مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

رَبِّي) [سورة الإسراء ، الآية : ٨٥] ، وقال جلّ شأنه : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [سورة الحجر ، الآية : ٢٩] ولأجل هذه الإضافة صارت من الغيب الذي لا يحيط به إلّا الله عزوجل أو من كشف عن بصيرته الستار فيرى أنوارا من المعارف لا يعلم مراتب رفعتها وأنواع أشعتها الا الله تعالى.

ونحن نذكر في المقام جانبا من تلك الجوانب وهو البحث عن تجرد النفس. ونتعرض للبقية في المواضع المناسبة إن شاء الله تعالى. وتمهيدا للبحث في الموضوع لا بأس بذكر ما يتعلق بالمراد من (النفس) وموقعها من الموجودات.

تقسيم الموجود :

لو نظرنا إلى ذات الموجود من حيث هو فانه ينقسم إلى أربعة أقسام :

الأول : أن لا يكون محتاجا إلى المادة مطلقا ـ لا في ذاته ولا في فعله ـ بل يكون منزها عنها مطلقا ، وهذا القسم منحصر في الله تعالى الذي هو خالق الخلق جميعا من مجرداتها ومادياتها.

الثاني : أن يكون محتاجا إلى المادة في الذات والفعل معا ، وهو عالم الماديات المحضة التي تكون ذاتها من المادة وفعلها بها وفيها أيضا.

الثالث : أن لا يكون في ذاته محتاجا إلى المادة ولكن في فعله يحتاج إليها وهو النفوس مطلقا ـ نباتية كانت أو حيوانية أو إنسانية أو فلكية ـ المتعلقة بجسم الأفلاك ، لا الساكنة فيها كالأملاك.

الرابع : أن يكون في ذاته محتاجا إلى المادة دون فعله وهذا باطل بالضرورة كما هو معلوم.

كما ينقسم الموجود باعتبار آخر إلى اربعة أقسام أخرى :

الأول : أن لا يكون له حدوث أبدا بل يمتنع عليه ذلك ، فيكون أبديا سرمديا من ذاته بذاته ، وهو منحصر في الله عزوجل.

الثاني : أن يكون جسمانيا في الحدوث روحانيا في البقاء ، فيكون إبداعا إليها في الجسم بنحو ما جرت عليه إرادته البالغة التامة كالنفس ، فهي

١٨١

من جهة كثمرات الأشجار وأوراد النباتات وجمال كل جميل ، وحسن كل حسن وغير ذلك مما هو من بدايع الله تعالى وودائعه في الطبيعة ، والأعمال القريبة إلى الإنسان التي تفعلها النفس من هذا القسم أيضا فإنها جسمانية الحدوث روحانية البقاء ، لبقائها ببقاء الله تعالى وعدم نفاذها وقد أشتهر بين الفلاسفة : «أن النفوس الناطقة جسمانية الحدوث روحانية البقاء».

الثالث : أن يكون روحاني الحدوث وروحاني البقاء كالروحانيين والأملاك الذين هم سكنة الأفلاك المسيطرون على السفليات بإذن خالق البريات.

الرابع : أن يكون روحاني الحدوث جسماني البقاء كالملك إذا ظهر في صورة جسم ، وقد مر في الحجر الأسود من أنه كان ملكا ثم صار حجرا فراجع الآية ١٣٧ من هذه السورة.

إذا عرفت ذلك يتبين موقع النفس من هذه الموجودات ، فهي الموجود الذي يحتاج في فعله إلى المادة دون ذاته فلا يمكن استقلالها عن الجسد في العمل الذي يكون جسماني الحدوث ، لأن حدوثها بحدوث الجسم وقبله لا يكون شيئا ؛ وروحاني البقاء لبقائها بعد فناء الجسد. وقد عبر بعض الفلاسفة المحدثين (هيغل) عن النفس بأنّها أدنى تجل حسّي للروح في علاقتها بالمادة ، أي : حساسة وفاعلة.

المراد من النفس :

النفس في اللغة تأتي بمعنى الذات والشخص ، وهي مشتقة من (النّفس) الذي هو بمعنى نسيم الهواء ؛ وبه تتعلق حياة الإنسان فالنفس ما تقوم به الحياة ، ولذا سمي الدم (نفسا) في اللغة والشرع كما ورد في أحاديث حيوان ذي النفس السائلة ، ولعل ذلك من باب إطلاق الحال على المحل ، لأن حركة الدم في الجسم منشأ لحصول الروح البخاري ، وهي مورد تعلق النفس الحيواني. فالنفس هي ما تتقوم به الحياة وبها يتميز الكائن الحي مما لا حياة فيه. وهي بهذا المعنى تكون مرادفة (للروح) فإن الروح إذا انقطعت عن الحيوان فارقته الحياة وكذلك النفس.

١٨٢

وكيف كان فهي ظاهرة عند كل فرد حي ، وهي المعبر عنها ب (أنا) وقد عرّفها العلماء بتعاريف مختلفة يقصد منها تقريب المعنى إلى الذهن ، فقد عرّفها بعض أكابر الفلاسفة في منظومته الفلسفية :

وأنّها بحت وجود ظل حق

عندي وذا فوق التجرد انطلق

وعن العرفاء : أنها من مظاهر التجلي الإلهي ، وهي جوهر مشرق للبدن.

وقال بعضهم : إنّها الجوهر البخاري اللطيف الذي هو منشأ الحياة والحس والحركة الإرادية. ويسميها أفلاطون بالفكرة الأبدية.

وأما عند الماديين فقد اتفقوا على أنها شيء مادي يمكن أن تقع تحت تجربة ؛ ولكنهم اختلفوا في طبيعتها فعن الماديين القدماء انها عمليات أولية فيزيقية كيماوية. وتعتبرها الشعوب البدائية ظل الشخص أو الدم ، أو النّفس ونحو ذلك ، ومن هنا جاء المعنى اللغوي.

وهي عند الجدليين منهم ظواهر عقلية وتفاعلات مادية يمكن كشفها وفحصها بالتجربة ونحوها ، وبعبارة أخرى هي صفة خاصة للمادة في تنظيمها الأعلى فلا يمكن لها التجرد عن الجسد أبدا ، وهي بهذا المعنى تكون مرادفة للفكر والإدراك والذهن والعقل ونحو ذلك.

ولكن النفس عند المتدينين إنها قوة لا مادية خالدة غير متجسدة قادرة على أن توجد في انفصال واستقلال عن الجسد في عالم آخر.

هذه كلمات القوم في تعريف النفس مع غض النظر عن المناقشات التي يمكن ان ترد عليها فان لها موضعا آخر. وقد ألّف المحقق الثاني كتابا في النفس والروح في القرن العاشر الهجري سماه (الباب المفتوح إلى ما قيل في النفس والروح) وجمع الأقوال فيها وأنهاها إلى ما يقرب من أربعين قولا ؛ وان أمكن إرجاع بعضها إلى بعض فتصير الأقوال أقل لا محالة.

والمستفاد من الكتب السماوية والقرآن الكريم أن النفس شيء فيها اقتضاء كل كمال معنوي من الله تعالى وكمال ظاهري بلا تحديد فيه بذلك ، وهي متحدة مع الجسد زمنا ما ثم تنفصل وتبقى إما سعيدة أو شقية

١٨٣

حسب ما يختار صاحبها من الطريقين ، فانها كصحيفة بيضاء لا أثر فيها الا بما ينتقش فيها إما للدنيا أو الآخرة أولهما معا ، قال تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [سورة النجم ، الآية : ٣٩] ، فالآية تشمل كل واحدة من الدارين أو هما معا ، قال تعالى : (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) [سورة طه ، الآية : ١٥] فلا نجاة لها إلّا بالعمل الصالح الذي ورد من الشرع ، ولا مقام ولا منزلة لها في الدنيا إلّا بالسعي ، وهي متفاوتة في ذاتها ومختلفة في آثارها ، وهذا قريب من الوجدان. وقد قسمها العلماء إلى أقسام ليس هنا موضع ذكرها وسيأتي تفصيل ذلك كله في آية ٢٨١ من هذه السورة إن شاء الله تعالى.

تعدد النفس والجسد :

إذا رجع كل فرد إلى وجدانه يرى انه شيئان : النفس والجسد ويذعن بأن للإنسان بدنا (جسدا) وقوى ظاهرية ، وما يدبرها وهو ليس إلّا النفس المعبر عنها ب (الروح) ، وهما متحدان كاتحاد الماء مع الورد لا يمكن الفصل بينهما إلّا من ناحية الآثار والعوارض والحوادث والآفات. فإن للجسم خواصا وآثارا وامراضا معينة ، كما أن للنفس آثارا وظواهر وحوادث ، ولعل هذا الأمر أصبح من الواضحات في هذه الأعصار بعد تقدم العلم وكشف الظواهر النفسية وما يترتب عليها من الآثار والأمراض المتعلقة بالنفس دون الجسد وقد وضعوا لها علما مستقلا يتكفل جميع ما يتعلق بالنفس.

ومع ذلك فقد اثبت الفلاسفة والعلماء القدماء منهم والمحدثون ثنائية النفس والجسد بأدلة كثيرة قويمة لا تبقي مجالا للقول بواحدية الإنسان كما عن الماديين وانه ليس إلّا جسما فقط ، فانه مخالف للوجدان والدليل العقلي وجميع الأديان السماوية.

نعم يبقى شيء وهو أنّ الإنسان وإن كان مركبا بالتحليل العقلي من النفس والجسد إلّا أنه واحد شخصي يشار إليه باعتبار أنه شخص مادي ذو فكر ، متعلم ، يفعل كذا وكذا ، وبمثل هذا الواحد الشخصي تعلق الخطاب في القرآن الكريم والشريعة المطهرة وفي المحاورات. ولعل من قال بواحدية

١٨٤

الإنسان أراد منها هذه الوحدة ، ولا بأس بها ، ولكنه حمل ينافي صريح كلماتهم.

معنى التجرد :

لم يرد هذا اللفظ بالنسبة إلى النفس في القرآن الكريم ولا في السنة الشريفة. وإنما استفيد ذلك من سياق الآيات والأحاديث والإشارات الواقعة فيها التي يستفاد منها التجرد كالآية التي تقدم تفسيرها وغيرها من الآيات التي نشير إليها.

والمراد من التجرد كفاية أمر الله تعالى وإنشائه في تحقق شيء بلا حاجة إلى سبق مادة وتبدل صورة أو غير ذلك في التحقق والثبوت ، وتكون نسبته إلى المادة نسبة القوى المحركة للآلات التي تتحقق بها الحركة ، سواء كانت الآلات طبيعية ، ويسمى ب (التجرد التكويني). أم صناعية ويسمى ب (التجرد الصناعي).

وهناك معنى آخر للتجرد وهو ابتعاد النفس عما سوى الله تعالى بالإرادة والإختيار بواسطة المجاهدات والرياضات الشرعية بأن تكون جميع مشاعره الظاهرية والمعنوية ـ كما أنها من الله تعالى ـ تكون في الله وبالله تعالى ، فيصير الشخص من جميع جهاته مظهرا من مظاهر الله عزوجل ، فيتجرد عن دار الظلمة والغرور ويتصل بينبوع النور ، ويسمى هذا ب (التجرد الاختياري).

ولا ريب في أن الأول يكون معدا للثاني ، إذ لولاه لما تحقق للأخير موضوع أبدا ، ومع ذلك فهو أفضل من الأول بمراتب. كما أنّ الموت تارة طبيعي وأخرى اختياري رغّب اليه نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بقوله : «موتوا قبل ان تموتوا» أي أميتوا النفس الأمارة بالسوء قبل أن تموتوا بالطبيعة. وقد وقع الخلط في جملة من الكلمات بين التجردين كما لا يخفى على من راجع عباراتهم.

الأدلة على تجرد النفس :

استدل العلماء على تجرد النفس بالكتاب العظيم ، والسنة الشريفة ودليل العقل.

١٨٥

أما الأول : فقد استدلوا بجملة من الآيات المباركة ، منها تلك الآيات التي أضيفت الروح فيها إلى الله تعالى حدوثا ؛ كقوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [سورة الإسراء ، الآية : ٨٥] ، وقوله تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [سورة الحجر ، الآية : ٢٩] أو أضيفت اليه تعالى بقاء ، كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) [سورة الأنعام ، الآية : ٦٠] إلى غير ذلك من الآيات الظاهرة في أن هذه الإضافة المطلقة ـ بلا ذكر سبب مادي أصلا لا مقارنا ، ولا سابقا ، ولا لاحقا ـ إلى الله تعالى المنزه عن توهم المادة تدل على التجرد بوضوح إذ لا بد أن يكون المنسوب اليه تعالى منزها عن المادة أيضا. والإهمال فيه مع كثرة أهمية الموضوع ، وقيام نظام الدنيا والآخرة به يكون قبيحا عقلا ، لأن الأمر دائر فيه بين النفي والإثبات فإما أن يكون مجردا محضا ؛ أو ماديا لا بد وأن يذكر فيه الجهة المادية ولو في آية أخرى.

ومنها : الآيات الكثيرة الدالة على التعقل والتفكر وذم التغافل عنها فإن ذلك لا يتحقق إلّا في ما هو مجرد عن المادة خصوصا على ما أثبته أكابر الفلاسفة وأعاظمهم من اتحاد العاقل والمعقول ، وسنبين هذا البحث النفيس في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

ومنها قوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [سورة الفجر ، الآية : ٢٧] وغير ذلك من الآيات التي تدل بظاهرها على تجرد النفس وبقائها بعد الموت وانتقالها من البدن المادي إلى بدن آخر برزخية أخروية.

أما الثاني : أي الاستدلال بالسنّة الشريفة ، وهي نصوص كثيرة وردت في أبواب متفرقة ، ومنها قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام» ، ولا ريب في دلالته على سبق الحدوث والتجرد في الجملة ، وهل المراد بألفي عام الأعوام الربوبية ، أو الأعوام الزمانية في عالمنا هذا؟ لم يتضح ذلك إلى الآن حق الوضوح. ثم ما وجه التخصيص بألفين دون غيرهما.

١٨٦

ومنها قول علي (عليه‌السلام) : «إنّ هذه الأرواح تكلّ كما تكل الأبدان ـ الحديث ـ» وهو ظاهر في أنها من عالم آخر غير عالم المادة.

وبالجملة ، النصوص من الأئمة الهداة أكثر من ان تحصى ـ وقد سبق في البحث الروائي بعضها ـ ومجموعها يدل على ان النفس والروح من عالم آخر تعلقت بالبدن برهة من الزمن ثم تنفصل عنه ثم تعود متعلقة به وتبقى خالدة أبد الدهر.

يضاف إلى ذلك ما اثبته العلماء في العصر الحديث من أمور ترتبط بالنفس وقد وضعوا لها كتبا مستقلة ، كما أثبت العلماء الأخلاق امراض النفس وآفاتها ، ويشهد لذلك ما اثبت في هذه الأعصار من التفرقة الحسية بين الأرواح والأجساد.

أما الثالث : أي الدليل العقلي فقد استدل في الفلسفة على تجرد النفس بأدلة كثيرة أنهاها بعضهم إلى عشرة لا يخلو بعضها عن المناقشة. وأهمها أمور :

الأول : حضور ذات النفس بذاته لكل أحد ، وهذا بديهي ، وهو يدل على التجرد ، إذ لو كانت مادية لما أمكن ذلك إلّا بالانطباع في ما هو أصفى والطف منها ، كما في حضور جميع الصور المادية في المرآة أو الماء الصافي ونحو ذلك.

الثاني : صدور الدقائق العلمية والفكرية منها مما لا يمكن صدورها عن غير المجرد.

الثالث : قدرتها على تصور غير المتناهي. إلى غير ذلك مما فصل في علم الفلسفة والكلام.

ومن ينكر أصل الروح والنفس أو يقول بماديتها وأنها نفس البدن فلا يسعه إلّا إنكار وجدانه.

١٨٧

ثمرة البحث :

نتيجة هذا البحث النفيس [تجرد النفس وعدمه] تظهر فى المعاد الروحاني فإن القول بتجرد النفس وعدم فنائها بفناء البدن يمهد الطريق للمعاد الروحاني ويسهل الالتزام به معه ، كما عليه جمع كثير من الفلاسفة قديما وحديثا.

وبعكس ذلك ، أي القول بعدم التجرد وكون النفس تابعة للبدن فإنه يدل على مسألة المعاد الجسماني. وقد صرح جمع من الفلاسفة بأن طريق إثباته منحصر بالدليل السمعي فقط.

وهذه الثمرة مبتنية على ان المجردات تبقى ـ وغيرها ينعدم ويفنى ثم يعاد. ولكن يظهر من الآيات المباركة أن ما سواء الله تعالى ـ من مجرداته ومادياته ـ ينعدم قبل قيام الساعة قال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [سورة الرحمن ، الآية : ٢٦ و ٢٧] ، وكذا النصوص التي يأتي بيانها مفصلا في المورد المناسب إن شاء الله تعالى ؛ قال علي (عليه‌السلام) : «إن الله سبحانه يعود بعد فنائها الدنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ، ولا حين ، ولا زمان عدمت عند ذلك الآجال والأوقات وزالت السنون والساعات فلا شيء إلّا الله الواحد القهار الذي اليه مصير جميع الأمور». نعم يثبت المعاد مطلقا بالكتاب والسنة على ما يأتي بيانه مفصلا.

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى أمر القبلة وما يلاقيه الإنسان ـ في سبيل استكماله وتزكية النفس ـ من المصائب التي لا بد من الصبر عليها والتسليم له تعالى ، بيّن سبحانه بعض ما يكون دخيلا في كماله فذكر من مشاعر الحج الصفا والمروة واعتبر التطوف بهما من الخير الذي يشكره عليه ويجزيه بالجزاء الأوفى.

١٨٨

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ، مادة (ص ف و) تأتي بمعنى الخلوص عن الشوب ، ومنه الصفاة وهي الحجارة الملساء الصافية الخالصة ، ومنه أيضا اصطفاء الله لخاصة عباده لخلوصهم في عبوديته ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٣٣] ، وقال تعالى : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) [سورة النمل ، الآية : ٥٩].

والصفا جبل بمكة تجاه البيت الحرام ، سمي به ، مضافا إلى الوجه اللغوي ، أنّ صفي الله آدم (عليه‌السلام) هبط عليه فسمي المحل باسم الحال ، وهو يذكر ويؤنث.

والمروة واحد المرو ، وهي الحجارة البيض ، أو الحجارة التي تقدح منها النار ، وهي جبل بمكة أيضا ، سمي الموضع بها مضافا إلى التسمية اللغوية أن المرأة ـ أي حواء ـ نزلت عليها فسمي المحل باسم الحال.

وبين الصفا والمروة من المسافة ما يزيد على ٧٦٠ ذراعا يسعى بينهما في الحج والعمرة. وكان للمشركين عليهما أصنام إلى أن أظهر الله تعالى الإسلام فألقاها عنهما رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة تطلق تارة : على معالم الحج ومشاعره ، وهي أعلامه الظاهرة المعدة للنسك والعبادة ، ومشاعر الله كل ما يتعبد فيه لله عزوجل ، وأخرى : على العبادة والنسك من صلاة وصوم ودعاء ، وقراءة القرآن وغير ذلك مما يصح أن تكون عبادة.

والمعنى : إنّ الصفا والمروة من مواضع عبادة الله تعالى ومعالم طاعته ، لأنّ المسعى من أحب البقاع إلى الله تعالى ، وأن السعي بينهما تذلل خاص وخشوع كبير لله تعالى ، وأن فيه يذل كل جبار ففي الحديث قيل للصادق (عليه‌السلام) : «لم صار المسعى أحب البقاع إلى الله تعالى؟ قال : لأنه يذل فيه كل جبار».

قوله تعالى : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ). الحج هو القصد للزيارة ، وفي

١٨٩

الشرع قصد بيت الله الحرام لأداء النسك المخصوصة المعروفة في كتب الفقه.

والعمرة : الزيارة ، وهي من العمارة لأن المزور يعمر بالزيارة وهي شرعا زيارة مخصوصة للبيت الحرام على ما هو المفصل في الفقه والاعتمار أداء مناسك العمرة.

وقد ورد لفظ الحج في القرآن العظيم في تسعة موارد ، كما ورد لفظ الاعتمار فيه في مورد واحد ، ولفظ العمرة في موردين.

قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما). الجناح (بالضم) الميل ، والمراد به هنا الترخيص وعدم الإثم والبأس ولو كان بحسب القرائن الحافة به. وأما وجوب المورد او عدمه فلا بد أن يستدل عليه بالدليل آخر ، كما يقال لمن صلّى في ثوب أسود : لا جناح بالصلاة فيه ، فإنه لا يدل على الترخيص في أصل الصّلاة بعد ثبوت وجوبها بأدلة خاصة ، فيكون متعلق الجناح جهات أخرى لا أصل الصلاة.

والسر في التعبير به مع أنّ السعي بين الصفا والمروة واجب في الحج والعمرة عند المسلمين إما لأجل رفع توهم الحظر فان المسلمين توقفوا في بادئ الأمر من الطواف بينهما ، لمكان الأصنام الموضوعة عليهما.

أو لأجل أنّ المشركين كانوا لا يرون الصفا والمروة من الشعائر ، وأنّ السعي بينهما ليس من مناسك ابراهيم (عليه‌السلام) فعبر تعالى بذلك ، وهو لا ينافي وجوب السعي بدليل خارجي ، كما سيأتي في البحث الفقهي.

والتطوف : الطواف وهو المشي حول الشيء ، أو بين شيئين ، وقد استعملت المادة في القرآن كثيرا بالنسبة إلى الدنيا والآخرة ، والعذاب والرحمة ، قال تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [سورة الحج ، الآية : ٢٩] ، وقال تعالى : (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ) [سورة القلم ، الآية : ٢٩] وقال تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) [سورة الإنسان ، الآية : ١٩].

١٩٠

ويطلق الطيف على الخيال ، والنوم ، والحادثة باعتبار الإحاطة بالإنسان. وسمي السعي بينهما تطوفا باعتبار تكرره والرجوع الى مبتدئه كما يطلق على المرأة طوافة البيت.

وإنما بدأ سبحانه في بيان أعمال الحج واحكامه بالسعي بين الصفا والمروة مع أنه مؤخر عن جملة من الأعمال ـ كالإحرام والطواف بالبيت ـ إما لأجل أن حكمة تشريعة كانت بعيدة عن العقول ، أو لأجل أن الصفا والمروة كانا محلا لأعظم أصنام المشركين ، فكان المسلمون يتنزهون عن السعي بينهما. أو لأجل إنكار شعيرتهما وعدم كونها مما أتى به إبراهيم (عليه‌السلام) أول مشرع لأحكام الحج ويرشد الى هذا الاحتمال ذكر آية الكتمان بعد ذلك.

ويمكن أن يقال : انه قد ذكر سبحانه إجمالا بعض اعمال الحج في ما تقدم من الآيات ، فقد ذكر الطواف في قوله تعالى : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٥] وذكر صلاة الطواف في قوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٥] وهنا ذكر السعي ، وسيأتي بقية الأحكام في هذه السورة وسورة الحج.

قوله تعالى : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً). التطوع : هو الرغبة في الشيء متخذا له كما في التعلم والتفهم ، وهذا هو شأن هيئة (تفعّل) وهو أعم من الطاعة فانها لا تصدق إلّا إذا كان أمر في البين ـ واجبا كان او ندبا ـ وفي غيره لا تصدق الإطاعة.

ولا يدل اللفظ على الندب والاستحباب إلّا بقرينة خارجية ؛ ويمكن أن يستفاد من قوله تعالى : (خَيْراً) أن السعي كالطواف حول البيت الحرام انه خير ويكون محبوبا له تعالى ، ويقتضيه المتعارف عند الملوك فإن كثرة تردد الرعايا على أبوابهم محبوبة لديهم.

قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ). شكره تعالى إنعامه على العباد ، والجزاء على ما فعلوه من الخير. وهو العليم بطاعة العباد لا يخفى عليه شيء فيجازي كل فرد بما يستحقه من الجزاء.

وفي التعبير بالشكر إشارة إلى نهاية لطفه وكمال عنايته بعبيده ، فان العبد

١٩١

وعمله ملك له تعالى ومنافع عمله عائدة إليه ومع ذلك فهو تعالى قد شكرهم عليها ويجزيهم بالخير الجزيل. وفي ذلك إيماء إلى وجوب شكر المنعم والترغيب اليه ؛ والحث على التخلق بأخلاق الله تعالى ، والتشكر من النّاس والتقدير من أعمالهم.

ومعنى الآية المباركة إنّ الصفا والمروة من مشاعر عبادة الله تعالى وطاعته فمن قصد زيارة البيت في الحج والعمرة يكون السعي بينهما مطلوبا لأنه خير.

بحث روائي :

ابن بابويه عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سمي الصفا صفاء لأن المصطفى آدم هبط عليه ، فقطع للجبل اسم من اسم آدم (عليه‌السلام) يقول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ). وهبطت حواء على المروة وإنما سميت المروة ، لأن المرأة هبطت عليها ، فقطع للجبل اسم من اسم المرأة».

أقول : هذا من بعض وجوه التسمية كما تقدم في التفسير ، ويمكن أن يكون هناك جهات أخرى للتسمية ، ولا بأس بأن يجتمع في شيء واحد جهات متعددة للتسمية.

في تفسير العياشي عن أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) قال : «لا حرج عليه أن يطوّف بهما».

أقول : تقدم ما يدل على وجوب السعي بينهما وأن قوله تعالى : (فَلا جُناحَ) وما ورد في تفسيره بلا حرج إنما هو من جهات اخرى لا من جهة إباحة اصل السعي حتّى ينافي الوجوب.

في الكافي عن بعض أصحابنا قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن السعي بين الصفا والمروة فريضة أم سنة؟ فقال (عليه‌السلام) : فريضة. قلت : أو ليس قال الله عزوجل : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) قال : كان ذلك في عمرة القضاء إن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) شرط عليهم أن

١٩٢

يرفعوا الأصنام من الصفا والمروة».

ومثله في تفسير العياشي إلّا أنه زاد : «فتشاغل رجل من أصحابه حتّى أعيدت الأصنام قال : فأنزل الله. (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أي والأصنام عليهما».

أقول : الرواية تبين ما تقدم من اختلاف متعلق الوجوب وهو ذات السعي ومتعلق «لا جناح» باعتبار وجود الأصنام.

وفي الكافي أيضا عن معاوية بن عمار عن الصادق (عليه‌السلام) في حديث حج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «بعد ما طاف بالبيت وصلّى ركعتيه قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : إن الصفا والمروة من شعائر الله فابدأ بما بدأ الله عزوجل ، وان المسلمين كانوا يظنون أن السعي بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون فأنزل الله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما).

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «إنّ المسلمين كانوا يظنون أنّ السعي ما بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون فأنزل الله هذه الآية» وروى السيوطي مثله في الدر المنثور.

أقول : حيث إنّ المسلمين كانوا يعتقدون أنّ السعي من فعل الجاهلية فيصير قوله تعالى : (فَلا جُناحَ) في مقام توهم الحظر كما تقدم.

وفي تفسير القمي : «إنّ قريشا وضعت أصنامهم بين الصفا والمروة وكانوا يتمسحون بها إذا سعوا ، فلما كان من أمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ما كان في غزوة الحديبية وصده عن البيت وشرطوا له أن يخلوا له البيت في عام قابل حتّى يقضي عمرته الثالثة ، وقال لقريش : ارفعوا أصنامكم حتّى أسعى فرفعوها».

أقول : لا منافاة بين هذه الرواية وبين الرواية السابقة الدالة على السعي مع وجود بعض الأصنام لإمكان بنائهم على الرفع واشتغالهم به ولم يتم ذلك إلّا بعد مدة.

١٩٣

في الدر المنثور عن عامر الشعبي : «كان وثن بالصفا يدعى إساف ، ووثن بالمروة يدعى نائلة فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت يسعون بينهما ويمسحون الوثنين فلما قدم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قالوا : يا رسول الله إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين وليس الطواف بهما من الشعائر فأنزل الله (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) ـ الآية ـ فذكّر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه وأنّث المروة من جهة الصنم الذي كان عليها مؤنثا».

وفي صحيح البخاري عن عاصم «كان المسلمون يمسكون عن الطواف بين الصفا والمروة وكانا من شعائر الجاهلية ، وكنّا نتقي الطواف بهما فأنزل الله تعالى (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ـ الآية ـ».

أقول : ورد من طرقنا قريب من ذلك أيضا.

بحث فقهي :

يستفاد من قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أن السعي عمل عبادي يتقوم بقصد القربة فبدونه أو مع قصد الرياء ـ نستجير بالله منه ـ أو غاية أخرى يكون السعي فاقدا لصلاحية الإضافة إلى الله تعالى ويكون السعي باطلا ، كما في سائر العبادات فيفسد حينئذ اصل الحج أو العمرة ، كما هو المفصل في كتب الفقه.

والسعي بين الصفا والمروة عبارة عن المشي بينهما سبع مرات بدءا من الصفا وانتهاء بالمروة كما هو مذكور في الفقه. ويصح ماشيا وراكبا ؛ ولا يعتبر فيه الطهارة لا الحدثية ولا الخبثية ، ولا الموالاة بين الأشواط ، ولا بين أبعاضها على ما فصل في الفقه.

وهو واجب كما عليه جمهور المسلمين وتدل عليه نصوص كثيرة وإجماع الإمامية ، وتقدم أن نفي الجناح إنما كان لرفع توهم الحظر الذي اعتقده المسلمون باعتبار أنّ السعي شيء صنعه المشركون أو لأجل وجود الأصنام على الجبلين فتوقفوا من السعي بينهما كما مر ، ويمكن استفادة ذلك من ظاهر الآية الشريفة أيضا ، فإن إثبات كون الصفا والمروة من شعائر الله يدل

١٩٤

على أنّ الإعتقاد كان على خلاف ذلك فأراد سبحانه وتعالى إعلام النّاس بشعيرتهما ونفي ما كان معتقدا عندهم.

ومما ذكرنا يعرف أنّ التطوع بالسعي أمر مرغوب فيه ، لأنه خير ومن تعظيم شعائر الله تعالى ، ولا يستفاد منه الاستحباب الشرعي المصطلح عليه في الفقه ولا سيما مع القرينة المزبورة على الخلاف. ولذلك وردت الروايات الدالة على وجوب السعي لعدم التنافي بينه وبين ظاهر الآية الشريفة ، وتقدم في البحث الروائي ذكر بعض الروايات والتفصيل يطلب من كتابنا [مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام].

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢))

سبق وأن ذكر سبحانه عناد أهل الكتاب والكفار في إنكار الحق وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وفي هذه الآيات يبين نوعا آخر من عنادهم ، وهو أنهم يكتمون ما أنزل الله تعالى إما بإنكار أصله او بتحريفه عن مواضعه ، وهو ظلم عظيم يعرف من عظم ما أوعد عليه الله تعالى مما أوجب طردهم من رحمته كما طرد من رحمته كل من مات منهم على الكفر فأوجب خلودهم في النّار.

ولعل في ذكر آية الكتمان بعد ذكر آيات القبلة وبعض أعمال الحج إشارة إلى لزوم الاهتمام بالاعتناء بأحكامه وإن كان يصعب على بعض العقول درك بعض أسرارها.

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى). الكتمان إخفاء الحق وستره خصوصا مع الحاجة الى الإظهار والبيان. وقد يستعمل في إظهار الخلاف وإزالة الشيء عن موضعه ووضع آخر مكانه. والبينات : هي

١٩٥

الأدلة الواضحة. والهدى : كل ما يقع في طريق استكمال النفس أي الآيات والحجج الواضحة الموجبة لهداية النّاس.

وعموم الآية يشمل جميع التشريعات السماوية المحكمة بالحكمة البالغة الإلهية سواء كانت في أصول الدين أم في فروعه. وجميع الأدلة العقلية المقررة بالشريعة المقدسة ، فان العقل شرع إلهي داخلي كما أن الدين شرع إلهي خارجي أيد الله كلا منهما بالآخر ؛ فهما حقيقتان متلازمتان بل حقيقة واحدة لها آثار مختلفة ، ولذا ورد أنه : «لا عقل لمن لا دين له» كما يصح ان يقال : لا دين لمن لا عقل له وسيأتي إثبات هذه الملازمة بل وحدة الحقيقة فيهما بالأدلة الكثيرة.

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ). المراد بالكتاب هو ما أنزله الله تعالى في كل عصر فيشمل التوراة والإنجيل في كل ما لم يثبت نسخه بالقرآن ، ولا فرق بين كتابه تعالى وألسنة رسله لأنّ كلا منهما يحكي عن الآخر. وإنما ذكر سبحانه الكتاب لأنه لا تتم الحجة من الله على الخلق إلّا بإنزال الكتاب وبيانه.

قوله تعالى : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ). اللعن : الطرد والابعاد على سبيل السخط. وهو من الله تعالى العقوبة في الآخرة ، والانقطاع عن الرحمة والتوفيق في الدنيا. ومن غيره دعاء على الملعون بالإبعاد عن رحمته عزوجل. وهو يعمّ الإنسان والحيوان وغيرهما عما يلهمهم الله تعالى ، كالرحمة ، اللذين هما من أسرار التكوين ويعمان جميع العوالم المرتبطة بالحي القيوم ، فإن جميع حقائق الموجودات ملهمة منه عزوجل ، كما يلهمه سائر ماله دخل في نظامهم.

والمراد من «اللاعنون» كل من يتأتّى منه اللعن ، سواء كان ملكا أو إنسانا أو حيوانا وذكرهم بالخصوص لبيان قبح هذا العمل وشناعته عند من يتعقل ويعلم به.

وحكم هذه الآية عام يشمل كل من كتم علما من العلوم التي فرض الله تعالى بيانها للنّاس بل يشمل كل من فعل المحرمات بعد تمامية الحجة عليه

١٩٦

ولا سيما إذا كان ممن يقتدى بفعله فلا اختصاص له بخصوص ما كتمه أهل الكتاب في شأن الإسلام وأوصاف الرسول ونحو ذلك.

ثم إن كتمان ما أنزله الله تعالى على أقسام :

الأول : أن يكون الكتمان مع العمد والالتفات ووجود المقتضي للإظهار وفقد المانع عنه ولا ريب في كونه من المعاصي الكبيرة وشمول اللعن له ، فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» ، والأخبار في ذلك كثيرة بين الفريقين وكلها مطابقة للحكم العقلي الدال على قبح كتمان الحق وحسن إظهاره.

الثاني : أن يكون الكتمان عن جهل وكان الجاهل مقصرا في ذلك وهو مثل الأول في شمول اللعن. وأما إذا كان قاصرا ـ على فرض وجوده ـ وكان معذورا فيه فلا يشمله اللعن قهرا.

الثالث : أن يكون الكتمان لأجل مصلحة شرعية فحينئذ يجب ولا يشمله اللعن قهرا.

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا). التوبة بمعنى الاعتذار المقرون بالاعتراف بالإساءة. والاعتذار يكون على أقسام :

الأول : أن يقول المعتذر لم أفعل.

الثاني : أن يقول فعلت لأجل كذا وكذا.

الثالث : أن يقول فعلت وأسأت وقد اقلعت.

والأخير هي التوبة الواردة في الكتاب والسنة ، وكل اعتذار يستلزم الرجوع إلى المعتذر منه فيصح تفسير التوبة ب «الرجوع» أيضا ، فهي أيضا رجوع إلى الله تعالى بعد الإعراض عنه بالمخالفة.

وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من تسعين موردا بهيئات مختلفة منسوبة تارة : إلى الفاعل. وأخرى : إلى القابل ، وهو الله تعالى قال سبحانه : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) [سورة المائدة ، الآية : ٣٩].

١٩٧

والمشهور بين العلماء أنها إذا أضيفت إلى الفاعل تكون بمعنى الاعتراف بالذنب وطلب الغفران ، وإذا أضيفت إلى الله تعالى تكون بمعنى العفو والغفران بل تبديل السيئة بالحسنة في بعض الأحيان.

ويصح استعمال الاعتذار بالنسبة إلى غير الله تعالى ، وأما استعمال التوبة بالنسبة إلى غيره جلت عظمته فلم أجده في الاستعمالات الفصيحة.

والمراد من «أصلحوا» : أخلصوا النية لله تعالى ، وأصلحوا ما أفسدوه من أحوال النّاس ـ كما أن المراد من «بينوا» أي أظهروا ما كتموه وعملوا به.

والمعنى : إلّا من تاب عن عمله ورجع إلى الله تعالى وأخلص النية له عزوجل فأصلح ما أفسده وآمن بالرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولم يكتم كتاب الله وعمل بما رجع إليه ، فإنّ الله يتوب عليه ويفيض عليه رحمته ومغفرته.

والآية الشريفة تدل على اعتبار أمرين في هذه التوبة ـ الأول : الإصلاح والخلوص لله تعالى والإخلاص في النية.

الثاني : بيان الحق وإظهاره من بعد ما كتم والعمل به. فلا يكتفى بالتوبة الظاهرية والرجوع بمجرد اللسان مع عدم عقد النية عليه.

وبعبارة أخرى : إنّ الموضوع اجتمع فيه حق الله تعالى وهو إظهار البيان وحق النّاس وهو الوقوع في الضلالة لعدم البيان وقد دلت الأدلة الكثيرة على أنّ كل مورد من موارد التوبة إذا تعلق به حق من حقوق النّاس لا تصح التوبة فيه إلّا بأداء ذلك الحق.

قوله تعالى : (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). أي : أولئك أخصهم بالذكر والمغفرة بعد تحقق شرائط صحة التوبة فيهم ، فانه هو الذي يرجع عباده اليه بعد الإعراض عنه بالمخالفة والإدبار عنه بالمعصية ؛ والرحيم بهم يغفر للمسيء ويثيب المطيع.

وفي الآية ترغيب شديد إلى التوبة ، والابتعاد عن اليأس مهما عظم الذنب.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ). ذكر سبحانه في

١٩٨

الآية السابقة حكم الكافرين الذين كتموا الحق في الدنيا وأنهم يستحقون اللعن إلّا الذين تابوا وأظهروا ما كتموه.

وفي هذه الآية يبين حالهم في الآخرة إذا أصروا على الكفر والعناد على الحق والجحود له وماتوا على الكفر ، فانه يلزمهم الذل والهوان والطرد عن رحمته والخلود في العذاب.

قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). أي : أنّ أولئك الكافرين الذين لم يتوبوا وماتوا على الكفر أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين حتّى من أهل مذهبهم ، لأن هذا الشخص أهل للعن فيستحقه من الجميع.

ولعن الملائكة والنّاس باعتبار استلهامهم التكويني اللعن الدائمي من المبدأ القيوم لكل من طرد من ساحته.

وإنما ذكر لعنهم مع أن لعن الله تعالى وحده يكون كافيا في خزيهم وعذابهم ، لأجل بيان صلاحية أولئك الكفار للّعن والبعد عن ساحة الرحمن فيستحق اللعن من كل من امكنه الاطلاع على حالهم.

والآية تشير إلى قضية عقلية فطرية ، وهي أن من أصر على الكفر والحجب عن منبع النور ، فهو قد حجب بصره وبصيرته عما هو في غاية الجلاء والظهور فلا محالة يكون محجوبا عن استشراق النور ، ومطرودا عند كل من كان مرتبطا تكوينا او اختيارا أو كليهما معا مع منبع النور ، وهم الملائكة وكل من يعتد بلعنه ، وهذا معنى لعن الله والملائكة والنّاس أجمعين ، فلا وجه للانتظار والإمهال في حقه بعد الإصرار على الكفر والجحود للحق وعدم رجاء الإيمان والصلاح منه.

ولعن الملائكة والنّاس لا يلزم أن يكون مسموعا او يحس به احد فإنه لا ريب في كون الملائكة والأنبياء والأولياء ومن يتبعهم يحبون من أحبه الله تعالى ، ويلعنون من لعنه تعالى لانبعاثهم جميعا عن إرادة الله تعالى وأمره.

واما غيرهم من مخلوقاته فإنه يمكن أن يكون لعنهم كتسبيحهم لا يفقهه

١٩٩

أحد قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٤] فإن ما سوى الله تعالى في جميع العوالم العلوية والسفلية يرتبط بخالقه وصانعه بأقوى الروابط والعلائق يستلهم تدبيرات شؤونه من خالقه وصانعه ، كما أن الخالق والصانع يرتبط بمصنوعاته ، وبهذين الارتباطين يقوم نظام التكوين من أوج المجردات إلى حضيض الماديات وبه تتم القيمومة المطلقة على الممكنات جميعا وعلى هذا فكل من طرده الحي القيوم عن ساحة كبريائه يستلزم الطرد من الغير أيضا لأجل تلك الإضافة اليه تعالى ، وكل ما كانت الإضافة أشد كان الطرد أقوى والمبغوضية أشد ، ويستفاد ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على ثبوت الحياة المعنوية والتوجه إلى الخالق في جميع مخلوقاته ، وللبحث تتمة تأتي في محله إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) مادة (خ ل د) تأتي بمعنى بقاء الشيء على ما كان عليه وعدم عروض الفساد بالنسبة إليه ، وأما التأبيد فلا يستفاد من ذات المعنى بل لا بد فيه من الرجوع إلى القرائن ، لأن الخلود من الأمور الإضافية ، فما يبقى ألف سنة ـ مثلا ـ خالد بالنسبة إلى ما لا يبقى الا سنين قليلة. وأما بالنسبة إلى بدء الحدوث فله مبدأ معلوم معين كسائر الحوادث. وقد وردت هذه المادة في القرآن العظيم بهيئات مختلفة ـ مصدرا ومفردا وجمعا ـ ولا سيما بالنسبة إلى أصحاب الجنّة والنّار.

والخلود والدوام باعتبار أصل الحدوث لا فرق بينهما لما ثبت في محله من امتناع القديم بالذات الا في الله تعالى ، وكذا باعتبار البقاء لا فرق بينهما.

نعم قد يقال : إن الدوام هو ما لم يزل ولا يزال بخلاف الخلود وهو باطل : لانحصار الأزلية والأبدية في الله تعالى ، فيكون من المغالطة بين المصداق والمفهوم ، ولا ريب في اطلاق الدوام عليه تبارك وتعالى ومن أسمائه الحسنى (يا دائم).

وأما الخلود فلم يطلق عليه تعالى إلّا في بعض الدعوات : «لك الحمد حمدا خالدا بخلودك» فيصح اطلاق الدوام والخلود بالنسبة إلى ما ليس له أول

٢٠٠