مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) [سورة النمل ، الآية : ٣٦] وهو كثير أيضا. وربما يتردد اللفظ بين كونه اسما أو وصفا ، فيحكم بكونه اسما لأن الصفتية تحتاج الى مؤونة زائدة وعناية خاصة.

ويستعمل تارة : في مقابل الشر ، كقوله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [سورة الأنبياء ، الآية : ٣٥]. وفي مقابل الضر أخرى ، قال تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) [سورة يونس ، الآية : ١٠٧].

وهو من الأمور الإضافية التي لها عرض عريض جدا ، فأطلق في القرآن بالنسبة إليه تعالى ، قال سبحانه : (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [سورة طه ، الآية : ٧٣]. وبالنسبة إلى الممكنات جواهرها ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) [سورة البينة ، الآية : ٧]. وأعراضها سواء كانت من أعمال الجوارح أم أفعال القلوب أم نفس المعتقدات.

ولم يبيّن سبحانه في هذه الآية الخيرات ، لأن لها مراتب كثيرة غير متناهية تتصل بخير الآخرة التي هي غير متناهية ، قال تعالى : (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٦٩] ، وقال علي (عليه‌السلام) : «وما خير بخير بعده الجنّة ، وما شرّ بشر بعده النّار».

وقد عد الله سبحانه بعض المصاديق في القرآن الكريم ، كالآخرة قال تعالى : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [سورة الأعلى ، الآية : ١٧] ، والإيمان قال تعالى : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) [سورة النّساء ، الآية : ١٧٠] ، والتقوى قال تعالى : (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٧] ، والرزق قال تعالى : (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) [سورة طه ، الآية : ١٣١] ، والصدقة قال تعالى : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٠] ، والصيام قال تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٤] ، والصبر قال تعالى : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [سورة النساء ، الآية : ٢٥] ، والصلح قال تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [سورة النساء ، الآية : ١٢٨] ، والباقيات الصالحات

١٢١

قال تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [سورة الكهف ، الآية : ٤٦] ، وتعظيم حرمات الله قال تعالى : (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [سورة الحج ، الآية : ٣٠] إلى غير ذلك.

ويستفاد من مجموع ذلك أن كل ما يقرب إلى الله تعالى وكان صالحا للإنسان في الدنيا والعقبى فهو من الخير ، كما يظهر من السنة الشريفة أن الجامع بين الخيرات ما طلب فيه رضاء الله تعالى ، فعن الصادق (عليه‌السلام) : «ليس الخير أن يكثر مالك ، وولدك ، ولكن الخير أن يكثر عملك ، وأن يعظم حلمك ، وأن تباهي الناس بعبادة ربك». ومن ذلك يظهر أن الاستباق الى الخيرات مما يحمده جميع العقلاء ، فالآية إرشاد إلى طريق العقلاء ، لا أن تكون تعبدية شرعية.

ومعنى الآية : ان الله تعالى جعل لكل أمة شريعة خاصة ومنهاجا معينا لا بد من متابعته ؛ والمبادرة إلى الحق ومتابعته لتحقيق المسارعة إلى الخيرات التي هي الغرض الأقصى من تشريع الشرائع.

ونظير المقام قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٨]. وإذا كانت الشرائع الإلهية تناسخ بعضها بعضا فلا بد من المسارعة إلى ما هو خيرها وهو الشريعة الناسخة لا المنسوخة.

ويمكن أن يراد بقوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) المعنى العام الشامل للجهات التكوينية والاختيارية ـ عادية كانت أو شرعية ـ فإن كل فرد من أفراد الإنسان يختلف عن غيره بأمور وخصوصيات قد لا تكون في ما سواه ولا يحيط بها إلّا علام الغيوب ، فتشمل اختلاف العادات والملكات والصفات ، والاختلاف في القبلة والشريعة. وإنما يسعى الإنسان لنيل هدفه وتحصيل غرضه باختياره ، فأمر سبحانه وتعالى أن يكون سعي الإنسان إلى الحق والمبادرة إلى الخيرات ، فإنّ به يتحقق الاتحاد في المجتمع وبه يرتفع الاختلاف والتعاند إذا كان الغرض محبوبا لدى الجميع بعد ما كان فيه الصلاح والخير ، وإلى ما ذكرناه

١٢٢

تشير الآية الكريمة : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٨].

ولذلك رغب سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بالاستباق إلى الخيرات والمغفرة ، قال تعالى : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [سورة الحديد ، الآية : ٢١] ، وقال تعالى : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ٦١].

ومما ذكرناه يظهر الوجه في جعل نفس الخيرات ، والمغفرة ، أو الصراط سبقا (بفتح السين والباء) للإعلام بأنها هي الغاية المطلوبة ، والهدف المرجو في المسابقة.

قوله تعالى : (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً). أينما : ظرف مكان يدل على العموم ويتضمن معنى الشرط وجوابه (يَأْتِ بِكُمُ اللهُ) ، واللفظ شامل لجميع الحالات الممكنة الواردة على الإنسان وجميع التبدلات الحاصلة له من الجمع والتفرق ونحوهما ، وجميع ما يرد عليه من التقلبات والاستحالات من جوهر إلى جوهر ، أو صفة إلى أخرى.

فهذه الجملة من أبرز مظاهر قيمومته وإحاطته على ما سواه عزوجل ؛ وذلك من شؤون القهارية والقدرة المطلقتين ؛ كما في قوله تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [سورة النساء ، الآية : ٧٨] ؛ وقوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [سورة الحديد ، الآية : ٤] والآية نظير قوله تعالى : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ) [سورة لقمان ، الآية : ١٦]. وجميع ما سواه عزوجل في مقابل عظمته وقدرته وقيمومته أصغر من حبة الخردل بل لا وجه لملاحظة النسبة بين المتناهي وغير المتناهي.

وترتب الآية على قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) من قبيل ترتب الجزاء على الشرط ، أي : انكم ترون نتائج استباقكم بأنفسكم ؛ فتشمل

١٢٣

الحشر.

والمعنى : ان الله تعالى يأت بكم أينما تكونوا ويجمعكم يوم القيامة للحساب والجزاء ولا يعجزه شيء عن ذلك.

وسياقها وإن كان يدل على الجمع ليوم الحساب ولكن ذلك لا ينافي عمومها المنطبق على مصاديق كثيرة ، كما عرفت آنفا ، فيصح أن تنطبق على يوم ظهور العدل العملي في هذا العالم المعبّر عنه في السنة المقدسة المتواترة بيوم ظهور المهدي الموعود ، واستشهد بها الأئمة (عليهم‌السلام) لذلك ، كما سيأتي في البحث الروائي.

وفي الآية الشريفة التأكيد البليغ على أمر القبلة والتوجه إليها في جميع الحالات. وفيها من التوعيد للعاصين والوعد للمطيعين ، كما لا يخفى.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وهو برهان للآية السابقة.

وفي هذه الآيات ـ على اختصارها ـ إشارة إلى علوم :

منها : علم معرفة النفس وأسرارها الذي قد يفيضه الله تعالى الى بعض أوليائه ، وقد وضعت كتب ورسائل فيه.

وعلم الأخلاق والاجتماع اللذان هما من أهم العلوم الإنسانية.

وعلم المبدأ والمعاد وهما من أهم العلوم في الشرائع السماوية بل عليهما تدور المعارف الإلهية ، وللقرآن الكريم كليات في هذه العلوم يأتي التعرض لها في محالها.

قوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). كلمة «حيث» تستعمل في المكان ، والجملة التي بعدها تكون بيانا لها ، نظير «أين» إلّا أن الأولى أعم من الثانية ؛ فإن الأخيرة لوحظ فيها السؤال عن المكان بخلاف الأولى. كما أن في لفظ «متى» لوحظ فيه السؤال عن الزمان ، بخلاف «حين» الذي هو في الزمان كلفظ «حيث» في المكان.

وتستعمل «حيث» في مطلق التحيز ، ويشهد له حديث نفي الصفات عنه

١٢٤

تبارك وتعالى ، قال (عليه‌السلام) : «كيف أصفه بحيث ، وهو الذي حيّث الحيث حتّى صار حيثا» ، وفي بعض الأخبار : «وهو الذي أيّن الأين وأوجده». وفي مثل هذه الأحاديث إشارة إلى رد ما أثبته أكابر الفلاسفة من عدم الجعل التأليفي بين الماهية وذاتياتها ، كما يأتي في البحث الفلسفي إن شاء الله تعالى.

والمعنى : أنه من أيّ مكان خرجت وإلى أية جهة توجهت فول وجهك شطر المسجد الحرام.

وقد تكرر قوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) في هذه الآيات المباركة ، وذلك لأن الكعبة المقدسة قبلة لأهل العالم ، والعالم متقوم بالمكان والزمان والجهة ويمكن أن تكون كل جملة إشارة إلى خصوصية من تلك الخصوصيات الثلاث ، ومن ذلك تعدد جهات الخروج من المشرق والمغرب ، والشمال والجنوب ، وفي جميع الأمكنة من البر والبحر والجو.

مع أن مخالفة اليهود والنصارى تستلزم التأكيد والتكرار ، وبيان ان هذه القبلة على خلاف قبلة أهل الكتاب في أنه يمكن التوجه إليها من جميع بقاع الأرض المختلفة شرقا وغربا ، شمالا وجنوبا.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ). تثبيت للمطلب وتأكيد للموضوع من وجوه أربعة : «إنّ» ، و «لام» التأكيد ، ولفظ «الحق» وجملة «من ربك».

والضمير في «أنّه» يرجع إلى التوجه إلى المسجد الحرام ، وسياق الكلام يدل على أنه كان حقا أزلا وهو كذلك أبدا ؛ وان كل توجه في العبادة بخلافه يكون باطلا ، ولذا أوعد الله تعالى على من خالف ذلك.

قوله تعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). أي أنّ الله ليس بغافل عن أعمالكم ، لأنه عالم بما سواه حتّى خطرات القلوب ولحظات العيون فلا يتوهم الغفلة بالنسبة إليه مع هذا الحضور الفعلي والاستيلاء المطلق على كل شيء ، وهو المهيمن على الجميع ، فهو الذي يتولى الجزاء على أعمالكم خير الجزاء.

١٢٥

قوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). يمكن أن يكون التكرار ، لأجل أن الآية السابقة تحمل على المحال القريبة من المسجد الحرام ، والثانية على المحال البعيدة حتّى نفس بيت المقدس والأخيرة على تمام الربع المسكون ، ويمكن الحمل على حالتي الحضر والذهاب إلى السفر والإياب منه.

والابتداء بالخطاب للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فانه وإن كان كافيا في عموم التكليف ، إلّا أنه أراد سبحانه التأكيد بالنص وبيان أهمية الموضوع ، ولترتيب ما سيأتي. والضمير في قوله تعالى : (وُجُوهَكُمْ) يرجع إلى جميع المسلمين باعتبار وجود النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيهم.

وكان النّاس في زمان تحويل القبلة طوائف ثلاث : اليهود ، والنصارى ، والمشركين ، والأولان كانا يعترضان عليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بأنه إذا كان نبي آخر الزمان فلما ذا لا يصلي إلى الكعبة المقدسة؟ ولم يصلي إلى قبلتنا؟ والمشركون كانوا يعترضون عليه بأنه لماذا يصلي إلى بيت المقدس مع أن الكعبة أقدم وأقدس؟ ثم الاعتراض أخيرا من المنافقين بأنّه ما الفائدة في هذا التشريع؟ فذكر سبحانه وتعالى أمورا ثلاثة لبيان حكمة التشريع والفائدة منه ، والجواب عن اعتراض المعترضين ودفع شبه المنافقين.

قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ). هذا هو الأمر الأول. اللام لتعليل تحويل القبلة وتغييرها ، أي : لئلا يكون للمحاجين ـ وهم الطوائف المتقدمة ـ عليكم حجة وسلطان.

ومما تقدم يعرف انتفاء حجتهم ؛ لأن صلاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى بيت المقدس ظاهرا كانت لمصالح ظاهرية وبذلك اندحضت حجة الفريقين.

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ). يصح أن يكون الاستثناء متصلا ، إن عممنا المستثنى منه إلى الأعم من الحجة الواقعية والحجة الاعتقادية الحاصلة عن العناد واللجاج.

١٢٦

فيكون المعنى : لئلا يكون للنّاس عليكم حجة إلّا حجة الظالمين الحاصلة عن اعتقادهم وظلمهم ومحاجتهم بعد ظهور الحق ، نظير قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [سورة الشورى ، الآية : ١٦].

كما يصح أن يكون الاستثناء منقطعا إن خصصنا المستثنى منه بخصوص الحجة الصحيحة ، فيحتاج الكلام إلى مقدمة مطوية ، وهي انه إن كان على المؤمنين حجة ، فهي لا تكون إلّا من الظالم ، ولا حجة للظالم فليس عليهم حجة مطلقا ، فان الظالم لا ينقطع عن اللجاج والعناد والإحتجاج حسب الأهواء الباطلة والآراء المزيفة وما يمليه عليه ظلمه. ومثل هذا متعارف في المحاورات الفصيحة ، قال النابغة :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

أي : لو كان فيهم عيب فهذا عيبهم ، وهو ليس بعيب إذا لا عيب فيهم مطلقا.

قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي). الخشية : هي الخوف المشوب بالتعظيم وإنّها أعم موردا من مطلق الخوف ، لإطلاقها على الجمادات ، قال تعالى : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [سورة البقرة ، الآية : ٧٤]. وأخص منه مفهوما لأنها مشوبة بالتعظيم.

والمعنى : لا موضوع لخشيتهم لفرض بطلان طريقتهم فتنحصر الخشية من الله تبارك وتعالى ، لأنه الحق والخشية لا بد وان تكون من الحق.

قوله تعالى : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ). هذا هو الأمر الثاني ، والتمام : انتهاء الشيء وكماله بحيث لا يحتاج إلى شيء خارج عنه ، ويستعمل بالنسبة الى جميع الأمور المادية ـ جواهرها وأعراضها ـ والأمور المعنوية ، قال تعالى : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [سورة التوبة ، الآية : ٢٣].

١٢٧

ومادة (نعم) تأتي بمعنى الحالة الحسنة ، وتستعمل بالنسبة إلى الإنسان فقط دون غيره ، وفي جميع حالاته ونشآته في الدنيا والآخرة ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة.

وقد ذكرت هذه الجملة في موارد من القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ٦] ، وقال تعالى : (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) [سورة النحل ، الآية : ٨١] إلى غير ذلك من الآيات الكريمة. ونعم الله تعالى كثيرة لا يمكن عدها ، وهي إما معنوية أو مادية أو هما معا. وتكاليف الله سبحانه وتعالى من النّعم على الإنسان فإنها تقع في طريق استكماله وما يترتب عليها من الفوائد.

وتمامها إنما يكون لأجل انها تقع في سبيل سعادة الإنسان في الدارين وارتقائه إلى درجات الكمال ، وفي الحديث عن علي (عليه‌السلام) : «تمام النعمة الموت على الإسلام» ، وعن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «تمام النعمة دخول الجنّة».

والمنساق من إتمام النعمة في المقام ـ بعد جعل الإمامة وبناء البيت ـ استقلال المسلمين بقبلة تخصهم ، وتطهير دينهم من آثار الشرك والضلال ، واستيلاء المسلمين على غيرهم بالحجة والبيان إلى غير ذلك من النّعم التي أراد سبحانه جعلها حكمة لتشريع تحويل القبلة.

وذكر بعض المفسرين أنّ في هذه الآية بشارة إلى فتح مكة ، لأنه عزوجل ذكر في سورة الفتح ، الآية ٢ : (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وقد ذكرت ـ بعد الفتح ـ النصرة منه تعالى. والقرينة على ان المراد من النعمة ذلك قوله تعالى بعد ذلك : (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً).

ولكنه مخدوش بأن مجرد التشابه اللفظي في الموضعين لا يوجب اتحاد النعمتين في الموردين إلّا مع قرينة خاصة. نعم لو أريد تشابه النعمة في مطلق جنسها فهو صحيح لا اشكال فيه ، إلّا انه خلاف ظاهر كلامه.

١٢٨

قوله تعالى : (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). هذا هو الأمر الثالث. وكلمة «لعل» بمعنى التوجي في جميع الموارد إلّا أنه بالنسبة إليه عزوجل يكون بداعي المحبة والإيجاب لا بداعي الترجي الحقيقي حتّى يكون محالا عليه عزوجل ، لأنه الكامل في ذاته وبذاته ولا يعقل النقص بالنسبة إليه تعالى ، والتمني والترجي إنما يتصوران بالنسبة إلى الناقص وأما إذا كانا بدواع أخرى غير داعي وقوع حقيقيّهما فلا محذور بالنسبة إليه عزوجل. وتستعمل في القرآن الكريم في كل فعل من أفعال الإنسان وكل غاية يقصدها باختياره.

هذه هي الغايات الشريفة في أمر القبلة والتعبد بها وكل غاية تشير إلى جانب من جوانب هذا الجعل الإلهي : جانب الحجة والإحتجاج مع المخالفين والمعاندين وقطع حجتهم ، والجانب المادي والفوائد التي يتوخاها الإنسان ، والجانب المعنوي والروحي من التكاليف.

وكل واحد من هذه الغايات الشريفة والمنافع الجليلة قد ذكرت في جملة من الآيات الكريمة ، وبذلك تتم نعمته على المسلمين ويظهر عظيم لطفه بهم في هذا التكليف.

بحوث المقام

بحث أدبي :

الشايع في المحاورات أن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات ، وجرى عليه نظم القرآن الكريم ، كما في قوله تعالى فيما تقدم من الآيات الشريفة (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ولذلك تدل كلمة التوحيد على نفي الشرك وإثبات الوحدانية له تعالى.

والمعروف بين اللغويين وغيرهم أنّ كلمة «إلّا» تستعمل في الاستثناء المتصل والمنقطع ، وتأتي بمعنى «لكن» و «غير» أيضا والمرجع في التعيين القرائن المعتبرة ، وإذا كانت بمعنى «غير» تكون صفة. وقالوا : إنّ الأصل في «إلّا» أن تكون استثناء والصفة عارضة ، للقرينة ، كما أنّ الأصل في «غير» أن تكون صفة والاستثناء عارض ، وفي القرآن الكريم أمثلة على ذلك يأتي التعرض لها في محالها.

١٢٩

ثم إنّه وقع الالتفات في الآيات الكريمة المتقدمة بأنحاء.

وهو : أسلوب كلامي يظهر غالبا في كلام العظماء والملوك عند تكلمهم في مجلس واحد عن قضايا كثيرة على حسب سعة نفوذ أمرهم وسلطانهم ، فينتقلون من الحاضر الى الماضي ، أو إلى المستقبل ، أو إلى الأمر والنهي وقضايا متعددة ، فهو يدل على كثرة نفوذ كلام المتكلم وسعة مقصده.

والحكمة فيه إثارة العقول إلى ما يتحقق من الحكمة والإتقان والتدبر ، وبه يتحقق النظم البليغ ، لأنه نقل الكلام وتغييره من حالة إلى أخرى ، فهو من محاسن الكلام وبدائعه ويهتم الأدباء به اهتماما بليغا ، كما وقع ذلك في القرآن الكريم كثيرا.

والمشهور بينهم انه يشترط فيه شروط ثلاثة :

أحدها : أن يكون الانتقال على غير ما يقتضيه الكلام الظاهر ، أي أنّ مقتضى الظاهر أن يكون التعبير بغير الالتفات فينتقل إليه.

ثانيها : أن يكون الضمير في المنتقل اليه عائدا في نفس الأمر إلى المنتقل عنه ، بخلاف ما إذا كان كل واحد من الضميرين يرجع إلى واحد من اثنين ، كما في قول : «أنت صديقي».

ثالثها : أن يكون في جملتين.

وهو عند أهل المعاني والبديع على أنواع :

الأول : تعقيب الكلام بجملة مستقلة بعد ما فرغ المتكلم من المعنى تتلاقى الجملة الأخيرة مع الأولى في المعنى على طريق المثل أو الدعاء أو نحوهما ، مثل قوله تعالى : (وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) [سورة الإسراء ، الآية : ٨١] ، وقوله تعالى : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [سورة التوبة ، الآية : ١٢٧] ، وهو على سبيل الدعاء.

الثاني : أن يذكر المتكلم معنى فيتوهم ان السامع اعترض في قلبه شيء فليتفت في كلامه ليزيل ما وقع في قلبه من شك ونحوه ثم يرجع الى

١٣٠

مقصوده ، كما في قول الشاعر :

فلا صرمه يبدو وفي اليأس راحة

ولا ودّه يصفو لنا فنكارمه

فإن في قوله : «فلا صرمه يبدو» إيهاما بأنه يريد هجر المحبوب إياه وهو غير لائق ، فقال : «وفي اليأس راحة» فكان هذا عذرا.

الثالث : التفات الضمائر وهو أن يقدر المتكلم في كلامه مذكورين مرتبين ثم يخبر عن الأول منهما ثم ينصرف عن الإخبار عنه إلى الأخبار عن الثاني ثم يعود إلى الإخبار عن الأول ، نحو قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [سورة العاديات ، الآية : ٦].

الرابع : بناء فعل للمفعول بعد خطاب فاعله او تكلمه ؛ نحو قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [سورة الحمد ، الآية : ٧] بعد قوله تعالى : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) فان المعنى غير الذين غضبت عليهم.

الخامس : الانتقال من المذكر إلى المؤنث أو العكس على طريقة الالتفات.

السادس : انتقال الكلام من خطاب الواحد او الإثنين أو الجمع إلى الآخر ، وهذا على أقسام ـ كما يأتي ـ نحو قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة يونس ، الآية : ٨٧] ، فاتسع في الخطاب فثنى ثم جمع ثم وحد ، ونحو قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [سورة يس ، الآية : ٢٢] فانه عدول عن خطاب الواحد إلى خطاب الجماعة.

السابع : التفات الأفعال ، وهو الانتقال من الماضي أو المضارع أو الأمر إلى آخر وهو على أقسام أيضا وهذا كثير في القرآن الكريم وفيه لطائف دقيقة.

الثامن : الانتقال في الكلام من كل من التكلم والخطاب والغيبة إلى آخر وهو أشهر ما عرف في الالتفات عند علماء الأدب ، ويكون ذلك على

١٣١

أقسام ستة :

الأول : من التكلم إلى الخطاب ، نحو قوله تعالى : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) [سورة الأنعام ، الآية : ٧١].

الثاني : الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، نحو قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) [سورة الفتح ، الآية : ١].

الثالث : من الخطاب إلى التكلم ، كقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١١٤].

الرابع : من الخطاب إلى الغيبة ، نحو قوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [سورة يونس ، الآية : ٢٢].

الخامس : من الغيبة إلى الخطاب ، قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [سورة الفاتحة ، الآية : ٤].

السادس : من الغيبة إلى التكلم ، قال تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) [سورة فاطر ، الآية : ٩].

وللالتفات فوائد كثيرة مستفادة من الجملة الواقع فيها تليق بذلك الكلام الخاص ، وتختلف باختلاف المقامات ، فمنها دفع ما يشتمل الكلام على سوء أدب بالنسبة إلى المخاطب بالالتفات إلى الغائب. ومنها توبيخ الحاضر لأنه أبلغ في الإهانة فيلتفت إلى الخطاب. ومنها الالتفات إلى الماضي لإظهار الاستمرار ، أو الالتفات إلى المستقبل للدلالة على الكثرة والتلبس بالفعل في كل وقت. ومنها الالتفات إلى المضارع في مورد الماضي لأنه أبلغ وآكد وأعظم وقعا. ومنها الالتفات إلى الماضي في مورد المضارع في الأمور الهائلة التي لم توجد أو الأمور العظيمة التي تحدث. ومنها إظهار التفخيم ، وتذكير السامع بما وقع الى غير ذلك من الفوائد.

١٣٢

بحث روائي :

في تفسير القمي عن حريز عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى يقول الله تبارك وتعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) يعني : يعرفون رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) ، لأن الله عزوجل قد أنزل عليهم في التوراة والإنجيل والزبور صفة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وصفة أصحابه ومهاجرته ، وهو قول الله عزوجل (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ). وهذه صفة محمد رسول الله في التوراة وصفة أصحابه ، فلما بعثه الله عزوجل عرفه أهل الكتاب ، كما قال جلّ جلاله (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ). وقريب منه ما رواه في الكافي عن علي (عليه‌السلام).

أقول : هذه الرواية من الروايات التي وردت في بيان صفات رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) المختصة به المذكورة في القرآن وفي جميع الكتب السماوية التي يتلوها أنبياء الله تعالى على أممهم.

وفي الدر المنثور في الآية : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه ، كانوا يعرفون رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بنعته وصفته ومبعثه في كتابهم ، كما يعرف أحدهم ولده إذا رآه مع الغلمان. قال عبد الله بن سلام : لأنا أشد معرفة برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مني بابني ، فقال له عمر بن الخطاب : كيف ذاك يا ابن سلام؟ قال : لأني أشهد أن محمدا رسول الله حقا يقينا وأنا لا أشهد بذلك على ابني لأني لا ادري ما أحدث النساء. فقال عمر : وفقك الله يا ابن سلام».

وفي الكافي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) قال (عليه‌السلام) : «الخيرات الولاية».

أقول : هذا من باب التطبيق كما ذكرنا غير مرة ، ويصح تطبيق الآية

١٣٣

المباركة على القرآن وجميع المعارف الإلهية وقد تقدم الكلام فراجع.

وفي الكافي أيضا عن أبي خالد الكابلي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً). قال : «الخيرات الولاية. وقوله تعالى : (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) يعني أصحاب القائم (عليه‌السلام) الثلاثمائة والبضعة عشر ، قال : هم والله الأمة المعدودة. قال : يجتمعون والله في ساعة واحدة قزع كقزع الخريف».

وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) : «لقد نزلت هذه الآية في أصحاب القائم (عليه‌السلام) وانهم المفتقدون من فرشهم ليلا ـ الحديث ـ».

أقول : هذه الآية وردت في رجعة الحق إلى أهله ، والآيات في ذلك كثيرة كما تأتي. وأما الروايات الواردة في ذلك فهي متواترة بين الفريقين وعليه الإجماع أيضا ، وسنثبت ذلك بالأدلة الكثيرة الآتية. والرواية من باب التطبيق ، كما تقدم.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) يعني : ولا الذين ظلموا منهم و «إلّا» في موضع «ولا» ليست هي استثناء».

أقول : هذا وجه حسن لا ينافي ما ذكرناه من صحة الاستثناء في الواقع ، وقد تقدم في البحث الأدبي فراجع.

بحث فلسفي :

ذهب أكابر الفلاسفة إلى عدم الجعل التأليفي بين الماهية وذاتياتها وتقدم في ضمن الآية الشريفة (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) بعض الأخبار التي تشعر بخلاف ذلك.

واستدلوا على البطلان بوجوه ـ ذكروها في كتبهم ـ أهمها :

أنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، وسلبه عنه ممتنع فلا موضوع للجعل التأليفي حينئذ ، لأن مناطه إنما هو الإمكان لا الضرورة

١٣٤

وفيه : ان هذه القضية إنما تكون بعد الجعل والتحقق ، وأما قبلهما فليس إلّا العدم المحض ويستوي الثبوت وعدمه بالنسبة إليه ، وقد اشتهر بين الفلاسفة : ان الشيء من ذاته ليس ، ومن علته أيس (الوجود) فلا مجرى لتلك القضية وإن أطالوا القول فيها في الفلسفة.

بل قد نسب إلى بعض أكابرهم تعيين القول بذلك حذرا من تعدد القدماء ، فان الذوات في مرتبة الذات متميزة فلو لم تكن مجعولة يلزم المحذور. ودفعه : بأن الشيئية مساوقة للوجود ؛ وقبله لا شيء حتّى يلزم العدم. مخدوش : بأنّ اعتبار الذات أمر واعتبار الوجود أمر آخر ، ولا ربط لأحدهما بالآخر. والمسألة مشكلة تعرضوا لها في مواضع في الفلسفة : منها مسألة اصالة الوجود في التحقق ، واصالته في الجعل ، وربط الحادث بالقديم كما يأتي. ولا مفرّ عنه إلّا بما يظهر عن أئمة الدين (عليهم‌السلام) من أن قدرته التامة الأزلية تتعلق بتذويت الذوات وإخراجها من العدم إلى الوجود ، وانه كان ولم يكن معه شيء ـ بأي معنى من معاني المعية ولو اعتبارا ـ وقدرته الكاملة على ما سواه بحيث لا يحيط بمعناها أحد وإنما عرّفها أئمة الدين (عليهم‌السلام) بقولهم : «لا يعجزه شيء» كل ذلك يقتضي ما ذكرناه.

إن قيل : إنّ الموضوع محال وقدرته تعالى لا تتعلق بالمحال. يقال : على فرض المحالية فهو محال اعتقادي لا محال واقعي ، وما لا تتعلق القدرة به هو الثاني دون الأول.

وقد نقل عن بعض الفلاسفة الأقدمين أنّ المبدأ مذوّت الذوات وجاعلها ، والقدرة الكاملة الأزلية إنما تحصل بذلك.

ثم إنّ جميع الفلاسفة اتفقوا على أن ما سواه تعالى مركب من ماهية ووجود ، بلا فرق بين المجردات ، والماديات بمراتبها الكثيرة التي لا حد لها بوجه ، وجعلوا ذلك من القواعد الفلسفية المسلّمة التي يستدلون بها في الفلسفة وهي قاعدة : «إن كل ممكن زوج تركيبي من ماهية ووجود» ، فالبساطة الحقيقية منحصرة به تبارك وتعالى ، وتدل عليها نصوص السنة المقدسة وظواهر الكتاب المبين. والتركيب والتركّب يلازمان الحدوث ،

١٣٥

وهو مناط الاحتياج وهو عين الفقر ، فجميع ما سواه عزوجل حادث.

ثم إنه اختلف أعلام الفلاسفة في أمور ثلاثة :

الأول : في أنّ الأصل في التحقق ومنشئية الأثر هو الوجود والماهية تابعة له ـ وقد اصطلحوا عليه بأصالة الوجود ـ أو يكون الأمر بالعكس؟ واصطلحوا عليه بأصالة الماهية ، بعد اتفاقهم على أنها قبل جعل الجاعل لا حيثية لها أبدا.

الثاني : أنّ المجعول من الباري تعالى هو الوجود والماهية تابعة له أو الأمر بالعكس؟ واصطلحوا عليه باصالة الوجود في الجعل ، أو اصالة الماهية فيه. وكل واحد من البحثين من المباحث المهمة المفصلة لديهم.

والذي يظهر من السنة المقدسة أصالة الماهية في كل من التحقق والجعل ، بمعنى أنّ الله تعالى مذوت الذات ومفيض الوجود عليها لا بمعنى التشريك ، بل بمعنى الترتب الدقي العقلي. ونسب إلى بعض أكابر أهل الدقة والتحقيق إنه وضع رسالة مستقلة في ذلك.

الثالث : ربط الحادث بالقديم ، وهو أيضا من المباحث المهمة الدقيقة الذي اختلف الفلاسفة فيه اختلافا كبيرا فاختار كل مهربا ، ولا طريق لهم إلّا التمسك بالسنّة المقدسة من جعل إرادته تبارك وتعالى من صفات الفعل لا من صفات الذات. هذا موجز القول والتفصيل يطلب من محله ، ومن الله التوفيق وبه الاعتصام.

بحث علمي :

يظهر من الآيات المباركة الواردة في القبلة أهميتها وعظم أمرها فقد أمر الشارع باستقبال الكعبة في الصّلاة والذبح وفي حالة الاحتضار وغير ذلك وندب إليها في حالات كثيرة ، بل استقبالها مندوب في جميع الحالات إلّا ما استثني. وحرم استقبالها في مواطن ، كما نزّه عنه في مواطن أخرى ، وهو يدل على الاهتمام بها ، ولذلك نزلت الآيات الشريفة تستعرض جميع جوانب هذا التشريع الجديد والاعتناء به اعتناء بليغا والتأكيد بمراعاته بأنحاء التأكيدات

١٣٦

بأسلوب رصين وعبارات بليغة.

فذكر سبحانه أولا فضائل البيت الحرام ، وكونه مثابة للنّاس وأمنا ومحلا لعبادة المتعبدين ، وهو بذلك أراد سبحانه تهيئة النفوس لقبول تشريع جديد ، ثم ذكر أنّ القبلة أمر تعبدي لا بد وان يكون من الله تعالى ـ كما هو شأن كل عبادة إلهية ـ ثم أعلم نبيه بتغيير القبلة وأمر المسلمين باتباع القبلة الجديدة وأكد عليه تأكدا بليغا ، وقد جمع سبحانه في ذلك بين رغبة رسوله الكريم في اتخاذ قبلة جديدة وبين استقلال المسلمين فيها بعد أن كانوا تابعين ، وذكر سبحانه أخيرا ان الاستقبال أمر اجتماعي لا يختص بطائفة خاصة ، وفي الضمن أبطل اعتراض المعترضين ودحض حججهم. ونحن نذكر في هذا البحث بعض الجوانب المهمة في القبلة.

القبلة أمر اجتماعي :

لا ريب في أنّ الإنسان واحد نوعي وهذه الوحدة النوعية تقتضي وحدة الاجتماع بالطبع ، والوحدة الاجتماعية من أهم الأمور النظامية التي يقوم بها النظام ويحفظ بها شؤون الأنام ، فإذا كان تنظيم الأمور النظامية في الحيوان بإلهام من الله تعالى ، كما يستفاد من آيات كثيرة ، ويأتي في قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) [سورة النحل ، الآية : ٦٨] بعض الكلام ففي استلهام طبيعة الاجتماع الإنساني التي يستكمل بها خصوصيات الاجتماع والجهات اللازمة بالأشد والأقوى.

ومن تلك الجهات التي يستكمل بها الاجتماع وحدة التوجه الى الجهة الواحدة التي لا بد للمجتمع أن يهتم بها كما أن ارتباط كل عابد بمعبوده من الأمور الفطرية التي أظهرها أنبياء الله تعالى ، كذلك التوجه إلى جهة معينة ، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٨]. ولا تخلو الأمم البدائية القديمة من هذه العادة وإن كانت مشوبة ببعض الجهات المستنكرة إلّا أنّ ذلك لا يوجب خروجها عن كونها من طرق توجه القلب والروح الى المعبود ، بل سيأتي في المحل

١٣٧

المناسب إثبات أنّ العباديات جميعها ـ من الطواف حول الكعبة والسعي في المسعى ، والقيام بين يدي المولى ، والركوع ، والسجود والقنوت ، وغسل الوجه واليدين ، وما يفعل بالرأس والرجلين ـ من طرق توجه القلب إلى الله تعالى وعدم غفلته عنه والخضوع والخشوع لديه كل عضو بحسبه ، وهذا هو معنى الروح في العبادة ، والبقية بمنزلة اللفظ أو الجسد ، ولا فائدة في لفظ بدون المعنى وجسد بلا روح فيه.

وبعبارة أخرى : إنّ فعل الجوارح مع غفلة الروح والقلب مما يستنكره العقل والعقلاء فكيف يرضى به إله السماء.

الحكمة في تشريع القبلة :

ذكرنا أنّ القبلة الجديدة كانت حدثا نوعيا واجتماعيا الذي به تحفظ الوحدة بين المسلمين بعد أن كانوا متفقين في العبادة والمعبود ، وبها تميز المسلمون عن غيرهم واحتفظوا استقلاليتهم بعد ان كانوا تابعين.

والظاهر أنّ هذا التشريع النوعي الأبدي هو أول تشريع من نوعه في تاريخ الأديان الإلهية ، فلم تكن قبلة بهذه الخصوصية في الأديان السابقة. نعم كان لأهل الكتاب قبلة معينة ولكنها كانت محدودة وموقّتة ، فقد ورد في شأن موسى وأخيه أن أوحى الله تعالى إليهما أن يجعلا بيوتهما قبلة لقومهما ، قال تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة يونس ، الآية : ٨٧] ولكنه كان محدودا بحدود خاصة زمانية ومكانية.

ويظهر من بعض الآثار أنّ قبلة اليهود كانت هي التابوت وكانوا يستقبلونه إذا كان معهم في أسفارهم ثم يضعونه عند صخرة بيت المقدس ويصلون إليه ثم عظم مكانه فصار قبلتهم.

وأما قبلة النصارى فكانت شرقي بيت المقدس باعتبار كونه مولد عيسى (عليه‌السلام) ومدفنه عندهم ، ولم يثبت بدليل يصح الاعتماد عليه أنّ قبلة الطائفتين كانت بوحي سماوي أو هي كسائر مقترحاتهم التي اقترحوها من عند أنفسهم.

١٣٨

ولعل أحد وجوه تأكيد القرآن واهتمامه بكون بيت الحرام قبلة انها أول قبلة شرعت في الأديان السماوية بها تحفظ الوحدة بين أفراد هذا الدين. وانها كانت سببا في هدايتهم ، وإعلاما بأنهم على الصراط المستقيم وتدعيما لهم ، وقد تكفل سبحانه وتعالى الجواب عن احتجاج المعترضين ، كما وصم سبحانه المخالفين بخفة العقول واتباع الأهواء الباطلة والظلم وأوعدهم بسوء العقبى إن هم أصروا على الجحود والإنكار. ولأجل ذلك كله كان هذا التشريع الجديد من موجبات إتمام النعمة على المؤمنين.

تحويل القبلة :

كان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأصحابه يستقبلون بيت المقدس أول بعثته في مكة حتّى بعد هجرته إلى المدينة إلى نزول الوحي بتحويل القبلة ولقد كان (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يرغب في ذلك ويترقبه بشغف شديد ، كما حكى عنه عزوجل : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها).

ويمكن أن يستفاد من إطلاق قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ) أنّ القبلة الحقيقية كانت هي البيت الحرام ، فإنّ كون البيت مثابة يقتضي ان يكون مثابة أيضا لهم في أهم الجهات العبادية وهو الاستقبال والتوجه اليه في العبادة.

ويؤكد ذلك جملة من الأحاديث الواردة في أنّ الكعبة كانت قبلة الأنبياء السابقين (عليهم‌السلام) وأنّها كانت موضع تقدير العرب وحبهم لها وتوجههم إليها ، فهي من هذه الجهة اقدم القبلتين وأشرفهما وتربو فضيلتها على بيت المقدس من جهتين : ذاتية ـ لأنها أشرف بقاع الأرض مطلقا ، كما تدل عليه الأخبار الكثيرة ، وانها مقابل بيت المعمور ـ وعرضية ، لأنها موضع عبادة المتعبدين من بدء تكوينها ، فما زالت مطاف الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين والأولياء والصديقين وعباد الله الصالحين.

ولا يستفاد من آيات تشريع القبلة ما يخالف ذلك إلّا ما قد يتوهم في قوله تعالى : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [سورة البقرة ، الآية :

١٣٩

١٤٢]. وقوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٣] الى غير ذلك مما تقدم من الآيات المباركة :

ويمكن الجواب عنه : بأنّ الآية الأولى نسب الاستقبال فيها إلى المسلمين لا إليه عزوجل مما يؤكد عدم كون القبلة المولّى عنها قبلة حقيقية.

وعن الآية الثانية بأنها لا تدل على كون الجعل جعلا أوليا ذاتيا. نعم تدل على الجعل التقريري الظاهري لمصالح ظاهرية متعددة اقتضت استقبال الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لبيت المقدس ـ نظير صلح الحديبية وغيره ـ والمصالح الزمنية قد تقتضي الفعل وقد تقتضي الترك ولذلك أمثلة كثيرة في الشريعة المطهرة ، فلم يكن استقبال الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى بيت المقدس لأجل كونه قبلة حقيقية فنسخت وحولت إلى قبلة أخرى ، بل القبلة الحقيقية هي الكعبة المقدسة ، ويشهد لذلك ما ورد : «من أنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يصلّي ـ وهو بمكة ـ نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه».

وعليه فلم تكن مصلحة واقعية في استقبال الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لبيت المقدس ، بل كان الحكم إرشادا محضا لاستقرار ظاهر الشريعة ، والأمن من كيد الأعداء وخديعتهم ليحين حين إظهار الحق فهو تكليف مجاملي تأليفي ، فيكون اطلاق النسخ عليه من باب المجاز والعناية ، أو بالمعنى اللغوي ، وهو مطلق التبديل إلّا إذا أريد منه نسخ قبلة اليهود.

إن قلت : يظهر من ذيل الآية الشريفة : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) أنّ استقبال بيت المقدس كان لأجل كونه قبلة حقيقية لا أنه مجرد تكليف مجاملي. (نقول) : إنّ الآية الشريفة في الخلاف أدل وأظهر ، كما ذكرنا آنفا.

زمان تحويل القبلة :

قد صلّى الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بأصحابه إلى بيت المقدس برهة من الزمن حتّى نزلت آيات تحويل القبلة فأمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله)

١٤٠