مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [سورة الكهف ، الآية : ٢٩].

والكفر هو ستر الحق اعتقادا أو لسانا أو عملا في مقابل الإيمان الذي هو اعتقاد بالجنان واقرار باللسان وعمل بالأركان كما تقدم. وعليه يكون للكفر مراتب كمراتب الايمان فقد يكون الشخص كافرا بالنسبة إلى مرتبة وهو مؤمن بالنسبة إلى مرتبة أخرى.

والمراد بالذين كفروا ـ بقرينة السياق ومقابلتهم لأهل اليقين والإيمان في الآية السابقة ـ من ستر الحق مطلقا وتمكّن منه الكفر واستولى عليه بحيث لا يرجى منه الإيمان وكان في علم الله من الراسخين في الكفر ، سواء كان عن عناد وجحود للحق بعد معرفته ، كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [سورة النمل ، الآية : ١٤]. أو إعراض عنه للحق إما استكبارا عن النظر فيه ، أو لأجل مرض في قلوبهم ، بسبب انهماكهم في الأمور الدنيوية فعمى عليهم كل سبيل ، وسيأتي في البحث الروائي ما ينفع المقام. فهؤلاء الكفار لما علم الله منهم الجحود للحق والاستهزاء به لم ينفعهم الإنذار والتخويف والآية المباركة من قبيل القضايا الطبيعية الشاملة لكل كافر كذلك في أول الإسلام ومن يأتي بعده ويترتب على ذلك ـ قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ـ ترتب الجزاء على الشرط الحاصل باختيارهم.

(سواء) اسم بمعنى الإستواء. والإنذار هو الإخبار بالشيء ولا يكون إلّا مع تخويف بما يترتب على الإهمال بالشيء.

فيكون المعنى إنّ من كان الكفر عليه مستوليا ولم يكن من المستعدين لقبول الحق والهداية يستوي فيه الإنذار وعدمه فهم لا يؤمنون بعد دعوتهم للحق إذ وظيفة الداعي للحق هي الدعوة اليه ، بلا فرق بين المستعد للإيمان وغير المستعد وهذا من الأمور الفطرية إذ كيف ينفع الدواء مع مزاولة المريض أسباب الداء كما لا يفيد النور مع إغماض العين حتّى لا يراه ، ولم يكن ذلك نقصا في الدواء ولا عيبا في النور.

٨١

قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). الختم والطبع بمعنى واحد وهو تغطية الشيء والاستيثاق منه لئلا يدخله غيره. والختم على القلب كناية عن عدم انتفاعه بالمعارف الربوبية والحقائق الإلهية وما يترتب عليها في عالم الدنيا والآخرة ، فالختم والطبع وصيرورة القلب في الأكنّة كلها بمعنى واحد ، وهو ما ذكره عزوجل في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) [سورة الأنعام ، الآية : ٢٥] ، وكذلك قوله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) [سورة المطففين ، الآية : ١٤].

والمراد منه أنّ من تمكن منه الكفر واستحوذ على قلبه فلا يبقى فيه استعداد للإيمان والهداية وعلم الله تعالى انه لا يؤمن باختياره وذلك بسبب ممارسته المعاصي ومزاولته لارتكاب المحذورات ، فتأثر طبعه ونفسه بها وصارت كالطبيعة الثانية له فلا يرجى منه خير وهذا هو المراد من الطبع والختم فيكون ذلك أمرا طبيعيا فهو سنة الله في خلقه ولذا عبر عنه بالماضي للدلالة على أنه أمر مفروغ منه وسنة قائمة في من كان كذلك.

وهذه الآية المباركة لا تدل على سلب الإختيار عنهم وانهم مجبورون على الكفر ، بل الختم أو الطبع على القلب حاصل من عملهم وإصرارهم على الكفر ، ويدل على ذلك آيات كثيرة منها الآية المتقدمة الدالة على أن الرين كان بسبب كسبهم المعاصي حتّى غطّت قلوبهم تلك المعاصي ، وكذا قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [سورة الجاثية ، الآية : ٢٣] فإنه يدل على أن الختم حصل بسبب اتخاذه إلهه هواه بحيث أعمى بصره وبصيرته فلا يفيد معه شيء.

وإنما أسند الختم الى نفسه تعالى للدلالة على ما ذكرناه ، ولأنه من نسبة المقدور والمقضي الى القدر والقضاء لا نسبة المعلول إلى علته ، أو نسبة المرضي الى الرضا ، فإن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر والجهالة

٨٢

والضلالة ، بل هو يقضي ذلك على الخلق بحسب اختيارهم وإرادتهم ، فيكون المقام نظير قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [سورة الأنفال ، الآية : ٢٣].

والحاصل : إن الأمور التكوينية الجارية على مجاريها الطبيعية لها إضافتان اضافة إلى فاعلها المباشري فتنسب إليه أولا وبالذات ، وإضافة الى خالقها بواسطة خلقه للفاعل المباشري فتنسب إليه تعالى ولا يستلزم ذلك الفساد نقصا فيه تبارك وتعالى ، وسيأتي تفصيل البحث إن شاء الله تعالى.

ثم إنه قد ذكر في هذه الآية الختم على القلب مقدما على الختم على السمع ، وفي سورة الجاثية بالعكس ـ كما تقدم ـ حيث قال تعالى : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) ، الآية : ٢٣] ولا فرق بينهما من هذه الجهة لأن المدارك الظاهرية طريق إلى حصول العلم بالمقصود وفهم المعارف الإلهية. ولذا ذكر الفلاسفة : «من فقد حسا فقد فقد علما» فمن ختم الله على قلبه فقد فقد الفهم والانتفاع من المعارف الإلهية وكان كذلك بالنسبة إلى سمعه إذ لا أثر لسماع لا يدخل في القلب وكذا لو ختم على سمعه فقد أعرض عن فهم الحق فلا يسمع إلّا صوتا وحينئذ يصير السماع لغوا كما هو المشاهد في بعض الناس فهما متلازمان في الجملة سواء عبر بالأصل أم بالعكس.

قوله تعالى : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ). الغشاوة : الغطاء والحجاب. والمعنى أن أبصارهم لكثرة المعاصي وارتداعهم عن قبول الحق لا تدرك آيات الله تعالى في الآفاق والأنفس ودلائل وجوده فهي في حجاب ، وانما لم يسند الغشاوة إلى نفسه من حيث ثباتهم على الكفر وارتكابهم المعاصي وفي سورة الجاثية أسندها الى نفسه فقال تعالى : (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) وذلك لأنها تنتهي بالآخرة اليه انتهاء المقتضى (بالفتح) الى المقتضي (بالكسر) مع اختيارهم لذلك وعدم كونهم مجبورين عليه.

وإنما ذكر تعالى (عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) مع تحقيق الطبع بالنسبة إليها أيضا ، لكثرة توغلهم في الجهالات فكأن أبصارهم طبع عليها مرة بعد

٨٣

أخرى ، فعبر تعالى عن المرة الأولى ب (الطبع والختم) ، كما قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [سورة النحل ، الآية : ١٠٨] وعن الثانية ب (الغشاوة) كما في الآية المباركة وما قلنا جار في جميع الآيات المسوقة في هذا البيان.

ويمكن أن يفرق بينهما بأن يقال : إن الطبع والختم إنما هو بالنسبة إلى المعنويات مطلقا والغشاوة بالنسبة إلى الظواهر من حيث إمكان الانتقال منها إلى المعنويات فهذه الجهة مسلوبة عنهم أيضا كما يستفاد ذلك من الآيات المباركة على ما سيأتي.

ثم إنه ليس المراد بالقلب والسمع والبصر في المقام ما هو الموجود في البهائم إذ ليس ذلك مناط الفضل حتى يختم عليه بل المراد منه العقل الذي يعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان ويغلق به أبواب النيران وقد بينه الله تعالى بقوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٩] ، وبقوله جل شأنه : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سورة الزمر ، الآية : ٢٢]. ويستفاد من ذلك أن الختم على القلب وعلى سائر المدارك إنما يكون بالنسبة إلى عالم الغيب والمعارف الإلهية وذلك لا ينافي بقاء إدراكها بالنسبة إلى الجهات المادية الدنيوية بل نبوغها فيها لتغاير العالمين وتباين النشأتين وعدم ارتباط أحدهما بالآخر فكم من نابغة في الدنيا ليس له حظ في الآخرة وكم من عالم بما يتعلق بالآخرة لا توجه له بأمور الدنيا.

قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). العذاب بمعنى الحبس والمنع ، ومنه الماء العذب ، أي يمنع عن اختلاط شيء آخر ، أو لأنه يقمع العطش ويمنعه. وهو في القرآن اسم لما يؤلم ويمنع النفس عن جميع مشتهياتها من الخير. والعظيم ضد الحقير ويراد به العظمة من كل جهة كما وكيفا وزمانا ومكانا وهو يشمل

٨٤

عذاب الدنيا والآخرة قال تعالى : (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ) [سورة الرعد ، الآية : ٣٤] والتنكير لإظهار تعميم العذاب من جميع الجهات التي تتصور فيه وحينئذ فيكون ذكر العظيم من باب أهمية عظمته.

وهاتان الآيتان من القضايا الشرطية المركبة من الشرط والجزاء وقد ثبت في علم الميزان أن جملة من تلك القضايا تكون قياساتها معها ، أي : تصورها يغني عن إقامة البرهان عليها. وسيأتي بيان أن للعذاب ـ في الآخرة ـ حياة وإدراكا. مفصلا إنشاء الله تعالى.

بحث روائي :

عن علي (عليه‌السلام): «سبق في علمه تعالى أنهم لا يؤمنون فختم على قلوبهم وسمعهم ليوافق قضاؤه عليهم علمه فيهم ألا تسمع قوله تعالى : (لَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ)».

أقول : بين (عليه‌السلام) أن الختم والطبع على قلوبهم وقع باختيار منهم لا أن يكونوا مقهورين في ذلك كما تقدم. وقوله : «ليوافق ـ علمه فيهم» ليس هذا العلم من العلة التامة للطبع والختم حتّى يستلزم الجبر كما ذهب اليه جمع ، لقوله (عليه‌السلام) في صدر الرواية «ليوافق قضاؤه عليهم علمه» فحكمه (عليه‌السلام) بأن ذلك من مقتضياته ـ والقضاء بنحو الاقتضاء لا العلة التامة ـ يدفع هذا الاشكال.

قال أبو جعفر (عليه‌السلام): «والله إنّ الكفر لأقدم من الشرك وأخبث وأعظم».

أقول : يظهر من هذه الرواية الشريفة أن الآيتين المباركتين لا تختصان بوقت دون وقت فيكون القدم فيها قدما زمانيا لأن كفر إبليس أقدم من جميع أنحاء الكفر ، ويمكن أن يجعل قدما رتبيا فإن كل شرك مبدوّ بأوهام تحصل للنفس وهي بعض مراتب الكفر في الواقع ومبادئ الشرك فيصير الكفر مبدئا للشرك بعد ذلك.

وعن الرضا (عليه‌السلام): «الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة

٨٥

على كفرهم» أقول : وهذا نص في أن الكفر كان باختيارهم فطبع الله على قلوبهم عقوبة عليهم.

وعن الصادق (عليه‌السلام) في وجوه الكفر في كتاب الله عزوجل قال : «الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه ، فمنها كفر الجحود ، والجحود على وجهين ، والكفر بترك ما أمر الله ، وكفر البراءة ، وكفر النعم : فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية ، وهو قول من يقول : لا رب ولا جنّة ولا نار ، وهو قول صنفين من الزنادقة يقال : لهم الدهرية ، وهم الذين يقولون وما يهلكنا إلّا الدهر ، وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبت منهم ولا تحقيق لشيء مما يقولون ، قال عزوجل : (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أنّ ذلك كما يقولون ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يعني بتوحيد الله فهذا أحد وجوه الكفر.

وأما الوجه الآخر من الجحود على معرفة وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنه حق قد استقر عنده ، وقد قال الله عزوجل : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) ، وقال الله عزوجل : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) فهذا تفسير وجهي الجحود.

والوجه الثالث من الكفر كفر النعم ، وذلك قوله سبحانه يحكي قول سليمان : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) ، وقال : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) ، وقال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ).

والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عزوجل به ، وهو قول الله عزوجل : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ

٨٦

بِبَعْضٍ) ؛ فكفّرهم بترك ما أمر الله عزوجل به ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده فقال : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة ، وذلك قول الله عزوجل يحكي قول ابراهيم : (كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) ، يعني تبرأنا منكم ، وقال يذكر إبليس وتبرأه من أوليائه من الإنس يوم القيامة : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) ، وقال : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ، يعني يتبرأ بعضكم من بعض».

أقول : يمكن جعل جميع ما في هذه الرواية من التقسيم العقلي بأن يقال : الكافر إما لا يعتقد بمبدإ أصلا ، وهو الكافر المطلق ويطلق عليه الجاحد بالمعنى العام أيضا ؛ أو يعتقد به في الجملة ثم يجحده وهو كفر الجحود بالمعنى الخاص ، أو يعتقد به ولا يجحده ولكن يكفر بنعمه وهو كفر النعم ، أو يعتقد به ولكن يترك ما أمر الله به وهو كفر ترك الطاعة ويشمل هذا ترك كل واجب شرعي ، أو إتيان كل ما نهى الله عنه. أو يعتقد بذلك كله ولكن لا يبرأ من عدوه ولا يتوالى وليه وهو كفر البراءة. ومن هذا الحديث يعرف بيان ما أطلق فيه الكفر على تارك الصّلاة أو على إتيان بعض المحرمات أو التولي لأعداء الله أو التبري من أولياء الله فهذا الحديث هو الجامع لجميع أنواع الكفر ، ولكن الكفر الاصطلاحي الذي يبحث عنه في الفقه الموجب لأحكام خاصة يختص ببعض الأقسام دون الجميع.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠))

ذكر سبحانه أولا المؤمنين حقا وهم الذين أخلصوا دينهم لله ، ثم ذكر الكافرين حقا وهم الذين محضوا في الكفر. واللازم منهما أنّ هناك قسمين

٨٧

آخرين هما من أبطن الكفر وأظهر الإيمان وهم المنافقون ، ومن أظهر الكفر وأبطن الإيمان ؛ حيث إنّ للإنسان قلبا ولسانا فيمكن أن يعتقد بقلبه شيئا ويظهر بلسانه خلافه ، ويأتي الثاني عند قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [سورة النحل ، الآية : ١٠٦].

وفي هذه الآيات يذكر حال المنافقين الذين جعلهم الله تعالى في عرض الكفار في الدنيا فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [سورة التوبة ، الآية : ٧٣] كما أنه جمعهم في الآخرة فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) [سورة النساء ، الآية : ١٤٠].

وقد عطف هذه الطائفة على الطائفة الثانية لما بينهما من الصّلة والترابط في الكفر بينما قطع الثانية عن الأولى لما بينهما من التباين والاختلاف.

وقد وصف سبحانه وتعالى حال الطائفة الثانية في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية هنا لأنهم أشد ضررا على المسلمين من غيرهم. وانهم فرقة من النّاس توجد في كل عصر وزمان ولا تختص بالمنافقين في عصر التنزيل وإن كانت تتناولهم تناولا أوليا وقد اعتنى الله سبحانه بذكر أوصافهم وتوبيخهم ليتجنب المؤمنون عن كيدهم وإغوائهم وتضليلهم وخبثهم وإلّا فهم من الكافرين لنفي الإيمان عنهم حيث قال تعالى : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) فالتقسيم ثنائي في الواقع المؤمن ، والكافر. وإنما أهمل سبحانه ذكر أسمائهم لأن من أدب القرآن الستر مهما أمكن ، ولأن الأمر من قبيل القضية الحقيقية شامل لكل من يكون كذلك.

التفسير

ذكر سبحانه جملة من صفات المنافقين في هذه الآيات الشريفة : منها قوله تعالى : (يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) فنفى الإيمان عنهم. وإنما خص سبحانه الإيمان بالله واليوم الآخر بالذكر ولم يحك عنهم الإيمان بالأنبياء لاستلزام الإيمان بالمبدأ والمعاد الإيمان بالأنبياء أيضا كما عرفت سابقا.

٨٨

وما يقال : من أنّ للمنافقين أعمالا حسنة في حد نفسها أيضا فكيف يعدون من الكفار بقول مطلق (مردود) بأنّ الأعمال الحسنة من المنافق إنّما صدرت لأجل أغراضهم الشريرة فلا وجه لترتب الأثر الحسن عليها فنفي حقيقة الإيمان عنهم يجزي عن هذه التكلفات.

ومنها قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا). الخدع : المكر. وهو إظهار شيء وإخفاء خلافه ، وهو من أقبح الرذائل وشر الصفات.

وعن بعض الأدباء أن المخادعة من فعل الطرفين وجعلوا ذلك هو الأصل في صيغ المفاعلة وتبعهم جمع من المفسرين ثم قالوا إنّ المخادعة محالة على الله وغير لائقة بالمؤمنين لأنه من فعل المنافقين.

ولكن ذلك مردود بأنّ صيغة المفاعلة إنّما تدل على إنهاء الفعل إلى الغير واقعا أو اعتقادا وأما أنّ الغير يفعل مثل ذلك بالنسبة إلى الفاعل الأول فهو غير مأخوذ فيها ، فقد يكون وقد لا يكون. نعم الجزاء على المخادعة مع الله ورسوله شيء ومخادعة الله ورسوله شيء آخر لا ربط لأحدهما بالآخر وإنما ذكرت المخادعة لبيان أن هذا العمل يتكرر عنهم.

وأما مخادعتهم مع الله ورسوله تكون بالنسبة إلى اعتقاد المنافق لا بالنسبة إلى الواقع إذ لا معنى لمخادعة من هو عالم السر والخفيات ومع ذلك نسبها سبحانه الى نفسه ابتداء تسلية للمؤمنين لئلا يثقل تحملها عليهم لشدة صفاء قلوبهم فوحدة السياق نحو تلطف منه تعالى بالمؤمنين كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [سورة الفتح ، الآية : ١٠] وغير ذلك من الآيات المباركة.

وأما خداعهم مع المؤمنين فبإظهار الإيمان وإخفاء الكفر والعمل رياء وسمعة وذلك لأجل الاطلاع على أسرار المؤمنين واذاعتها لأعدائهم.

قوله تعالى : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) اي : ضرر عملهم راجع إليهم فهم المخدعون. وأصل الشعور هو التوجه والالتفات والفطنة بالشيء ولا يقال إلّا في ما دق وخفي ، ولذلك لا يوصف به سبحانه لعدم خفاء شيء عليه.

٨٩

ومعنى الآية المباركة إن المنافقين لا شعور لهم في إدراك قبح عملهم لفرض أنّ بناءهم على النفاق والفساد وهم مسخرون تحت طبيعتهم الشريرة ، كما في قوله تعالى : (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) [سورة المنافقون ، الآية : ٣].

ثم إنّ مفاد هذه الآية المباركة يجري في جميع الرذائل النفسانية التي طبعت في قلوب أهلها فالمورد وإن كان خاصا ولكن الحكم (وما يشعرون) عام.

قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ). المراد بالقلب في الآيات المباركة : منشأ الفهم والإدراكات فينطبق عليه النفس والروح والعقل أيضا. والمرض هو الخروج عن الاعتدال سواء كان في الجسم أو في القلب. والمراد بمرضها ضعف إدراكاتها وعدم تعقلها للدين وأسراره وأحكامه ويجمع ذلك عدم التفقه لها كما قال تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٩].

قوله تعالى : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً). يمكن أن تكون هذه الجملة المباركة دعاء عليهم كقوله تعالى : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ١٢٧]. ويمكن أن تكون جريا على سلسلة الأسباب المنتهية إليه تعالى فانه عزوجل بعث الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأنزل القرآن وأتم الحجة فكذّبوا بها وأبوا أن يتّبعوه حسدا واستكبارا فزاد ذلك مرضا على مرضهم ، فنسب المرض بالسبب القريب الى اختيارهم وبالسبب البعيد الى إرسال الرسول والدعوة الى الإسلام والكل ينتهي إليه تعالى في سلسلة الأسباب.

وفي تنكير المرض إشارة إلى ثبوت جميع أنواعه حسب مفاسد أخلاقهم واستقرارها في قلوبهم.

قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ). أي : كان العذاب لأجل كذبهم لأن المنافق كاذب ويستلزم ذلك تكذيبهم للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فلا فرق في قراءة (يكذبون) بين المجرد اللازم والمزيد المتعدي.

٩٠

وإنما ذكر تعالى خصوص هذه الصفة (كذب) لكونه مصدر كل شر وأساس كل نفاق.

أليم : صفة للعذاب بمعنى المؤلم وإطلاقه يشمل كل ألم وفي أي مرتبة كانت من مراتب العظمة كما يدل قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) [سورة النساء ، الآية : ١٤٥] فيكون عذابهم أشد من عذاب الكافرين.

بحث فلسفي :

الشعور هو أدنى مرتبة الإحساس والإدراك وكلما كان إحساسات الشخص وإدراكاته للدقائق أكثر كان شعوره بها أشد وكليات أنواع الإحساسات والإدراكات ثلاثة : عقلية ، وخيالية ـ ومنها الإدراكات الحيوانية ـ ونباتية على ما أثبتها قدماء الفلاسفة والعلم الحديث أيضا ولكل منها مراتب كثيرة غير متناهية لا يحيط بها إلّا الباري جل شأنه.

وكمال الإنسان لنفسه ولغيره إنما هو بالإدراكات العقلية وفي غيرها لا ثمرة مهمة فيها. والإدراكات العقلية على قسمين :

الأول : ما يتعلق بالجهات التشريعية السماوية فهي محدودة ولا بد فيها من موافقتها للكتاب والسنة وعدم مخالفتها والخدعة ـ التي هي النفاق ـ مطلقا مخالفة لها.

الثاني : ما يتعلق بغير الجهات التشريعية كسائر العلوم أو الصنائع فإن الإدراك فيها مرسل غير محدود بحد إذ لأحد للعقل ولا منع للشرع ، ويأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء الله تعالى.

ثم إنّ صفات النفس على أقسام :

الأول : ما كانت صفة لها بحسب ذاتها كان هناك غيرها أولا ، كالحياة والجمال. فالجميل جميل كان هناك غير يراه أولا.

الثاني : الصفات التي تضاف إلى الغير فلا تحقق لها بدونه كالظلم وحسن الخلق والأذى ونحوه ومنها النفاق.

٩١

الثالث : الصفات الإضافية المختلفة باختلاف الجهات وسيأتي بيان ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء الله تعالى.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦))

من صفات المنافقين التي ذكرها الله تعالى في هذه الآيات الفساد في الأرض والاستهزاء بالمؤمنين وتوصيفهم بالسفاهة وعدم شعورهم بجهالتهم وتلك الصفات كلها من أخس الصفات وأرذلها التي كانت فيهم.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ). الفساد خروج الشيء عن الاعتدال وتغيره عن سلامة الحال وضده الصلاح. ومادة الفساد في أي هيئة استعملت تدل على المبغوضية والاشمئزاز ، قال تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٠٥] ولا سيما هيئة الإفساد ومتفرعاتها فإنّ المتلبس بها مذموم عند الجميع ويقابل ذلك مادة الصلاح ، فإنها في أي هيئة استعملت تدل على المحبوبية والرغبة وميل النفس خصوصا هيئة الإصلاح وما يتفرع منها فإنّها ممدوحة عند الجميع قال تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [سورة النساء ، الآية : ١٢٨].

وإنما ذكر تعالى القول بلفظ المجهول ليشمل كل ناه عن المنكر رسولا كان أو وليا أو كان من عرض النّاس ، كما أنه سبحانه ذكر الأرض وحدها لأنها محل إفساد المفسدين قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) [سورة الروم ، الآية : ٤١].

٩٢

ثم إنّ الخروج عن الاعتدال والاستقامة الذي هو معنى الفساد تارة يكون بالنسبة إلى الشخص نفسه في ما بينه وبين الله تعالى كالرياء وأخرى بالنسبة إلى شخص آخر مثله كالغش مثلا وثالثة بالنسبة إلى المجتمع كالخيانة بالنسبة إليهم ولهذه الحالات مراتب متفاوتة. وفي الجميع إما أن يكون الشخص متوجها الى ما يفعل أو لا يكون كذلك بل يرى فساده صلاحا وإصلاحا والآية المباركة تبين هذا القسم.

ومعنى الفساد في الآية الشريفة ارتكاب المعاصي سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، ويدخل فيها مذام الأخلاق ، وذلك لأنّ أفعال الإنسان إما أن تكون موافقة للشرع ، أو تكون موافقة لموازين الاجتماع وإن كانت مخالفة للشرع ، وثالثة : أن تكون موافقة لمعتقدات الشخص وإن كانت مخالفة للأولين ، والنفاق أو الفساد في الآية المباركة من أحد الأخيرين وقد أكد تعالى بطلان معتقداتهم في قوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) بأن لا صلاح في معتقداتهم إذ ليس كل صلاح اعتقادي صلاحا واقعيا.

قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ). لظهور آثار الفساد في أفعالهم كتفريق المسلمين وإلقاء النفاق بينهم وافشاء أسرارهم.

قوله تعالى : (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ). لأنّ كثرة انهماكهم في الغي والضلالة أوجبت أنهم يرون باطلهم حقا فنفى الله تبارك وتعالى نسبة الشعور عنهم بكلمة (لا) الظاهرة في نفي نسبة المدخول في مثل المقام والدال على الاستمرار فالآية الشريفة في مقام توبيخ المنافقين والتشنيع عليهم حيث وصفهم بعدم الشعور والإدراك.

ولعل نفي الشعور عنهم مرتين تارة : بقوله تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ) وأخرى : بقوله تعالى : (لا يَشْعُرُونَ) للإشارة إلى نفي أصل الشعور عنهم أولا ونفي أنهم لا يشعرون بذلك فيكون من إثبات الجهل لعدم الشعور لهم.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ). ذكر تعالى صفة أخرى من صفات المنافقين وهي السفاهة وهذه الصفة تلازمهم ولا بد وان يكونوا كذلك لأن من ليس أهلا للحق ولا يقبله من

٩٣

أهله كان ذلك من الجهل المركب عنده ويرى سوء عمله حسنا كما يرى من سواه فاسدا هالكا. وقد أعيت هذه الفرقة جميع أنبياء الله عزوجل وأوليائه في كل عصر لو لا أن تداركهم العنايات الخاصة الإلهية جل شأنه ، ويشهد لما ذكرنا قوله تعالى : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [سورة الشعراء ، الآية : ١١١] ، وقال تعالى : (ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [سورة هود ، الآية : ٢٧].

وإنما أتى سبحانه وتعالى القول بصيغة المجهول تنبيها إلى عدم اختصاص القائل بشخص مخصوص بل يشمل كل من أظهر الحق كما تقدم في الآية السابقة.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ). الناس والإنسان والبشر ألفاظ مترادفة معنى لهذا الحيوان الناطق المستوي القامة الذي يتفاوت أفراده بين أوج الكمال وأدنى مرتبة الحضيض فالمراد بهم في المقام من دخل في الإسلام ، وتقدم معنى الإيمان.

قوله تعالى : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ). السفه : هو الخفة وقلة التمييز بين الخير والشر والنفع والضرر سواء كان في الأمور الدنيوية أو الأخروية ، فمن لا يعرف نفعه من ضره وخيره من شره بالنسبة إلى الجهات الأخروية يعد سفيها بالنسبة إليها ولو كان رشيدا وملتفتا إلى الأمور الدنيوية التفاتا دقيقا ، كما أن كلّ من كان متوجها وملتفتا إلى أموره الأخروية وغير دقيق في أموره الدنيوية يعد عند الناس سفيها ، وهذا نزاع قديم بين الفريقين فأهل الدنيا يعدون أهل الآخرة سفهاء وأهل الآخرة يعدون أهل الدنيا من السفهاء.

ولا نزاع في الحقيقة لأن المراد من السفيه السفه من جهة لا من كل جهة فمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها لا يعد سفيها بالنسبة إلى الآخرة وان عده بعض أهل الدنيا سفيها بالنسبة إلى بعض جهات الدنيا ومن أراد الدنيا وسعى لها سعيها معرضا عن الآخرة يعد سفيها بالنسبة إلى الآخرة كما في المقام لأنه ترك الحياة الدائمة الباقية لأجل الحياة الزائلة ويأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

٩٤

قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ). ولا ريب في مطابقة ذلك للواقع لأن كل من ترك الحياة الدائمة وأخذ بغيرها سفيه بلا شك. وإنما عبّر بقوله تعالى هنا (لا يَعْلَمُونَ) وفي الآيات السابقة عبّر تعالى ب (لا يَشْعُرُونَ) تنبيها على أنهم متوغلون في الجهالة وأنّها من سنخ الجهل المركب وتأكيدا لنفي الإدراك عنهم بجميع أنحائه : من نفي الشعور ، ونفي العلم ، ونفي الفقه والعقل كما في قوله تعالى : (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) [سورة الحشر ، الآية : ١٤] ، وقوله تعالى : (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) [سورة المنافقون ، الآية : ٣].

قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ). هذه الآية المباركة تبين صفة أخرى للمنافقين وهي المداهنة بإظهار شيء وإضمار خلافه ولا تكون هذه إلّا فيمن بلغ في فساد الأخلاق حدا بعيدا فيظهر بوجهين ويتكلم بلسانين يلقى كلا بحسب ما تقتضيه المصلحة وهم يرون ذلك من مصالحهم الفردية والاجتماعية ، وهذه الفئة من المنافقين لم تكن تختص بعصر التنزيل بل توجد في كل عصر وزمان ولا ينافي ذلك الحكاية عنها بصيغة الماضي وتقدم الكلام في ذلك.

وقد بين تعالى أنّ المنافقين يداهنون في دينهم فإذا رأوا المؤمنين قالوا آمنا بما أنتم به مؤمنون كذبا وزورا وإذا اجتمعوا بشياطينهم قالوا إنا معكم في العقيدة والعمل وإنما نحن نستهزئ بالمسلمين ودينهم وقد فضحهم الله تعالى وأعدّ لهم شديد العقاب.

والمراد بالشياطين هم المتمردون ، من الشطن وهو البعد والتمرد فكلما بعد الإنسان عن الخير والصّلاح وقرب إلى الباطل والفساد يقرب من الشيطان. والمقصود بهم رؤوسهم ، ومن يدبرهم في مذام الأخلاق وشعب النفاق سواء أكانوا من الإنس أم الجن ، كما في قوله تعالى : (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [سورة الأنعام ، الآية : ١١٢].

٩٥

ويستفاد من الآية الشريفة أنّ كونهم مع أهل الإيمان إنما هو بمجرد المرور والملاقاة فقط ، وأما معيتهم مع الشياطين فكانت بعنوان التفهيم والاستفادة من نواياهم الفاسدة.

ثم إن الخلوة مع الشياطين تارة تكون على نحو الاستفادة وأخذ الآراء الفاسدة والعقائد السيئة وأخرى : تكون لارتكاب الفحشاء والمنكرات وثالثة : تكون على نحو التفكر في ما لا ينفع للدين والدنيا فإن الأوهام والخيالات الفاسدة والأماني الباطلة من أقوى سبل الشياطين المستولية على الإنسان الموجبة لحرمان عقله عن قرب الرحمن وعن علي (عليه‌السلام): «الأماني بضائع النوكى» أي : الحمقى وأما الخلوة معهم لأجل هدايتهم إلى الحق فهي ممدوحة بل قد تجب.

قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ). الاستهزاء هو الاستخفاف والسخرية. والمد : هو الزيادة. والطغيان : التجاوز عن الحد. والعمه : التحير.

والمعنى : إن الله سبحانه وتعالى يجازيهم بالعقاب ويعاملهم معاملة المستهزئ بهم ويدعهم ويمهلهم في فعلهم وتسمية ذلك بالاستهزاء من باب التجانس اللفظي فقط كما في قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [سورة الشورى ، الآية : ٤٠] ، وقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٤] فإن جزاء الظلم ليس بظلم.

واستهزاء الله تعالى بهم لا يختص بعالم دون عالم ولا بأمر دون آخر فمن ذلك سلب توفيقاته وتأييداته ، أو إجراؤه تعالى أحكام الإسلام عليهم في الدنيا وليس لهم حظ منها في الآخرة وكونهم في الدرك الأسفل من النار وهذا من أشد أنحاء الاستهزاء بهم ويزيدهم في تحيرهم وعدم اهتدائهم للصواب والحق جزاء بما كانوا يعملون وعقوبة لهم على استهزائهم.

وهذه الآية مثل سائر الآيات المباركة التي سبقت مساقها كقوله تعالى : (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [سورة

٩٦

يونس ، الآية : ١١] ، وقوله تعالى : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) [سورة المائدة ، الآية : ٦٤] وغيرها من الآيات الشريفة الموافقة لقانون الطبيعة بالنسبة إلى النفوس الشريرة. وتقدم في خداعة الله تعالى لهم بعض الكلام فراجع.

وهذه الآية في مقام التسلية للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وسائر أنبيائه قال تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [سورة يس ، الآية : ٣٠] والمؤمنين أيضا ، وحيث أن الاستهزاء بأنبياء الله يرجع إلى الاستهزاء بالله تعالى فنسب جزاء المستهزئين بهم إلى نفسه فقال تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) وقال تعالى : (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [سورة الشعراء ، الآية : ٦] ، وقال تعالى : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [سورة الزمر ، الآية : ٤٨] فإن إحاطة نفاقهم بهم من لوازم فعلهم والكل يرجع إليه سبحانه وتعالى بنحو الاقتضاء ، كما مر ، فيصح أن يقال : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) جزاء لأعمالهم أو (حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ). يطلق الاشتراء على الاستبدال مع رجاء النفع أي : أنّ المنافقين استبدلوا الهداية بالضلالة والعمى لغرض من الأغراض الفاسدة الدنيوية فتركوا استعداد فطرتهم فلم تربح تجارتهم وكانوا من الخاسرين. والخسران في هذه المعاملة من الواضحات لكل عاقل بعد التأمل ولو قليلا وقد بين تعالى ذلك في آية أخرى بما هو أظهر فقال سبحانه : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٥] وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٧٧]. وفي جملة من الآيات المباركة التعبير بالثمن القليل قال تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [سورة النحل ، الآية : ٩٥] وقال تعالى : (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٨٧].

ويمكن أن يفرق بين التعبيرين بأنّ استبدال الهداية والإيمان بالضلال

٩٧

والكفر تارة : يكون لأجل الكفر والجحود والشقاوة المنبعثة عن اقتضاء الذات بمجرد الاقتضاء لا العلية ، وهذا هو استبدال الهداية بالضلالة والإيمان ، بالكفر ، وقد أشار الى ذلك سبحانه وتعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [سورة فصلت ، الآية : ١٧]. وأخرى : يكون الاستبدال لأجل الأغراض الفاسدة الخيالية الدنيوية ، وهذا هو الاشتراء بالثمن القليل ، فإن كل غرض إذا صدر من الإنسان مع قطع النظر عن إضافته إليه عزوجل فهو من المعاملة الخاسرة وإذا صدر منه من جهة إضافته إليه تعالى مع تأييد ذلك بالشرع فهو من المعاملة الرابحة. والمائز بين الغرضين هو الشرع أو العقل المقرر بالشرع ، لما سيأتي في محله من أن نسبة الشرع الى العقل نسبة الصورة إلى المادة ، فكما لا أثر للمادة بدون الصورة فكذا لا أثر للعقل بدون الشرع ، فالعامل بالعقل التارك للشرع يضل في هديه ، والعامل بالشرع التارك للعقل يبطل سعيه ومسعاه ، ويأتي تفصيل هذا الإجمال إن شاء الله تعالى.

ثم إنه يصح أن يكون قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) من باب ذكر اللازم وإرادة نفي أصل الملزوم فيكون المعنى أنه لا تجارة لهم أصلا في الواقع وإن كانت بحسب الظاهر لأنّ التجارة ما كان فيها اقتضاء الاسترباح في الجملة لا ما بنيت على الخسران والضلالة.

وفي الآية المباركة نحو استعارة ومجاز لإسناد الربح الى التجارة ومنه يعلم وجه قوله تعالى : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) فتصح نسبته إلى تجارتهم الخاسرة او الى جميع شؤونهم التي منها تجارتهم.

بحث روائي :

عن الصادق (عليه‌السلام) «سئل فيما النجاة غدا؟ فقال إنما النجاة في أن لا تخادعوا الله فيخدعكم فإنه من يخادع الله يخدعه ويخلع منه الإيمان ونفسه يخدع لو يشعر ، فقيل له كيف يخادع الله؟ فقال (عليه‌السلام) يعمل بما أمر الله عزوجل به ثم يريد به غيره فاتقوا الله واجتنبوا الرياء فإنه شرك بالله

٩٨

عزوجل إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء : يا كافر يا فاجر ، يا غادر ، يا خاسر حبط عملك وبطل أجرك ولا خلاق لك اليوم فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له».

أقول : وقريب من هذه الرواية روايات أخرى كثيرة الظاهرة في حصر النجاة في يوم القيامة في الخلوص والإخلاص وترك المخادعة وهو كذلك لأن المخادعة توجب سلب الأجرة على العمل لفرض أن المخادع يأتي بعمله لغيره تبارك وتعالى فلا أجر له منه.

وعن الرضا (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) فقال (عليه‌السلام): «إن الله لا يستهزئ ، ولكن يجازيهم جزاء الاستهزاء».

أقول : تقدم بيان ذلك.

بحث أخلاقي :

للنفاق سببان الأول السبب الفاعلي الثاني السبب الغائي أما سببه الفاعلي فالعمدة فيه ترجع الى عدم العقيدة بالمبدأ والمعاد أصلا أو قلتها وضعفها فلو اعتقد الإنسان بمبدإ قيوم مراقب له في جميع جهاته وأفعاله لا يحصل منه النفاق الذي هو أم مساوي الأخلاق وكلما اشتد الاعتقاد بالمبدأ واحاطته تعالى يضعف النفاق. والسبب القريب فيه يرجع إلى حب النفس والجاه وقد بينهما النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «حب الدنيا رأس كل خطيئة».

وأما سببه الغائي فلا ريب في أنه ليس له غاية عقلية وإنما تكون له غايات جزئية وهمية خيالية ربما يستنكر نفس المنافق تلك الغاية لو فرض كمال عقله وإيمانه.

وأما شعبه ومراتبه فهي كثيرة منبثة على الجوانح والجوارح فالمنافق يمكن أن ينافق بقلبه كالرياء كما تقدم في البحث الروائي أو بكل واحدة من جوارحه أو بجميعها والوجوه المتصورة في هذه الصفة الشريرة على أقسام :

الأول : كونها من سنخ الطبايع غير القابلة للتغير والتبدل كسائر الطبايع

٩٩

المودعة في الأشياء كلها من جواهرها وأعراضها التي يصح أن يعبر عنها بالصفة غير القابلة للتخلف والتغيير.

الثاني : كونها من مجرد الاقتضاء الذاتي القابلة للتغير والتبدل والاشتداد والتضعيف.

الثالث : كونها من مجرد الاكتسابيات المحضة بلا علية ولا اقتضاء أبدا.

الرابع : كونها في مبدأ الأمر من مجرد الاقتضاء المحض وصيرورتها بالممارسة من سنخ الطبيعة واللوازم غير المنفكة.

وقال بكل من ذلك قائل من الفلاسفة والمتكلمين ، ويمكن أن يكون جميع ذلك صحيحا إن أراد القائل بالأول مرتبة خاصة من الاقتضاء لا العلية التامة المنحصرة كسائر الطبايع غير الإرادية الاختيارية فإنه لو قيل بها لزم محاذير كثيرة يشكل الجواب عنها كما يأتي التفصيل في محله.

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

المثل كالشبه وزنا ومعنى. والمثل هو وصف الشيء وبيان نعوته التي توضّحه.

وكانت الأمثال دائرة بين الأمم خاصة عند العرب بل كان استعمالها يعد من شؤون الفصاحة والبلاغة ، وقد نهج القرآن الكريم في استعمال الأمثال لغرض تفهيم المخاطبين والتكلم معهم بلسانهم المتعارف بينهم وجلب قلوبهم إلى غير ذلك من الحكم والفوائد. وقد اهتم القرآن الكريم بها اهتماما كبيرا ، فقال تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) [سورة الروم ، الآية : ٥٨] ، وقال تعالى : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ

١٠٠