم يصل إلى الصرف المحرم وله مصاديق كثيرة مذكورة في كتب فقه الفريقين. والظاهر أن قوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) ناظر إلى القسم الثاني لذكر الزكاة بعد ذلك ، ويمكن أن تكون الزكاة مثالا لجميع الحقوق الواجبة المالية.

الثاني : القيد في قوله تعالى : (عَلى حُبِّهِ) قيد توضيحي إن رجع إلى حب المال لأنه أمر غريزي مركوز في الإنسان أو أنه يرجع إلى حفظ النفس من الهلاك وهو أمر فطري أيضا. وان رجع إلى الله تعالى يصح أن يكون احترازيا ، لأن النّاس يختلفون في ذلك إلّا أن يقال إنّ الآية وردت في وصف الأبرار ، وصرفهم للمال لا يكون إلّا لله تعالى ، قال عزوجل : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) [سورة الدهر ، الآية : ٩].

الثالث : لا يعتبر الفقر في ما ذكر من الأصناف سوى المسكين لعدم كون دفع المال من باب الصدقة الواجبة بل أعم منها. نعم لو كان بعنوان الصدقة الواجبة يعتبر الفقر في موردها.

الرابع : ذكر تعالى السائلين ، والسؤال إن كان لأجل الاضطرار وحفظ النفس يجوز ، بل قد يجب وإن كان لغير ذلك يكره ، بل قد يحرم. فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من فتح على نفسه باب مسألة فتح الله عليه باب فقر» ؛ وعن الصادق (عليه‌السلام) : «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم ـ إلى ان قال ـ والذي يسأل الناس وفي يده ظهر غنى» ، وعن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «لو يعلم السائل ما في المسألة ما

٢٩٨

سأل أحد أحدا ، ولو يعلم المعطي ما في العطية ما رد أحد أحدا ، ومن سأل وهو بظهر غنى لقي الله مخموشا وجهه يوم القيامة».

ويكره رد السائل مطلقا ، فقد ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أيضا : «للسائل حق وان جاء على ظهر فرسه».

الخامس : يستفاد من الآية الكريمة انه يجوز صرف الزكاة في جميع الموارد التي ورد فيها مع تحقق الشرائط المذكورة في الفقه.

السادس : الظاهر أنّ المراد من قوله تعالى : (ذَوِي الْقُرْبى) قرابة المعطي ، ولكن يحتمل ان يكون قرابة للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما في قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [سورة الأنفال ، الآية : ٤١].

بحث روائي :

في تفسير القمي في قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) قال (عليه‌السلام) : «هي شروط الإيمان الذي هو التصديق».

أقول : الظاهر أنّ مراده (عليه‌السلام) بالإيمان الإيمان الكامل الذي يدخل به المؤمن في زمرة الأبرار والصديقين.

وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان».

أقول : ولا ريب في ذلك لأن الآية الشريفة ، كما مر جامعة للاعتقادات والأعمال الجوارحية ولا معنى لكمال الإيمان إلّا جامعية المؤمن للمعتقدات الصحيحة والأعمال الصالحة. ويستفاد من الآيات الواردة في مدح الأبرار ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [سورة

٢٩٩

مريم ، الآية : ٩٦] وقال تعالى : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ* لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [سورة النور ، الآية : ٣٨].

ولكن الآية الشريفة هي أجمع الآيات التي ذكر فيها درجات الأبرار ومنازلهم في الآخرة. وتبين الملازمة بين كون الإنسان برا في هذه الدنيا ـ بالمعنى المذكور فيها ـ وكونه من الأبرار في الآخرة فتكون حقيقته في جميع النشآت واحدة وان السبق إلى البر في هذا العالم ملازم لكونه من السابقين في الآخرة ، قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [سورة الواقعة ، الآية : ١٠].

وفي الدر المنثور عن أبي عامر الأشعري : «قلت يا رسول الله ما تمام البر؟ قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : أن تعمل في السر ما تعمل في العلانية».

أقول : في سياق ذلك روايات متواترة من الفريقين ، ويدل عليه حكم العقل ، لأن المخالفة بين السر والعلانية نفاق ، ويشهد لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ذيل الآية الشريفة : (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) إذ لا معنى للصديق إلّا من طابق قوله فعله وسره علانيته.

في مجمع البيان عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما‌السلام) : ذوي القربى قرابة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

أقول : يمكن أن يكون ذلك من باب أشرف المصاديق كما تقدم ما يدل على ذلك.

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «الفقير الذي لا يسأل النّاس والمسكين أجهد منه والبائس أجهدهم».

أقول : ذكرنا ذلك في الفقه مفصلا ، من شاء فليراجع كتاب الزكاة من كتابنا [مهذب الأحكام].

في التهذيب عن الصادق (عليه‌السلام) : «سئل عن مكاتب عجز عن

٣٠٠