مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

ولا آخر وهو منحصر في الله تعالى ، وبالنسبة إلى ما له أول وآخر ، وبالنسبة إلى ما له أول وليس له آخر ، كنعيم أهل الجنّة وعذاب أهل النار.

والعذاب : هو الضرب ثم استعمل في كل عقوبة مؤلمة ؛ واستعير للأمور الشاقة حتّى قيل : السفر قطعة من العذاب. وقيل : إنّه من الأضداد لاستعماله في الطّيب العذاب أيضا. وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم فيما يزيد على ثلاثمائة مورد.

والنظر : استعمال البصر والبصيرة لدرك الشيء ويلزمه التأمل والإمهال ، ومنه قوله تعالى : (فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [سورة الحجر ، الآية : ٣٦].

والمعنى : إنّهم ماكثون في اللعنة الموجبة للعذاب ولا يخفف عنهم لفرض استقراره عليهم بموتهم على الكفر فلا يرفع عنهم العذاب وفي الآية التفات من الضمير إلى الظاهر للدلالة على أن اللعنة هي العذاب.

بحث دلالي :

يستفاد من الآيات الشريفة أمور :

الأول : قد وصف سبحانه وتعالى ما أنزله بالبينات أي : الحجج الواضحة المشتملة على هداية النّاس التي تجلب لهم السعادة في الدارين وأن كتمان ذلك وإظهار ما هو خلافه موجب للضلالة والاختلاف والشقاء ، وهذا المعنى يستفاد من جملة كثيرة من الآيات الواردة في بيان هذه الآية أو التي وردت في بيان سبب اختلاف النّاس ، قال تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٣]. ويستفاد من هذه الآية أن ما أنزله الله هو الحق الذي لا اختلاف فيه المعبّر عنه بالفطرة في القرآن الكريم والسنة الشريفة ، قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ

٢٠١

النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [سورة الروم ، الآية : ٣٠]. وهو يدل على أنّ سبب الاختلاف والتفرق بين الأمم هو الابتعاد عن الفطرة الذي لا يعلمه كثير من النّاس لكتمان الحق وعدم بيانه للناس ، أو تأويله وعدم حفظه ، أو لكثرة الشبهات التي توجب الابتعاد عن دين الفطرة ، ولذلك كله كان الكتمان ظلما عظيما.

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : (وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) أنه لا أثر للتوبة عن كتمان الحق الا بعد إزالة الأثر الخارجي الناشئ عن كتمان الحق وإظهاره وإعلانه والعمل به وإرشاد النّاس اليه.

الثالث : يدل قوله تعالى : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) على أن كتمان كل ماله دخل في استكمال الإنسان جناية على المجتمع ، فان كل كمال للفرد يكون كمالا للمجتمع وكذا العكس ، لمكان التلازم بينهما في الجملة والإظهار حق نوعي لازم لمن قدر عليه. وتركه ـ وإخفاء الحق ـ ظلم نوعي ولذلك يلعنه كل لا عن ، إذ أن كل مظلوم يلعن ظالمه بالفطرة ولو لم يكن باللسان.

الرابع : يستفاد من الآية المباركة استمرارية اللعن ودوامه بالنسبة إلى كل من يكتم الحق فلا يختص حكمها بطائفة خاصة ، ويدل على ذلك أيضا أن قبح كتمان الحق من المستقلات العقلية فمهما وجد موضوعه ينطبق الحكم عليه قهرا ، كما في كل قضية عقلية.

الخامس : إنّما أجمل سبحانه وتعالى اللعن في الآية الأولى وفصّله في الآية الثانية ، لتعدد الجهات في الآية الثانية من الموت على الكفر وعدم التوبة من كتمان الحق ، واستقرار الظلم في نفوسهم

بحث روائي :

في تفسير العياشي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «قلت له : أخبرني عن قول الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ). قال (عليه‌السلام) : نحن يعنى بها والله المستعان أنّ الرجل منا إذا صارت اليه لم يكن له او لم يسعه إلّا أن

٢٠٢

يبين للنّاس من يكون بعده».

أقول : مثل ذلك روايات كثيرة أخرى ، ولا ريب أنها من التطبيق لكل حق لا بد أن يبين.

وفي الإحتجاج في الآية المتقدمة عن علي (عليه‌السلام) : «العلماء إذا فسدوا».

أقول : إذا فسدوا يعني لم يعملوا بعلمهم يكون ذلك كتمانا عمليا للحق الذي يقولونه للنّاس.

وفي المجمع في الآية عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «من سئل عن علم يعلمه فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار ، وهو فأنزل له تعالى : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

أقول : وذلك لأنه سكت في الدنيا عن بيان الحق وألجمه هواه عن ذلك ، فيظهر ذلك في عالم الآخرة بلجام من النار ، والروايتان تؤيدان ما ذكرناه في الكتمان ، وإطلاقهما يشمل كل عالم بكل حق.

وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قوله : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) ، قال (عليه‌السلام) : «نحن هم ، وقد قالوا : هو أمّ الأرض».

أقول : لأنهم شهداء الخلق ويعرض عليهم أعمالهم فيكونون هم اللاعنون لا محالة ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [سورة هود ، الآية : ١٨] واما قوله : «وقد قالوا : هو أمّ الأرض» فقد نسب ذلك إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وفي تفسير القمي في الآية المتقدمة قال (عليه‌السلام) : «كل من قد لعنه الله فالجن والنّاس يلعنهم».

أقول : والوجه في لعن الجن والإنس لمن يكتم الحق وثنائهم لمن يظهر الحق كما في بعض الروايات ، أنّ جميع الموجودات ترتبط بالحق

٢٠٣

الواقعي تكوينا ، فيكون كتمانه مبغوضا لديهم وإعلانه محبوبا عندهم ، كما تقدم في تفسير الآية.

وفي الدر المنثور في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) : «نزلت في علماء أهل الكتاب وكتمانهم آية الرجم وأمر محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله)».

أقول : هذا من باب التطبيق.

بحث كلامي :

التوبة باب من أبواب رحمة الله تعالى ، وهي من أعظم أنحاء لطفه بعباده ؛ ومن أقرب الطرق اليه عزوجل ، وهي أول منازل السائرين إلى الله سبحانه ، وأساس درجات السير والسلوك الإنساني وهي مفتاح التقرب اليه عزوجل ، والوصول إلى المقامات العالية بل لا تتحقق التخلية عن الصفات الرذيلة والتحلية بالصفات الحسنة إلّا بها ، ويكفي في فضلها أنها من صفات الباري عزوجل فانه «التواب الرحيم» ، وقد منّ على عبيده أن تقرب إليهم بالتوبة عليهم بعد البعد عنه تعالى بالمعاصي والذنوب ، فقال تبارك وتعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة الأنعام ، الآية : ٥٤]. وقد ورد في عظيم فضلها نصوص كثيرة ، ففي الكافي عن أبي عبيدة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «إنّ الله تبارك وتعالى أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها ، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها».

وروي عنهم (عليهم‌السلام) : «إنّ الله أعطى التائبين ثلاث خصال لو أعطى خصلة منها جميع أهل السموات والأرض لنجوا بها ، قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) فمن أحبه الله لم يعذبه. وقوله عزوجل : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) ـ الآية ـ. وقوله عزوجل : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً). إلى غير ذلك من

٢٠٤

الأخبار الكثيرة الواردة في فضلها. وأنّ للجنّة بابا من أوسع أبوابها يسمى باب التائبين ، وهي من مظاهر رحمانيته ورحيميته اللتين هما من أوسع صفات الله تعالى العليا بل لا حد لهما أبدا ، والبحث عن التوبة من جهات كثيرة :

التوبة وتعريفها وحقيقتها :

التوبة معروفة عند كل من يقترف ذنبا ويعترف به عند الله تعالى وهي : بمعنى الاعتذار المقرون بالاعتراف المستلزم للرجوع إليه تعالى بعد البعد عنه بسبب الذنب ، وهذا هو المعنى اللغوي ، كما عرفت.

وقد عرّفها علماء الكلام والأخلاق بتعاريف متعددة هي أقرب إلى المعنى اللغوي ، ونحن نذكر تعريفين منها.

الأول : ما عن بعض علماء الكلام : أنها الندم على معصية من حيث هي مع العزم على أن لا يعود إليها إذا قدر عليها.

الثاني : ما عن بعض علماء الأخلاق : أنها الرجوع إلى الله تعالى بحل عقدة الإصرار عن القلب ثم القيام بكل حقوق الرب.

وهذان التعريفان مقتبسان مما ورد في الكتاب الكريم والسنّة المقدسة. والمستفاد من النصوص الواردة في المقام هو أن حقيقة التوبة هي الندم على الذنب كما ورد في الأثر عنه (عليه‌السلام) : «كفى بالندم توبة».

وذلك لأنّ الإنسان مزيج قوى متخالفة ومركب من شهوات متعددة ، تجذب كل قوة ما يلائمها من الخير أو الشر كما هو المفصل في علم الأخلاق ، فالقوة العاقلة تجذب الإنسان إلى الفضيلة وتمنعه عن الرذيلة ، والقوة الشهوية ترغبه إلى ما تشتهيه ، والقوى الغضبية تورده إلى المهالك والأخطار إن لم يمسكها بزمام العقل. والإنسان الكامل هو المدبر لهذه القوى المتخالفة والملائم بينها بالتوفيق بينها بحيث لا تخرج كل قوة عن الحد الذي عيّن لها فيجلب بذلك سعادة الدارين. وهو في مسيره الاستكمالي لا يسلم من الموانع والعوائق التي تعيقه عن سيره إذا لم يتغلب عليها بالحكمة والتدبير ، ومن جملة تلك الموانع المعاصي والذنوب. فإذا

٢٠٥

اعترض على الإنسان ذنب يرى نفسه بين أمرين مخيرا بينهما إما الفعل وما يتعقبه من الآثار ، أو الترك وما يلزمه من راحة النفس والفوز بالسعادة ، وهذا وجداني لكل فاعل مختار ، فإذا عزم على الفعل وأقدم على الارتكاب تحصل في نفسه حالة خاصة توجب الندامة والخجل والحياء المسمى ب (تأنيب الضمير) في علم النفس المعاصر ، وقد اعتبر الشارع هذه الحالة هي التوبة ؛ قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «التوبة الندامة» وعن الصادق (عليه‌السلام) : «كفى بالندم توبة».

والسر في ذلك : أنّ هذه الحالة تكشف عن تغليب العقل والقوى الخيرة على الجانب الآخر ، وهي تدعو إلى ترك الذنب في المستقبل والارتداع عن المعصية ، ولذا قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : «إنّ الندم على الشر يدعو إلى تركه» ، وتتكرر هذه الحالة النفسية عقيب كل ارتكاب للمعصية ما لم تترسخ المعاصي في النفس فيهون عنده ارتكاب الذنوب واقتراف الآثام فيستولي عليه الفساد بالإصرار ويقسو قلبه ، وهذه هي حالة إحاطة الخطيئة بالإنسان كما ورد في القرآن الكريم ، وقد أشار تعالى إليها بقوله عزوجل : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) [سورة المطففين ، الآية : ١٤]. وتزول هذه الحالة بإتيان الأعمال الصالحة ومزاولة الطاعات وتقوية النفس بالحسنات وترويضها بالأخلاق الفاضلة.

ومن ذلك يعلم أن تعريف التوبة بالندم هو أقرب إلى ما يتحصل من الروايات ، واما تعريفها بالرجوع والارتداع عن المعصية في المستقبل فهو تعريف باللازم الحاصل من الندم.

وإذا عرفت أن التوبة حقيقة هي الندم فلا بد وان يكون منبعثا عن حرقة القلب والشعور بالحياء منه عزوجل والخجل عن ما صدر منه كما في بعض الروايات «إن الرجل يذنب فلا يزال خائفا ماقتا لنفسه فيرحمه‌الله فيدخله الجنّة».

وأما إذا كان الندم حاصلا من اطلاع الغير عليه ، أو خوفه من إعراض المجتمع عنه ، أو سقوط منزلته عند النّاس فلا أثر له ، بل لا بد من ان تسوءه

٢٠٦

سيئته كما ورد في الخبر.

وجوب التوبة :

التوبة من الذنب واجبة على الإنسان بالأدلة الأربعة :

الأول : الكتاب الكريم ، وتدل عليه آيات كريمة ، منها قوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة النور ، الآية : ٣١] ، ومنها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [سورة التحريم ، الآية : ٨] إلى غير ذلك من الآيات ، وتدل عليه أيضا الآيات الكثيرة الدالة على إتيان الحسنات بضميمة قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [سورة هود ، الآية : ١١٤] ، ومن أجلّ الحسنات الفرائض.

الثاني : السنة الشريفة ، والأخبار في وجوبها متواترة بين الفريقين بمضامين مختلفة :

ففي الكافي عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ، قال : «الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ؛ ولا يحدث نفسه بالتوبة فذلك الإصرار».

وفي مهج الدعوات عن الرضا (عليه‌السلام) عن آبائه (عليهم‌السلام) قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «اعترفوا بنعم الله ربكم وتوبوا إلى الله من جميع ذنوبكم ، فان الله يحب الشاكرين من عباده».

وفي الكافي أيضا عن أبي الحسن الماضي (عليه‌السلام) قال : «ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فان عمل حسنا استزاد الله ، وإن عمل سيئا استغفر الله منه وتاب اليه».

وفي الكافي عن أبي بصير : قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) قال (عليه‌السلام) : «هو الذنب الذي لا يعود فيه أبدا. قلت : وأيّنا لم يعد؟ فقال (عليه‌السلام) : يا أبا محمد إن الله يحب من عباده المفتن التواب».

٢٠٧

الثالث : الإجماع من جميع المسلمين على وجوب التوبة ، وهو مما لا ريب فيه.

الرابع : دليل العقل : فإن حدوث المخالفة والبقاء عليها قبيح عقلا ، وترك كل قبيح عقلي واجب عقلا وشرعا ، ولا يتحقق ذلك إلّا بالتوبة.

وبتقريب آخر : إنّ المعاصي من المهلكات ، وإنّها تجلب الضرر على العاصي ؛ ولا ريب في وجوب دفع الضرر عقلا.

فورية وجوب التوبة :

بعد ما ثبت أصل وجوبها يكون هذا الوجوب فوريا ، وتدل عليه أمور :

الأول : ظاهر أدلة وجوب التوبة عن المعاصي.

الثاني : قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١٧].

الثالث : إنّ بقاء العصيان في النفس من أقذر القذارات المعنوية والفطرة تحكم بفورية إزالتها.

الرابع : الإجماع القائم على الفورية.

الخامس : الأخبار الكثيرة الدالة عليها منها : رواية مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد (عليه‌السلام) عن آبائه (عليهم‌السلام) قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «طوبى لمن وجد في صحيفة عمله يوم القيامة تحت كل ذنب استغفر الله» ، وفي وصية النبي لأبي ذر قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «اتق الله حيثما كنت وخالق النّاس بخلق حسن ، وإذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحوها» ، وفي وصية لقمان لابنه «يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة».

ومنها الروايات الكثيرة الدالة على إمهال العاصي سبع ساعات ، فقد ورد في الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : من عمل سيئة أجل فيها سبع ساعات من النهار ، فإن قال : استغفر الله الذي لا إله إلّا هو

٢٠٨

الحي القيوم وأتوب إليه ، ثلاث مرات لم تكتب عليه». ويستفاد من مجموع هذه الأخبار أن التوبة من الطاعات ومن الأمور العبادية.

شروط التوبة :

قد ذكر العلماء للتوبة شروطا كثيرة ، وهي على قسمين : شروط لصحة التوبة ، فلا تصح إلّا إذا اجتمعت فيها تلك الشروط. وشروط لكمالها ومع فقدها لا تكون كاملة ولا مقبولة.

أما القسم الأول فهي ثلاثة :

الأول : الندم وقد ذكرنا سابقا أن حقيقة التوبة هي الندم على الذنب ، ويدل على اعتبار هذا الشرط ما تقدم من الأخبار ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «كفارة الذنب الندامة» ، وما رواه في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن» إلى غير ذلك من الأخبار.

الثاني : أن ينوي عدم العود إلى ذلك الذنب ، لأن حقيقة الندم لا تتحقق إلّا بذلك ، كما تقدم ، وتدل عليه جملة من الأخبار كما سيأتي ، والمعتبر من هذا الشرط ترك العود إلى الذنب الذي سبق مثله ، وأما الذنب الذي لم يسبق صدوره منه فنية تركه لا تكون من التوبة ، بل هي من التقوى.

ثم إنّ العزم على ترك المعصية في المستقبل بعد تحقق الندم عنها فعلا إن كان كاشفا عن تحقق حقيقة الندم من كل جهة فلا ريب في اعتباره ، لأنه مع عدمه لا تتحقق حقيقة الندم الفعلي كما عرفت. وأما إذا تحقق الندم فعلا ولم يتحقق العزم على الترك لعدم التوجه إليه فلا دليل على اعتباره حينئذ ، بل يستفاد من بعض النصوص عدمه ، فقد روى الكليني فى الكافي عن أبي بصير : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) قال (عليه‌السلام) هو الذنب الذي لا يعود فيه أبدا. قلت : وأينا لم يعد؟ فقال (عليه‌السلام) : يا أبا محمد إنّ الله يحب من عباده المفتن التواب» والمراد بالمفتن من يذنب ويتوب. ثم يعود. ونحوه غيره من

٢٠٩

الأخبار.

الثالث : أداء الحقوق وردها إلى أهلها ، وفي الحديث : «لا توبة حتّى تؤدي إلى كل ذي حق حقه» ، وفي حديث آخر : «الظلم الذي لا يدعه الله فالمداينة بين العباد» إلى غير ذلك من الأخبار.

وأما القسم الثاني ، وهي شروط الكمال فقد جمع أمير المؤمنين (عليه‌السلام) المهم منها في قوله : «الاستغفار درجة العليين ؛ وهو اسم واقع على ستة معان : أولها الندم على ما مضى ، والثاني العزم على ترك العود إليه أبدا ، والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله عزوجل أملس ليس عليك تبعة ، والرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها ، والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد ، والسادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية ، فعند ذلك تقول : استغفر الله» ولا يخفى انه (عليه‌السلام) جمع في كلامه كلا القسمين من الشروط.

ومن شروط الكمال أن يترك المعصية لأجل المعصية لا لأجل شيء آخر من حياء أو خجل أو غير ذلك ، بل تركها لأجل نقص في عضو او عدم الإمكان لا يسمى توبة. وهذا ظاهر.

قبول التوبة :

إذا تحققت التوبة من العبد وكانت مستجمعة للشرائط تكون مقبولة لا محالة ، ويدل على ذلك أمور : الأول : قوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة الأنعام ، الآية : ٥٤] ، ويستفاد من هذه الآية قاعدة كلية وهي أن كل ما هو من صغريات الرحمة بينة عزوجل وبين عباده يكون واجبا عليه عزوجل لأنه كتب على نفسه ذلك فقبول التوبة الجامعة للشرائط مما أوجبه الله على نفسه ، فيستغنى بذلك عن قاعدة اللطف التي أثبتوها في علم الكلام.

٢١٠

ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١١٠].

الثاني : الأخبار الكثيرة الدالة على لزوم قبول التوبة ، ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انه قال : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» ، وفي الخبر عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له ، فليعمل لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة أما والله إنها ليست إلّا لأهل الإيمان. قلت : فان عاد بعد التوبة والاستغفار من الذنوب وعاد في التوبة؟ قال (عليه‌السلام) : يا محمد ابن مسلم أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته؟!! قلت : فانه فعل ذلك مرارا ، يذنب ثم يتوب ويستغفر ، فقال : كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله عليه بالمغفرة وإنّ الله غفور رحيم يقبل التوبة ويعفو عن السيئات ، فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله».

وروى ابن بابويه في ثواب الأعمال عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «أوحى الله إلى داود النبي (عليه‌السلام) : يا داود إن عبدي المؤمن إذا أذنب ذنبا ثم رجع وتاب من ذلك الذنب واستحيا منّي عند ذكره ، غفرت له ، وأنسيته الحفظة ، وأبدلته الحسنة ولا أبالي وأنا ارحم الراحمين» والروايات في ذلك كثيرة.

الثالث : يمكن الاستدلال عليه بالدليل العقلي أيضا وهو أن الإنسان السائر في مسير الاستكمال الأبدي الذي هو أشرف موجودات هذا العالم بل لم يخلق العالم إلّا لأجله ومع ذلك فهو ضعيف كما قال تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [سورة النساء ، الآية : ٢٨] ، قرين النفس الأمارة ومحاط بالشهوات المادية ، والشيطان يحوط به إحاطة العروق بالدم وجميع ذلك له دخل في نظام التكوين والتشريع كما ثبت بالبراهين القطيعة في الفلسفة العملية. وحينئذ فلو كان صرف وجود العصيان مانعا دائميا عن إفاضة المبدإ القيوم فيضه عليه لزم تعطيل أعظم المخلوقات عما خلق له ، وهو قبيح والقبيح محال بالنسبة اليه عزوجل ، فيحسن قبول التوبة منه تعالى ، ويرشد إلى ذلك ما في بعض القدسيات : «بمعصية ابن آدم عمرت العالم» ومنه يظهر سر

٢١١

ابتلاء آدم بما ابتلي به في بدء الهبوط ، كما يظهر شرح قوله (عليه‌السلام) : «إن الله يحب المفتن التواب».

فاليأس عن قبول التوبة معصية كبيرة ، ولو عصى العبد مرات عديدة ، لأنه يأس من رحمة الله تعالى ، وهو من المعاصي الكبيرة ، وعن علي (عليه‌السلام) في بعض دعواته الشريفة : «اللهم إن استغفاري إياك وأنا مصرّ على ما نهيت قلة حياء ، وتركي الاستغفار مع علمي بسعة فضلك وحلمك تضييع لحق الرجاء».

موارد التوبة :

تصح التوبة من جميع الذنوب والخطايا ، سواء كانت من الكبائر أم الصغائر ، وهي توجب محوها إذا اجتمعت فيها الشرائط ، وتدل على ذلك آيات من الكتاب الكريم وروايات من السنّة الشريفة.

اما الآيات فمنها قوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة النور ، الآية ٣١] ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١١٠].

ويدل على خصوص التوبة عن الكبائر قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) [سورة الفرقان ، الآية : ٧١].

وأما ما يدل على صحة التوبة عن الصغائر فهو كثير ، قال تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [سورة النساء ، الآية : ٣١] والآيات في ذلك كثيرة.

وأما الروايات فهي مستفيضة منها ما روي عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)

٢١٢

قال : «اعترفوا بنعم الله ربكم ، وتوبوا إلى الله من جميع ذنوبكم فإن الله يحب الشاكرين من عباده». وفي تفسير القمي عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لما اعطى الله إبليس ما أعطاه من القوة قال آدم يا رب سلطت إبليس على ولدي وأجريته منهم مجرى الدم في العروق ، وأعطيته ما أعطيته فمالي ولولدي؟ قال : لك ولولدك السيئة بواحدة والحسنة بعشر أمثالها ، قال : يا رب زدني ، قال : التوبة مبسوطة إلى ان تبلغ النفس الحلقوم ، قال : يا رب زدني ، قال : اغفر ولا أبالي. قال : حسبي». وروى في الكافي عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ؛ الكبائر فما سواها قلت : دخلت الكبائر في الاستثناء؟ قال (عليه‌السلام) : نعم» والروايات الدالة على صحة التوبة من الكبائر والصغائر كثيرة جدا تقدم بعضها.

ثم إنه قد ورد إنه لا تقبل التوبة عن بعض الذنوب ، منها ما ورد في عدم قبول توبة من أحدث دينا ، وما ورد في عدم قبول التوبة عن الشرك ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [سورة النساء ، الآية : ١١٦] ، وعدم قبول توبة المرتد.

ولكن الحق أن يقال : إنّ جميع تلك الموارد لا بد وان تحمل إما على عدم وقوع التوبة مستجمعة للشرائط او الموت على الشرك وعدم التوبة منه ، وإلّا فإن الإسلام يهدم الشرك بلا إشكال ، وتدل على ذلك روايات منها صحيح أبي بصير عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في حديث الإسلام والإيمان قال : «والإيمان من شهد أن لا إله إلّا الله ـ إلى ان قال ـ ولم يلق الله بذنب أوعد عليه بالنار. قال أبو بصير : جعلت فداك وأينا لم يلق الله بذنب أوعد عليه بالنار؟ فقال (عليه‌السلام) : ليس هو حيث تذهب إنما هو من يلق الله بذنب أوعد الله عليه بالنار ولم يتب منه».

وأما المرتد فتقبل توبته مطلقا ـ فطريا كان أو مليا ـ على ما فصلناه في الفقه ومن شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام) ، ويدل على القبول صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «من كان مؤمنا فعمل خيرا في

٢١٣

إيمانه ثم أصابته فتنة فكفر ثم تاب بعد كفره كتب له وحوسب بكل شيء كان عمله في إيمانه ولا يبطله الكفر إذا تاب بعد كفره».

إن قلت : إنه قد ورد في بعض الأخبار نفي الإيمان عمن يذنب بعض الذنوب وإثبات الكفر له ، ففي الخبر عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «لا يزني الزاني وهو مؤمن ؛ ولا يسرق السارق وهو مؤمن» ، ومثله غيره.

قلت : يحمل ذلك على نفي بعض مراتب الإيمان ، أو إثبات بعض مراتب الكفر ، ويدل عليه ما رواه زرارة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «أرأيت قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : لا يزني الزاني وهو مؤمن ، قال (عليه‌السلام) : ينزع منه روح الإيمان». ولا يدل ذلك على سلب الإيمان منهم بالكلية ، أو أنّ العاصي بذلك لا مؤمن ولا كافر كما يقوله بعض المعتزلة ، وللكلام تتمة تأتي في المحل المناسب إن شاء الله تعالى.

التوبة وزمانها :

إنّ من رحمته تعالى ومنّه على عبده أن فتح لهم باب التوبة بمصراعيه ، ومن عظيم لطفه جعله مفتوحا أمام العاصين حتى تبلغ النفس إلى الحلقوم ، ويدل على ذلك روايات مستفيضة منها ما رواه الكليني في الكافي عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من تاب قبل موته بسنة قبل الله توبته ، ثم قال : إن السنة لكثير ، من تاب قبل موته بشهر قبل الله توبته ، ثم قال : إن الشهر لكثير ، من تاب قبل موته بجمعة قبل الله توبته ، ثم قال : إن الجمعة لكثير ، من تاب قبل موته بيوم قبل الله توبته ثم قال : إن يوما لكثير ، من تاب قبل ان يعاين قبل الله توبته». وروى في الكافي أيضا عن أحدهما (عليهما‌السلام) : «إنّ الله عزوجل قال لآدم (عليه‌السلام) : جعلت لك أن من عمل من ذريتك سيئة ثم استغفر غفرت له ، قال : يا رب زدني ، قال : جعلت لهم التوبة ـ أو بسطت لهم ـ حتّى تبلغ النفس هذه. قال : يا رب حسبي» إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة ، ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) [سورة النساء ، الآية : ١٨] أي في ما إذا عاين الموت

٢١٤

كما ورد في الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة الهداة (عليهم‌السلام) كما تقدم في بعض الروايات.

السبل لمحو الذنوب :

تقدم أن الذنوب كلها قابلة للتكفير عنها ومحوها ، والتوبة عنها ولذلك طرق كثيرة ، وهي إما أن تكون محدودة ومعينة في الشرع فلا تصح بغيرها ، وإما ان لا تكون كذلك. والجامع بين القسمين هو الندامة ، والمجاهدة على ترك الذنب ، وإرضاء صاحب الحق ـ خالقا كان أو مخلوقا ـ فطرق التوبة على قسمين :

القسم الأول : الطرق التي عينها الشارع وجعل لها حدودا وشروطا لا تصح التوبة بغيرها وهي كثيرة :

منها : الإسلام فإنه يهدم الشرك ، والآيات والروايات فيه متواترة ، ويكفي في ذلك قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) المشهور بين الفريقين : «الإسلام يجبّ ما قبله».

ومنها : قضاء الطاعات الواجبة مثل الصّلاة ، والصوم ، والحج والزكاة ، والخمس ، فإن النوبة المقررة في الشريعة عن الذنب الحاصل من تركها هي قضاؤها على ما هو المفصل في علم الفقه.

ومنها : أداء حقوق النّاس إن ضيعها سواء كان الحق ماليا ، أو جناية على النفس ، أو حقا أدبيا أخلاقيا ، والتوبة عن الذنب الحاصل من تضييعها أداؤها ، والاسترضاء من صاحب الحق ، أو القصاص ، أو إخراج الدية كما هو مفصل في كتب الفقه.

ومنها : إظهار الخلاف وإعلام النّاس ببطلان ما أظهره كما لو استحدث دينا جديدا فطريق التوبة عنه إظهار خلافه وإعلام النّاس ببطلانه ، والإصلاح بعد الإفساد ، قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٠].

وأما ما ورد عن الرضا عن آبائه (عليهم‌السلام) عن رسول الله

٢١٥

(صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنه قال : «إن الله غافر كل ذنب إلّا من أحدث دينا ، ومن اغتصب أجيرا أجره ، أو رجل باع حرا» فإنه محمول على عدم تحقق شرائط التوبة منه بقرينة غيره من الروايات المتقدمة.

القسم الثاني : الطرق العامة التي جعلها الله تعالى وسيلة للتوبة والتكفير عن الذنوب والخطايا ، وهي أيضا كثيرة.

منها : اجتناب الكبائر فانه موجب لمحو الصغائر ، قال تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) [سورة النساء ، الآية : ٣١] ، وقال تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) [سورة الطلاق ، الآية : ٥] ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [سورة الأنفال ، الآية : ٢٩]. وروى ابن بابويه في الفقيه عن الصادق (عليه‌السلام) : «من اجتنب الكبائر يغفر الله جميع ذنوبه وذلك قول الله عزوجل : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ). وفي رواية محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه‌السلام) قال : «من اجتنب كبائر ما أوعد الله عليه النّار إذا كان مؤمنا كفر الله عنه سيئاته» ونحوهما غيرهما.

ومنها : إتيان الحسنات والأعمال الصالحة ، فانه كفارة للذنوب قال تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [سورة هود ، الآية : ١١٤]. وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «الصلوات الخمس والجمعة تكفر ما بينهنّ إن اجتنبت الكبائر» ، وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أتبع السيئة الحسنة تمحها» ، وفي وصية النبي لأبي ذر : «اتق الله حيثما كنت ، وخالق النّاس بخلق حسن ، وإذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحوها». وفي صحيح يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) «ومن عمل سيئة في السر فليعمل حسنة في السر ، ومن عمل سيئة في العلانية فليعمل حسنة في العلانية». وفي صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «ما أحسن الحسنات بعد السيئات وما أقبح السيئات بعد الحسنات».

ومنها : الاستغفار فانه الممحاة ، وانه دواء الذنوب كما في الأثر قال

٢١٦

تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١١٠] ، وقال تعالى : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [سورة هود ، الآية : ٩٠] ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣٥]. وفي الحديث : «كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يستغفر الله في كل يوم سبعين مرة يقول : استغفر الله ربي وأتوب اليه ، وكذلك أهل بيته ، وصالح أصحابه ؛ يقول الله تعالى : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) ؛ وفي الحديث أيضا قال رجل : «يا رسول الله إني أذنب فما أقول إذا تبت؟ قال : (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : استغفر الله ، فقال : إني أتوب ثم أعود فقال : كلما أذنبت استغفر الله. فقال : إذن تكثر ذنوبي ، فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عفو الله أكثر ، فلا تزال تتوب حتّى يكون الشيطان هو المدحور» ، وعن عمار بن مروان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «من قال استغفر الله مأة مرة في يوم غفر الله له سبعمائة ذنب ، ولا خير من عبد يذنب في يوم سبعمائة ذنبا» وفي رواية عبد الصمد بن بشير عن الصادق (عليه‌السلام) أيضا : «إن المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتّى يستغفر ربه فيغفر له ، وإن الكافر لينساه من ساعته». والروايات في كون الاستغفار موجبا لمحو الذنوب كثيرة جدا.

ومنها : الاستعانة بالله بالصّلاة والصيام في غفران الذنوب ، ففي الخبر عنهم (عليهم‌السلام) : «ما من عبد أذنب ذنبا ، فقام وتطهر وصلّى ركعتين واستغفر الله إلّا غفر له ، وكان حقا على الله أن يقبله ، لأنه سبحانه قال : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) ، وعن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) أنه قال : «ما أهمني ذنب أمهلت بعده حتّى أصلي ركعتين». وقد وردت روايات كثيرة على أن صوم أيام من الأسبوع أو أيام من السنة يوجب محو الذنوب ، فراجع كتاب الصوم من الوسائل.

التبعيض في التوبة :

تصح التوبة عن بعض الذنوب دون بعض. لتعدد الذنوب وتعدد آثارها

٢١٧

شرعا ، وعدم الارتباط بينها كذلك ، سواء كانت الذنوب التي يتوب عنها موافقة بالنوع مع الذنوب التي لا يريد التوبة عنها ، أو مخالفة لها كأن يريد التوبة عن الكذب دون الغيبة ، أو يتوب عن شرب الخمر دون الزنا مثلا ، والدليل عليه مضافا إلى ذلك إطلاقات الأدلة وعموماتها ، وتسمى هذه بالتوبة المفصلة.

وذهب بعض العلماء الى عدم صحة التوبة كذلك بل يجب العموم ـ كما هو مذهب المسيحيين ـ في التوبة ، لأنها إنما تكون لسقوط استحقاق العقاب ، ومع ثبوت الاستحقاق الفعلي لسائر المعاصي لا موضوع للتوبة حينئذ.

وهو مردود بأن اختلاف الجهة يدفع ذلك فيرتفع الاستحقاق من جهة ، ويبقى من جهة أخرى ولا تنافي بين الجهتين ، كما لا يخفى.

نعم ، لو كان بقاؤه على بعض المعاصي كاشفا عن عدم تحقق الندامة بالنسبة إلى ما تاب عنها فلا تتحقق التوبة حينئذ ، وبه يمكن الجمع بين الكلمات فراجع.

ومن جميع ما تقدم يظهر أيضا صحة التوبة الموقتة بأن يتوب عن الذنب مدة معينة ولا يذنب فيها.

صيغ التوبة :

للتوبة عبارات متعددة ، منها «أتوب إلى الله» ، و «استغفر الله» ، و «استغفر الله وأتوب إليه» وغير ذلك مما تثبت التوبة بكل واحدة منها بعد تحقق الندم من مرتكب المعصية ، كما تقدم. وليست فيها صيغة خاصة.

أقسام التوبة ومراتبها :

التوبة على أنواع ، منها توبة الإنابة ، وهي عبارة عن الخوف من الله جلّ شأنه لأجل قدرته على العاصي.

ومنها : توبة الاستجابة ، وهي عبارة عن الحياء من الله لقربه من العبد.

ومنها : توبة العوام ، وهي ناشئة عن الخوف من عذاب الله تعالى.

٢١٨

ومنها : توبة الخواص من الغفلة ، وتوبة الأنبياء من ترك الأولى والعجز عن ما ناله غيره ، وهي أخص الخواص كما تقدم في آية ـ ٣٧ من هذه السورة.

وأما مراتبها فهي ثلاثة :

الأولى : أن يتوب العبد عن الذنوب كلها ويستقيم على التوبة إلى آخر عمره ولا تصدر عنه المعاصي إلّا اللمم والزلات التي لا يخلو عنها غير المعصومين ، وهي التوبة النصوح المعبر عنها

في الروايات «أن يكون ظاهره كباطنه».

الثانية : أن يتوب عن الذنوب ويستقيم على الطاعات إلّا أنه لا يخلو في حياته عن بعض ذنوب قد تصدر منه ولكنه يندم ويأسف على كل ما صدر عنه ، وهذا هو معنى التواب.

الثالثة : مثل السابقة ولكنه لا يحدث نفسه بالتوبة ولا يتأسف على ما صدر عنه.

التوبة في الأديان السماوية :

لا تختص التوبة والتطهير عن الأدناس والخطايا بدين الإسلام فقط بل تعم جميع الأديان كلها وان اختلفت في الكيفية والشروط ، وقد ورد في القرآن الكريم توبة آدم (عليه‌السلام) ، قال تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [سورة البقرة ، الآية : ٣٧] وقول موسى (عليه‌السلام) : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٥٤] وقال تعالى حكاية عن هود (عليه‌السلام) : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [سورة هود ، الآية : ٥٢] إلى غير ذلك من الآيات المباركة الدالة على ذلك ، ولكن التوبة عند أكثر المسيحيين أحد أسرار الكنيسة السبعة على تفصيل مذكور عندهم.

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما

٢١٩

يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)).

الآيات مرتبطة بالآيات السابقة فانها بمنزلة التعليل لجملة كثيرة من ما ورد في الآيات السابقة كجعل الإمامة ، وبناء البيت ، وتشريع بعض أعمال الحج ، وجعل القبلة ، ولعن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات ، وقبول توبتهم ، فذكر سبحانه وتعالى أوّلا أنّ المعبود واحد ورحمته عامة تشمل الجميع وإن اختلف متعلقها من حيث الرحمة الرحمانية والرحمة الرحيمية ، ثم شرح ذلك في الآية الثانية بذكر آيات عظام ينتظم بها أمور العالم ويعيش بها كل ذي حياة. ومجموعها تدل على أنّ من كانت صفاته هكذا فهو مبدأ كل خير ومنتهى كل أمر.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ). تقدم ما يتعلق بلفظ الإله في البسملة من سورة الفاتحة والمستفاد من ما ذكرناه هناك أنه محبوب كل الأشياء ، قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٤] ولا ريب أنّ التسبيح فرع المحبة.

والواحد مبدأ التكثرات ، أي أنه واحد الذات والصفات والأفعال وفي عين ذلك هو مبدأ التكثرات ومفنيها ، كما يكون الواحد كذلك وقد نسب إلى مولانا الجواد (عليه‌السلام) في بيان معنى الواحد فقال (عليه‌السلام) : «إجماع الألسنة عليه بالوحدانية ، لقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) فجعل (عليه‌السلام) مناط الوحدانية الخلاقية العظمى التي اجتمعت الألسن عليها دون سائر جهات الوحدانية التي تقصر العقول عن درك بعضها فضلا عن جميعها.

وقد فرق العلماء بين الواحد والأحد ـ بعد كون الأخير هو الواحد أبدلت الواو همزة ثم خفف اللفظ فصار أحدا ـ بوجوه تقدمت في آية ١٣٣ من هذه

٢٢٠