مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

عنده الثواب والعقاب. فكان عرفانهم له أتم فلا يرجون غيره ولا يعبدون سواه فلا محالة يكون حبهم له أشد.

وحب الذين آمنوا بالله تعالى ليس كالحب الحاصل من الشهوات النفسانية ، بل له واقع غيرها وهو الله عزوجل ، وانه حق لأن الاعتقاد بالحق حق لا ريب فيه ، وأنه ظاهر في العمل لأن العمل المنبعث عن الواقع والحقيقة مرآة صافية لا شائبة فيه غيرهما ، فكان هذا الحب بالنسبة إلى الواقع والاعتقاد والعمل ، هو الحب الحقيقي الذي يربط بين الخالق والمخلوق والعابد والمعبود ، وبقدر إخلاص العبد لله تعالى تزداد محبته له تعالى ، كما ان بقدر الاختلاط مع الغير تضعف درجة المحبة ، فان كل من أحب شيئا أعرض عن غيره وازداد الاتصال به.

ويظهر أثر هذه المحبة في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فباتصاف العبد بجميع الكمالات المعنوية وارتقائه في المقامات العالية والابتعاد عن الرذائل والتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود ، فان للملكات النفسانية تأثيرات في ذات النفس وكذا بالعكس.

وأما في الآخرة فقد أعد الله للمحبين له ما لا عين رأت ولا اذن سمعت. هذا بالنسبة إلى حب العبد لله تعالى.

وأما محبته عزوجل للعبد فهي من صفات فعله ، وهي الهداية الى الصراط المستقيم وكشف الحجب عن قلبه ، وتوفيقه لما يحبه عزوجل ، والتوجه إليه وحينئذ يطأ بساط قربه ولا يصل العبد إلى هذه المراتب إلّا باتباع الشريعة المقدسة اعتقادا وقولا وعملا ، قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [سورة آل عمران ، الآية : ٣١].

قوله تعالى : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) رأى مصدرها (رؤية) تحذف الهمزة في مستقبلها ، فيقال : يرى ونرى وترى. ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم وهذه المادة تستعمل في جميع القوى الظاهرية ، يقال : لمسته فرأيته ناعما ، أو سمعت صوته فرأيته حسنا ، وتفكرت فيه فرأيته صحيحا ، وتعقلت فيه فرأيته دقيقا وغير ذلك من الاستعمالات التي

٢٤١

لا تنحصر بالمحسوسات والإنسان ، والدنيا ، بل تشمل غيرها ، قال تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ١٠٥] ، وقال تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) [سورة الزمر ، الآية : ٦٠] ، وقال تعالى : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٧] فهو أعم لفظ يستعمل في الإدراكات.

والمراد به هنا هو الإدراك بعين اليقين وحق اليقين كما هو الشأن في جميع مدركات الآخرة ، وأما في الدنيا فإنّ ذلك يختص بالأنبياء والأولياء.

والمعنى : ولو يرى الظالمون الذين ظلموا عظيما باتخاذهم الأنداد والتعدي عن حدود الله تعالى ويرون بالعيان العذاب ويشاهدونه ويدركون أهواله لعلموا حق اليقين بأنه يصيبهم بما اقترفوه من الآثام وما جنوه من السيئات.

قوله تعالى : (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ). جملة (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ ...) مفعول ل «يرى» ، والجملة الثانية عطف على المفعول. أي : حينما يدركون بعين اليقين انحصار القوة والقدرة فيه تعالى وحده وان غيره لا حول ولا قوة له ، وان العقاب والثواب بيده عزوجل وانه شديد العذاب مع الظالمين.

وجواب «لو» مقدر حذف لدلالة سياق الكلام عليه ، ولتعظيم الأمر وتهويله ، أي : لندموا ندامة شديدة وأذعنوا بظلمهم وضلالهم ورجعوا إلى الحق واعتقدوا بالوحدانية ، وانه ليس من دونه وليّ ولا نصير. وبالجملة انه يدخل عليهم ما لا يمكن دخوله تحت وصف من الحسرة والندامة.

وفي الآية تسفيه عظيم لهم بأنهم لا يهتدون بعقولهم ، وتوبيخ شديد.

قوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ). جملة «إذ تبرأ» بدل من (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) أو عطف بيان ، والعامل فيهما «ولو يرى».

٢٤٢

والتبري ، والبرء ، والبراء بمعنى واحد وهو الابتعاد عما يكره مجاورته ، سواء كان في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما معا ، قال تعالى : (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [سورة يونس ، الآية : ٤١] وقال تعالى : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [سورة التوبة ، الآية : ٣]. ويقال في العرف : برئت من المرض.

والاتباع هو اقتفاء الأثر ، سواء في الخير أو الشر ، قال تعالى : (لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٤٢] ، وقال تعالى : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) [سورة يس ، الآية : ٢٠] ، وقال تعالى : (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة النحل ، الآية : ١٢٣].

والمراد بالرؤية هنا ـ كما تقدم ـ هو الانكشاف والمشاهدة بعين اليقين ، لظهور الحقائق وانكشاف الحجب في الآخرة.

والمعنى : ولو يرى الظالمون تبرؤ المتبوعين ـ وهم الرؤساء ـ من الأتّباع حين ما يرون العذاب ويشاهدون أهواله وعلموا بأنّه يصيبهم بما اقترفوه من الآثام وما فعلوه من السيئات باتخاذهم الأنداد والتعدي عن حدود الله تعالى.

قوله تعالى : (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ). التقطع الانفصال ، وزوال الأثر المطلوب والأسباب جمع السبب وهو الحبل الذي يتوصل به إلى الصعود ، والمراد بها هنا تلك الروابط التي كانت بين الظالمين ـ الرؤساء والأتّباع ـ فتشمل رابطة المال ، والجاه ، والعقيدة ، والعشيرة ونحو ذلك من الروابط والأسباب التي اعتقدوها سببا لنجاح مقصودهم.

والجملة كناية عن خيبة آمالهم في الوسائل والروابط حينما يرون العذاب ويدركون أهواله فلا يمكن الاستفادة من تلك الأسباب التي عاشوا بها برهة من الزمن فلا تجديهم نفعا.

والآية تشير إلى غريزة من الغرائز في الإنسان وهي أن متابعة كل فرد للغير إما ان تكون لجلب النفع أو لدفع الضرر فإذا لم يرج ذلك عند انحصار الأمر في الله تعالى يثبت التبري عن الغير ، وهي مثل غريزة دفع الضرر بل الأولى من فروع الأخيرة ولا اختصاص لها بعالم دون عالم فهي قرينة الإنسان

٢٤٣

إلى ما بعد موته إلى خلوده في دار الخلد إما الجنّة أو النّار.

ومن هذه الغريزة يتحقق كثير من أفعال الإنسان كسائر الغرائز ـ خيرا كانت أو شرا ـ إلّا إذا وجهها صاحبها إلى طريق الخير فقط ومن آثارها ما نشاهده في عالمنا من وقوع التبري بين الأتّباع والمتبوعين عند ما يتوقع أحدهما وقوع الضرر من الطرف الآخر أو عدم تمكن الانتفاع منه ، وأما في الآخرة فان المتبوع حينما يرى العذاب الشديد ولا يمكن التخلص منه إلّا بالعمل الصالح فلا تنفعه الأسباب ولا يقدر الأتباع مساعدته لا محالة يتبرأ منهم والأمر في الأتباع أظهر ، فتنكشف حقيقة التبعية ، وأنّها كانت كالسراب لا واقع لها فتبطل التابعية والمتبوعية ، وينحصر الأمر في الله تعالى فيجازيهم بسوء أعمالهم.

ومضمون هذه الآية من القضايا العقلية التي يغني تصورها والتأمل فيها عن إقامة الدليل عليها.

كما أنه لا اختصاص لهذه الآية بطائفة خاصة وبقسم خاص من التبعية بل يشمل جميع الطوائف والأفراد حتّى الفقهاء الذين إذا ادعوا لأنفسهم ما لا يستحقون لجلب قلوب الناس إليهم والإتباع لهم ، كما يشمل المبلغين والمرشدين الذين لم يظهروا حقيقة الإسلام قولا وعملا بل بينوا خلاف ما أسسته الشريعة المطهرة ، وكذا المعلمين إذا كان التعليم خلاف ما أذن فيه سيد المرسلين ، وفي الحديث : «من أصغى إلى ناطق فقد عبده فان كان الناطق ينطق عن الله فقد عبد الله وإن كان الناطق ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان».

ثم إن في التعبير بقوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) مع ادعائهم الحب للأنداد من اللطف ما لا يخفى ، ومن البلاغة وروعة الأسلوب ما يبهر منه الفطن اللبيب.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا). بيان لقضية فطرية وهي مجازاة الشيء بمثله ، وحيث انه لا موضوع لتبري الأتباع من المتبوعين في دار الآخرة لما يشاهدونه من العذاب علقوا

٢٤٤

ذلك على الكرة إلى الدنيا وتمنوا الرجوع إليها فيتبرءوا من المتبوعين ويعودوا إلى الحق ويهتدوا بهدى المرسلين لينتفعوا به في الجزاء.

قوله تعالى : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ). الحسرة واحدة الحسرات وهي أعلى درجات الندامة على شيء وأشد من الغم وسببها الجهل بالواقع وتركه والعمل على خلافه فيكون السبب الفاعلي للحسرة من العبد ، والفرار منها إنما يكون بالرجوع إلى الإيمان بالله تعالى ورسله والعمل الصالح ، أو التوفيق منه عزوجل.

أي : كما أنّهم رأوا العذاب ووقع التبري بينهم وانقطعت الأسباب التي علقوا عليها آمالهم كل ذلك يكون حسرة عليهم وان جميع أعمالهم صارت وبالا عليهم فخلّفت أسوأ الآثار في نفوسهم حيث أورثت الحسرة والشقاء فتكون أسباب الحسرة هي نفس الأعمال لتفريطهم فيها.

وإنّما أسند ذلك إلى نفسه المقدسة لبيان أنّ جميع الأمور مستندة اليه عزوجل سواء في الدنيا أم الآخرة إلّا أنّه عزوجل جرت عادته على ترتب المسببات على الأسباب الظاهرية في دار الدنيا فيزعم الغافل السببية الحقيقية.

قوله تعالى : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ). أي : خالدون في النار لا يمكنهم الرجوع إلى الدنيا ، جزاء لأعمالهم واعتقاداتهم السيئة.

بحوث المقام

بحث دلالي :

تتضمن الآيات الشريفة أمورا :

الأول : إنما عبّر سبحانه وتعالى بالاتخاذ للإشارة إلى أنه ليس من الصراط المستقيم وسواء السبيل بل فيه تكلف بإخراج الفطرة عن طريقتها وسبيلها المستقيم لأنّ الاتخاذ هو الافتعال وتدل المادة على كثرة العناية والاهتمام بما اتخذ وهو أعم من الحق والباطل ، قال تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) [سورة النساء ، الآية : ١٢٥] ، وقال تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ

٢٤٥

اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [سورة الفرقان ، الآية : ٤٣] وكذا المقام الذي هو من الباطل للأدلة الكثيرة الدالة عليه.

الثاني : إنّما قال تعالى : (أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) ولم يقل أحب لله ، لأن في التعبير الأول نحو عناية لم تكن في الثاني وتدل على ان محبة المؤمنين أشد من سائر أنحاء المحبة وأنها أتم لأن من شهد له محبوبه بالمحبة كان حبه أتم ، ولأن المحبة إذا كانت لله تعالى وفي الله عزوجل وبالله كانت لا محالة أشد وأبقى وأدوم.

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ان جميع ما يستدل به على وحدانية الله تعالى أو صفاته العليا أو أفعاله المقدسة بالأدلة العقلية والبراهين القويمة إما من المعلول على العلة أو بالعكس إنما يكون موطنها في هذا العالم ، وأما في الآخرة فإنها عالم العيان والمشاهدة لانكشاف الواقع وارتفاع الأستار والحجب فيها ، وقد يكون كذلك في هذا العالم لعباد الله المخلصين الذين تجلت عظمة الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم فلا يرون غيره تعالى ، قال علي (عليه‌السلام) : «ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه» ، ونسب إلى ابنه الحسين (عليه‌السلام) : «عميت عين لا تراك وخسرت صفقة عبد لم يجعل له من حبك نصيب».

الرابع : إنّ قوله تعالى : (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) يدل على أن الحب للأنداد شيء وحب الله تعالى شيء آخر ولا يستفاد منه الاشتراك في المحبة بينه تعالى وبين الأنداد ، وكذا في قوله تعالى : (أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) لأنّ حب الأنداد مذموم وحب الله تعالى ممدوح ، وهذا يدل على نفي الاشتراك بينهما من كل جهة.

ومن ذلك يظهر أنّ ما ذكره بعض المفسرين من أنّ محبة أولياء الله تعالى وأنبيائه والصالحين مذمومة أيضا لفرض وقوعها في مقابل محبة الله تعالى فيكون من الشرك في المحبة الذي عرفت انه مذموم أيضا. (ضعيف) لأن محبة أولياء الله تعالى ، والأنبياء ترجع إلى محبة الله تعالى ، ولا يعتقد أحد

٢٤٦

من المسلمين الاستقلالية بالنسبة إليهم في مقابل الله او الشرك به عزوجل فهم من حيث أنّ الله تعالى امر باتباعهم وتعظيمهم صاروا محبوبين لديهم ، قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [سورة آل عمران ، الآية : ٣١].

بحث روائي :

في تفسير العياشي والكافي عن الباقر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) ـ الآية ـ ، قال (عليه‌السلام) : «والله يا جابر هم أئمة الظلمة (الظلم) وأشياعهم».

أقول : نفس الآية الشريفة دالة على ذلك ، وكذا ما في سياقها من سائر الآيات فان الله تعالى وصف التابعين بالظلم فإذا كان المتبوع حقا لا تكون جهة المتابعة ظلما.

في الكافي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ) قال (عليه‌السلام) : «هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلا ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله ، أو في معصية الله فان عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره فرآه حسرة وقد كان المال له ، وان كان من عمل به في معصية الله قواه بذلك المال».

أقول : قريب منه روايات كثيرة عن الباقر والصادق (عليهما‌السلام) وهذه الروايات وان وردت في المال ولكن يمكن أن يقال ان ذلك من باب التطبيق فيشمل جميع مناشئ الخيرات من الأعمال وغيرها كما تقدم في تفسير الآية.

بحث فلسفي :

يدل قوله تعالى : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) على الخلود في النار وهو من المسائل المتفق عليها بين الكتب الإلهية والشرائع السماوية ومع ذلك لم تخرج عن موضع نقاش الإنسان وإشكالاته. ومما أورد عليه انه يستلزم القسر الدائم ، وقد ثبت في الفلسفة بطلانه ، وسيأتي في الموضع المناسب

٢٤٧

التعرض لمسألة الخلود والبحث فيها مفصلا. وفي المقام نتعرض للقسر فنقول :

القسر في اللغة هو القهر فيشمل كل إعاقة للفرد أو النوع وقهره عن مطلوبه وغايته ، والمراد به عند الفلاسفة إيجاد المانع عن وصول الممكن إلى كماله اللائق به في سيره الاستكمالي في عالم الكون والفساد الذي هو عالم الاستكمال ، مع أنّ مقتضى الحكمة والعناية إيصال كل ممكن إلى المطلوب والغاية.

ويستفاد من ذلك أن القسر إنما يكون بإيجاد المانع عن إجراء قانون المقتضي (بالكسر) والمقتضى (بالفتح) في أفعال الإنسان وغاياته ولا يختص بخصوص الإنسان بل يجري في كل مقتض بالنسبة إلى مقتضاه في السير الاستكمالي.

وقد يطلق في كلمات الفلاسفة على الفعل غير الطبيعي فإن سقوط الحجر من العلوّ فعل طبيعي له ، وخلافه ـ أي الملقى إلى الأعلى ـ فعل قسري ، وهو غير دائمي للزوم جريان قانون المقتضيات على اقتضائها وفق النظام الطبيعي كما فصل في الفلسفة الطبيعية.

والقسر على قسمين :

الأول : القسر الدائمي ، : بأن يكون المنع في الإنسان أو غيره عن الوصول إلى الكمال دائميا ، وقد ثبت في الفلسفة بطلانه لأنّه خلاف الحكمة من الخلق فيكون قبيحا عليه جل شأنه وكل قبيح يكون محالا عليه.

الثاني : القسر غير الدائمي ، وهو في ما إذا كانت الإعاقة عن المطلوب موقتة ، وهذا القسم لم يقم دليل على بطلانه بل هو واقع في الخارج كثيرا ، كالحوادث والكوارث الطبيعية مثل الزلازل والفيضان والأمراض والأوبئة وغيرها مما يوجب هلاك الحرث والنسل قبل البلوغ إلى الغاية والمطلوب.

ولهذا القسم أسباب متعددة :

منها : الأسباب الطبيعية الخارجة عن قدرة الإنسان واختياره.

٢٤٨

ومنها : القوانين التي تحدد حريات الفرد وتكبح جماحه عن الشهوات سواء كانت تلك القوانين شرعية إلهية أم وضعية وضعت لمصلحة الإنسان بحيث لو لاحظنا تلك المصالح لما كان قسر في البين وإنما يرجع القسر إلى عدم درك المنشأ.

ومنها : العادات والتقاليد فإن لها تأثيرا في قهر الفرد ، وهذه العادات والتقاليد إن كانت سيئة وغير موافقة للشريعة المطهرة يجب إزالتها ومحوها وإلّا رجعت إلى الشرع المبين.

ثم إنه قد ذكرنا انهم أشكلوا على الخلود في النار بأنه يستلزم القسر الدائمي وهو باطل ، فيمتنع عليه تبارك وتعالى.

والجواب عنه بأنّ الأفعال لا بد وأن تجري على وفق الموازين الطبيعية والواقعية منها بما لها من الجهات والخواص والآثار التي لا يحيط بها إلّا الحي القيوم ، فما كان على خلاف ما نراه من الطبيعة لا يستلزم أن يكون كذلك في الواقع أيضا ، لعدم إحاطة المدركات بالواقعيات مضافا إلى أن الخلود في النار إنما هو نتيجة سوء سريرة الإنسان التي تكون معه أينما كان فيكون أمرا واقعيا لقانون العلية والمعلولية فلا موضوع للقسر حينئذ.

بحث عرفاني :

من أقرب المعاني إلى النفس وأعذبها عليها الحب. ذلك هو الترابط الوثيق الذي يربط الموجودات بعضها مع بعض وبه يجتذب كل صانع مصنوعه فهو الطريق إلى الكمال كل بحسب ما يريده كمالا وبه تتحقق الحياة السعيدة ولأجله يعيش الفرد ويعمل.

يعرفه جميع الروحانيين وأملاك السبع الشداد ، ودواب الأرض المهاد ، وجميع الوحوش في الفلوات ، والحيتان في البحار الغامرات. بل ان جميع الموجودات تحبه تعالى وتعشقه كما أثبته جمع من الفلاسفة.

وبهذه الصفة يدرك المخلوق خالقه ، ومن هذه الجهة يعطف الخالق على خلقه ، فلا حياة إلّا بالحب ولا سعادة إلّا بالعشق.

٢٤٩

وهو من المعاني الوجدانية التي يدركها كل أحد وان قصرت العقول عن الوصول إلى كنه حقيقته. فهل هو برق من نور الجمال الكامل المطلق يبرق ثم يختفي؟!!

أم هو تجلّ من وجه الله الأعظم ظهر وتجلّى؟!!

أم هو تلك الجاذبية التي أثبتها العلم الحديث في جميع الموجودات؟!!

أم هو ما بينه علي (عليه‌السلام) في مقام العارفين وخطبة همام؟!!

أم هو ما نسب إلى ابنه الحسين (عليه‌السلام) في دعائه لربه : «تعرفت إليّ في كل شيء فرأيتك في كل شيء وأنت الظاهر لكل شيء؟!!

أم هو ما شرحه السجاد (عليه‌السلام) في مناجاة المحبين؟!!

أم هو ما ذكره ابن الفارض في قصيدته التائية الكبرى المسماة بنظم السلوك التي شرحت بشروح كثيرة مطلعها :

سقتني حميّا الحب راحة مقلتي

وكأسي حميّا من عن الحسن جلّت؟!!

أم غير ذلك مما يقوله العلم الحديث كما مر. كل ذلك قطرات من البحر لا يدرك ساحله بل يغرق وارده ، ومع ذلك فهو أوضح من كل شيء ويوجد في كل شيء.

وهو لا يختص بالإنسان بل يشمل جميع الموجودات الواجب منها والممكن ـ وقد أثبت العلم الحديث عموم الجاذبية والمجذوبية في الموجودات ، وفي حب الله تعالى وحب الإنسان ، قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [سورة آل عمران ، الآية : ٣١] وحبه تعالى لمخلوقاته من فروع رحمته الواسعة.

وأما محبة سائر الموجودات له تعالى فقد أثبتها جمع من الفلاسفة منهم صدر المتألهين في كتابه القيم (الأسفار الأربعة) : أنّ الموجودات بأسرها

٢٥٠

عاشقة لجماله ، ويكفي في ذلك أنها سائرة إلى الكمال المطلق ولا كمال كذلك إلّا فيه تعالى ومنه عزوجل فهو محبوب من كل جهة.

فالقول باختصاص الحب في غيره عزوجل نظرا لتنزهه عن معناه (باطل) ولا يخفى فساده ، لا سيما بعد ما ورد في القرآن الكريم من إثبات حبه عزوجل لبعض الأفراد قال تعالى : (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٧٦] ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٥٩] ، وقال جلّ شأنه : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٤٨].

والحب من المعاني القلبية المنبثة على جميع جوارح الإنسان وحواسه كما هو واضح ويتعلق بالأشخاص أو الأشياء العزيزة ، أو الجذابة ، أو النافعة ويكون باعثا إلى التقرب إلى المحبوب بكل وسيلة يحبها المحبوب كما في حب الله تعالى الداعي إلى إتيان ما يريده عزوجل وترك ما لا يرضيه أو محركا إلى الإتيان بالعمل المحبوب ، كما في الأعمال الصالحة والحرف والصنايع ونحو ذلك ، أو يكون داعيا إلى قضاء الحاجة من المحبوب كما في حب الأكل ، وحب المال ، وحب النساء وغير ذلك ؛ أو يكون مصاحبا إلى البذل والعطاء من دون انتظار مقابل كما في حب الأم للأطفال.

والحب المجرد الذي لا يكون مقرونا بأي شيء لا أثر له بل هو من مجرد اللفظ فقط وهو تارة : يتركز حول النفس ؛ ويسمى بحب الذات الذي لا يخلو عنه أي حيوان وهو المعبر عنه في الإنسان بالأثرة وأخرى : يتعلق بالغير فهو إما أن يكون مصحوبا بالغيرة وهو المسمى بالحب العذري او لا يكون كذلك.

وثالثة : يتعلق بالله تعالى ويسمى بالحب الإلهي الذي هو وليد كمال معرفة الله تعالى والناشئ عن الجمال المطلق ولا يحصل إلّا بالتخلية عن الرذائل والتطهير عن كل ما يشغل القلب عن الله تعالى ، والتخلية بالفضائل. وهذا القسم هو أفضل أقسام الحب ولا يشعر به إلّا العارفون بالله ؛ وهو ذو مراتب متفاوتة ، والجامع بينها أن يكون الحب لله وفي الله وكل ما كان الحب أشد كانت

٢٥١

السعادة أتم وأعظم.

وهو يختلف باختلاف المحبوب وينقسم بحسب القوى الظاهرية في الإنسان كحب البصر للرؤية ، والسمع لسماع الأصوات الحسنة ، وكذلك الشم للأرياح الطيبة ، وكذلك اللمس والذوق.

كما أنه ينقسم بحسب القوى المعنوية ـ كالعقل والفكر والإيمان ، وفي جملة من الأخبار عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ليس الإيمان إلّا الحب في الله والبغض في الله» أي حب الله وحب احكامه وتشريعاته وحب محبيه والبغض لأعداء الله والمحرمات الإلهية : وقد ذكرنا أن هذا القسم من أفضل أفراد الحب الموجب لسعادة الإنسان في الدارين.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١))

بعد ما بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أحوال متخذي الأنداد ذكر تبارك وتعالى في هذه الآيات ما أوجب ذلك وأنه أكل الخبائث واتباع خطوات الشيطان العدو للإنسان الذي لا يرجى منه الخير والصلاح ، وتقليد الآباء والاعتماد على أفعالهم من غير عقل ولا هدى ثم أعقب ذلك مثلا يبين بطلان عقائدهم وسخف آرائهم ، وانهم كالحيوان الذي لا يعقل ما حوله إلّا دعاء الداعي وزجره ، فهؤلاء أيضا كذلك صمّ عن الحق كأنّهم لا يسمعونه وبكم لا يستجيبون لما يدعون اليه ، وعميّ كأنهم لا يشاهدونه فهم لا يعقلون الحق ولا يهتدون اليه.

٢٥٢

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً).

الحلال : هو المباح في مقابل المنع والحرام ، وبينه وبين المنع نسبة العدم والملكة ، ولذا لا تتصف أفعال الله تعالى بالحلال والمباح ، لعدم تعقل الحظر والمنع بالنسبة إليه عزوجل.

والطيب ما تستلذه النفس ولم يرد فيه نهي من الشرع.

والأمر فيه للإباحة و «من» للتبعيض أي بعض ما في الأرض إذ ليس كل ما فيها يؤكل ، أو من بعض ما في الأرض مما أحله الله تعالى. والجمع بينهما إما لأجل التحريض في إناقة الأطعمة بأي وجه أمكن إذا لم يكن محذور شرعي في البين. أو لأجل أدب المقام وتكريم الأكل في قوله تعالى : (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [سورة النساء ، الآية : ٤].

وتعميم الخطاب للنّاس أجمعين من جهة تعميم رحمته تعالى.

قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ). الخطوات [بضمتين] جمع خطوة وهي ما بين قدمي الماشي كالشهوة والشهوات وقرئت بضمة وسكون ، وخطؤات بضمتين وهمزة ، وخطوات بفتحتين ، وخطوات بفتح فسكون جمع الخطوة وهي المرة من الخطو. والمعروف هو الأول. واتباع خطوات الشيطان هو الاقتداء به واقتفاء أثره والاستنان بسنته. ولم تستعمل كلمة الخطوات في القرآن الكريم إلّا بالنسبة إلى الشيطان الرجيم ، وقد نهى سبحانه النّاس عن اتباعها في موارد متعددة.

والشيطان سواء كان من شطن أو شطأ بمعنى المبتعد عن الحق والعدو اللدود. ولفظه عبرى الأصل.

ويعتبر في الأديان الإلهية الكبرى مبعث الشر متمثلا في شخص خاص وله أعوان من صغار الشياطين يأتمرون بأوامره ، وهو يغري الإنسان ويكون سببا في غوايته على نحو الاقتضاء لا الجبر ولا يعدم اختياره ، فيستطيع ان يدافع معه وذلك بتوفيق من الله تعالى.

٢٥٣

وهو في الأصل كان في زمرة الملائكة صورة تمرد وتكبر على الله تعالى فسقطت منزلته فأظهر حقيقته على ما حكى عنه الجليل في القرآن الكريم ، وقد ورد ذكره في عدة مواضع من التوراة والإنجيل ، وفي القرآن الكريم وسيأتي الكلام فيه مفصلا.

والمراد من خطوات الشياطين كل ما يوجب انحراف الإنسان عن الصراط المستقيم والشرع القويم لأنه لا يأمر إلّا بالسوء والفحشاء قال تعالى : (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [سورة النور ، الآية : ٢١] ، فهو منشأ كل ضلال وفساد وهو المحرض على ارتكاب الجرائم والآثام فيكون كل ما هو خارج عن الشريعة المقدسة ، سواء كان في الإعتقاد او الأعمال من خطواته.

ويستفاد من الآية المباركة تعدد سبل إضلال الشيطان واغوائه بخلاف الصراط المستقيم المقابل لخطواته وهي عبارة عن السبل التي قال تعالى فيها : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٥٣] ومن أهم سبله متابعة الهوى والشهوات النفسانية قال تعالى : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [سورة ص ، الآية : ٢٦].

ومنها : إضلاله بجعل كل ما لم يكن من الدين في الدين بلا دليل معتبر عليه ففي روايات كثيرة ان الحلف على ذبح الولد ، والحلف بالطلاق والعتاق من خطوات الشيطان ، وسيأتي في البحث الروائي ما يتعلق بها.

ومنها : وسوسته وتزيين الحرام في نظر العبد ليرتكبه ، ففي الحديث عن ابن سنان عن الصادق (عليه‌السلام) : «قلت له : رجل عاقل مبتلى بالوضوء قال (عليه‌السلام) : وأي عقل له وهو يطيع الشيطان» وغير ذلك مما هو كثير.

ويقابلها هداية الرحمن فهما من الضدين اللذين لا ثالث لهما ومصير كل منهما معلوم إما رضوان الله تعالى أو سخطه ، قال تعالى : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٦٢] فالإنسان واقع بين قائد شرير وهو الشيطان يدعوه

٢٥٤

إلى متابعة خطواته ، وسائق كذلك يرغبه إلى ذلك وهو النفس الأمارة ، وهاد إلهي يهديه إلى الحق والصراط المستقيم وهم الأنبياء والمرسلون والمبدأ في الأول هو الشر والوسط خطوات الشيطان والمنتهى هو النار ، كما أن المبدأ في الثاني هو الله تعالى والوسط الأنبياء المرسلون والصراط المستقيم والغاية هي الجنّة.

وحقيقة الشيطان عبارة عن الجهل المركب والظلمات المنتهية إلى الإختيار.

ثم إنّ لخطوات الشيطان مظاهر ومراتب مختلفة ، فإنّ ترك كل واجب وإتيان كل محرم إلهي ، بل إتيان المشتبهات يكون من خطوات الشيطان ، وكذلك إتيان المكروه بالنسبة إلى كمال مرتبة الإيمان ، وكذا الغفلة عنه تبارك وتعالى ؛ بل اطلاق النهي يشمل القوى الباطنية من الوهم والخيال ، فإن ذلك كله مظاهر مختلفة من خطوات الشيطان أيضا ، والجميع تشترك في عدم الثبات ، كما هو شأن الخطوة المتقومة بالحركة.

قوله تعالى : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ). تعليل للنهي عن متابعة الخطوات بما هو ثابت في الفطرة التي تقضي بالفرار عن العدو والحذر منه ومخالفته بكل وجه أمكن. وعداوة الشيطان للإنسان واضحة فانه لا يدعو إلّا إلى ما يوجب الهلاك والبعد عن ساحة الرحمن ، وهو لا يخفي عداوته للإنسان وأبان ذلك من حين خلق آدم (عليه‌السلام) ويسعى في إفساد أحوال العبد قال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [سورة فاطر ، الآية : ٦].

وقد أكد سبحانه وتعالى هذا الأمر في مواضع كثيرة من القرآن الكريم بل في جميع الكتب السماوية. والوجه في كونه عدوا مبينا أنه حلف على إغواء الإنسان كما حكى عنه تعالى : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [سورة ص ، الآية : ٨٣].

ومن إخباره تعالى بأنّ الشيطان عدو للإنسان وإيكال الأمر إلى الفطرة يستفاد غاية التحذير والسعي في الابتعاد عنه.

٢٥٥

قوله تعالى : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ). بيان لعداوته مع الإنسان بإفساد فطرته وبصيرته بغوايته وإضلاله مما يوجب ابطال أعماله ومعتقداته.

والمراد بالأمر هنا الدعوة إلى السوء والفحشاء وتزيينهما للإنسان وإيجاد دواعيهما لديه.

والسوء كل ما يغم الإنسان في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما معا. والفحشاء ما يستعظم قبحه من الأفعال ، والأقوال وهو أعظم من السوء ، فان كل فحش سوء ولا عكس.

ويستفاد من الآية المباركة أنّ كل سوء وفحشاء يقعان في العالم إنما هو من فعل الشيطان ومن طرق إضلاله وغوايته فلا يرجى منه الخير والصلاح.

قوله تعالى : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). أي : ويأمركم ان تفتروا على الله وتنسبوا إليه عزوجل ما لا تعلمون أنه من شرعه ودينه ولا يختص ذلك بخصوص الأحكام الشرعية وتحليل الحرام أو تحريم الحلال بل يشمل العقائد الباطلة والآراء المزيفة التي لم يقم دليل على صحتها كما يشمل ما ينسب إلى أنبيائه ورسله (عليه‌السلام) افتراء فإن الإضافة إليهم إضافة إلى الله تعالى ، ففي جميع ذلك افتراء على الله واعتداء على حقه ، وقد سئل الباقر (عليه‌السلام) عن حق الله تعالى على العباد قال (عليه‌السلام) : «ان يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون» فيكون كل اعتقاد أو رأي في أصول الدين أو فروعه لم يمضه الشارع الأقدس داخلا في الآية الشريفة وما في سياقها ولذلك ذكر العلماء أنّ الأصل عدم الحجية في الرأي والاعتقاد إلّا إذا قامت الأدلة القطعية على الحجية وقد تعرضنا لذلك في علم الأصول فراجع كتابنا [تهذيب الأصول] وسيأتي تتمة الكلام عند قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [سورة الحاقة ، الآية : ٤٦].

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا). ألفينا بمعنى وجدنا مع اتخاذ ذلك عادة والايتلاف به. والضمير

٢٥٦

في «لهم» عائد إلى المشركين والمعاندين للحق.

والمراد من الآباء : الأعم من السادة والكبراء والآباء والمربين فانه يصح اطلاق الأب عليهم كما في الحديث : «الآباء ثلاثة : أب ولدك ، وأب علّمك ، وأب زوّجك» ، ويشهد للتعميم قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [سورة الأحزاب ، الآية : ٦٧].

ولعل في ذكر هذه الآية بعد النهي عن اتباع خطوات الشيطان إشارة إلى أن اتباع ما عليه الآباء يمكن أن يكون من اتباع خطوات الشيطان ، وان تقليد الآباء ، والإعراض عما أنزله الله من السوء ، والفحشاء والقول على الله بغير علم بلا فرق بين ان يكون الشيطان من شياطين الإنس أو الجن قال تعالى : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [سورة الأنعام ، الآية : ١١٢] وقد رد عزوجل عليهم وأبطل معتقداتهم.

قوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ). تقبيح لهم وتفضيح لمعتقدهم ومتابعتهم لآبائهم أي : أنهم يتبعون آبائهم ولو كان آباؤهم لا يعرفون شيئا من الدين ولا يهتدون إلى الحق فإذا كانوا كذلك فهم أيضا مثلهم لأنهم على غير هدى وكتاب منير. وفيه إرشاد إلى ان متابعة فرد لآخر لا بد وان تكون مع المعرفة بأنّ المتبوع حائز على الكمال والهداية ومع فقدهما لا يقدم العاقل على المتابعة ولا تكون إلّا الضلالة والدليل على ذلك نفس وجدان التابعين لو تخلوا عن العناد واللجاج ورجعوا إلى التفكر والتعقل ، وما ورد في الكتاب والسنة من ذم التقليد إرشاد إلى ذلك.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ١٠٤] ولعل الاختلاف في التعبير في الآيتين بحسب مراتب الجحود والعناد ففي الآية الأولى ادعوا متابعة الآباء ولم يدعوا شيئا وراء ذلك وفي هذه الآية ادعوا وراء ذلك الاكتفاء بها ، فعبر في الأولى بعدم التعقل وفي الثانية بالجهل من هذه الجهة.

٢٥٧

ومن الآية الشريفة يستفاد تقسيم التقليد إلى قسمين : قسم يكون في الباطل وإلى الباطل ، وقسم آخر يكون في الحق وبالحق كما ستعرف.

قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً). المثل : الشبه ، والقول في شيء يشبه قولا في شيء آخر يبين أحدهما الآخر. والمثال الصورة ، وفي الحديث : «إذا خرج المؤمن من قبره خرج معه مثال يتقدم أمامه فيقول له المؤمن من أنت؟ فيقول له : أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا»

وقد ذكرت هذه المادة بهيئات مختلفة في القرآن الكريم في ما يزيد على أربعين موردا. وذكر الأمثال في الكلام من أهم جهات الفصاحة والبلاغة وإنما يؤتى بها لتقريب المعاني إلى الأذهان وقد اعتنى بها الله تعالى في القرآن الكريم قال سبحانه : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) [سورة الروم ، الآية : ٥٨] وتقدم ما يتعلق بها في آية ١٧ من هذه السورة فراجع.

والنعيق صياح الراعي بالغنم وزجرها ، والعرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل ، ويستعمل النعيق ، والنغيق ، والنعيب في صوت الغراب أيضا بحسب اختلاف حالاته.

والدعاء للقريب. والنداء للبعيد غالبا وقد يستعمل أحدهما في مقام الآخر أيضا.

وقد بين سبحانه وتعالى أنّ مثل الكفار في عدم التعقل والتدبر في ما يرتبط بشؤون دينهم وآخرتهم ، وعدم تأملهم في ما أتى به الأنبياء لأجل سعادتهم ونجاتهم من المفاسد والمهالك ، مثل الحيوانات التي لا تفهم من الخطاب إلّا مجرد الأصوات التي يصدرها الإنسان لدعوتها إلى شيء أو زجرها عن شيء آخر فهي لا تعقل شيئا مما يقول ولا تفهم منها معنى كذلك شأن الكفار في الجهل وعدم التمييز بمداليل الألفاظ وعدم درك المعاني.

قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ). أي : أنّ الكافرين صم عن الحق فلا يدركونه ، وبكم عن السؤال عما يفيدهم وعمي عن العبرة

٢٥٨

والاعتبار مما يرونه ، وهذا شأن كل من غلب عليه الجهل المركب ولا يكون في مقام رفعه فليس له حظ من الكمال ولا يريد الاستكمال وقد تقدم نظير هذه الآية في آية ١٨ من هذه السورة.

ويمكن أن يستدل بمثل هذه الآية على أن الكفار الذين ركبهم الجهل والعناد أضل من الأنعام فانها تنزجر بزجر الراعي وتستجيب دعوته ، ولذا يمثلون كل مجتمع ليس فيهم قائد بصير ولا مدبر خبير بأنهم كأغنام لا راعي لها ، وهذا بخلاف الكفار فإنهم لا يرتبون أي أثر على دعوة الأنبياء ولم يعيروا لها بالا.

ثم إنّ المثل في المقام يحتمل وجوها أربعة :

الأول : أن يكون تشبيه حالهم في ترك دعوة الحق واتباع آبائهم بالناعق للحيوان يعني أن التابعين كالحيوان والمتبوعين كالناعق لهم.

الثاني : أن يكون كالوجه الأول إلّا ان التشبيه يكون بالنسبة إلى التابع ، يعني : ان المتبوع كالحيوان والتابع كالناعق لهم.

الثالث : لحاظ التشبيه بالنسبة إلى المعبودات الباطلة من الأوثان والأصنام ، بل يمكن التعميم فيشمل كل ما يراد به غير وجه الله تعالى ، فيكون المراد به أنه ليس له إلّا التعب والنصب من دعائه.

الرابع : تشبيه واعظ الكفار ـ وهم الأنبياء ـ بالراعي الذي ينعق بالحيوان ، فلا يسمع الكفار منهم ولا يفهمون ما يقولون لهم. ويمكن أن يؤخذ معنى عاما يشمل جميع ذلك.

بحوث المقام

بحث دلالي :

تشير الآيات الشرية إلى أمور :

الأول : يستفاد من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أنّ أمر الدين مختص بالله تعالى وأنّ في غير ما أذن فيه تعالى يكون تشريعا محرما واتباعا لخطوات الشيطان.

٢٥٩

الثاني : أنّ التعبير بالخطوات إشارة إلى أن إغواء الشيطان إنما يكون من الأشياء الدنيئة والخواطر الرديئة والأمور السفلية التي يستقبحها العقل لأنه مرجوم عن العلويات والأمور المعنوية العقلية ، فيكون إضلاله ناشئا عن الجهل وعدم التفكر والتعقل اللذين هما من جهة العلو ، فلا ينبغي لأحد ان يدع وحي السماء النازل على الأنبياء ومتابعة من تكون ذاته الدناءة والخسة والبعد عن ساحة الرحمن ، فيكون التعبير بالخطوات كناية عن نهاية الخسة والدناءة.

الثالث : أنّ قوله تعالى : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) إرشاد إلى أمر فطري ، وهو أنّ الإنسان لا يركن إلى عدوه ويتبعد عنه بل هذا ارتكازي في الحيوان في الجملة ، فيكون من باب بيان الموضوع لترتب الحكم الفطري عليه قهرا.

الرابع : إنّما وصف سبحانه الشيطان بأنّه «عدو مبين» إما لأجل وضوح عداوته لكل عاقل لو تبصر وتأمل في أفعاله ووساوسه حق التأمل ، ويكفي في ذلك الإعتبار من حال الكفار والمنافقين ، أو لأجل قسمه وحلفه على الإغواء كما حكى عنه تعالى : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [سورة ص ، الآية : ٨٣] أو لأجل إخراجه ورجمه عن قرب الله عزوجل ، أو لأجل أنّ بني آدم أفضل منه ، ويمكن أن يكون لاجتماع هذه الأسباب دخل في اشتداد إغوائه وإضلاله للنّاس.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أنّ للشيطان ركيزتين في إضلال الإنسان وإغوائه :

الأولى : تزيين ما ترغب إليه النفس الأمّارة من السوء والفحشاء والترغيب إليهما بأساليب مختلفة ، وهو بذلك يبعد الإنسان عن الجانب الأهم في طبيعته أي جانب التعقل والتدبر.

الثانية : تلبيس الحق بالباطل واراءة الباطل حقا بحيث ينسب ما ليس من الدين إلى الدين فيجتهد في ذلك ويريد بذلك طمس الفطرة الإنسانية ، فان الإنسان بفطرته يميل إلى الحق والتدين بالدين الإلهي.

٢٦٠