مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

المناهج في تربية الإنسان في استكماله ، ومثله في القرآن الكريم كثير.

وقد أشار سبحانه وتعالى إلى بعض الأصول المهمة في هذا المنهج ـ كما هو دأبه عزوجل في القرآن الكريم ـ فعلى الإنسان الجد والاجتهاد في التفريع عليها وتطبيقها على مجالات الحياة.

ولا ريب في أهمية التربية والتعليم وارتباطهما الوثيق بالإنسان ودخلهما في جميع جوانب حياته وبهما يستكمل الفرد وينال السعادة في الدارين. ولا يمكن لأي فرد من أفراد الإنسان الاستغناء عنهما في أي دور من أدوار حياته وبهما يقوم النظام الاجتماعي ، ولا يوجد أمر آخر يكون له هذا الاتصال بالواقع الإنساني وتكون له هذه الشمولية ، وهما قرين الإنسان منذ أول الخليقة في جميع أدواره.

ولا يعقل بالنسبة إليه تعالى إهمال هذا الجانب المهم في الإنسان مع علمه عزوجل بما يترتب على إهماله من الآثار ، ولم يشرع شريعة إلّا لتهذيب النّاس وتكميلهم وإيصال الفرد إلى السعادة.

ومنهج التربية والتعليم ـ كسائر المناهج والعلوم ـ قد طرأ عليه تغييرات ولم يصل إلى حده الفعلي إلّا بفضل جهود العلماء والمربين ووضع النظريات العلمية مما أوجب التغلب على كثير من الصعاب.

وللتربية والتعليم مناهج متعددة وقد وضعوا في كل واحد منها كتبا ورسائل كثيرة جدا. وأهم تلك المناهج هو : المنهج العقلي ، والمنهج المادي ، والمنهج التجريبي ، وجميع هذه المناهج قاصرة عن الإيصال إلى المطلوب إلّا المنهج الإسلامي المبيّن في القرآن الكريم والسنة الشريفة ، والسبب في قصورها عدم كفاءتها في رفع المشكلات الإنسانية إلّا في حدود معينة وصلت إليها أفكارهم القاصرة ولذا نرى الاختلاف والتناقض فيها بخلاف المنهج الإسلامي الذي يصدر عن منبع محيط بكل الجهات وفي كل زمان.

١٦١

ويمتاز هذا المنهج القرآني عن غيره بوجوه عديدة أهمها :

الأول : إنّ المنهج التربوي والتعليمي في الإسلام ليس ماديا صرفا ولا عقليا بحتا بل هو يشمل الجانبين ويعطي لكل جانب حقه.

الثاني : إنّه يراعي الجانب التطبيقي ويعطي للعمل أهميته ويهتم بالمربّين والمعلمين قبل كل شيء ، فهو يأمر بالتزكية وإتيان العمل الصالح ولا يكتفي بالجانب النظري فقط.

الثالث : إنّه يهدف الكمال الإنساني ويبغي سعادة الفرد والاجتماع ووضع لكل ذلك أسسا وقواعد لا يمكن التخلي عنها.

الرابع : إنه عام يشمل جميع مراحل الإنسان وجميع جوانب حياته بل يشمل مرحلة ما بعد الموت أيضا بحسب الآثار.

الخامس : إنّه مرتب ترتيبا دقيقا يبتدئ بالتلاوة ثم التزكية فالتعليم وطلب الحكمة ، والتجاوز عن هذا الترتيب لا يوصل إلى ما يريده الإسلام.

وفي القرآن الكريم إشارات إلى كل واحد من الأمور المتقدمة وفي السنة الشريفة شرح ذلك ويأتي في الآيات المناسبة التعرض لها إن شاء الله تعالى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧))

الآيات متسقة منتظمة كلها وردت في سبيل استكمال الإنسان. ولذّة النداء والخطاب في أولها نرفع عن العبد ثقل التكليف. وقد بيّن سبحانه وتعالى فيها أن الإنسان في طريق استكماله وإشاعة الحق ومقارعة الباطل

١٦٢

يقترن بأنحاء من البلاء والمحن في الأنفس والأموال ولا يمكن التغلب عليها إلّا بالصبر والتوجه إليه تعالى في كل أمر. وقد لطف سبحانه وتعالى على عبيده بما يهون عليهم احتمال المكاره ويخفف عنهم عظم المصاب بما أعده سبحانه للصابرين من البشارة العظمى ، ولمن قتل في سبيله الأجر الجزيل. ولا يسعنا في ذلك إلّا أن نقول بما قاله الإمام زين العابدين (عليه‌السلام) في صحيفته : «ولو دل مخلوق مخلوقا من نفسه على مثل الذي دللت عليه عبادك منك كان موصوفا بالإحسان ومنعوتا بالامتنان ومحمودا بكل لسان» فهذه الآيات تكفي في عظمة الموحي والموحى إليه والوحي لكل من كان له سمع أو ألقى السمع وهو شهيد.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). قد ورد هذا الخطاب في القرآن الكريم في ما يقرب من تسعين موردا وفيه من التحبب والملاطفة مع عبيده ما لا يخفى ، والمنساق من سياقه تلبس المخاطب بالإيمان في الجملة ، وهو يقتضي أن يكون الخطاب مدنيّا لا مكّيا. وتقدم ما يتعلق به في الآية ـ ١٠٤ من هذه السورة فراجع.

قوله تعالى : (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ). الصبر هنا مقاومة النفس مع ما يرد عليها من المكاره والأذى. وحذف متعلقه يفيد العموم ـ كما هو المعروف في العلوم الأدبية ـ أي استعينوا بالصبر في جميع أموركم فإنه مفتاح النجاح ، وهو في كل شيء حسن ، ولا يتعلق بشيء إلّا وصار محبوبا ، فهو أمّ الفضائل والجامع لجميع جهات استكمال الإنسان إذا كان الصابر مراعيا لتكاليف المولى.

والاستعانة بالصبر استعانة بأهم الأسباب المؤدية إلى المطلوب وأعظم السبل في نيل المقصود ، والحاجة إليه في تأييد الحق ومقارعة الباطل واحتمال المصائب معلوم لكل احد ، وآثاره ظاهرة لكل فرد ، وتقدم ما يتعلق به في الآية ـ ٤٥ من هذه السورة.

وأما الاستعانة بالصلاة فإنها استعانة بأبرز مظاهر العبودية لرب

١٦٣

العالمين ، وأهم أبواب مناجاته تعالى ، والإستغاثة به عزوجل ، لما تشتمل على عظيم الآثار ، فإنها معراج المؤمن ، وإنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وبها يحصل للنفس سكونها واطمينانها عن الحوادث الواردة عليها ، لأن فيها ارتباط بعالم الغيب المحيط بهذا العالم ـ والإنسان خلق من ذلك العالم فإذا طابقت سنخية الذات مع العمل يحصل الانقطاع عن العلائق ويشتد الارتباط مع رب الخلائق ، فينتظم النظام على الوجه الأصلح. وفي الحديث : «كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إذا حزبه أمر ـ أي اشتد عليه ـ فزع إلى الصلاة» وتقدم نظير هذه الآية في هذه السورة آية ـ ٤٥ إلّا أن في الأولى مدح سبحانه الصلاة وفي هذه مدح الصبر وبشر الصابرين.

والوجه في التكرار التأكيد على أهمية الصبر والصّلاة في تنفيذ الأمور وتكميل النفوس وتوطينها لاحتمال المكاره وتحصيل السعادة في الدارين.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ). لفظ «مع» يأتي بمعنى الجمع والمصاحبة في الجملة ، ويختلف اختلافا كبيرا بحسب الموارد والخصوصيات ، ويستعمل في الخالق والمخلوق ، قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [سورة التوبة ، الآية : ١٢٣] وقال تعالى حكاية عن نوح : (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الشعراء ، الآية : ١١٨].

والمعية نحو ارتباط حاصل تارة : بين الخالق والمخلوق حدوثا وبقاء ، قال تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [سورة الحديد ، الآية : ٤] ويعبر عنها بالمعية القيّومية وتلازمها المعية الزمانية والمكانية والجامع ما ذكره علي (عليه‌السلام) : «مع كل شيء لا بالمجانسة وغير كل شيء لا بالمباينة».

وأما معية المخلوق مع خالقه فيعبر عنها بعبارات مختلفة ، أولها العبودية وآخرها الفناء في الله تعالى ونتيجة الجميع البقاء بالله تعالى.

وأخرى : تحصل من عونه ونصرته وتوفيقه ، وتسبيب أسباب الخير ، ومنها معيّته تعالى مع الصابرين والمتقين والأنبياء والصالحين ، فتكون معيته تعالى لهم من جهتين جهة قيموميته تعالى ، وجهة فعله وعنايته ونصرته لهم. وهناك معان أخرى للمعية تأتي في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

١٦٤

قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ). المراد من القول هو الأعم من الإعتقاد والتعبير بالألفاظ ، فاستعمل في الجامع.

والقتل إزهاق الروح عن الجسد إذا لوحظ فيه الإضافة إلى الفاعل. وأما إذا لوحظ فيه الإضافة الى المقتول فيصح التعبير عنه بالموت أيضا. هذا بحسب الشايع المتعارف وإلّا فيصح إطلاق القتل بالنسبة إلى الجنين الذي لم تتعلق به الروح بعد كما ورد في بعض أحاديث دية الجنين.

كما لا يختص بإزهاق روح الإنسان بل يشمل الحيوان أيضا قال تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٢] والنصوص في هذا الإطلاق مستفيضة من الفريقين.

بل يطلق القتل على إزالة المعارف الحقة عن النفوس المستعدة أو دفعها عنها. فإنّ من تسبب في جهل الناس بالمعارف الإلهية فقد قتلهم شر قتلة لأنه أزال حياتهم الأبدية السرمدية كما يأتي التفصيل.

وقد ذكر القتل هنا بهيئة المضارع ، وفي قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا) [سورة آل عمران ، الآية : ١٦٩] بهيئة الماضي ، ولا فرق بينهما من هذه الجهة ، لما ذكرناه من القاعدة الكلية المؤيدة بالدليل العقلي بانسلاخ الأفعال عن الزمان بحسب ذاتها والخصوصيات الزمانية تستفاد من القرائن الخارجية.

والسبيل هو الطريق الذي فيه السهولة ، ويستعمل في كل ما يتسبب به إلى المطلوب ـ خيرا كان أو شرا ـ قال تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) [سورة الأعراف ، الآية : ١٦٤].

وقد ذكرت جملة «سبيل الله» في القرآن الكريم ما يزيد على ستين موردا وهو يدل على سعته وشموله وعظمته وأهميته ، وتقدم الفرق بينه وبين الصراط في سورة الحمد عند قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) وقد ذكر في القرآن الكريم والسنة المقدسة بعض المصاديق : مثل بذل النفس في إحياء كلمة التوحيد وتأييد الحق وقمع الباطل ، وبذل المال للضعفاء ، وإفشاء

١٦٥

الأخلاق الحسنة بين النّاس ، وخدمة الوالد ، وصلة الأرحام ، وإغاثة اللهفان ، وعون الضعيف وغير ذلك مما لا حد له ولا حصر ، وتقدم قول : «إن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق».

والمراد به في المقام الجهاد لإعلاء التوحيد ونصرة الحق ومقارعة الباطل وقمعه.

وذكر القتل في سبيل الله بعد قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) من باب ذكر أهم الأفراد وأعظم الأمور الّتي لا بد من الاستعانة بالصبر فيها ، يعني : إن الله تعالى مع كل صابر خصوصا هذا القسم من الصابرين فإنه آخر درجة التصبر والاصطبار ، فيمنحهم الله تعالى المعونة والأجر الجزيل.

قوله تعالى : (أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ). أي : لا تقولوا : في شأن من قتل في سبيل الله أنهم أموات مفقودون عن الحس ذهبوا الى دار الفناء بل هم أحياء حياة أبدية ولكن لا تشعرون بها ، لأن حياتهم في غير هذا العالم المحسوس المدرك بالمشاعر.

والمراد بالحياة هنا الأعم من الحياة في عالم البرزخ والحياة الحقيقية لأجل إحياء الدين ، والحياة في الذكر واللسان ، نظير ما ورد عن علي (عليه‌السلام) : «هلك خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة» وهو من باب ذكر بعض الأفراد الذي يبقى لا من باب الحصر.

وقد ذكر المفسرون في معنى الحياة هنا ما لا يرجع إلى محصّل كما يأتي تفصيل الكلام فيها.

والحياة على أقسام :

الأول : الحياة الدنيوية الظاهرية المتقومة بتدبير النفس في البدن وإعمالها للقوى الظاهرية والباطنية في الجسم الدنيوي فقط.

الثاني : الحياة الذكرى عند النّاس بعد ارتحال النفس عن البدن كما في العظماء والأكابر الذين خلدت أسماؤهم في التاريخ تعظيما لجهودهم في

١٦٦

العلم والأعمال الخيرية الصادرة منهم في حياتهم.

الثالث : الحياة الأبدية الخالدة التي لا يعلمها إلّا الله تعالى.

وظاهر الآية المباركة والنصوص الواردة في حياة المقتول في سبيل الله هو القسم الأخير ، لفرض أنّه بذل نفسه ونفيسه في سبيل الحي القيوم الأزلي الأبدي طلبا لرضائه وامتثال أمره ، ولا تحديد في هذه الحياة كما بالنسبة إلى القسمين المتقدمين. وتتبع هذه الحياة الحياة بالمعنى الثاني ، فما عن بعض المفسرين من أنّ المراد خصوص القسم الثاني فقط تخصيص للعموم بدون وجه.

إن قيل : مثل هذه الحياة ثابتة لكل فرد من أفراد المؤمنين ومعلومة لهم ، فلا وجه لتخصيصها بالشهيد.

يقال : إنّ أصل الحياة بعد الموت وإن كانت ثابتة للمؤمنين ومعلومة لهم ، لكن المستفاد من مجموع الآيات الشريفة والنصوص الواردة في حياة الشهيد أن فيها مزايا خاصة فوق أصل الحياة بمراتب كثيرة كما يدل عليها قوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٦٩].

والخطاب في الآية عام لا يختص بطائفة خاصة لا المشافهين ولا غيرهم لما ثبت في علم الأصول من أن الخطابات الواردة في الشريعة المقدسة ـ خصوصا ما ورد منها في القرآن الكريم ـ من قبيل القضايا الطبيعية الشاملة لجميع الأفراد.

فمن قال باختصاص الخطاب في المقام وفي قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٦٩] بطائفة خاصة.

لا وجه له إذ لا دليل عليه بل هو مخالف لطريقة العرف والعقلاء في محاوراتهم ولا سيما هذا الخطاب الوارد في مقام الترحم على العباد والترأف بهم.

والقتل في سبيل الله تعالى هو الشهادة في سبيله تعالى : والشهيد مشتق

١٦٧

منها الا أنّ الأول باعتبار أصل الحدوث والثاني باعتبار الثبوت والشهيد من أسماء الله تعالى وهو بمعنى الحضور الفعلي بالنسبة إلى جميع ما سواه ، ولعل اطلاق الشهيد على من قتل في سبيل الله تعالى إنما هو لأجل حضوره لديه عزوجل متلبسا بما عاناه من الصعاب والاضطهاد ، أو حضور الملائكة لديه مبشرين له بأعلى المقامات وارفع الدرجات التي أعدت له ، ويصح الحمل على المعنى العام أي حضوره لديه للانتصار وحضور الملائكة لديه لبشارته بالجزاء ، والمراد من حضوره تعالى هو توجهه الخاص به.

فالشهادة هي السفر من الخلق إلى الحق ولا تختص بخصوص من بذل دمه في سبيل الله بل تشمل كل من تحمل الأذية مطلقا في سبيله عزوجل ، وفي جملة من الأحاديث : «المؤمن شهيد ولو مات في فراشه» إلّا أن للشهيد الذي بذل دمه له أحكاما خاصة ويأتي تتمة الكلام في الآيات المناسبة.

والآية تدل على تجرد النفس وهو حق لا ريب فيه كما ثبت بالأدلة الكثيرة وهو المستفاد من الكتب السماوية والقرآن المبين والنصوص المتواترة من السنّة الشريفة ويأتي في البحث الفلسفي تفصيل الكلام فيه.

قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ). مادة (بلا) تأتي بمعنى الامتحان والاختبار وتقدم ما يتعلق بها في قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٤].

والشيء من الألفاظ العامة الشاملة للقليل والكثير ، والجواهر والأعراض.

والخوف توقع المكروه ـ مظنونا كان او معلوما ـ بعكس الرجاء فإنه توقع المحبوب كذلك.

والمعنى : لنمتحنكم بشيء من الخوف من العدو أو بشيء من الجوع. ولم يذكر سبحانه وتعالى متعلق الامتحان ولا مورد الخوف والجوع تعميما للاختبار والامتحان في كل زمان ومكان وبالنسبة الى كل شخص. ولهما مراتب كثيرة يحتمل أن يكون الامتحان بالنسبة الى كل مرتبة بما تقتضيه المصلحة الإلهية.

١٦٨

قوله تعالى : (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ). النقص يأتي بمعنى الخسران وهو في مقابل التمام. والمراد من الأموال الأعم من الأعيان والمنافع وما يهتم الإنسان بحفظه فيشمل الحيوان والعبيد وكل ما يبذل بإزائه المال.

كما أنّ المراد بالأنفس كل ما يتأثر الإنسان بفقده وورود النقص عليه ـ سواء كان من النقص في قوى النفس أو عروض الموت عليها ـ فيشمل النفس والأقارب والأصدقاء.

والثمرات جمع ثمرة وهي وإن كانت داخلة في الأموال غالبا لكن أفردها سبحانه وتعالى لتشمل ما ينبت في الأرض بالطبيعة مما لا مالك لها فعلا وينتفع بها الإنسان كالمرعى وجملة كثيرة من النباتات التي لها منافع هامة للإنسان وتكون غذاء للحيوان.

ويصح أن يراد بالثمرات مضافا إلى ما ذكرناه ثمرات القلوب أيضا وهي الأولاد كما يعبر عنهم بها كثيرا وفي الحديث عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة : أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم. فيقول : أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون : نعم. فيقول الله تعالى : ماذا قال عبدي؟ فيقولون : حمدك واسترجع ، فيقول الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتا في الجنّة ، وسموه بيت الحمد».

والآية تشير الى ملازمة ما تقدم من الأمور لدار الدنيا المعبّر عنها في الفلسفة ب (دار الكون والفساد). كما أنها تفيد بأن الإيمان بالله تعالى لا يقتضي سعة الرزق ودفع الآلام ورفع المخاوف بل إن ذلك يجري حسب قانون السببية وما سنّه الله تعالى في عباده وإنما يجريها حسب المصالح والحكم ولذا نرى أنّ المؤمن يرى من البلاء ما لا يراه غيره ليعلم مقدار صبره أو يكمل إيمانه بها ويتهذب بالأخلاق الفاضلة.

ثم إنّ اختبار النّاس من قبله تبارك وتعالى إنما يكون لأجل حكم ومصالح متعددة منها : توطين النفس على المصائب ، وتهذيب الأنفس وتكميلها ، والتأدب بمقاومة الحالات ، وإتمام الحجة ، والتمييز بين الصابر

١٦٩

وغيره ، وقوة البصيرة ، وصفاء السريرة ، وتعلّم اللاحقين من السابقين كيفية مجاهداتهم واستقامتهم في الدين وما يترتب على ذلك من البشارة العظمى والأجر الجزيل كما في ذيل الآية الشريفة.

ولا أثر لهذا الامتحان بالنسبة إلى علمه عزوجل فإن النّاس قبل الامتحان وبعده في علمه التام الأزلي على حد سواء.

ولأجل ذلك لا يختص الاختبار ببعض الأفراد دون بعض بل يشمل جميع أفراد الإنسان حتّى الأنبياء والأولياء بل نقول إن ذلك من سنن الحياة الإنسانية.

نعم ، تارة : يكون الامتحان لإتمام الحجة على نفس الممتحن (بالفتح) كما مر وهذا هو القسم الشايع وأخرى : يكون لأجل إتمام الحجة على النّاس بأن هذا الشخص خرج عن الامتحان وقابل للنبوة والإمامة كما بالنسبة إلى إبراهيم (عليه‌السلام) ، وأما بالنسبة إلى سيد الأنبياء فإنه حاز مرتبة الجمع ويجل عن ذلك فانه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أول الخلق كان كاملا ومكملا ، وان «آدم ومن دونه تحت لوائه يوم القيامة» ، ولو كان عيسى وموسى (عليهما‌السلام) حين لم يسعهما إلّا إتباعه كما ورد في الحديث ، وروى الفريقان إنه قال : «لي مع الله حالات لا يسعني فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل» وعلى فرض وقوع الامتحان فإنما يكون لتثبيت علو مقامه عند النّاس كما عرفت آنفا.

قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). أي : وبشر الصابرين على تلك المصائب الذين رضوا بقضاء الله تعالى وقدره وسلموا أمورهم إليه ولم تصدهم المحن والمصائب عن شكر الله تعالى ولا عن عبادته وطاعته.

وإنما اطلق سبحانه وتعالى البشارة لعدم إمكان تحديد المبشر به بحد معين ، فإنه يختلف باختلاف مراتب الصبر والرضاء ، والمناط هو أهلية الصابر لتحمل البلاء والمحن خصوصا إذا اقترن مع الرضا والتسليم فإنه يكون حينئذ من أعلى الفضائل وأسناها كما قال عزوجل.

قوله تعالى : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ

١٧٠

راجِعُونَ). مادة (ص وب) تستعمل في كل ما يصيب الإنسان من الخير والشر قال تعالى : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ٥٠] وقال تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [سورة النساء ، الآية : ٧٩].

واستعملت المصيبة في كل ما يؤذي الإنسان في نفس ، أو مال أو أهل. ولكن اختصت عند العرف بالنائبة فقط. وفي نصوص كثيرة أن كل ما يؤذي المؤمن فهو مصيبة حتّى انقطاع شسع نعله ، والشوكة تدخل في بدنه ، فتكون المصيبة في الشريعة بمعناها في اللغة من مطلق الإصابة.

والرجوع والعود بمعنى مصير الشيء إلى ما كان عليه أولا نظير قوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٩].

أي : إنّ كل ما لنا من الحياة والنّعم هو من عند الله تعالى وملك له ، فهو اعتراف بالملكية له تعالى ذاتا وتدبيرا وتسليما ورضاء بقضائه وحكمته.

وقول (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) إقرار بالرجوع إليه تعالى والجزاء على الأعمال. وفيه تسلية لكل مصاب ومظلوم وتوعيد لكل جائر وظالم.

والمعنى : وبشر الصابرين الذين يقولون : إنّا لله وإنا اليه راجعون المعبرين بلسان مقالهم عن الإيمان بالقضاء والقدر والتسليم لأمره.

وقول (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) إقرار بالمبدأ والمعاد لله تعالى بالمطابقة ، وحيث إنّ مبدأ الكل ومرجعهم يستلزم وحدة الذات والفعل والا لزم الخلف ، فهذه الآية تدل على توحيد الذات وتوحيد الفعل بالملازمة ، ولعظمة هذه الجملة قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أعطيت هذه الأمة شيئا لم يعطه الأنبياء قبلهم وهو (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

والرجوع إلى الله تعالى إما غير اختياري أو اختياري ، والأول هو المعاد الذي دلت عليه جميع الكتب السماوية خصوصا القرآن الكريم الذي أكد في هذا الموضوع تأكيدا بليغا. وهو من الموضوعات التي ينبغي التأكيد عليها لأن به يثبت المبدأ ووحدانيته وإذا ثبت المبدأ ثبت المعاد لا محالة.

١٧١

وأما الثاني أي الرجوع الاختياري اليه عزوجل فهو أن يهيئ الإنسان نفسه للحضور لدى الحي القيوم العالم بالسرائر والضمائر حضور مجازاة لما فعل وعمل لا مطلق الحضور إذ الجميع حاضر لديه تعالى بهذا النحو من الحضور.

وبعبارة أخرى : إن هبوط الإنسان من المحل الأرفع الأعلى الى الحضيض الأسفل لا يوجب أن ينسى الإنسان ما نزل منه وأن يتدنس بما وقع فيه ، ولا بد له من التفكر بالعروج والصعود وهذا هو الاسترجاع العملي ولا ينفع مجرد الاسترجاع القولي. وللاسترجاع العملي مراتب كثيرة ومقامات شريفة فصّلها العرفاء في كتبهم العرفانية.

قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ). بيان لبعض مراتب البشارة بعد ذكر الوصف الذي يستحقون به البشارة.

والصلاة هي التحية ، والتزكية ، والبركة والثناء الجميل. والجمع باعتبار الكثرة والتعدد من نوع واحد أو أنواع متعددة حسب مراتب المصيبة وشدتها.

وأما الرحمة فهي مطلق النعمة عاجلها أو آجلها. وإنما أتى بالجنس تعميما لكل رحمة يكون المورد قابلا لها في العاجل وهي حسن العزاء والتوفيق. للرضا والتسليم بالقضاء ، وفي الآجل من المغفرة والأجر الجزيل ، فهو تعالى رحيم بهم أي رحمة مما يجدون أثرها في هذه الدنيا والآخرة.

قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). الاهتداء إصابة طريق الحق في الدنيا ، والجنّة في العقبى فهم المستعدون لنيل سعادة الدارين. ولا ريب في تحقق الاهتداء في الاسترجاع القلبي العملي.

وإتيان الجملة الاسمية المعرّفة الطرفين ، والتأكيد بضمير المنفصل يؤكد أن هذه الأوصاف لا تكون إلّا في من صبر وسلّم الأمر إلى الله تعالى واعترفوا بأنّهم لله وأنهم اليه راجعون.

١٧٢

بحوث المقام

بحث دلالي :

تدل الآيات المباركة على أمور :

الأول : إنّ الآيات المتقدمة وما في سياقها تستنهض النّاس على المجاهدة في سبيل الله تعالى ، بلا فرق بين ان تكون المجاهدة في قتل الكافرين والمعاندين للحق ، أو المجاهدة في تهذيب النفس وتزكيتها بمكارم الأخلاق وترويضها بصالح الأعمال ؛ ويسمى هذا بالجهاد الأكبر كما ورد في الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله). أو المجاهدة في تحصيل المعارف الإلهية فإنها أعظم سبل الله تعالى والجهاد فيه يربو على أجر الشهيد ، ففي الحديث : «إذا كان يوم القيامة يوزن مداد العلماء على دماء الشهداء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء» أو المجاهدة في السعي في قضاء حوائج المؤمنين وغير ذلك مما يسمى بالجهاد في الشريعة المقدسة ، فإن سبيل الله له مراتب كثيرة وجوانب متعددة والمجاهدة فيه أيضا كذلك.

الثاني : إنّ الآيات تدل على وجود عالم البرزخ وقد اثبته الفلاسفة ببراهين عقلية وتدل عليه آيات وروايات كثيرة وهو عالم وسيع جدا يتحقق من بعد الموت إلى البعث قال تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ١٠٠] ولهذا العالم تفاصيل كثيرة لعلنا نتعرض للمهم منها في الموضع المناسب.

الثالث : استدلوا بهذه الآيات على تجرد النفس ـ كما سيأتي بيانه والتجرد وإن كان حقا في الجملة والعلم به حاليا أولى بأن يكون علما استدلاليا مقاليا.

إلّا أنّ هذه الآيات بمعزل عن الدلالة على تجرد الروح فإنها لا تنافي كونها جسما لطيفا الطف من الهواء ، ومع الاختلاف العظيم الذي وقع من العلماء في شرح حقيقة الروح كيف يمكن الجزم بتجردها أو الجزم بشيء آخر؟! وسيأتي الكلام في الروح إن شاء الله تعالى.

١٧٣

الرابع : المراد بحياة الشهداء في سبيل الله تعالى الحياة الكريمة الدائمية الأبدية التي هي في جوار الله تعالى من أول مفارقة أرواحهم لا خصوص الحياة البرزخية فانها تعم الجميع حتّى الكفار والمنافقين ، ولا الحياة الذكرى فانها أيضا قد تكون لغير الشهيد ويصح إرادة الجميع كما تقدم ما يدل عليه.

الخامس : لم يذكر متعلق البشارة في قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) ليفيد العموم ـ كما هو المشهور بين علماء الأدب ـ وتعظيما للمبشر به. فكل شيء يذكر فيه يكون تحديدا بلا دليل وهي لا تختص بالمقامات الأخروية بل تعم الجميع ولا يصل إليها أحد إلّا بالصبر.

السادس : يستفاد من حرف القسم والتأكيد في قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) أنّ الإنسان لا ينفك عن المصائب والبلايا وهي إما نوعية أو شخصية وكل منهما إما جسمية أو روحية أو هما معا. والدنيا لا تخلو عنها أبدا وهي من لوازم وجودها بل من لازم ذاتها وقد عرّفها علي (عليه‌السلام) في خطبه المباركة بأحسن بيان. ويختلف أجر الصابر باختلاف المصائب واختلاف المصابين فإما أن تكون المصائب لحبط السيئات أو لرفع الدرجات أو التفضل بهما معا وينطبق على كل بحسبه.

السابع : إنّ ذكر البشارة وتعيين المبشر به بالإجمال يدل على رفعة مقام الشهداء والصابرين وعلوّ درجتهم وان لا يدنسوا هذا المقام الرفيع بحطام الدنيا فإن أجرهم معلوم ، وهذا من قبيل تقديم ذكر الأجر قبل العمل الذي حثّ عليه الشرع المبين.

الثامن : إنّما ذكر سبحانه الاستعانة بالصبر والصّلاة لأنهما أقوى سبب في تكميل النفس ثم بين أنه تعالى مع الصابرين ترغيبا لهم وتخفيفا من معاناة الصبر لكثرة مرارته ، ثم عقب سبحانه بعد ذلك الجهاد في سبيله لكونه من أجلّ المقامات وارفعها ثم ذكر الابتلاء والامتحان لأنهما مما يوجب الثبات والاطمئنان في تحصيل الكمالات المعنوية ، ثم ذكر بعض ما يفيضه على الممتحنين من أنحاء العطف والرحمة كل ذلك مقدمة لما يأتي في الآيات

١٧٤

اللاحقة من تشريع الأحكام الإلهية التي يكون إتيانها والخروج عن عهدتها من الجهاد الأكبر ، فالآيات على اختصارها ترغّب النفوس إلى تحمل المتاعب سواء في مقارعة الباطل وإعلان الحق او في إتيان التكاليف الإلهية ؛ وكل ذلك يدل على أن في تحصيل الكمال الأبدي لا بد من بذل الوسع وتحمل المشاق.

بحث روائي :

في تفسير العياشي عن الفضيل عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «يا فضيل بلّغ من لقيت من موالينا عنّا السّلام ، وقل لهم : إني لا أغني عنكم من الله شيئا إلّا بورع ، فاحفظوا ألسنتكم ، وكفوا أيديكم ، وعليكم بالصبر والصّلاة إن الله مع الصابرين».

أقول : في سياق ذلك روايات متواترة أخرى فعن أبي جعفر (عليه‌السلام) في الصحيح : «لا تتهاون بصلاتك فإن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال عند موته : ليس مني من استخف بصلاته لا يرد عليّ الحوض لا والله» ، وعن الصادق (عليه‌السلام) حين حضرته الوفاة : «إن شفاعتنا لا تنال مستخفا بالصّلاة».

وقد قطع أبو جعفر (عليه‌السلام) بقوله هذا أمل كل مؤمل فيهم ، وانه لا يفيد الشخص إلّا الورع عن محارم الله تعالى ، وذكر (عليه‌السلام) بعض أفراد العمل الصالح. وإنما خص (عليه‌السلام) الصبر والصّلاة لكون الأول من أهم موجبات الورع ، والثانية من أهم ما يوجب التوفيق للعمل الصالح وترك المحارم.

في الكافي عن ابن أبي عمير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) قال : «الصبر الصيام ، وقال إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم فإن الله عزوجل يقول واستعينوا بالصبر يعني الصيام».

أقول : إنّه من باب التطبيق لأنّ الصوم يوجب الصبر عن الشهوات النفسانية ، فلا منافاة بين هذا الحديث وسائر ما ورد في معنى الصبر.

١٧٥

في الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «كان علي (عليه‌السلام) إذا أهاله شيء قام إلى الصّلاة ، ثم تلا هذه الآية : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ).

أقول : إنّه يستفاد منه أهمية الصّلاة لدفع المكاره ورفع الشدائد.

في الكافي والتهذيب عن يونس بن ظبيان عن الصادق (عليه‌السلام) «قال له : ما يقول النّاس في أرواح المؤمنين؟ قال : يقولون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش فقال (عليه‌السلام) : سبحان الله المؤمن أكرم على الله من ان يجعل روحه في حوصلة طير ـ إلى أن قال (عليه‌السلام) ـ إذا قبضه الله تعالى صيّر تلك الرّوح في قالب كقالبه في الدنيا. فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا».

أقول : هذا الحديث ورد في بيان حياة البرزخ وسوف نفصل الكلام في الحياة البرزخية ولوازمها وما يتعلق بها في محله إن شاء الله تعالى.

والجزء الأول من الحديث قد نسب إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقد نفاه الإمام (عليه‌السلام) وهو حق لأنه لو لم يكن من التناسخ الباطل لكان نظيره والله تعالى أقدر من أن يجعل بدنا مثاليا لكل إنسان في عالم البرزخ من ان يجعل له بدنا من الحيوان.

وفي التهذيب عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «انه سئل عن أرواح المؤمنين؟ فقال : في الجنّة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت فلان».

أقول : لكل بدن نشئات هو في جميعها واحد منها نشأة الدنيا ، ومنها نشأة النوم في عالم الدنيا ، فإذا رأينا زيدا في الخارج ثم رأيناه في عالم النوم فهما واحد بلا إشكال ، ومنها نشأة البرزخ ؛ فيكون البدن المثالي في عالم البرزخ كالبدن المثالي في عالم النوم ، ومنها نشأة الحشر والبعث وهو عين البدن الدنيوي كما سنبينه في مباحث المعاد.

ولا اختصاص لوجود البدن في هذه النشآت بطائفة دون أخرى : نعم الشهداء متنعمون في أبدانهم البرزخية ، وفي عالم الحشر بنعمة فاقت على

١٧٦

نعم غيرهم حتّى ورد في نصوص كثيرة أنهم يحشرون على نحو ما استشهدوا أو قتلوا.

وعن ابن بابويه عن محمد بن مسلم قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : إنّ قبل قيام القائم علامات تكون من الله للمؤمنين قلت وما هي جعلني الله فداك؟ قال (عليه‌السلام) : يقول الله عزوجل : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) يعني المؤمنين قبل خروج القائم (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) قال نبلوهم بشيء من الخوف من ملوك بني فلان في آخر سلطانهم ، والجوع بغلاء أسعارهم ، ونقص من الأموال قال : كساد التجارات وقلة الفضل. ونقص من الأنفس قال : موت ذريع. ونقص من الثمرات ، قال قلة ربح ما يزرع. وبشر الصابرين عند ذلك بتعجيل الفرج. ثم قال لي : يا محمد هذا تأويله إن الله عزوجل يقول : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).

أقول : أما قيام القائم (عليه‌السلام) فأصله مسلّم بين جميع المسلمين بل بين المليين ، واتفاق الجميع على أنه لا بد وأن يظهر مصلح بين النّاس إنما الاختلاف في المصداق.

وقبل القائم أمر إضافي يشمل القريب بقيامه والبعيد عنه. كما أن ما ورد في علامات الظهور موكول إلى مشيئة الله تعالى وليست كلها حتمية يمكن ان لا يظهر جملة كثيرة منها ، ويمكن ان يظهر جملة منها ولم يأذن الله تبارك وتعالى بظهوره (عليه‌السلام) وهذا التفصيل موكول إلى الكتب المعدة لذلك والروايات الواردة فيها.

وعلى أي تقدير ما ورد في الحديث من باب التطبيق ولذا عبر (عليه‌السلام) بقوله : «هذا تأويله».

عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) أي : بالجنّة والمغفرة.

أقول : هذا بيان لبعض مراتب المبشر به ودرجات البشارة في الجملة لا بالنسبة إلى جميع مراتبها ، فإن للصبر مراتب ومتعلقه أيضا كذلك ، ولا ريب

١٧٧

في أنّ بعض مراتبه أشد من مرتبته الأخرى ، فلا يعقل تسوية المبشر به بالنسبة إلى الجميع وتقدم في تفسير الآية ما يتعلق بالمقام.

وعن الباقر (عليه‌السلام) قال : «أتى رجل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال : إنّي راغب نشيط في الجهاد قال : فجاهد في سبيل الله عزوجل فانك إن تقتل كنت حيا عند الله مرزوقا ، وإن مت فقد وقع أجرك على الله».

أقول : لا فرق بين الشهادة والموت إذا لوحظ بالنسبة إلى ذات انفصال الروح عن البدن ، فإنه في كل منهما واحد وإنما الشهادة بالنسبة إلى القتل في سبيل الله والموت بالنسبة إلى غيره ، ممن يخرج في سبيل الله فان مات في الطريق فهو في حكم الشهيد ، وان قتل بيد العدو فهو شهيد حينئذ وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «وان مت فقد وقع أجرك على الله» تطبيق للآية الشريفة : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١٠٠].

في المجمع عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه. وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : من أصيب بمصيبة فأحدث استرجاعا وإن تقادم عهدها كتب الله له الأجر مثله يوم أصيب».

أقول : هذا الحديث يبين بعض ما قاله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ).

وفي الكافي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «ما من عبد يصاب بمصيبة فيسترجع عند ذكره المصيبة ويصبر حين تفجعه إلّا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وكلما ذكر مصيبته فاسترجع عند ذكره المصيبة غفر الله له كل ذنب اكتسب فيما بينهما».

أقول : ترتب الثواب على الاسترجاع ، لأنه اعتراف بالتوحيد الذاتي والتوحيد الفعلي ، واعتراف بالمبدأ والمعاد. فهذه الكلمة جامعة لجملة كثيرة من المعارف الإسلامية ، وقد ورد في بعض الأحاديث أنها من خواص هذه الأمة كما تقدم.

١٧٨

في الخصال «أربعة من كنّ فيه كان في نور الله الأعظم : من كانت عصمة أمره شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله ، ومن إذا أصابته مصيبة قال : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، ومن إذا أصاب خيرا قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، ومن إذا أصاب خطيئة قال : استغفر الله وأتوب إليه».

أقول : المراد بنور الله الأعظم رحمته الواسعة ، وهدايته الكاملة إلى المعارف الإلهية ، وذلك لأن هذه الكلمات جامعة لجميع ذلك بنحو الإجمال.

وفي الكافي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال الله عزوجل إني جعلت الدنيا بين عبادي قرضا [فيضا] فمن أقرضني فيها قرضا أعطيته بكل واحدة [منهنّ] عشرا إلى سبعمائة ضعف ، وما شئت من ذلك ومن لم يقرضني منها قرضا وأخذت منه شيئا قسرا أعطيته ثلاث خصال لو أعطيت واحدة منهنّ ملائكتي لرضوا بها مني ، قال : ثم قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : قول الله عزوجل : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) فهذه واحدة من ثلاث خصال ورحمة من اثنتين ، وأولئك هم المهتدون ثلاث. ثم قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : هذا لمن أخذ الله منه شيئا قسرا».

أقول : يدل على الجزء الأول من الحديث قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٤٥] ؛ وقوله تعالى : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [سورة التغابن ، الآية : ١٧].

وأما قوله (عليه‌السلام) : «وأخذت منه شيئا قسرا» أي جبرا وكرها فهو بالنسبة إلى عامة النّاس ، وأما بالنسبة إلى أولياء الله تعالى فلا يتصور القسر بالنسبة إليهم لأنّهم في مقام التسليم والرضا بأمره تعالى.

وفي نهج البلاغة قال علي (عليه‌السلام) وقد سمع رجلا يقول : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) : «يا هذا إن قولنا : إنّا لله إقرار على أنفسنا

١٧٩

بالملك. وقولنا : (إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ). اقرار على أنفسنا بالهلاك».

أقول : يستفاد منه ان هذه الجملة المباركة تشتمل على الاعتراف بالمبدأ والمعاد اللذين هما أساس دعوة الأنبياء والكتب النازلة من السماء. وأمثال هذه الروايات كثيرة جدا.

وفي المعاني عن الصادق (عليه‌السلام) : «الصّلاة من الله رحمة ، ومن الملائكة تزكية ، ومن النّاس دعاء».

أقول : قريب منه روايات أخرى ، ويمكن إرجاع الجميع إلى شيء واحد وهو الميل والعطف ولكنه يختلف باختلاف الموارد.

بحث فلسفي في تجرد النفس :

البحث عن النفس من المباحث المهمة لتعدد الجوانب فيها فقد بحث عنها في الفلسفة القديمة والحديثة كما بحث عنها في علم الأخلاق وعلمي الحديث والتفسير ، والعرفان ، كما بحث عنها في علم الأحياء وأخيرا أفرد لها علم مستقل يعرف باسمها يبحث فيه عن معرفة النفس الإنسانية وطبيعتها وعوارضها وعملها وأمراضها ووضعوا فيها نظريات وقوانين.

ولقد حاول العلماء التوصل إلى طبيعة هذا المخلوق العجيب ومعرفة المسائل التي تتعلق بها لعلهم يجدوا حلا للشبهات التي قد تنشأ من التفكر فيها إلّا أنهم اعترفوا بعد طول الجهد بالعجز عن الكثير وإن أمكنهم الكشف عن بعض الجوانب ولكنه لا يغني عما يستجد من المشاكل فضلا عن ما ذكرناه فالحقيقة بعد تحت الحجاب ، وفي ذلك تنبيه الإنسان على أنه إذا عجز عن فهم حقيقة ما هو أقرب الأشياء اليه فكيف يطمع بالإحاطة بحقيقة ما اعترفت العقول بالعجز عنه والخضوع امام عظمته.

والسبب في ذلك ان النفس ـ أو الروح ـ من عالم الغيب الذي لا يحيط به إلّا الله عزوجل ، لتحقق الإضافة التشريفية فيها بما لا نهاية له بوجه من الوجوه قال تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [سورة الشمس ، الآية : ٨] وقال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ

١٨٠