مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) عدم الاستقامة والإستواء كما هو الشأن في الخطوات فانها لا تكون بمستوى واحد والا لكان التعبير بالصراط ونحوه.

بحث أدبي :

أدوات الاستفهام كثيرة والأصل فيها «الهمزة» والباقي من المتفرعات والشؤون والحالات ؛ ولذا اختصت همزة الاستفهام بأحكام خاصة في المحاورات لا تجري في غيرها من سائر الأدوات.

منها : أنّ ورودها لطلب التصور تارة ولطلب التصديق أخرى ، وسائر الأدوات تختص بالأول إلا «هل» فإنّها تختص لطلب التصديق فقط.

ومنها : تمام التصدير فتتقدم على حرف العطف ، لأصالتها في الصدارة مطلقا. ولذلك أمثلة في القرآن الكريم قال تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ١٠٤] وقال تعالى : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) [سورة يونس ، الآية : ٥١] وقال تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) [سورة الحج ، الآية : ٤٦] وأما بقية أدوات الاستفهام فتتأخر عن العطف قال تعالى : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٠١] وقال تعالى : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) [سورة التكوير ، الآية : ٢٦] ، وقال تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [سورة غافر ، الآية : ٦٢] وقال تعالى : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) [سورة الأحقاف ، الآية : ٣٥] وقال تعالى : (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) [سورة الأنعام ، الآية : ٨١].

ثم إنّهم قد ذكروا معاني كثيرة للهمزة منها : التهكم ، والتعجب والأمر ، ونحوها وجعلوها من متعدد المعنى ، والظاهر انه من الخلط بين دواعي الاستعمال والمستعمل فيه ، وكم لهم من مثل هذا الخلط في الألفاظ.

بحث روائي :

في التهذيب عن منصور بن حازم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «ان

٢٦١

طارق النخاس قال : إني هالك خلعت بالطلاق والعتاق والنذر فقال له (عليه‌السلام) : يا طارق إنّ هذه من خطوات الشيطان».

وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : في قوله تعالى : (لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) قال (عليه‌السلام) : «كل يمين بغير الله فهي من خطوات الشيطان».

وفيه أيضا عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل حلف ان ينحر ولده فقال (عليه‌السلام) ذلك من خطوات الشيطان».

أقول : الروايات في أن الحلف بالطلاق أو الحلف على شيء مرجوح شرعا من خطوات الشيطان جميع ذلك من باب ذكر بعض المصاديق وإلّا فكل ما لم يرد به وجه الله تعالى ولم يكن مطابقا لرضائه جل جلاله فهو من خطوات الشيطان سواء كان من الأعمال والأفعال أو المعتقدات.

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «إياك وخصلتين ففيهما هلك من هلك : إياك أن تفتي النّاس برأيك أو تدين بما لا تعلم».

أقول : هذا محمول على ما إذا لم تكن حجة معتبرة في البين وإلّا فان كان مطابقا للموازين الشرعية فهو محبوب لله تعالى ومرغوب اليه في السنة المقدسة.

وفي المجمع عن الباقر (عليه‌السلام) : (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) قال (عليه‌السلام) : «أي مثلهم في دعائك إياهم إلى الإيمان كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم وإنما تسمع الصوت».

أقول : تقدم ما يتعلق بها.

وفي الدر المنثور في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) : انها نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة حرّموا على أنفسهم من الحرث والأنعام».

٢٦٢

أقول : لو صح السند فهو بيان لبعض مصاديق العام.

بحث فقهي :

استدل الفقهاء بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) وجملة أخرى من الآيات الكريمة على إباحة الأشياء وحليتها إلّا ما قام الدليل المعتبر على الحظر والحرمة من الكتاب العزيز والسنة المقدسة ، والإجماع المعتبر ، فان هذه الآية الشريفة صريحة في الإذن بالانتفاع فيما ليس فيه نهي شرعي.

ولكن عن جمع آخرين عكس ذلك وقالوا بحرمة الانتفاع بالأشياء مطلقا وان الأصل في الأشياء الحظر إلّا ما دل الدليل على الإباحة ، واستدلوا بأدلة قابلة للمناقشة تعرضنا لتفصيلها في الأصول ومن شاء فليراجع كتابنا [تهذيب الأصول].

ثم إنّه قد يستدل بمثل هذه الآيات على بطلان التقليد مطلقا في فروع الدين فضلا عن أصوله ، لأنه تعالى إنما ذم الكفار باتباعهم لآبائهم.

ولا ريب في بطلان الاستدلال أما أولا : فلأنّ الآيات الشريفة ظاهرة في التقليد في أصول الدين وانما ذم تعالى الكفار باتباعهم الآباء في الباطل والدعوة إلى الأوثان والأصنام ولم يقل أحد من المسلمين بجواز التقليد كذلك.

وأما ثانيا : فلأن التقليد في الحق ومتابعة من يحكم عن السنة المقدسة المنتهية إلى الله تعالى متابعة له عزوجل ، والتقليد كذلك أصل من أصول الدين ، وملجأ يلجأ إليه الجاهل الذي لا يمكنه النظر والاستدلال.

والتقليد والمتابعة في أمور الدين مأخوذ على نحو الطريقية لا الموضوعية بوجه من الوجوه ؛ والبحث محرر في الفقه والأصول فراجع كتابنا [مهذب الأحكام].

ثم إنّ التقليد المبحوث عنه في المقام هو التقليد في أمور الدين ، وقد ذكرنا أنّه لا يجوز في أصول الدين وأما في فروعه فهو فرض العامي الذي لا

٢٦٣

يتمكن من استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية ، وأما التقليد والمتابعة في غير ذلك من أمور المعاش كلها ـ كالصنايع والحرف وغيرهما ـ مما ليس فيه منع شرعي فهو صحيح بل قد يجب ان كان من الواجبات النظامية ولم يرد نهي شرعي عنه ، كما انه ليس من متابعة خطوات الشيطان.

بحث اجتماعي :

المتابعة والتقليد هو العمل بما شرعه المتبوع وجعله سواء كان التابع قد قصد المتابعة أو لا. وبعبارة أخرى : المتابعة انطباقية لا أن تكون قصدية ، وهي سنة من سنن الاجتماع الإنساني بل هي من غرائز الإنسان لا سيما في المراحل الأولى من حياته ، ولعلماء الاجتماع في ذلك كلام طويل بل يظهر من بعضهم أنها من أسباب رقي الفرد أو الأمة ، ولم يصل أحد إلى مرتبة الكمال إلّا بفضل المتابعة والتقليد والمحاكاة.

والظاهر أنّ القرآن الكريم لم ينه عن التقليد على النحو الكلي وإنما اعتبر في التقليد الذي يمكن أن يحقق الفائدة للفرد أو المجتمع أمرين.

الأول : أن يكون التقليد عن حق وفي حق فلا يكون إلّا ممن له الكمال والهداية والصلاح قال تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [سورة يونس ، الآية : ٣٥] فإنّ تبعية شخص لشخص آخر لا بد وأن يرى في المتبوع جهة كمال ليستفيد منه في ارتقاء العقل بلا فرق بين ان تكون هذه التبعية شخصية أو نوعية دينية أو دنيوية ويدل على ذلك قوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) فجعل المناط في أمر التقليد عقل الآباء واهتداؤهم وقال تعالى : (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [سورة يونس ، الآية : ٨٩] فتكون التبعية حينئذ تبعية العقل والكمال وبالأخرة ترجع إلى تبعية رضوان الله تعالى والأمر الإلهي قال تعالى : (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٥٧] وفي غير ذلك لا تكون إلّا متابعة للنفس الأمارة ومتابعة الهوى التي لا يجتنى منها إلّا الفساد والضلال ويكون مآلها إلى النار

٢٦٤

قال تعالى : (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) [سورة نوح ، الآية : ٢١] والداعي إلى هذا التقليد هو الشيطان لأنه من طرق غوايته وإضلاله قال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) [سورة لقمان ، الآية : ٢١].

الثاني : أن تكون الغاية من التقليد هي الاستكمال لا مجرد المحاكاة التي لا يخلو عنها الحيوان قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [سورة التوبة ، الآية : ١٠٠] ، وقال تعالى : (يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) [سورة غافر ، الآية : ٣٨] ويستفاد ذلك مما ورد في قصة موسى والخضر قال تعالى : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) [سورة الكهف ، الآية : ١٨] وقال تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) [سورة الزمر ، الآية : ١٨] والآيات في ذلك كثيرة منطوقا ومفهوما.

وبالجملة : إنّ ذم التقليد والتشنيع على من يقلد الآباء ليس لأجل نفس التقليد والمتابعة بل لأجل عدم توفر الشروط التي حددها القرآن الكريم فيه ، فيرجع إلى متابعة الشيطان والنفس الأمارة ومتابعة الهوى التي هي من أهم أسباب الضلال والابتعاد عن الحق.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣))

بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السابقة أنّ أمر الدين وتشريع الأحكام لا بد وأن يكون منه تعالى ، وفي غير ذلك يكون من خطوات الشيطان ، وأبطل التقليد في الدين ، وجّه الخطاب في هذه الآيات إلى المؤمنين لأنهم أولى من غيرهم وأباح لهم الطيبات ثم حدد لهم بعض ما يجب اجتنابه من المطاعم ولذلك لا بد لهم من الشكر الدائم له تعالى.

٢٦٥

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ). الأكل معروف ، والطيّب (بالتشديد) ما تستلذه النفس. وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة إلّا انه لم يرد فيه الطيب (بالتخفيف). وهو في مقابل الخبيث وكل ما نهى عنه الشرع يكون خبيثا واقعيا وإن استلذته النفس ، فما هو في معرض أكل الإنسان على أقسام ثلاثة : الطيبات ، والخبائث ، والمصائب. والمحرمات وإن لم تكن من الخبائث الظاهرية عند النّاس والحلال هو الأول فقط دون الأخيرين.

والأمر هنا استعمل في إنشاء الطلب بداعي الترخيص والإباحة لا بداعي الطلب الحقيقي ، فلا يستفاد منه سوى الإباحة والترخيص لا الوجوب بقرينة قوله تعالى : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٥٧].

وتوجيه الخطاب للمؤمنين خاصة ، لأنّهم هم المقصودون في تحليل الطيبات وان الغرض الأهم إنما هو انتفاع أهل الإيمان منها ، كما إذا أجرى شخص ماء ليشرب هو وأهله منه وينتفع به في زرعه فتشرب منه الحيوانات ، فالمؤمن هو الغاية وأنه أولى من غيره ، ولذا تكون الطيبات خالصة لهم يوم القيامة قال تعالى : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [سورة الأعراف ، الآية : ٣٢]. أو أنه تعالى خصهم بالذكر تفضيلا.

قوله تعالى : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ). الشكر إظهار نعمة المنعم على نحو من التعظيم اما بالقلب وهو تصور نعمة المنعم ، أو باللسان وهو الثناء عليه ، أو بالجوارح والأركان وهو مكافآت النعمة بقدر الاستحقاق وحينئذ فان كان المنعم غير الله تعالى فالأمر واضح وأما إن كان هو عزوجل فلا أثر للشكر إلّا استكمال الشاكر قال تعالى : (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) [سورة النمل ، الآية : ٤٠] فالشكر لله أي شكر نعم الله التي خلقها وأباحها وسهّل الانتفاع منها فانها كلها من فضله ومننه وإحسانه.

والشكر كما يظهر ـ من الآيات والروايات ـ من أجلّ مقامات الإنسان

٢٦٦

وأفضل درجاته ، ويكفي في ذلك النداء الربوبي : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [سورة ابراهيم ، الآية : ٧] وقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في المتفق عليه من جوامع كلماته المباركة : «الطاعم الشاكر له من الأجر كأجر الصائم المحتسب ، والمعافى الشاكر له من الأجر كأجر المبتلى الصابر ، والمعطى الشاكر له من الأجر كأجر المحروم القانع». وهو من العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى.

ولا يحتاج فيه إلى قصد القربة لكن يضره الرياء ولا يختص بخصوص النعم الحادثة للشاكر بل هو ممدوح في نفسه وبالنسبة إلى النعمة الحادثة في المستقبل.

والظاهر انه لم يرد تحديد خاص في الشكر بل يكفي مطلقه ، فقد قال الصادق (عليه‌السلام) : «شكر كل نعمة وان عظمت ان تحمد الله عزوجل عليها» وعنه (عليه‌السلام) أيضا : «ما أنعم الله على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال : الحمد لله إلّا أدّى شكرها».

وللشكر درجات ومراتب منها الشكر القلبي قال الصادق (عليه‌السلام) : «من أنعم الله عليه بنعمة فعرفها بقلبه فقد أدى شكرها». ومنها الشكر بالتقوى وترك المعاصي التي هي من أفضل مراتبه ، قال الصادق (عليه‌السلام) : «شكر النعمة اجتناب المحارم» ويظهر ذلك من قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٢٣] فيتحقق بالقلب واللسان وأعمال الطاعات واجتناب المحرمات.

ومورد الشكر ليس هو النعم الدنيوية فقط بل الأخروية أيضا كالتوفيق للإيمان وإتيان الطاعات والعبادات والسعي في قضاء حوائج النّاس ، الواردة من الله تعالى فإنها توجب رفع الدرجات وتكفير السيئات وهي مما يوجب الشكر عليها.

قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ). احتجاج على وجوب الشكر بأحسن بيان ؛ يعني : إذا كنتم إياه تعبدون ، لأنه إلهكم ومعبودكم فاشكروه لأنه المنعم عليكم ؛ أو إن كنتم تدعون عبادته فاشكروا لله ، لأن منشأ كونه أهلا

٢٦٧

للعبادة عين منشأ كونه أهلا للشكر لعدم تعدد الحيثيات والجهات في ذاته الأقدس ، فكما انه إله الجميع بالاستحقاق الذاتي كذلك يكون مشكور الكل أيضا ، لانتهاء جميع النعم إليه عزوجل ، فالشكر على نعمائه ملازم لعبادته وهي متوقفة على معرفة المعبود ولو إجمالا ، ومن أهم مقدمات المعرفة وجوب شكر المنعم بل هو أساس العبادة وغاية العبودية ؛ ولذا قدم عزوجل الشكر على العبادة في المقام ، وفي قوله تعالى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) [سورة النساء ، الآية : ١٤٧] فالشكر يكون داعيا للعبادة بل هي نفسه في نفوس الأولياء كما قال سيدهم : «ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» وهذا من أدق مباني الفلسفة حيث اجتمع فيه العلة الفاعلية والعلة الغائية والمادية والصورية.

قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ). مادة (ح ر م) تأتي بمعنى المنع ، سواء كان تكليفيا أم غير تكليفي تكوينيا أم قهريا ، قال تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) [سورة المائدة ، الآية : ٧٢] وهو من المنع التكويني لكونه من الجمع بين المتنافيين فلا يجتمع الخبيث من كل جهة مع الطيّب كذلك ، ومن المنع القهري قوله تعالى : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) [سورة المائدة ، الآية : ٢٦] والمقام من المنع التكليفي الشرعي.

والحرمة من احدى الأحكام الخمسة التكليفية : وهي الوجوب ، والحرمة ، والإباحة ، والندب ، والكراهة ، وهي ثانية في جمع الشرايع الإلهية على اختلافها بل هي دائرة في الأحكام الوضعية ولو كانت غير سماوية.

والميتة : من الحيوانات ما مات حتف أنفه ، وعن الفقهاء تعميمها إلى كل ما زال روحه بغير تذكية شرعية.

والدم : معروف وبه يحيا الحيوان وتنتظم شؤونه ووظائفه : أو المراد به هنا الدم المسفوح لقوله تعالى : (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) [سورة الأنعام ، الآية : ١٤٥].

٢٦٨

وتأتي مادة (لحم) بمعنى اللزوم ، وسمي اللحم لحما للزوم بعضه مع بعض.

والخنزير : حيوان معروف وهو من المسوخات التي يأتي المراد منها في قوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ) [سورة يس ، الآية : ٦٧] وقد نهى سبحانه عن أكل لحم الخنزير في مواضع متعددة من الكتاب الكريم قال تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) [سورة المائدة ، الآية : ٣] وقال تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٤٥] وقال تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) [سورة النحل ، الآية : ١١٥] مضافا إلى السنّة المتواترة وإجماع المسلمين.

وضرر هذا اللحم بيّن دلت عليه التجربة ، وقد كشف العلم الحديث عن بعض مفاسده. ولا فرق في الحرمة بين البري منه والبحري وان كان الأول يزيد عن الأخير في انه نجس عينا وأعظم خبثا.

وإنّما ذكر اللحم كناية عن جميع اجزائه لأنه أهمها.

وقد حرّم الله هذه الثلاثة لخباثتها ولما لا يؤمن الضرر منها وقذارتها واشمئزاز النفس منها ، وقد كشف العلم الحديث ما يترتب عليها من المفاسد والمضار.

قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ). الإهلال رفع الصوت عند رؤية الهلال ، ثم استعمل في أول كل صوت يرفع ، ومنه استهل الصبي ، والإهلال بالحج ، والإهلال بالذبح أي التقرب بالذبائح إلى الأصنام والأوثان وغيرها مما يعبد من دون الله تعالى ، أو ذكر الوثن والصنم عند الذبح فإنّ ذلك كله من عادات المشركين والوثنيين وهو شرك بالله تعالى ، وقد اعتبر الشارع هذه الذبائح من الميتة التي لا يجوز أكلها ، وإنما ذكرها بالخصوص للاهتمام به في ترك العادة التي جرت عليها قرون عديدة من الإهلال لغير الله تعالى.

ولعل من أسرار قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) التمهيد لما يأتي وإعلام الناس بأنهم أجلّ مخلوقاته عزوجل ، وانه

٢٦٩

تعالى خلق ما في الأرض له ليرفع نفسه عن درجات البهيمية الى الدرجات العالية ويتنزه عن ما ينافي مقام العبودية فلا يعبد غيره تعالى فان الجميع مخلوق ومربوب له عزوجل.

قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ). قد ذكر الاضطرار إلى الأكل في موارد خمسة من الكتاب الكريم أحدها في هذه الآية والثاني في قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٣]. والثالث في قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٤٥]. والرابع في قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة النحل ، الآية : ١١٥]. والخامس في قوله تعالى : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١١٩].

وكلمة «غير» منصوبة على الحالية وقبل على الاستثناء ، والتمييز بينهما هو انه إذا صلح في موضعها لفظ (في) أو ما يفهم معنى الظرفية والحالية ، فهي حال وإذا صلح لفظ (الا) فهي استثناء.

والاضطرار معلوم والمراد به الإلجاء إلى أكل شيء من المذكورات ومادة (بغي) تأتي بمعنى الميل ، وله مراتب كثيرة ومن بعض مراتبه الطلب ، ومنه قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ألا إن الله يحب بغاة العلم» أي طالبي العلم.

وهي إما أن تكون متعدية أو لا تكون كذلك بل تتعدى بلفظ (على). ولهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم ربما تزيد على عشرين موردا ، وجامعها الميل من الحق إلى الباطل ، وقد تستعمل في الميل إلى الحق أيضا كمن أتى بالفرائض وبغى إتيان النوافل.

فالأقسام أربعة : الميل من الحق إلى الحق ، والميل من الباطل إلى

٢٧٠

الحق ، والميل من الحق إلى الباطل ، ومنه البغي بمعنى الظلم ، والبغاء أي الزنا ، والخروج على خليفة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقد روى الفريقان أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال لعمار بن ياسر «تقتلك الفئة الباغية». والقسم الرابع الميل من الباطل إلى الباطل ، والقسمان الأخيران مذمومان ، والغالب في استعمالات البغي إنّما هو في الميل من الحق إلى الباطل.

والعادي : المتعدي عن الحق إلى الباطل ، فيشمل كلا طرفي الإفراط والتفريط لأن كلا منهما باطل بالنسبة إلى الحد الوسط.

وقد اختلف العلماء في المراد منهما فقيل : المراد من الباغي الظلم. وقيل الاعتداء ، وقيل الحسد ، وقيل الفساد من بغى الجرح إذا فسد وقيل مجاوزة الحد عن الحق أو عن القصد. والحق ما ذكرناه في بيان اللفظين ، فيكون المراد منهما مطلق المعصية وما ورد عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) ، وما ذكروه في بيان اللفظين من باب التطبيق وتفسير المعنى الكلي بالفرد ، وهذه عادة جارية بين اللغويين والمفسرين كما نبهنا عليها مرارا.

والمعنى : إنّه بعد أن أباح سبحانه وتعالى للمؤمنين أكل الطيّبات بيّن حرمة بعض الأشياء لخباثتها وفسادها وأضرارها ، أو لإزالة الشرك وخلع الأنداد وإثبات التوحيد في جميع القربات وهي أربعة : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله تعالى. ورخص سبحانه الأكل منها في حالة الاضطرار إليها بشروط خاصة مذكورة في كتب الفقه إلّا أن يكون المضطر باغيا أو عاديا بأن يكون مائلا إلى الباطل وحينئذ يحرم الأكل عليهما.

وإنّما ذكر سبحانه (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) بعد الاضطرار للتنبيه على أنه ليس لأحد تحديد الاضطرار وتفسيره من قبله والا كان من أحدهما ويأتي في البحث الفقهي زيادة إيضاح.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). أي : إنّ الله يغفر المعاصي رحيم بالعباد ، إذ أباح لهم الطيبات وحرّم عليهم الخبائث ورخص لهم ما لم يقدروا عليهما. وذكر الغفران في المقام مع انه لا معصية في مورد الاضطرار ، للاعلام بانه إذا كان لا يؤاخذ على المعاصي ففي موارد الرخصة أولى أن لا يؤاخذ ، أو

٢٧١

لأنّ تقدير الضرورة إنّما هو موكول إلى الناس وقليل منهم يقتصرون على قدر الضرورة فلا غناء عن غفران الله تعالى.

بحوث المقام

بحث دلالي :

تتضمن الآيات الشريفة أمورا :

الأول : إنّ الحصر في قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ) حقيقي إذا لوحظت الحرمة بالنسبة إلى خطوات الشيطان وما افتعلوه من المحرمات ، وإضافي بالنسبة إلى الحيوانات بقرينة قوله تعالى : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٥٧].

الثاني : إنّما أتى سبحانه وتعالى ب (الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) في المقام معرفا وفي غير المقام منكرا كما في قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٤٥] للإشارة إلى حرمتها بجميع المراتب والشؤون بحسب صرف الوجود في ما لا يكون شائعا ، وبحسب الوجود الساري في غير ذلك ، وبحسب نفس وجوداتها وتركيباتها مع ما هو حلال.

الثالث : إنّما ذكر سبحانه في هذه الآية المباركة (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) وترك ذلك في غيرها من الآيات في سائر الموارد ، لأن عدم الإثم في ظرف الاضطرار موافق للقانون العقلي ، فتكفي الإشارة في موضع واحد ، مع أنّ في قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة النحل ، الآية : ١١٥] وفي [سورة المائدة ، الآية : ٣] إشارة إلى ذلك.

الرابع : ذكر سبحانه في المقام : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) وفي غير المقام أخّر الجار والمجرور ، ولعل الاختلاف في التعبير لأجل اختلاف

٢٧٢

عاداتهم ، فان بعضهم يقدمون ذكر آلهتهم ثم يذبحون لها والبعض الآخر يذبحون الذبائح ثم يقربونها إلى الإلهية ، وثالث يقصدون التقرب إليهم مطلقا قبل الفعل وحينه وبعده.

الخامس : لا فرق في قوله تعالى : (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) بين كونه من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أو من قبيل قيام الصفة به بعد الالتفات إلى أن الخطاب إلى خصوص المؤمنين لأنهم هم الذين يعرفون الرازق ويشكرونه فهم الأصل في الرزق ولغيرهم التبعية فيه.

بحث روائي :

في الفقيه عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) قال : «الباغي الذي يخرج على الإمام ، والعادي الذي يقطع الطريق لا تحل لهما الميتة».

وفي تفسير العياشي عن حماد بن عثمان عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) قال : «الباغي الخارج على الامام والعادي اللص».

أقول : روى مثله في الدر المنثور عن ابن عباس.

وفي المجمع عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما‌السلام) في قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) : «غير باغ على امام المسلمين ولا عاد بالمعصية طريق المحققين».

أقول : إنّ ذلك كله من باب بيان المصاديق ، وقد ذكرنا المتحصل من الأخبار الواردة في المقام في الفقه في كتاب الصيد والذباحة من كتاب [مهذب الأحكام].

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) قال : «الباغي باغي الصيد ، والعادي السارق وليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا إليها ، هي حرام عليهما ، ليس هي عليهما كما

٢٧٣

هي على المسلمين ، وليس لهما ان يقصرا في الصّلاة».

أقول : روي مثل ذلك في تفسير العياشي والتهذيب.

وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «الباغي الظالم ، والعادي الغاصب». وفي الفقيه في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عن الصادق (عليه‌السلام) : «من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل شيئا من ذلك حتّى يموت فهو كافر».

أقول : الوجه في كونه كافرا مخالفة الله تعالى حيث انه تعالى أمر بالأكل حينئذ ولم يفعل ، فالكفر كفر عملي لا اعتقادي كما تقدم أقسامه في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٦].

بحث فقهي :

تدل الآية الشريفة على جملة من الأحكام الشرعية :

منها : أنّ إطلاق قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) يشمل جميع التقلبات والتصرفات في الميتة أكلا وانتفاعا وغيرهما. وتدل عليه الأخبار الكثيرة الشارحة للآية المباركة ففي الحديث عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لا تنتفعوا من الميتة بشيء» وفي حديث عبد الله بن حكيم عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لا تنتفعون بإهاب ولا عصب» وعن الصادق (عليه‌السلام) : «لا ينتفع بشيء منها ولو بشسع منها» هذا بالنسبة إلى الانتفاعات التي يشترط فيها الطهارة ، وأما في غيرها مثل التسميد والزرع ونحوهما مما لا يشترط فيه الطهارة فلا دليل على الحرمة.

ومنها : أنّ إطلاق قوله تعالى : (الْمَيْتَةَ) يشمل جميع أنواع الميتة سواء كانت برية أو بحرية ميتة ما له نفس سائل ـ أي الدم الخارج عن العروق حين الذبح ـ وميتة ما ليس له نفس سائل وان كانت الأخيرة غير محكومة بالنجاسة.

كما تشمل القطعة المبانة من الحيوان الحي ، وفي ذلك روايات كثيرة من الفريقين ، فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ما قطع من البهيمة

٢٧٤

وهي حية يكون ميتة».

كما أنّ إطلاق الآية المباركة يشمل حرمة جميع أجزاء الميتة. وعن بعض علماء العامة جواز الانتفاع بجلد الميتة ، بل طهارته بالدبغ واستدل بالحديث المروي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حين مر على شاة ميمونة فقال : «هلا أخذتم إهابها» ولقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أيما إهاب دبغ فقد طهر» وقد ناقشنا ذلك في الفقه مفصلا ، وكذا قول علي (عليه‌السلام) في البحر : «الحل ميتته» محمول على الطهارة لا حلية الأكل.

ومنها : إطلاق قوله تعالى : (وَالدَّمَ) يشمل القليل والكثير وحرمة جميع التقلبات والتصرفات والانتفاعات منه ؛ كما يشمل جميع أنواع الدماء.

ومنها : المراد من قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) ان يكون الذبح لغيره تعالى سواء ذكر غير اسم الله تعالى كما يفعله الوثنيون والمشركون ، أو ذبح للأصنام والأوثان من دون ذكر اسم عليه أبدا.

والمناط في حلية الذبيحة ذكر اسم الله عليها ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢١] فالإهلال بالذبيحة لغير الله شيء كما ان الإهلال بها لله تعالى شيء آخر ، ففي القسم الأخير لو أهل بالذبيحة لله تعالى وتصدق بلحمها على فقراء مشهد أو مزار رغب الشارع في زيارته فهو حلال لا إشكال فيه.

فما عن بعض انه لا يحل تمسكا بقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢١] أو أنه إهلال لغير الله تعالى خلط بين موضوعين لا ربط لأحدهما بالآخر. فان الذبح كان لله تعالى ومصرفه كان للمنذور له أو الفقراء ، وبعبارة أخرى : إنّ ذلك كان على نحو الطريقية إلى الله تعالى والتقرب إليه عزوجل لا الموضوعية للمنذور له أو الفقراء.

ومنها : يستفاد من قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أنّ الاضطرار يرفع الحكم التكليفي ، لأن التكليف محدود بالقدرة ولا تكليف في ما لا قدرة للمكلف عليه ، والاضطرار إلى الفعل الحرام أو ترك

٢٧٥

الواجب ينافي القدرة ، لأن المضطر لا يقدر على الترك في الأول كما لا يقدر على الفعل في الثاني.

والمناط في القدرة : القدرة العرفية التي يعتمد عليها النّاس في أمور معاشهم وجميع أغراضهم نعم قد يتبدل الحكم في صورة الاضطرار إلى حكم آخر ولكنه يحتاج إلى دليل بالخصوص.

والاضطرار الحاصل للإنسان المبيح لتناول المحرّم على قسمين :

الأول : ما لا ينتهي إلى اختياره ، الثاني : ما ينتهي إلى اختياره ، ولا ريب في انه لا تكليف ولا عقاب في الأول. وأما الثاني فلا ريب في أنّ العقل يحكم باختيار أقل القبيحين ، لأن الأمر يدور بين إهلاك النفس وأكل الميتة مثلا ، ولا إشكال في كون إهلاك النفس القبح من أكل الميتة ، وأما الخطاب فهو باق على ملاكه ، لبقاء العقاب لفرض الانتهاء إلى الإختيار ، فمن ذهب إلى سفك دم معصوم أو هتك عرض محترم أو غصب مال كذلك فاضطر حينئذ إلى أكل الحرام يعاقب على الأكل ، فيكون حكم القرآن الكريم موافقا للعقل السليم.

ومن ذلك يعلم أنّ الاضطرار المبيح لأكل المحرمات ـ كالميتة والدم ونحوهما ـ محدود في الشريعة المقدسة بحد خوف التلف على النفس في ترك الأكل ، ثم الأكل بقدر سد الرمق من دون تعد عنه. وفي المقام فروع كثيرة أخرى تعرضنا لها في كتب الفقه.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦))

هذه الآيات مرتبطة بالآيات السابقة التي وردت في ذم قوم تركوا سبيل الحق واتبعوا خطوات الشيطان لأن تبديل الحق بالباطل من أعظم خطواته ولذا

٢٧٦

كان التوعيد عليه عظيما ، كما أنه بين سبحانه وتعالى فيها أنّ الاختلاف في الحق هو الشقاق البعيد.

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ). الكتم والكتمان هو ستر الشيء وإخفاؤه ، والمراد بالكتاب مطلق معارفه الشريفة وأحكامه المقدسة المنزلة على رسله.

والمعنى : إنّ الذين يخفون ما أنزل الله من الكتاب على رسله. والكتمان كما يحصل بالإخفاء والحذف يحصل أيضا بالتأويل والتحريف والوضع في غير مواضعه وقد تقدم في آية ١٥٩ من هذه السورة فراجع.

قوله تعالى : (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً). المراد من الاشتراء هنا مطلق التبديل ، والثمن القليل هو الدنيا وحطامها فانها قليلة بالنسبة إلى الحق وكتمانهم لما أنزل الله تعالى وما فات عنهم من السعادة الدائمة فانها لا تعادل ما يأخذونه عوضا يكون التمتع به قليلا لانقطاع مدته.

قوله تعالى : (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ). أي : أنّ أولئك الذين يكتمون ما أنزل الله ـ المشترين به ـ لا يفعلون ذلك إلّا بما يؤول بهم إلى النّار بسبب أكلهم للثمن الخسيس ، فهو تمثيل لمآلهم ويمكن أن يكون بيانا لحالهم بأنّ يكون المأكول نارا فعلا في عالم الدنيا في بطن الآكل وان ظن انه طعام ، لأنّ تبدل حقائق عالم بصورة حقائق عالم آخر كثير في صنع الله تعالى ، وإن عميت الأبصار من الرؤية والبصائر عن الإدراك لكن الحق ظاهر بالبرهان. والآية تدل على تجسم الأعمال.

وإنما قيد سبحانه الأكل بالبطن مع انه لا يكون إلّا فيه إما للإشارة إلى الاستمرار والاستقرار وعدم الزوال ، أو للإشارة إلى الامتلاء أي : امتلاء بطونهم نارا.

قوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ). كناية عن عدم اعتناء الله تعالى بهم بالإعراض عنهم والغضب عليهم في يوم يكون الاحتياج إليه تعالى شديدا.

٢٧٧

قوله تعالى : (وَلا يُزَكِّيهِمْ). أي : لا يقبل منهم أعمالهم مع ما هم عليه من الكفر والفعل الشنيع ولا يطهرهم من دنس الخطايا أو يزكيهم بالثناء عليهم كما يفعل بالنسبة إلى أهل الجنّة.

قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). أي : عذاب شديد الألم.

وحكم هذه الآية عام يشمل كل من عرف الحق وكتمه قولا أو عملا فلا اختصاص له بأهل الكتاب ، بل يصدق على المسلمين الذي عرفوا الحق فكتموه مع القدرة على الإظهار ، أو لم يعملوا به خارجا.

ثم إنّه لا يخفى أنّ المعارف الإلهية والأحكام المقدسة لها وجود واقعي حقيقي يتم بالجعل الإلهي وإتمام الحجة ووجود ظاهري إثباتي لا يتم إلّا بالإظهار وإعلام النّاس. والأول في مرحلة الحدوث والثاني في البقاء ، والمهم هو الأخير إذ لا أثر في حدوث ما لا بقاء له في ما يطلب منه البقاء والاستمرار. وجاعل القانون مطلقا ـ إلهيا كان أو وضعيا ـ انما يهتم بإبقائه أكثر من اهتمامه بأصل الإيجاد والحدوث. والكتمان إنما يتحقق بالنسبة إلى الثاني ، وبه تبطل حكمة تشريع الأول ، ولذلك كان وزر الكتمان عظيما يعرف من عظم ما أوعد عليه الله تعالى بتعدد نقمه عليهم من وعيده بالنار وعدم التكلم معهم وعدم التزكية ، والعذاب الأليم.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [سورة آل عمران ، الآية : ٧٧] ولعل وجه التأكيد في الآية الأولى تعدد موجب العقاب فيها من الكتمان والاشتراء بخلاف الآية الثانية.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى). هذا كالنتيجة للآيات السابقة : أي أولئك الذين اشتروا بالكتمان ثمنا قليلا انهم في عملهم هذا اشتروا الضلالة بالهدى.

قوله تعالى : (وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ). أي اشتروا العذاب بالمغفرة لمكان

٢٧٨

اشترائهم الضلالة بالهدى ، فيكون ترتب هذا على سابقه من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة المنحصرة.

قوله تعالى : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ). (ما) للتعجب والمراد أنّهم فعلوا فعلا يتعجب كل عاقل منهم وانهم كيف يدعون العقل مع أن فعلهم يدل على سفاهتهم وغفلتهم ، وانه لو وقع من أحد مثل هذا الاشتراء في أمور الدنيا لكان دليلا على السفاهة ، فهم أدخلوا أنفسهم في النّار باختيارهم وسلطوا عليهم غضب الجبار فكان صبرهم على العذاب شديدا.

ويصح أن تكون للتعجب من إحاطة النّار بهم كمية وكيفية وسائر الجهات أي : ان فعلهم الذي أوجب دخولهم في النار وأنّ صبرهم على العذاب ما يثير العجب.

ويجوز التعجب على الله تعالى إذا كان بداعي عظمة العقاب وشدته وإلّا فأنّ التعجب الحقيقي لا يجوز بالنسبة إليه عزوجل لأنّه يستلزم الجهل وهو محال عليه تعالى ، ومثل هذا الأسلوب كثير في المحاورات.

كما يصح أن تكون (ما) للاستفهام بداعي شدة العقاب ، أو التوبيخ ، أي أي شيء أصبرهم؟!.

ويحتمل أن يكون المراد من النّار نار جهلهم المركب التي تجعلهم عرضة للفساد والشقاء ، ويؤول أمرهم إلى النار في الآخرة.

والآية تدل على بطلان كل عمل منهم وغضب الله تعالى وسخطه عليهم مع أن لهم اعمالا حسنة لها آثار عظيمة ينتفع منها الناس وليس من سنته عزوجل اضاعة الأعمال الحسنة قال تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [سورة الكهف ، الآية : ٣٠].

ولكن يمكن أن يقال : إنّهم من حيث كفرهم وكتمانهم للحق يدخلون النار لكنهم ينتفعون بأعمالهم الحسنة سواء في الدنيا أو في البرزخ أو في الحشر والنشر أو في تخفيف العذاب بمقتضى قانون ترتب الجزاء على العمل الذي أسسه القرآن الكريم والمؤيد بحكم العقل وتدل عليه أخبار

٢٧٩

كثيرة ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ). مادة (نزل) تدل على الهبوط من العلو إلى السفل ، ولها استعمالات كثيرة بهيئات مختلفة تقرب من ثلثمائة مورد وتشمل التشريعيات والتكوينيات قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٤] وقال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) [سورة النساء ، الآية : ١٧٤] وقال تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٥] وقال تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) [سورة الفرقان ، الآية : ٤٨] وقال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٦] وتستعمل في الخير والشر ، والأول كثير ، ومن الثاني قوله تعالى : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً) [سورة البقرة ، الآية : ٥٩] وقال تعالى : (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٣٤] فيصح استعمال الإنزال بالنسبة إلى جميع ما يصدر منه عزوجل بلا فرق بين الجواهر والأعراض والشرعيات وغيرها ، لأن الكل صدر عن مبدإ لا نهاية لعلوه ولرفعته سواء كان بالتسبيب أو بدونه فان أزمة الأمور بيده وما سواه يستمد من مدده.

والفرق بين الإنزال والتنزيل أنّ الثاني لوحظ فيه التفرق في الجملة بخلاف الأول قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) [سورة الإنسان ، الآية : ٢٣] وقال تعالى : (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [سورة الفرقان ، الآية : ٢٥] وقال تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ١٠] فجميع ما سواه إنزال منه عزوجل كما أن الجميع تنزيل منه وأكمله القرآن العظيم.

والكتاب من كتب مادته تأتي بمعنى الجمع والضم ، سواء كان في الحروف وضمها في الخط ، أو اللفظ ، أو الذهن ، والمتعارف في الاستعمال هو الأول ، ومن لوازم الضم الثبوت كما ان من لوازمه الحكم ، وتستعمل هذه المادة فيهما قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٣] وقال تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ

٢٨٠