مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

بالتحويل إلى القبلة الجديدة وهو في صلاة الظهر بينما كان يصلي بأصحابه فتحوّل إلى الكعبة المقدسة ـ وفي بعض الروايات أخذ جبرائيل بيد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وحوله إليها ـ وتحول أصحابه إليها حتّى صار الرجال موضع النساء والنساء موضع الرجال ، ثم صلّى بهم صلاة العصر إلى القبلة الجديدة ، وهو في مسجد بني سالم وسمي بعد ذلك بمسجد القبلتين ، وهو من المساجد المشهورة في المدينة المنورة يقصده المسلمون ليؤدوا فيه الصّلاة إعظاما لهذا الحدث العظيم وتخليدا لذكرى صاحبه.

وأما زمانه فالمروي في صحيح مسلم انه كان في رجب من السنة الثانية بعد الهجرة بستة عشر شهرا ، وفي رواية البخاري انه صلّى الى بيت المقدس بعد الهجرة بستة عشر أو سبعة عشر.

ولكن المشهور ـ وعليه جمهور العامة ـ انه كان في النصف من شعبان من السنة الثانية للهجرة. وعلى كلا التقديرين فلا بد وان تكون الشهور بعد الهجرة ـ التي وقعت في شهر ربيع الأول ـ اما سبعة عشر إذا كان التحويل في رجب ، أو ثمانية عشر إذا كان في شعبان.

وروى الشيخ المفيد في مسار الشيعة : «في النصف من رجب سنة اثنتين من الهجرة حولت القبلة» هذا.

وروى ابن بابويه في الفقيه «صلّى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى بيت المقدس بعد النبوة ثلاث عشرة سنة وتسعة عشر شهرا بالمدينة» وذكره في قرب الأسناد أيضا ولا بد من حمله على بعض المحامل.

تعيين القبلة :

يمكن تعيين القبلة إما بالعلم بها ، كما في أهل مكة والحرم. وإما بالظن وقد عين الشارع له بعض العلامات ، كالجدي وغيره ، وقد فصل الفقهاء ذلك راجع كتابنا [مهذب الأحكام]. ويستفاد من مجموع ما وصل إلينا ان الشارع اكتفى في تعيينها بمجرد الاطمئنان المتعارف.

وأما ما عن جمع من أعلام الهيئة ـ رفع الله تعالى شأنهم ـ الذين

١٤١

اجتهدوا في هذا الموضوع وبذلوا جهدهم في تعيين الجهة ، ومن ذلك ما تعارف عليه في هذه الأعصار كالآلات المغناطيسية ، كل ذلك ان حصل منه الاطمئنان ، فلا ريب في كفايته وإلّا فلا اعتبار به.

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢))

هاتان الآيتان كالآيات السابقة في مقام بيان نعمه تعالى ، وفيهما إشارة إلى استجابة دعوة إبراهيم (عليه‌السلام) ، كما انهما تدلان على أصول التربية والتعليم ، ولطفه تعالى بالنسبة إلى ذاكريه.

التفسير

قوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً). مادة (ر س ل) تأتي بمعنى البعث والانبعاث مع اللين والسهولة والسكون والطمأنينة. ومنه قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «غبن المسترسل سحت» يعني : من سكن إليك فلا تغبنه. وكذا قول علي (عليه‌السلام) : «لا تثقنّ بأخيك كل الثقة فان سرعة الاسترسال لن تستقال».

وقد ذكرت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من اربعمأة مورد ، وهي تستعمل بالنسبة إلى الملائكة ، قال تعالى : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) [سورة هود ، الآية : ٦٩] ، وقال تعالى : (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) [سورة الأسراء ، الآية : ٩٥]. وبالنسبة إلى الأنبياء ـ وهو كثير جدا بجميع الهيئات ـ وبالنسبة إلى غيرهما ، قال تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [سورة الحجر ، الآية : ٢٢] ؛ وقال تعالى : (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) [سورة الفيل ، الآية : ٣] ، وقال تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٣٣] ، وغالب استعمالاتها في الخير ، وقد تستعمل في الشر ، قال تعالى : (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [سورة الملك ، الآية : ١٧]

١٤٢

والرسول هو المبعوث من قبل الله تعالى لهداية الإنسان وتكميله ، والفرق بينه وبين النبي من جهات :

الأولى : إنّ كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا فيكون بينهما العموم المطلق ، لأن النبي يصح ان يكون نبيا في نفسه لنفسه من دون ان يؤمر بإبلاغ الشريعة إلى النّاس ، فإذا أمر بذلك يصير رسولا حينئذ ـ سواء كانت شريعته مبتداة أم ناسخة ، وفي الحديث : «ان لله تعالى أنبياء مستخفين (مستورين) وأنبياء مستعلنين».

والنبي أعم من أن تكون له شريعة كمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وعيسى ، وموسى (عليهما‌السلام) ، أو لم تكن له شريعة ، كيحيى وذي الكفل ولوط (عليهم‌السلام) وغيرهم ممن هو كثير خصوصا في بني إسرائيل الذين كانوا يبلّغون شريعة موسى (عليه‌السلام) ، كعلماء أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذين يبلغون شريعة خاتم الأنبياء.

الثانية : في مبدأ إفاضاتهم من ربهم ، فان الرسول يفاض عليه من الله تعالى بغير واسطة بشر ويرى الملك والنبي يفاض عليه بالواسطة منه تعالى ، ولا يرى الملك ؛ وفي الحديث عن الصادق (عليه‌السلام) : «الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات : فنبي منبّئا في نفسه لا يعدو غيرها ، ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة ولم يبعث إلى أحد ، وعليه إمام مثل ما كان ابراهيم (عليه‌السلام) على لوط. ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ويعاين الملك ، وقد أرسل إلى طائفة ـ قلوا أو أكثروا ـ كيونس ، قال تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) قال : يزيدون ثلاثين ألفا ، وعليه امام ، والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة ، وهو امام مثل اولي العزم ، وقد كان إبراهيم نبيا وليس بإمام ، حتّى قال تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) من عبد صنما أو وثنا لا يكون اماما».

الثالثة : إنّ الرسول قد يكون من الملائكة بخلاف النبي.

ولا ريب في اختلافهم في الفضل ، قال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا

١٤٣

بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥٣] ، وعمدة هذا الاختلاف هو العلم بالمعارف الربوبية. كما أن أولي العزم من الرسل خمسة وهم : نوح ، وابراهيم ، وموسى ، وعيسى (عليهم‌السلام) ومحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ؛ ويأتي وجه تسميتهم بأولي العزم في قوله تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [سورة الأحقاف ، الآية : ٣٥].

وقد ورد أنّ عدد الأنبياء مائة الف وعشرون ألفا ، والمرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر على ما يأتي التفصيل.

والكاف في قوله تعالى «كما» للتشبيه على النعمة السابقة ، بلا فرق بين ان تكون «ما» كافة أو مصدرية.

والمعنى : انه كما جعلنا القبلة نعمة لكم وأتممناها عليكم كذلك أرسلنا رسولا منكم تعرفونه ، فانه أيضا نعمة عظيمة لكم ، لأنه يهديكم من الضلالة إلى الهدى ويرشدكم إلى سبيل الرشاد.

ويمكن أن تكون «كما» إشارة إلى دعوة إبراهيم (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٩] ، فتكون إشارة إلى استجابة هذا الدعاء الذي هو من أهم دعواته.

والتعبير بقوله تعالى : (مِنْكُمْ) للتحريض على الإيمان به ، لكونه أقرب إليكم ، ولأنه سبب لفخركم وشرفكم. وقد عدد سبحانه بعض ما كلّفه بالنسبة إليهم ، وكلها تتعلق بأصول العقائد وتهذيب النفوس.

قوله تعالى : (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا). تلو تأتي بمعنى المتابعة ؛ وهي في القرآن ذكر الكلمة بعد الكلمة على وجه متسق منظّم. وهي أخص من مطلق القراءة ، فان كل تلاوة قراءة وليست كل قراءة بتلاوة ، وتختص أيضا بتلاوة كتب الله المنزلة ، ولو استعملت في غيرها تكون بالعناية :

وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ، لعل من أشدها عظمة على النفوس قوله تعالى : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ

١٤٤

الْحَكِيمِ) [سورة آل عمران ، الآية : ٥٨]. ومن أشدها حسرة قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) [سورة البقرة ، الآية : ٤٤]. وتقدم بعض الكلام في الآية الأخيرة.

والمعنى : إنّ الرسول يتلو عليكم الآيات الباهرات التي تهديكم إلى الصراط المستقيم وترشدكم الى الحق القويم.

قوله تعالى : (وَيُزَكِّيكُمْ). أصل الزكاة هو النمو الحاصل من بركة الله تعالى سواء أكان في الأمور الدنيوية ، أم الأخروية ، أم هما معا. وقد استعملت في القرآن الكريم بأنحاء شتى ، فتارة : تضاف الى الله عزوجل ، قال تعالى : (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) [سورة النساء ، الآية : ٤٩]. وأخرى : إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ؛ كما في المقام وثالثة : إلى ذات الفاعل ، قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [سورة الشمس ، الآية : ٩]. وهذا هو شأن جميع الصفات ذات الإضافة.

والتزكية هي الطهارة والتقديس عن الأدناس والأرجاس الظاهرية أو الرذائل المعنوية ، سواء كانتا بالنسبة إلى النفس كما في بعض النفوس السعيدة مما يفيض عليها الله تعالى على نحو الاقتضاء ، كما قال تعالى : (غُلاماً زَكِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ١٩] ، أو بالنسبة إلى الأعمال والأفعال.

والرسول الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هو المثل الأعلى في التزكية بجميع مراتبها والقدوة الحسنة في الأخلاق الفاضلة والسجايا الكريمة لا يدانيه أحد ولا يجاريه فرد ، ولقد جاهد في تزكية أمته بدينه وتعاليمه وتشريعاته ، وبنفسه الشريفة ، قال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٢١]. وتطهيرهم من رذائل الأخلاق وسوء الإعتقاد ، فإن بالتزكية يتخلى الإنسان عن الرذائل والخبائث ويتحلى بالفضائل ، فهي التربية العملية التي لها الأثر العظيم في مطلق التربية والتعليم.

وترتب التزكية على التلاوة من قبيل ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر) ، وقد يكون من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة ، كما

١٤٥

في بعض النفوس المستعدة.

ثم انه تعالى قدم التزكية على التعليم في هذه الآية الشريفة وأخرها عنه في دعاء ابراهيم (عليه‌السلام) قال تعالى : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٩]. ولعل الوجه في ذلك ان للتزكية مراتب كثيرة منها الإرشاد المحض وإتمام الحجة ، ومنها التخلي عن الرذائل ، ومنها التحلي بالفضائل ، ومنها التجلي بمظاهر الأسماء والصفات الربوبية ولكل واحدة منها درجات ، فيحمل ما قدمت فيها التزكية على بعض المراتب ؛ وما أخرت فيها على البعض الآخر.

قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ). لأنّ بالتعليم يرتقي الإنسان من أدنى درجات البهيمية الى أقصى درجات الإنسانية ، فقد كان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) المعلّم الهادي لأمته يبين لهم ما انطوت عليه شريعته وما اشتمل عليه كتابه الكريم من الأسرار والمعارف الربوبية.

قوله تعالى : (وَالْحِكْمَةَ). تقدم معنى الحكمة في الآية ٣٢ من هذه السورة. فان قلنا بمقالة الفلاسفة من أنّ الحكمة تارة : علمية ، وهي : العلم بحقائق الموجودات بقدر الطاقة البشرية ، وأخرى : عملية وهي صيرورة الإنسان أكبر حجة لله تعالى في خلقه ، فان عظمة مقامها معلومة لكل احد.

وإن قلنا بما يستفاد من الكتاب والسنة المقدسة ـ وهي متابعة الشريعة أصولا وفروعا ، ومعرفة حجة الله على الخلق ـ فالأمر اظهر وأبين ، وسيأتي شرح الحكمة في قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٦٩].

قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ). بفهم أسرار الكتاب العظيم واخبار الأمم الماضين والعلوم التي تهمكم وتزيد في علوكم ، وتكون سببا في تهذيب نفوسكم مما لم تكونوا تعلمونه سابقا.

وهذه الآية على اختصارها تحتوي على أصول التربية والتعليم بالترتيب الذي أراده القرآن العظيم ابتداء بالتلاوة والتذكر بآيات الله تعالى ، ثم تزكية

١٤٦

النفس من الرذائل وتحليتها بالفضائل لتستعد لإفاضة العلوم عليها ، ثم التعليم ثم معرفة الأشياء بحقائقها والعمل بما عرفه كل ذلك من طريق الشرع المبين.

وعليه ترجع التلاوة والحكمة إلى الكتاب الذي هو القرآن العظيم فإنهما وان اختلفتا في المؤدى ولكنهما متحدتان مصداقا ، لكن الكتاب يظهر بأطوار مختلفة.

قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي). الذكر تارة : يطلق ويراد به التوجه والالتفاف الفعلي ، وهو عبارة أخرى عن الحفظ ، والفرق بينهما بالاعتبار ، فإن الثاني يقال له باعتبار ذاته ، والأول يقال له باعتبار التوجه الفعلي الى الشيء ، ولو لوحظ ذات الحضور من حيث هو فهما سواء من هذه الناحية.

وقد يطلق أخرى : ويراد به إظهار الشيء باللسان ، أو القلب أو الجوارح ، فمن الأول آيات كثيرة منها قوله تعالى : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) [سورة الأنبياء ، الآية : ٢٤.] ومن الثاني قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٠٠] فإنه عام لذكر القلب واللسان. ومن الأخير قوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [سورة طه ، الآية : ١٤] حيث إنّ الصّلاة ذكر الله تعالى بالجوارح أيضا.

بل يطلق الذكر على نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذي هو الفرد الأكمل والمرآة الأتم لصفات الجلال والجمال ، قال تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ) [سورة الطلاق ، الآية : ١٠] بناء على أنّ لفظ «رسولا» من لفظ «ذكرا» ، كما أطلقت «الكلمة» على عيسى بن مريم (عليه‌السلام) قال تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) [سورة النساء ، الآية : ١٧١].

وقد يكون بمعنى الشرف وعلو المنزلة قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ) [سورة الزخرف ، الآية : ٤٤] ، وقال تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) [سورة الشرح ، الآية : ٤].

والذكرى كثرة الذكر وأبلغ منه قال تعالى : (رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي

١٤٧

الْأَلْبابِ) [سورة ص ، الآية : ٤٣] ، وقال تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الذاريات ، الآية : ٥٥].

والمراد به في المقام هو الالتفات الفعلي اليه تعالى قلبا وقولا وعملا عكس قوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [سورة الحشر ، الآية : ١٩].

والالتفات اليه تعالى يتحقق بتذكر نعمه تعالى وإدمان الشكر عليها والطاعة والعبادة له وإتيان ما اختاره الله تعالى مما فيه السعادة في الدارين فان الالتفات اليه عزوجل كذلك مبدأ العبودية المحضة المنتهية الى الكمال المطلق ، لما ثبت في الفلسفة العملية من : أن آخر مقام الفناء في مرضاته تعالى أول مقام البقاء به عزوجل ، وان أخريات درجات التحلي مبشرات لأوليات مقامات التجلي.

وذلك لأن أنس النفس بالكامل بالذات والكمال المطلق ، والخير المحض العام ، والفيض الأقدس التام يوجب ترقي النفس وتعاليها عن حضيض البهيمية حينئذ إلى أوج الكمالات الحقيقية وكلما ازداد الأنس ازداد الارتقاء ، وأساس هذا الأنس يدور مدار الالتفات الفعلي اليه عزوجل كما يريده تعالى ، وهو المعبر عنه ب (الذكر) في الكتاب والسّنة الشريفة ، وبعبارات مختلفة أخرى ، كالتوجه ، والتقرب ، والتولية وغيرها.

والمناط كله أمران :

(الأول) : الالتفات الفعلي إلى الله تبارك وتعالى المعبر عنه في الفقه ب (القربة) ، كما يعبر عنه علماء الأخلاق ب (الحضور ، والتوجه) ونحو ذلك.

(الثاني) : كون ما يذكر به الله عزوجل مأذونا فيه من قبله تعالى ، فقد ورد الإذن فيه في الشريعة المقدسة بشرائطه المعينة التي لا بد من مراعاتها ، كما فصلها الفقهاء ، فكل ما يكون مرضيا لله تعالى ويؤتى به لوجهه عزوجل فهو ذكر الله تعالى ، سواء أكان من العقائد أم الأخلاق الحسنة ، أم العبادات والمعاملات أم غير ذلك فإن ذكره تعالى ـ كرحمته ـ وسع كل شيء

١٤٨

إذا لوحظ فيه التوجه اليه ، وقد جعله تعالى بهذه التوسعة تسهيلا لوصول عباده إليه عزوجل وما ورد في الفلسفة العملية من : «أنّ الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق» فيه إشارة إلى ما ذكرناه. فكما لا حدّ للمذكور كذلك لا حدّ لمراتب الذكر.

فان الذكر اللفظي كالتسبيح والتحميد والتهليل والشكر لنعمائه.

والذكر العملي هو العبادة ، والطاعة ، والأفعال المرضية له تعالى كعيادة المرضى ، وتشييع الموتى ، والسعي في قضاء حوائج الأخوان.

والذكر القلبي هو التوجه والخلوص والتقرب إليه تعالى. وكلما ازدادت عبودية العبد لربه ازداد مقام توجه إليه ؛ ولذا ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لي مع الله حالات لا يسعني فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل». وفيه إشارة إلى بعض توجهاته الخاصة إلى مقامات ربه ، أو قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إنّي أبيت عند ربي فيطعمني ويسقيني ربي».

ثم إنّ ترتيب قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي) على الآيات السابقة ترتيب عقلي واجب من باب وجوب شكر المنعم الذي يحكم به العقل المستقل.

والمتحصل من جميع ما ذكرناه أمور :

الأول : إنّ الذكر منبث على القلب واللسان والجوارح ، ولا يختص بخصوص الذكر اللفظي بل كل ما كان مضافا إليه عزوجل وكان مأذونا فيه من قبله تعالى وتقابله المعصية فإنها لا تصدر إلّا مع الغفلة عنه عزوجل.

الثاني : إنّ حقيقته هو التوجه الفعلي إليه عزوجل ، أي العلم الفعلي بأصل العلم لا مجرد العلم فقط ، ولذلك مراتب كثيرة منها ما ذكره بعضهم : «أن ينسى العبد ما سوى الله تعالى ويكون مقصوده من جميع حركاته وسكناته وأفعاله وأقواله ـ بل وخطرات قلبه ـ هو الله تعالى».

الثالث : إنّ أمره بالذكر شامل لجميع المراتب ولا يختص بخصوص بعضها.

١٤٩

الرابع : إنّ ما يقترفه النّاس في كيفية ذكره تعالى لا أصل له إلّا إذا ورد من الشرع المقدس الإذن فيه ، وقد ورد في الأحاديث في ما يتعلق بالذكر ـ كمية وكيفية زمانا ومكانا ـ ما يشفي العليل ويروي الغليل ، وقد وضع الأعلام فيه كتبا ورسائل.

الخامس : أقسام الذكر ستة فتارة : يتعلق بالنعم الطبيعية ، قال تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) [سورة مريم ، الآية : ٦٧].

وأخرى : يتعلق بالنعم العارضة التي أفاضها الله سبحانه على الإنسان ، قال تعالى : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) [سورة الحج ، الآية : ٣٤].

وثالثة : يكون محبوبا بذاته على كل حال ومجردا عن الإضافة قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) [سورة الشعراء ، الآية : ٢٢٧].

ورابعة : يكون عند اهتمام النفس بشيء غير مرضي له تعالى فيذكر الله ويرتدع عنه ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٠١] ، وقال تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٤٥].

وخامسة : يكون بعد الارتكاب فيذكر طلبا لرضائه ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣٥].

وسادسة : حين ارتكاب ما لا يرتضيه الله تعالى ، وقد ورد في الدعاء : «وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك جاهل ولا لعقوبتك متعرض ولا لنظرك مستخف ولكن سوّلت لي نفسي».

١٥٠

إن قيل : ذكره تعالى حين ارتكاب ما لا يرتضيه الله عزوجل كيف يكون محبوبا له تعالى. (يقال) : إنّ الذكر إذا كان على نحو الاستخفاف والاستهانة ـ نعوذ بالله ـ فلا ريب في أنه ليس من الذكر بل يوجب الكفر والبعد عن ساحة الرحمن. وأما إذا كان من باب انه تعالى ستّار العيوب ، وغفار الذنوب فهذا يوجب الحياء منه تعالى ولو في ما بعد ، فينتهي إلى التوبة والاستغفار فيكون محبوبا له.

قوله تعالى : (أَذْكُرْكُمْ). للمفسرين في بيان متعلق الذكر أقوال :

منها : اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي ، أو أذكركم بمعونتي.

ومنها : اذكروني بالشكر على نعمائي أذكركم بالزيادة إلى غير ذلك مما قالوه.

والحق هو الحمل على العموم وهو ذكر الله تعالى في كل مظهر من مظاهر العبودية حتّى يدرك ذكر الله تعالى في كل مظهر من مظاهر رحمته وجوده ، ومنه ما ورد في الحديث : «أنا عند ظن عبدي المؤمن إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ـ الحديث ـ» وهو يجازي عبده بالجزاء الأوفى ويعد له باللطف والكرامة والإحسان ومزيد في النعم ويضاعف لمن يشاء إنه ذو فضل عظيم.

فلا يختص ذكره تعالى لذاكريه بعالم دون آخر ولا بحالة دون أخرى.

ثم إن ترتب قوله تعالى : (أَذْكُرْكُمْ) على «اذكروني» من باب ترتب المعلول على العلة التامة ، لأن التوجه الفعلي من العبد الى الله عزوجل ذكر منه تعالى للعبد بعناياته الخاصة ، فيكون هذا المعنى من الذكر من الصفات ذات الإضافة ، فان أضيف إلى العبد يكون ذكرا منه ، وإن أضيف اليه عزوجل يكون من ذكر الله تعالى له.

وقد يكون من باب ترتب المقتضى [بالفتح] على المقتضي [بالكسر] لاختلاف مراتب الذكر والذاكر كما هو معلوم ، والظاهر أن ملازمة الذكر للذكر من الملازمات المتعارفة بين العقلاء فهو حسن لديهم ويكون من الله تعالى

١٥١

أحسن.

قوله تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ). مادة (ش ك ر) كمادتي (ك ش ر) ، و (ك ش ف) تأتي بمعنى الإظهار ، ويقابلها مادة (ك ف ر) التي تأتي بمعنى الستر ويختلف ذلك باختلاف المتعلق اختلافا كثيرا. والجامع القريب في الأولى الإظهار ، وفي الثانية الستر.

فإظهار وحدانية الله تعالى ، وصفاته الحسنى ، وأفعاله العليا إيمان وستر ذلك كفر ، ولهما مراتب. كما أن إظهار نعمه شكر وسترها كفر ، ويطلق عليه الكفران أيضا.

والإظهار تارة : يكون بالاعتقاد ، وأخرى بالقول ، وثالثة بالعمل إما بفعل ما أوجبه الله تعالى أو ترك ما نهاه عنه تعالى ، وقد قال علي (عليه‌السلام) : «شكر كل نعمة الورع عن محارم الله تعالى».

والمعنى : أظهروا نعمائي ولا تكفروا بسترها.

وإنما قال تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) ولم يقل : واشكروا لي أشكركم ، لأمور :

أحدها : الإعلان بقبح الكفر والكفران استقلالا.

ثانيها : التنبيه على عظم النعمة ، وأنه بمنزلة كفر الذات.

ثالثها : إنه استفيد من مقابلة الذكر بالذكر ـ في قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) ـ بالملازمة فلا وجه للتكرار بعد ذلك.

ثم إنّ الشكر من أجلّ الصفات الحسنة ومن أرفع مقامات العبودية وهو على أقسام :

الأول : أن يكون من المخلوق للخالق ، وقد رغّب اليه الكتاب والسنة المقدسة ترغيبا بليغا بأنحاء مختلفة : بأن أضاف الشكر تارة : إلى نفسه ، قال تعالى : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [سورة لقمان ، الآية : ١٤]

١٥٢

وقال تعالى : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٢] إلى غير ذلك من الآيات المباركة. وأخرى : إلى نعمه قال تعالى : (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) [سورة النحل ، الآية : ١١٤]. وهو يرجع الى الأول ، لأن كل ما بالعرض لا بد ان ينتهي إلى ما بالذات. وثالثة : إلى نفس الشاكر ، قال تعالى : (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) [سورة لقمان ، الآية : ١٢] فان غاية الشكر إنما يرجع الى نفس الشاكر ، كقوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) [سورة الأسراء ، الآية : ٧] ، ولا فرق في هذا القسم بين أن يكون الشكر على الآراء والمعتقدات الحسنة والمعارف الحقة ، أو على النعم الخارجية ، وجميع ذلك مذكور في القرآن الكريم ، قال تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ٨٩] ، وقال تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [سورة النحل ، الآية : ٧٨] وقال تعالى : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [سورة الأنفال ، الآية : ٢٦] وهو مطابق للقواعد العقلية لأن أساس معرفة الله تعالى مبني على وجوب شكر المنعم عقلا ـ وهذا الوجوب عقلي لا أن يكون شرعيا ـ ومعرفة الله تعالى من أرفع المقامات والكمالات الإنسانية التي وصل الإنسان إليها بحكم عقله.

الثاني : أن يكون من الخالق للمخلوق ، قال تعالى : (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١٤٧] ، وقال تعالى : (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) [سورة الإنسان ، الآية : ٢٢] بل الشكور من أسمائه الحسنى ، فإن من عادة العظماء التشكر مما يستحسنونه من أعمال الرعايا ، وله دخل كبير في سوق العباد الى العمل وجلب قلوبهم.

الثالث : أن يكون من الخلق لآخر مثله وهو من مكارم الأخلاق ، وقد ورد في الحديث : «من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق» لانتهاء المخلوق ونعمه إلى الخالق فالشكر له ينتهي بالآخرة الى شكر نعمائه ، وترك شكر المخلوق ينتهي الى ترك شكر الخالق في سلسلة الأسباب.

ثم إنّ الشكر تارة : يكون لله تعالى لذاته بذاته بلا لحاظ عناية أخرى ، لأنه مبدأ الكل ومنتهاه فيستحق الشكر وهو شكر أخص الخواص ،

١٥٣

وأخلص أنواع الشكر وأعظمها.

وأخرى : يكون على ما يرد منه تعالى على عبده من البلايا والمحن فيشكر عليها كشكره على النعم ، وهو شكر الخواص ، وهو كالأول من أجل مقامات العارفين بالله تعالى.

وثالثة : يكون بإزاء النعمة وهو شكر العامة من الأنام ، وسيأتي في قوله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [سورة ابراهيم ، الآية : ٧] ما يناسب المقام إن شاء الله تعالى.

بحوث المقام

بحث دلالي :

تتضمن الآيات الشريفة أمورا :

الأول : إنّ في اختيار صيغة التكلم في قوله تعالى : (أَرْسَلْنا) أو قوله تعالى : (آياتِنا) ثم توجيه الكلام إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إشارة إلى أنّ الاستكمال في المعارف الإلهية لا بد وان ينتهي اليه عزوجل ، وأنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في ذلك واسطة محضة.

وفيه إشارة إلى الاتحاد في هذه الجهة بينه تعالى وبين نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حيث شبك الكلام بالضمير الراجع إلى ذاته الأقدس والضمير الراجع إلى نبيه المقدس.

الثاني : أنّ الآيات المباركة تدل على نبوة نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذي لم يكن من ذاته شيء وله من ربه كل شيء فجعله منشأ الفيوضات التامة في عالم الغيب والشهادة فانه (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) [سورة النجم ، الآية : ٤].

الثالث : إنّها تدعو النّاس إلى جميع أنحاء الكمالات الظاهرية والمعنوية بالتعليم.

الرابع : أنّ مقتضى المطابقة والمجازاة بين ذكر العبد وذكره تعالى أنه بكل وجه تحقق ذكر العبد يتحقق ذكره تعالى له بمثله ونظيره مع

١٥٤

الزيادة ، لفرض سعة رحمته وفضله فإن ذكره العبد في نفسه يذكره الله عزوجل كذلك ، وإن ذكره في ملأ من النّاس يذكره الله تعالى في ملإ من الملائكة وإن ذكره للدنيا أو الآخرة يكون ذكره تعالى لعبده كذلك ، ويمكن أن يكون صرف وجود ذكره تعالى لعبده منشأ لسعادته الأبدية التي لا حد لها ولا حصر ، وذلك يختلف باختلاف الاستعدادات والنفوس. هذا بناء على ما هو ظاهر الآية الشريفة من سياق الشرط والجزاء الظاهري. وأما بناء على ما أشرنا اليه من رجوع المعنى : ان أذكركم فلا تغفلوا عني ، فللمقام لطائف أخرى نشير إليها في الآيات الأخرى.

الخامس : إنّ في قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) لطف وعناية وتعليم للغير بمجازاة الخير بالخير.

السادس : إنّ في قوله تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) تحذيرا لأمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أن لا يتركوا ما أمرهم الله تعالى ولا يكفروا بما أنعم الله عليهم ، لئلا يقعوا في ما وقعت فيه الأمم السابقة بعد ما كفرت بأنعم الله تعالى.

السابع : إنّ في ذكر العنوان الإثباتي بقوله تعالى : (وَاشْكُرُوا) والعنوان السلبي بقوله عزوجل (وَلا تَكْفُرُونِ) إشارة إلى الاهتمام بالموضوع أولا ؛ ونفي أنحاء الكفر حتّى كفران النعمة ثانيا ، وإلّا فيصح الاكتفاء بأحد العنوانين.

بحث روائي :

في الكافي عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «مكتوب في التوراة التي لم تغير ، أن موسى سأل ربه فقال (عليه‌السلام) : يا رب أقريب أنت مني فأناجيك أم بعيد فأناديك؟ فأوحى الله عزوجل اليه : يا موسى أنا جليس من ذكرني. فقال موسى (عليه‌السلام) : فمن في سترك يوم لا ستر إلّا سترك؟ قال : الذين يذكرونني فأذكرهم ويتحابون فيّ فأحبهم فأولئك الذين إن أردت أن أصيب أهل الأرض بسوء ذكرتهم فدفعت عنهم بهم».

١٥٥

أقول : الروايات متواترة بين الفريقين في فضل الذكر والتحابب في الله والتباغض فيه بل في بعضها : «ليس الإيمان إلّا الحبّ في الله والبغض في الله».

والمراد من قوله تعالى : «ذكرتهم فدفعت عنهم» التوجه الخاص الذي يكون بالنسبة الى الأولياء ولأجلهم خلق هذا العالم ويدار هذا النظام ، أي : «العلة الغائية» كما عبروا عنها في الفلسفة الإلهية.

في عدة الداعي قال : روي «أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) خرج على أصحابه فقال : ارتعوا في رياض الجنّة ، فقالوا : يا رسول الله وما رياض الجنّة؟ قال : مجالس الذكر اغدوا وروحوا واذكروا ، ومن كان يحب ان يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده ، فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبد الله تعالى من نفسه ، واعلموا : أن خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم ، وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى ، فإنه تعالى أخبر عن نفسه ، فقال : أنا جليس من ذكرني ، وقال تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) بنعمتي ، اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والإحسان والراحة والرضوان».

أقول : المراد من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «ارتعوا في رياض الجنّة» الترغيب في المسارعة إلى مجالس ذكر الله تعالى إن كانت المجالس وكان الذكر مستجمعا لجميع الشرائط التي ذكرها الفقهاء.

والمراد من المنزلة توجه قلب المؤمن وإخلاصه من كل جهة الى الله تعالى ، ولازم ذلك ارتفاع منزلته عند الله تعالى فتكون القضية حينئذ من الملازمات العقلية ، لأن الانقطاع من جميع الجهات اليه تبارك وتعالى بحيث لا يشوبه شيء آخر يوجب ان تكون عناياته متوجهة اليه ، بل نفس هذا الانقطاع اليه هكذا عناية خاصة منه تبارك وتعالى.

والمراد من قوله : أنا جليس من ذكرني نهاية القرب اليه جلت عظمته والدنو المعنوي منه ، كما يقرب إلينا جليسنا ويدنو منا لا أن يكون المراد

١٥٦

منه القرب المكاني.

وفي الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «إنّ الله عزوجل يقول : من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي من سألني».

أقول : إن شغل النفس بذكره تعالى عن بيان الحاجة يكون على قسمين :

الأول : ما إذا كان لسان حاله أنّ علمك بحالي يغني عن مقالي.

الثاني : ما إذا نسي ذلك كله وتوجه اليه تعالى من كل جهة ، وفي القسمين يحصل التوجه التام بالنسبة اليه فيغفل عن شؤونه.

وفي المعاني عن الحسين البزاز قال : «قال لي أبو عبد الله (عليه‌السلام) : ألا أحدثك بأشد ما فرض الله على خلقه؟ قلت بلى قال : إنصاف النّاس من نفسك ؛ ومواساتك لأخيك ، وذكر الله في كل موطن ، أما أني لا أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، وإن كان هذا من ذاك ، ولكن ذكر الله في كل موطن إذا هجمت على طاعة أو معصية».

أقول : المراد بهذا الذكر ـ ما تقدم في أقسام الذكر ـ هو الذكر العملي الخارجي عند إرادة الطاعة أو إرادة المعصية بحيث يكون الذكر اللفظي كاشفا عنه.

في الكافي عن بشير الدهان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال الله عزوجل يا ابن آدم أذكرني في ملإ أذكرك في ملإ خير من ملإك».

أقول : تقدم في ضمن الآية المباركة ما يرتبط بهذا الحديث.

وفي المحاسن عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال الله عزوجل : ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي ، ابن آدم اذكرني في خلإ أذكرك في خلإ ، ابن آدم اذكرني في ملإ أذكرك في ملإ خير من ملإك. وقال : ما من

١٥٧

عبد ذكر الله في ملإ من النّاس إلّا ذكره الله في ملإ من الملائكة».

أقول : الروايات في ذلك مستفيضة بل متواترة بين الفريقين وهذا الحديث مبين لبعض أقسام الذكر فانه إما نفسي قلبي ، أو باللسان في مكان خلوة ، أو باللسان في الملإ ، والذكر في الملإ إن أوجب ذكر الملإ لله تعالى ، فلا ريب في أن ذلك يوجب تشعب أذكار كثيرة كلها من ناحية الذاكر ، فيترتب عليه الثواب مضاعفا ، وإن لم يوجب ذكر غيره يكون من إتمام الحجة على الغير فيكون كسابقه.

في الكافي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «أوحى الله إلى موسى : يا موسى لا تفرح بكثرة المال ولا تدع ذكري على كل حال ، فإن كثرة المال تنسي الذنوب ، وإن ترك ذكري يقسي القلوب».

وفي الدر المنثور أخرج الطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : من أعطي أربعا ، وتفسير ذلك في كتاب الله : من أعطي الذكر ذكره الله ، لأن الله يقول : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ). ومن أعطي السؤال أعطي الإجابة. لأن الله يقول : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ). ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة : لأن الله يقول : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ). ومن أعطي الاستغفار أعطي المغفرة ، لأن الله تعالى يقول : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً)».

أقول : وروي قريب منه عن علي (عليه‌السلام) ولا بد من تقييد ذلك بما إذا وقع من العبد بشرائطه.

وفي الدر المنثور قال : «رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن. ومن عصى الله فقد نسي الله ، وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن».

أقول : يستفاد من أمثال هذه الروايات أن منشأ كل معصية هي الغفلة عن الله تعالى ، وتدل على ذلك آيات كثيرة نتعرض للتفصيل فيها إن شاء الله تعالى.

في الكافي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلّى

١٥٨

الله عليه وآله) ما من قوم اجتمعوا في مجلس فلم يذكروا اسم الله عزوجل ولم يصلوا على نبيهم إلّا كان ذلك المجلس حسرة ووبالا عليهم».

أقول : الوبال هو سوء العاقبة والعذاب ، وكون المجلس وبالا لتحقق الغفلة عن الله تعالى ، لأنها منشأ كل معصية ولا وبال أشد منها.

والوجه في كون ذكره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من ذكر الله تعالى لفرض انه رسوله وينبئ عنه ، وكذا جميع أولياء الله تعالى الذين يدعون إليه تعالى.

وفي تفسير العياشي عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قلت له : للشكر حد إذا فعله الرجل كان شاكرا؟ قال (عليه‌السلام) : نعم. قلت : وما هو؟ قال : الحمد لله على كل نعمة أنعمتها عليّ ، وإن كان لكم في ما أنعم عليه حق أداء منه ، ومنه قول الله : الحمد لله الذي سخر لنا هذا».

أقول : هذا بيان لأدنى مرتبة حد الشكر ، لإتمام مراتب الشكر.

عن العياشي أيضا عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه : فمنها كفر النعم وذلك قول الله يحكي قول سليمان : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) وقال : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ). وقال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ).

أقول : تقدم ما يتعلق بأقسام الكفر في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٦] وفي البحث الروائي منه.

بحث عرفاني :

من أجلّ مقامات العارفين مقام الذكر ، بل هو من أعظم مظاهر حب الحبيب لمحبوبه فإن «من أحب شيئا أكثر من ذكره» ، ومن علامات الحبيب الاستهتار بذكر حبيبه ، وقد قالوا : إن المحب إذا صمت هلك ، والعارف إذا نطق هلك ، لأن الأول مجبول على ذكر الحبيب ، والثاني مأمور بستر

١٥٩

الأسرار ، ونسب إلى سيد الساجدين (عليه‌السلام) :

يا رب جوهر علم لو أبوح به

لقيل لي أنت ممن تعبد الوثنا

والذكر ـ عندهم ـ على أقسام ثلاثة :

الأول : ذكر اللسان المستمد من القلب.

الثاني : ذكر القلب مع عدم حركة اللسان ، ويسمى مناجاة الروح والاستجماع للمذكور بالكلية ، وهذا ذكر الخواص.

الثالث : ذكر السرّ ، ومعناه غيبة الذاكر في المذكور ـ في الجملة ـ فكأن المذكور يكون هو الذاكر ، وهذا ذكر أخص الخواص. ومثّلوا لكل ذلك بأمثلة مذكورة في محالها. كما بينوا لكل واحد منها ثمرات ونتائج.

ولو أضفنا إلى ما ذكروه من الأقسام ، ذكر عامة النّاس الذي يقوم بالجارحة اللسانية فقط من دون استمداد من القلب ، تصير الأقسام أربعة. ولعلّهم لم يذكروا هذا القسم لتنزّههم عن مثل هذا الذكر.

ثم إنّ ذكر الذاكر إنما يتقوم بحبه للمذكور ، ولولاه لم يذكره والمذكور قد يحب الذاكر قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة آل عمران ، الآية : ٣١] ، بل حبه لجميع خلقه مما أثبتته الأدلة العقلية ـ كما برهن في الفلسفة الإلهية ـ والنقلية ، فيقع التجاذب في البين لكل من الحبيبين. وبعد تحقق مراتب الحضور بينهما كيف يتحقق التخالف؟! لأن ذكر الحاضر من تمام الجهات قبيح قال الشاعر :

اما ترى الحق قد لاحت شواهده

وواصل الكل من معناه معناكا

والبحث نفيس جدا لو وجدت لهذا العلم الشريف حملة.

بحث علمي :

يتضمن قوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أهم

١٦٠