مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

خاص ويكون «هذا» لخصوص القريب و «ذلك» لخصوص البعيد ولوحظت هذه الخصوصية في الوضع والموضوع له ، فأصالة عدم ملاحظة هذه الخصوصية مسلمة عند جميع الأدباء وغيرهم أيضا. وإن أرادوا أنّ الخصوصية حاصلة عند الاستعمال ، فهو صحيح في الجملة لكن محققيهم لا يقولون بصحة أخذ ما حصل من الاستعمال في الموضوع له ، وقد فصلنا القول في الأصول فليراجع تأليفنا فيه. هذا مع أنّ هذا البحث ساقط بالنسبة إلى ما ينزل منه عزوجل ، إذ لا يتصور بعد وقرب بالنسبة اليه تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [سورة الحديد ، الآية : ٤] ، وهو قريب في عين بعده وبعيد في عين قربه ، وقد استعمل لفظ «هذا» بالنسبة إلى القرآن أيضا ، قال تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي) [سورة الإسراء ، الآية : ٩] مع أن القرب والبعد لهما مراتب متفاوتة في القرآن أيضا فهو قريب إلى الأذهان من حيث نظمه وأسلوبه الظاهري. وقصصه وبعيد عنها من حيث متشابهاته ودقائقه فيصح استعمال الإشارة القريبة والبعيدة اليه من جهتين ، وعن علي (عليه‌السلام): «إن القرآن ذو وجوه».

ثم إنّ هذه الجملة المباركة (ذلِكَ الْكِتابُ) في مقام التعظيم والإجلال للقرآن الكريم عظمة لا نهاية لها كما ستعرف. والكتاب قيل هو بمعنى الجمع لأنه مصدر من كتب يكتب إذا جمع.

وقيل : إنه بمعنى المكتوب وهو اسم جنس لما يكتب. والظاهر أن مادة كتب بمعنى الثبوت والوجوب. ويمكن إرجاع الأولين إليه أيضا فإن القرآن هو الثابت في جميع العوالم والجامع لجميع المعارف والكمالات.

وقد أطلق لفظ الكتاب على القرآن الكريم مقرونا بالتجليل والتعظيم ، قال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [سورة ص ، الآية : ٢٩] ، وقال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [سورة إبراهيم ، الآية : ١] ، وقال تعالى : (أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) [سورة الكهف ، الآية : ١ ـ ٢] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

٦١

وقد ثبت في الفلسفة الإلهية أنّ الإنسان من بدء وجوده إلى حين موته إنما يسعى ويستهدف في حياته تحصيل غاية وغرض مّا وهذا الغرض يختلف باختلاف أفراد الإنسان ، ويمكن جمع تلك الأغراض المختلفة غير المحدودة في عنوانين كليين : الأغراض الواقعية العقلية ، والخيالية الوهمية ، وليس كل فرد يصل إلى غايته وغرضه لوجود موانع لا تعد وعوائق لا تحصى ، والحياة عبارة عن جلب الملائم ودفع العوائق وثبت هذا بالفطرة أيضا.

وفي الآية المباركة إشارة إلى أن الغاية العقلية التي لا بد من طلبها والغرض الذي يجتهد في تحصيله ذلك الكتاب ، لقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [سورة النحل ، الآية : ٨٩] فهلموا إليه ولا تذهبوا يمينا وشمالا فتضلوا السبيل.

ويمكن أن يكون المراد بالكتاب هو ذلك الكتاب الذي كان الأنبياء (عليهم‌السلام) يطلبونه بالفطرة الاستكمالية عندهم لتكميل النفوس الإنسانية ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٨].

قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ). الريب والريبة : هو الشك بل هو أدنى مراتبه وحذف المتعلق يفيد العموم أي : أن ذلك الكتاب لا شك فيه من أي جهة يمكن أن يتصور فيه الشك فهو مبرأ من كل عيب وشك ، لأن نفي كل طبيعة يقتضي نفي جميع أفرادها المتصورة في تحققها ، فنفي الريب بقول مطلق يقتضي نفيه في نظمه وبلاغته وفي علومه ومعارفه وتشريعاته وجميع الجهات المتصورة في كماله ومعارفه ولا ريب في كونه كذلك ، فليس لأحد أن يرتاب فيه بعد الاعتراف بأنه من الحكيم الخبير ، وهذا حكم عقلي ذكره الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم كسائر الأحكام العقلية ، كقوله تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة ابراهيم ، الآية : ١٠].

قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ). هدى مصدر والهداية الدلالة إلى الصراط المستقيم ولها مراتب كثيرة تختلف باختلاف الاستعدادات وسائر الجهات اختلافا كثيرا ، وتقدم ما يتعلق بها في سورة الفاتحة.

٦٢

والمتقين : من الاتقاء ، والاسم التقوى ومعناها الحجز والمنع وهي من أعلى الصفات التي اعتنى بها الله تبارك وتعالى ، كما أنها من أجلّ المقامات الإنسانية وأرفعها ، والتقوى تدور مدار الإيمان والعمل الصالح.

والقرآن العظيم كما أنه مقتض لحدوث التقوى للعاملين به كذلك مقتض لبقائه فيهم أيضا ، ولا ريب في أن العمل بالقرآن ملازم للتقوى فكأنه قال تعالى : هدى للعاملين به ، وإنما ذكر المتقين إشعارا بعظمة التقوى وأهمية مقامها وذكر أحد المتلازمين وارادة الملازم الآخر شايع في كلام الفصحاء. وقد وصف الله تبارك وتعالى الكتاب في آيات أخرى بأنه هدى للمتقين ، كقوله تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣٨] كما وصفه تعالى بأنه هدى للمسلمين ، قال تعالى : (نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [سورة النحل ، الآية : ١٠٢]. وللناس أيضا ، كقوله تعالى : (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٥] ، فهو هاد للمتقين والعلماء العاملين به وسواد النّاس وذلك لعدم تناهي معارفه وعدم إمكان الإحاطة بعلومه لغيره عزوجل فكل يستفيض منه بقدر قابليته.

وليس المراد بالمتقين خصوص من بلغ المرتبة القصوى في إيمانه وتقواه لأن القرآن نافع وهاد لجميع المراتب بل وجميع النّاس كما عرفت ، ولا تختص هداية القرآن بالمتقين فقط لأن الوصف لا يدل على المفهوم خصوصا مع التصريح بالعموم في آيات كثيرة على ما تقدم.

ثم إنّ التقوى استعملت في القرآن الكريم بهيئاتها الكثيرة وجميعها تشعر بعظمة مقامها ورفعة شأنها وانها توجب محبة الله للمتصفين بها ومحبة النّاس لهم كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) [سورة الدخان ، الآية : ٥١] وقال تعالى : (أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة ق ، الآية : ٣١] وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [سورة التوبة ، الآية : ٧] ، وسيأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى. وقد استعملت منسوبة إليه عزوجل في قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) [سورة البقرة ، الآية : ٤١] ، وقال

٦٣

تعالى : (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٧] ، وقال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) [سورة الحشر ، الآية : ١٨] واتقاؤه يعني اتقاء عذابه وعقابه ، والا فلا وجه لنسبة الاتقاء الى ذاته ولا قدرته تعالى. وعقاب الله إما دنيوي أو أخروي أو هما معا ، واتقاء عقابه إنما يتحقق بالإيمان الصحيح والعمل الصالح ؛ وأدنى مرتبة التقوى التي يكون المدار عليها في الكتاب والسنة هي إتيان الواجبات وترك المحرمات وفوق ذلك مراتب ودرجات كما وردت في خطبة علي (عليه‌السلام) في وصف المتقين وهي من جلائل خطبه ونفائسها.

والتقوى فوق الإيمان بدرجة ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [سورة الأنفال ، الآية : ٢٩]. وقد وردت في جملة من الأخبار أيضا ، فعن الرضا (عليه‌السلام) : «الإيمان فوق الإسلام بدرجة والتقوى فوق الإيمان بدرجة ، واليقين فوق التقوى بدرجة ، وما قسم في النّاس شيء أقل من التقوى» ويعضد ذلك اللغة والعرف أيضا ، فإن أهل التقوى عند النّاس أخص من المؤمنين ، وقد جعل الإيمان موضوعا للتقوى في جملة من الآيات الكريمة ، منها قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) [سورة البقرة ، الآية : ١٠٣] ، وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ٨٨] ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) [سورة المائدة ، الآية : ٣٥]. نعم قدم التقوى على الإيمان في جملة أخرى من الآيات كقوله تعالى : (إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [سورة المائدة ، الآية : ٩٣].

ويمكن أن يكون هذا التقديم والتأخير باعتبار المراتب والثبات عليها لا باعتبار أصل الإيمان فانه موضوع التقوى ، فما عن بعض المفسرين من أن التقوى في المقام هو الإيمان وأصر عليه مردود ويأتي التفصيل إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ). الإيمان من الأمن سمي به

٦٤

لكونه موجبا لأمن المؤمن من العقاب في الآخرة قال تعالى : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) [سورة الجن ، الآية : ١٣] أو لأمان النّاس به في الدنيا. وفي الحديث «لأنه يؤمن على الله فيجيز أمانه» وهو ـ كما في جملة من الأخبار ـ الإعتقاد بالجنان والعمل بالأركان والإقرار باللسان فليس الإيمان مجرد الإقرار بل العمل بالوظيفة جزؤه فهو في اللغة والشرع بمعنى واحد وهو التصديق الجازم.

ويستعمل لازما وهو كثير في القرآن ، قال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٣]. ومتعديا بكلمة (الباء) و (اللام) وهو أيضا كثير ، قال تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٧] ، وقال تعالى : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) [سورة يونس ، ٨٣].

ويكشف من ورود متفرعات هذه المادة في مواضع كثيرة من القرآن عن أهمية الإيمان وأنّه الأصل في الكمالات الإنسانية مطلقا ، بل جعل تعالى العقل ـ الذي هو من أعظم مواهبه ـ دائرا مداره ، فقال عزوجل : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) [سورة الطلاق ، الآية : ١٠] حيث خص أولي الألباب بالمؤمنين.

وقرن العمل بالصالحات مع الإيمان في كثير من الآيات ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [سورة البقرة ، الآية : ٨٢] ، وفي النصوص الكثيرة أن الإيمان مبثوث على الجوارح جميعها ويدل على ذلك الإعتبار أيضا فإنّ من التزم بشيء ولم يعمل بما التزم به لا يعد من أهل ذلك الملتزم به إلّا بالعناية والمجاز.

نعم ؛ الإيمان أمر تشكيكي وانه كسائر الصفات النفسانية التي لها مراتب كثيرة كمالا ونقصا وشدة وضعفا كما سيأتي ويختلف باختلاف متعلقه من القلب واللسان وعمل الجوارح وأعلى مراتبه ما بينه تعالى في قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ

٦٥

الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٧].

ومن ذلك يعلم أن الإيمان على أنحاء أربعة : (الأول) : الإيمان الانتسابي فقط بأن يرى الشخص نفسه في بلاد المسلمين منسوبا إليهم بلا اعتقاد ولا عمل. (الثاني) : الإيمان الاعتقادي فقط من دون عمل. (الثالث) : العمل الظاهري من دون الاعتقاد. (الرابع) : الاعتقاد القلبي والعمل على طبق ما اعتقد ، وما يصدق عليه الإيمان حقيقة هو الأخير وهو النافع للنفس الإنساني في طريق استكماله وعوالمه الأخروية وسائر الأقسام إنما أطلق عليها الإيمان بالعناية للتسهيل. نعم لا يطلق عليه الكافر إلّا إذا انتفى منه الإعتقاد والعمل والإقرار ، ومع انتفاء العمل بالأركان فقط يكون فاسقا إن لم يكن منكرا لضروري من ضروريات الدين فمن ترك واجبا وارتكب محرما فهو ليس بمؤمن من هذه الجهة وإن كان مؤمنا من جهة أخرى قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» ، وعن الصادق (عليه‌السلام): «فأما الرشا في الأحكام فهو الكفر بالله العظيم».

ومن ذلك يظهر بطلان إشكال جمع من المفسرين وغيرهم بأنه إن كان العمل بالشريعة المقدسة جزءا من الإيمان لزم عطف الجزء على الكل في الآيات الكثيرة المشتملة على عطف عمل الصالحات على الإيمان ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٧٧]. أو اشتراط الشيء بنفسه وكلاهما باطل.

ووجه الدفع أنّ عطف الجزء على الكل إذا كان لفائدة وخصوصية لا بأس به بل هو من شؤون البلاغة والفصاحة كما صرح به أئمة العربية وأي فائدة أحسن من كون الإيمان بالشريعة يدور مدار العمل بها قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لا قول إلّا بالعمل ولا عمل إلّا بإصابة السنة». وليس المقام من اشتراط الشيء بنفسه بل من اشتراط الشيء بأهم شروطه ، كما في قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لا صلاة إلّا بطهور».

٦٦

قوله تعالى : (بِالْغَيْبِ). الغيب هو خلاف الحضور والشهود فكلما لم يكن حاضرا في المدارك الجسمانية ومشهوداتها يكون من الغيب ولكنه ثابت في الواقع بتمام معنى الثبوت والتحقق. والإيمان بالغيب هو الإعتقاد بما غاب عن النّاس من الموجودات والعوالم كعالم الملائكة وعالم البرزخ وعالم الآخرة وجميع ما أنزله الله تبارك وتعالى من الأحكام بل نفس القرآن لأنه وان كان مشهودا للناس لكنه من الغيب من حيث معارفه وعلومه ، ويمكن أن يكون مشهودا من جهة ومن الغيب من جهة أخرى كالصّلاة فإنها عمل حاضر ولكنها ـ من حيث أن حافتي الصراط الصلاة وصلة الرحم ـ من الغيب. وكذا الحجر الأسود فإنه مستلم الحجيج ظاهرا فهو مشهود ، ولكن من حيث كونه يمين الله في الأرض يصافح بها مع عباده ـ كما في الحديث ـ من الغيب إلى غير ذلك.

والمراد بالغيب هنا هو الله تبارك وتعالى وكل ما أوحى إلى نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والدار الآخرة وما فيها من النشر والحشر والحساب والثواب والعقاب ، وقد أشار عزوجل إلى ذلك في ذيل الآية (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).

وإنما حثّ الله عباده على الإيمان بالغيب وعدم اقتصارهم على المحسوسات لأنه الأصل في الكمالات الإنسانية الباقية ، وبالإيمان به يسهل على الإنسان كلفة العمل فكأنه يرى فعلا ثمرة عمله بخلاف المقتصر على الحسن فإنّه وان بلغ الى غاية مراده لكن كماله الظاهري منحصر بالماديات فقط.

والغيب يستعمل في القرآن الكريم بمعان.

الأول : ما ذكر في هذه الآية المباركة وسائر الآيات المرغبة للإيمان.

الثاني : ما أضافه الله تعالى إلى نفسه مثل عالم الغيب والشهادة ، قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة التغابن ، الآية : ١٨] ، وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة هود ، الآية : ١٢٣] ، و : (أَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [سورة التوبة ، الآية : ٧٨] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة والمراد بهذا الغيب جميع ما سوى الله تعالى من حقائق المجردات

٦٧

والماديات والجواهر والأعراض وخواصها ومباديها وما يصير إليها أمرها وارتباط بعضها مع بعض والمضادة بينها ، وما يتعلق بالإنسان حدوثه وبقائه ومصيره والعوالم التي يرد عليها إلى غير ذلك مما هو مستور.

الثالث : ما ينبغي ستره وحفظه ، كما في قوله تعالى : (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) [سورة النساء ، الآية : ٢٤] وقوله تعالى : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) [سورة يوسف ، الآية : ٥٢].

الرابع : ما حدث ومضى ، كقوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) [سورة يوسف ، الآية : ١٠٢] مع أن قصة يوسف (عليه‌السلام) وقعت في الخارج ثم حكاها الله تعالى لنبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله). والجامع لتلك المعاني هو الاستتار.

قوله تعالى : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ). استعملت مادة (ق وم) في القرآن العظيم بكثير من هيئاتها المختلفة بالنسبة إلى الصّلاة تعظيما لها واهتماما بشأنها. والإقامة بمعنى الإستواء والاعتدال والجمع. ومعنى إقامة الصلاة إتيانها بحدودها وقيودها على ما أمر الله تعالى به والتوجه بها إلى الله عزوجل.

والصلاة بمعنى الدعاء والعطف والرحمة قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٤٣] أي يرحمكم ويعطف عليكم وقال تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [سورة التوبة ، الآية : ١٠٣] ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٥٦] أي ينزل الرحمة والعناية الخاصة عليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، واستعمل لفظ الصّلاة في ما هو المعهود من الأعمال في الشريعة الإسلامية لوجود الدعاء وطلب الرحمة فيها.

وهذه العبادة الخاصة كانت معهودة لدى الأنبياء السابقين وأتباعهم في الشرايع القديمة بل كانت توجد عند الحنفاء في الجاهلية. وقد أحكمها الله تعالى في هذه الشريعة في أفضل هيئة وأتم عبادة ، وهي أول ما علمها الله

٦٨

تعالى لنبيه الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مباشرة من وراء الغيب ليلة المعراج كما في الحديث. وأول ما ينظر إليها الله تعالى من أعمال العباد يوم القيامة «إن قبلت قبل ما سواها وان ردت رد ما سواها» وجعلها النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عمود الدين كل ذلك لما فيها من الأثر العظيم في تهذيب النفوس والعروج بها إلى الملكوت. وقد ذكر الله تعالى من عظيم أثرها في قوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٤٥] ، ولذلك أمر الله تعالى بإقامتها والمحافظة عليها والخشوع فيها وأدائها في أوقاتها.

وليس المراد بإقامتها مجرد الإتيان بها صورة من قيام وركوع وسجود خالية من روح العبادة والتوجه إليه تعالى وإلّا فهو مضيع لها وقد توعد الله فاعلها بالويل فقال جل شأنه : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) [سورة الماعون ، الآية : ٤] فهو وان سمي مصليا لكنه منعوت بالسهو عن حقيقتها فتقول الصلاة له : «ضيعك الله كما ضيعتني» كما ورد في الأثر ولأجل ذلك لم يستعمل لفظ الإتيان بالصّلاة في القرآن العظيم إلّا مقرونا بالذم غالبا كقوله تعالى : (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ٥٤].

قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). الرزق : هو العطاء الخاص في مقابل الحرمان ويشمل الماديات ـ كالمال والولد ـ والمعنويات كالعلم والتقوى والجاه. وبالجملة : كل جهة إمكانية تحققت بالنسبة إلى الإنسان وأفاض الله تعالى عليه فهو رزق منه تعالى إليه قال عزوجل : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) [سورة الإسراء ، الآية : ٧٠].

إن قلت : إثبات أنّ الإنسان بجميع جهاته ـ من ذاته ووجوده وعوارضه ـ رزق ومجعول منه تعالى مناف للنزاع المعروف بين الفلاسفة والمتكلمين من أن الوجود مجعول منه تعالى ، فتكون الماهية ليست كذلك أو الماهية مجعولة منه تعالى فالوجود ليس كذلك ، فلا كلية في ما ادعيت من أن الإنسان مجعول منه تعالى.

٦٩

قلت : لا ريب في أن الجميع ـ الوجود والماهية وعوارضها ـ مجعول منه تعالى إما تبعا أو استقلالا فمن يقول باستقلالية الجعل بأحدهما يكون الآخر مجعولا بالتبع فالكل مجعول منه تعالى ومرزوق منه جل شأنه.

والإنفاق : هو الإخراج من اليد والمراد به هو الإعطاء الخاص المرغّب اليه شرعا والممدوح عقلا وهذا وصف آخر للمؤمنين بالغيب فإن من كان مؤمنا بما وراء الماديات ويعتقد بأنّ مرجعها إلى الزوال والفناء وان ما يملكه هو رزق من الله تعالى يجد في نفسه ميلا إلى بذله ابتغاء رضوان الله ورحمة لبني نوعه ويكون من المتقين الذين لهم القابلية لهدى القرآن ، فقوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أجمع كلمة نافعة للإنسان وأعظم ما يتحفظ به النظام لأن جميع مواهب الله تعالى على الإنسان رزق منه لا بد وان ينفق بنحو ما اذن الله له وهذا هو الاستكمال والاستنماء لنفس الموهبة الإلهية في الدنيا والآخرة وهو من الأمداد الغيبي الذي يصل منه تعالى إلى المنفقين ، وفيهم نزل قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٦١]. كما أن فيهم نزل أيضا : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦٠]. وليست الحسنة مختصة بالمال بل تشمل كل خير يوصل إلى الغير لينتفع به ويسمى صدقة أيضا وسيأتي في البحث الروائي ما ينفع المقام.

ثم إن الإنفاق أقسام :

الأول : الإنفاق الواجب كالزكاة المفروضة والخمس والكفارات والنفقات الواجبة وما أوجب الإنسان على نفسه بالنذر ونحوه ، ومن الإنفاق أيضا انفاق الواجبات النظامية على ما فصل في الفقه.

الثاني : الإنفاق المندوب الذي حث القرآن اليه في آيات كثيرة كما سيأتي ، وكل ما اشتد حب الإنسان لشيء يشتد ثواب إنفاقه لله تعالى قال جل شأنه : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٩٢].

٧٠

الثالث : الإيثار على النفس الذي هو من أجلّ مقامات الأولياء وفيهم نزلت الآية المباركة : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [سورة الحشر ، الآية : ٩]. وسيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة له.

ومن ذلك يعرف أنه لا وجه لتخصيص الرزق بالنفقة الواجبة على الأهل والولد أو الزكاة المفروضة أو صدقة التطوع ، أو الحقوق الواجبة العارضة في الأموال ـ ما عدا الزكاة ـ وكذا ليس المراد به خصوص العلم ـ كما يأتي في البحث الروائي ـ بل هو عام يشمل كل إنفاق ولو كان معنويا يبتغي فيه سبيل الله تعالى فإنه ربما يكون الإنسان مصليا وصائما ولكنه متى ما عرض عليه ما يقتضي به بذل شيء شحت نفسه وأمسك عن الإعطاء.

ويستفاد من إسناد الرزق إلى الله تعالى أن الإنسان مهما جدّ في تحصيل ما يتملكه كان كله من الله جل شأنه وأنه هو الرزاق فلا يكترث بما يصيبه ولا يبخل عما يطلب منه ، وإن الإنفاق بشيء له تعالى ليس من فقد الشيء عن الباذل بل حقيقته تحويل شيء عن معرض الزوال والفناء إلى خزائن الله تعالى التي لا يتصور فيها الفناء والزوال وفي قوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) [سورة سبأ ، الآية : ٣٩] وقوله تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) [سورة الأنفال ، الآية : ٦٠] إشارة إلى ما ذكرناه. وسيأتي التفصيل.

كما أنه يستفاد من قوله تعالى : (مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أن المطلوب منه النفقة ببعض مما يملك لا جميعه كما نبه عليه في آية أخرى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) سورة الإسراء ، الآية : ٢٩].

بحوث المقام

بحث روائي :

عن العسكري (عليه‌السلام) أنّه قال : «(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) يعني بما غاب عن حواسهم من الأمور التي يلزمهم الإيمان بها كالبعث والنشور

٧١

والحساب والجنّة والنار وتوحيد الله وسائر ما لا يعرف بالمشاهدة وإنما يعرف بدلائل قد نصبها الله تعالى دلائل عليها».

وعن الصادق (عليه‌السلام): «الذين يؤمنون بالغيب يصدقون البعث والنشور والوعد والوعيد».

وعنه (عليه‌السلام) أيضا : «الذين يؤمنون بالغيب أي آمن بقيام القائم (عليه‌السلام) إنه حق».

أقول : الغيب شامل لكل ما لم يكن محسوسا ويكون داعيا إلى الله تعالى فإيمان المسلمين في هذا الزمان بنبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وسائر أنبياء الله تعالى من الإيمان بالغيب ، وكذا كل حجة منه تعالى تدعو إليه ، فما ذكر في الخبر صحيح لا ريب فيه ، لأنه من باب أحد المصاديق ومن باب التطبيق.

وأما ما فسره جمع برجال الغيب أيضا وفصلوا القول فيه فليس ذلك إلّا من مجرد الدعوى ، ولم يقم دليل على صحته لا عقلا ولا نقلا ، كجملة كثيرة من أقوالهم في الركن والولي والمرشد والأوتاد ونحو ذلك. وعن الصادق (عليه‌السلام): «فطر النّاس جميعا على التوحيد».

وعنه (عليه‌السلام) أيضا : «فطرهم على المعرفة قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كل مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأن الله تعالى خالقه».

أقول : يستفاد من ذلك أن الإيمان بالغيب مودع في الفطرة ومن مصاديقه الإيمان بالله ، كما يأتي في الآيات المباركة.

وعن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي : «مما علمناهم ينبئون وما علمناهم من القرآن يتلون».

أقول : هذا يدل على ما قلناه من أن الإنفاق لا يختص بالمال بل يشمل كل ما ينفع الغير ولا اختصاص لقوله (عليه‌السلام) بعلم الشريعة بل يشمل كل علم ينتفع به الغير في دينه أو دنياه ـ ما لم يكن منهيا عنه شرعا ـ كعلم

٧٢

الطب وغيره مما يقوم به نظام المجتمع الذي لا ينافي وجوب إنفاقه أخذ الأجرة عليه ، كما بيناه في الفقه ، وعنه (عليه‌السلام) أيضا حيث سئل في كم تجب الزكاة؟ فقال له : «الزكاة الظاهرة أم الباطنة تريد؟ فقال : أريدهما جميعا فقال : أما الظاهرة ففي كل ألف خمسة وعشرون وأما الباطنة فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليه منك».

وفي ذلك روايات أخرى يأتي بيانها في موردها إن شاء الله تعالى.

بحث كلامي :

ذكرنا أنّ الإيمان هو التصديق ، واختلفوا في أن التصديق بسيط أو مركب وكان هذا الاختلاف بين الفلاسفة ولكنه سرى الى غيرهم. وقد أثبتنا في محله سقوط أصل النزاع رأسا لأن مثل التصديق الذي هو من الصفات النفسانية إن لوحظ باعتبار مبادئ حصوله ، فهو مركب عند الجميع. وان لوحظ باعتبار نفسه ، فهو بسيط كذلك فالنزاع بينهم لفظي.

لكن في الإيمان نزاع آخر قديم بينهم وهو أنّ العمل على طبق الوظيفة الشرعية جزء مقوّم لحقيقة الإيمان بحيث إن من لم يعمل بالوظيفة الشرعية لا إيمان له وان كان له التصديق القلبي الجازم بأصول الدين ، أو أن العمل بالوظيفة الشرعية شيء خارج عن أصل التصديق القلبي فيكون من كان معتقدا بأصول الدين ولا يعمل بالوظيفة مؤمنا ولكنه فاسق.

والمتحصل من مجموع الآيات المباركة المشتملة على جملة «الذين آمنوا وعملوا الصالحات» والسنّة المقدسة المسوقة في هذا السياق أنّ للإيمان كمالا ونقصا وشدة وضعفا ، ويختلف متعلقه ـ كما تقدم ـ قلبا وعملا ولسانا فيكون ايمان كل شيء بحسبه فإيمان القلب بالاعتقاد وايمان اللسان بالإقرار وايمان الجوارح بالعمل فإذا تحقق الجميع يثبت الإيمان الكامل وإذا تحقق بالنسبة إلى البعض فهو إيمان ناقص يثبت بالنسبة إلى ما تحقق وينتفي بالنسبة إلى ما لم يتحقق ويثبت الكفر مكانه.

والكفر له مراتب كمراتب الإيمان من حيث الشدة والضعف ومن حيث الكمال والنقص ، ويتحقق بالنسبة إلى الإعتقاد واللسان وعمل

٧٣

الجوارح ، فيمكن أن يكون شخص مؤمنا اعتقادا ولسانا ولكنه كافر عملا لا اعتقادا ولا إقرارا وهذا معنى الأثر الذي تقدم من أنّ «الإيمان اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان» فإيمان كل شخص مبثوث على الجوارح ، فالإيمان والكفر كالنور والظلمة فقد يكون النور في كل مورد وقد يكون في مورد دون آخر ، ولا ريب في انه متى ما انتفى النور يحل محله الظلمة لا محالة ولا واسطة بينهما ، وهذا معنى ما تقدم من الأخبار من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» الى غير ذلك مما ورد فإذا اجتمع الإيمان بالله قلبا والإقرار باللسان والعمل بما أمر الله وترك ما نهى عنه يكون مؤمنا ، وإذا لم يتحقق الإيمان قلبا وتحقق لسانا وعملا يكون منافقا ، وإذا تحقق قلبا ولسنا ولم يتحقق عملا يكون فاسقا وهو لا ينافي إطلاق الكفر العملي عليه أيضا كما في قوله (عليه‌السلام): «أما الرشا في الأحكام فهو الكفر بالله العظيم».

فكل من جهل شيئا من أمور دينه ينقص من إيمانه بقدر جهله ، وكل من أنكر ما يجب عليه تصديقه في الشريعة فله حظ من كفر الجحود إلى أن يصل إلى الجحود المطلق وكل من أظهر بلسانه ما لا يعتقده بقلبه بغير عذر شرعي فله حظ من النفاق إلى أن يصل إلى النفاق المطلق ، وكل من كتم حقا شرعيا بعد معرفته فله حظ من التهود إلى أن يصير كذلك مطلقا ، وكل من استبد برأيه ولم يتبع الشريعة فله حظ من الضلالة إلى أن تتم فيه ، وكل من ارتكب حراما أو ترك واجبا فله حظ من كفر الاستخفاف إلى أن يصل إلى الكفر المطلق إن لم يتدارك ذلك بالتوبة. ولكن من أسلم وجهه لله تعالى واتبع الشريعة المقدسة في جميع ما جاء به وتدارك ذنبه بالتوبة فهو المؤمن حقا.

هذه خلاصة ما يستفاد من الكتاب والسنة بعد رد المجمل إلى المفصل والمتشابه إلى المحكم ، وسيأتي البحث عن ترتب الجزاء على كل واحد مما ذكر.

بحث فلسفي :

لا ريب أنّ الإنسان مركب من جزئين بهما قوامه ، وهما الروح والبدن

٧٤

فلا فعل للروح إلّا بالبدن كما لا أثر للبدن إلّا بالروح الإنساني. واتفق جميع الفلاسفة على أنّ الأول من عالم المجردات والثاني من عالم المادة. وهذا يحتاج إلى تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى.

نعم ، قد اختلفوا في خصوصيات هذين التوأمين حتّى وصل الحد بجمع منهم إلى الاعتراف بالقصور عن درك حقيقتهما وخصوصياتهما. وكيف كان فالروح نزلت من مقام شامخ ـ على ما يأتي ـ إلى حضيض المادة. والبدن مستعد إلى العروج من مرتبة الحضيض إلى أوج الروح فصار الإنسان جامعا للكمالين ومركبا من النشأتين فهو بفطرته لا يمكنه إنكار ما وراء المادة.

وقد يوجب أنه بالمادة والماديات انتقاله عن ما ورائها ، ولذا ترى يرجع إلى فطرته في حين وآخر ، فالإيمان بالغيب الذي حث الله تعالى إليه هو إرجاع الإنسان وسوقه الى فطرته والتوجه بمقام روحانيتهم بما أودع الله فيه من استعداده لدرك المعارف واكتساب الكمالات بعد إتمام الحجة عليه وعدم تدنيس ذلك المقام الرفيع باتباع الأهواء المضلة والآراء الباطلة.

وقد اتفق الفلاسفة على أنّ منشأ الإدراكات المعنوية والعلوم الكلية في الإنسان هو العقل ولا ينافي ذلك حصول علوم جزئية من غير طريقه. والعقل حجة في جميع إدراكاته بعد تمامية مقدمات الإدراك ومن جملتها الإيمان بالغيب ، وجميع التشريعات السماوية ، وان تكون المقدمات حاصلة مما أمر به الله تعالى الذي هو الجاعل والمشرع ، فلا بد وأن يكون مجعوله ومشروعه تحت سلطنته واختياره. والا لبطل النظام واختلت الأحكام. فكل إيمان بالغيب لم يحصل من طريق ما أمر الله تعالى به وأذن فيه ، فهو باطل لا اعتبار به ، بل يمكن أن يعاقب صاحبه سواء أكان ذلك في كيفية الإدراك أم خصوصيات المدرك ، ويأتي التفصيل في محله.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) هذه الآية كالبيان للإيمان بالغيب جيء بها اهتماما وتأكيدا ، ويمكن أن يقال : إنهم قسم آخر من المتقين وأعيد لفظ «الذين» لتحقيق التمايز بين القسمين وهذا القسم أرقى من القسم الأول لأن أوصافه تقتضي الأوصاف التي أجريت على القسم الأول مع الزيادة

٧٥

فالقرآن يكون لهم هدى بالأولى.

والمراد (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) القرآن وسائر ما أوحي اليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما أن المراد بالإنزال الوحي وسيأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) المراد الكتب السماوية السابقة المنزلة على الأنبياء.

وفي تقديم القرآن بقوله تعالى (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) إشارة إلي فضيلته وجامعيته وكماله ، كما أن قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) تفصيل لقوله تعالى : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ، لأن الإيمان بما أنزل اليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مشتمل اجمالا على الايمان بما انزل على من قبله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من الأنبياء والمرسلين فإن الشريعة الإسلامية تحتوي على أصول جميع الشرايع السماوية من أصول الدين وأمور استكمالية أخرى ، فهذه الآية عبارة أخرى عن قوله تعالى : «والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله» [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٥].

كما أنّ في تقديم قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) على قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) دلالة أيضا على أن إيمان أهل الكتاب بموسى وعيسى (عليهما‌السلام) وكتبهما لا أثر له ما لم يؤمنوا بالقرآن ، وما أنزل على خاتم النبيين لأنه من غير المعقول للإنسان أن يدع الإيمان بما هو كامل أبدي ويلتزم بما كان كاملا في وقته وزمانه فإن الشرايع السماوية تتفاوت في الكمال حسب تفاوت استعداد الإنسان وترقيه في درجات الاستكمال هذا في غير أصول الدين. وأما فيها فالجميع سواء ، إذ لم يختلف الأنبياء في دعوة أقوامهم إلى التوحيد ونبذ الشرك والإيمان بالآخرة فهم في هذه الجهة كنبي واحد وإن جميع الكتب السماوية تجمعها وحدة المبدأ والغرض ، فالإيمان بالله وبما أنزله تعالى لا تبعيض فيه وإلّا فيخرج المؤمن بسببه عن حقيقة الإيمان ، ويستفاد ذلك من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ

٧٦

يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) [سورة النساء ، الآية : ١٣٦].

فالناس في زمان ظهور دعوة النبي كانوا على أقسام :

الأول : من كان مشركا فأسلم ، فهو من المهتدين ، ومن أصحاب الجنّة.

الثاني : من بقي على شركه ولم يسلم ، فهو كافر ، ومن أصحاب النار.

الثالث : من أظهر الإسلام وأبطن الشرك ، فهو منافق ، ومن أصحاب النار.

الرابع : من كان من أهل الكتاب وآمن بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وكان مؤمنا بكتابه غير المنحرف أيضا ، فهو مؤمن ، ومن أهل الجنّة.

الخامس : من بقي على كتابه ولم يؤمن ، فهو كافر ومن أهل النار.

السادس : من آمن بخاتم الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والقرآن وكفر بكتابه السماوي غير المنسوخ في هذه الشريعة ، فهو كافر ومن أهل النّار لأن الإسلام والقرآن يدعوان إلى الكتب السماوية وهي تدعو إلى القرآن والإسلام ولا اختلاف بينهما في الأصول كما عرفت.

قوله تعالى : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) : المراد من الآخرة هو عالم جزاء الأعمال والحساب والثواب والعقاب وقد يعبر عنها ب (الدار الآخرة) أيضا في مقابل الدار الدنيا.

واليقين هو مرتبة خاصة من العلم أي : الإعتقاد الجازم المطابق للواقع في الشريعة ، فإنّ للعلم مراتب منها اليقين ، كما قاله تعالى : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) [سورة التكاثر ، الآية : ٥ ـ ٦]. وسيأتي بقية مراتبه إن شاء الله تعالى. واليقين بالآخرة هو أعلى مراتب كمال النفس الإنسانية وبه ينتظم حال المؤمن في الدنيا والآخرة ، ويظهر أثر ذلك في أفعاله وأعماله وأقواله لأنّ اليقين باعث وزاجر.

وإنما ذكر تعالى الضمير المنفصل (هم) تثبيتا لهذه الصفة الخاصة لقسم خاص من المؤمنين إذ ليس كل مؤمن من أهل اليقين بالآخرة.

٧٧

ويدل على ذلك قوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [سورة لقمان ، الآية : ٤ ـ ٥] فأكد سبحانه وتعالى من حيث تكرار نفس الآية وتكرار الضمير «هم» فيها تأكيدا بليغا كاشفا عن أهمية المورد.

قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

الفلح : الشق والقطع. وأصل الفلاح الظفر بالمقصود والفوز بالمطلوب بعد الكد والاجتهاد فكأنه قد قطع المصاعب حتّى نال مقصوده ولا يطلق إلّا في الخير ، فالمفلحون هم الذين أدركوا وأمنوا مما منه فزعوا في الدنيا والآخرة كما هو مقتضى الإطلاق.

والآية في مقام بيان حال المتقين فإنّ اتصافهم بالصفات المذكورة يقتضي فوزهم بالهداية والفلاح ، وكل من الهدايتين بتوفيق من الله تعالى الأولى بالنسبة إلى الحدوث والثانية بالنسبة إلى البقاء ، أو أن الأولى بالنسبة إلى بعض المراتب والأخرى بالنسبة إلى ما فوقها. وعليه يكون المشار إليه به «أولئك» في الموضعين واحدا وهم المتقون. وقد رتب الفلاح على التقوى في آيات كثيرة ، قال تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ١٠٠] ، وقال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٢٠٠] ، وقال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) [سورة الأعلى ، الآية : ١٤] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

وتكرير الإشارة وذكر ضمير الفصل «هم» للدلالة إلى رفعة مقام المفلحين وإعلانا لعظمة شأنهم.

وذكر حرف الاستعلاء في قوله جل شأنه «على هدى» إشارة إلى استيلائهم على الهداية ورسوخها فيهم وشدة تمكنهم منها ، ولا ريب في ذلك فإن المواظبة على شيء والقيام به كما هو حقه يوجب اتصاف النفس به وارتسامه فيها فيصير طبيعة ثانوية ربما تغلب الطبيعة الأولية كما هو المشاهد في بعض النفوس.

كما أن تنكير لفظ «هدى» يفيد العظمة وعدم محدودية الهداية بحد لأنها

٧٨

مفاضة من ربهم عليهم.

بحث دلالي

إنما ذكر الإيمان بالغيب ابتداء ، لأنه أصل كل إيمان وأساس كل اعتقاد وعمل كما عرفت ثم عقبه تعالى بالصلاة ، لأنها أهم أركان الدين وانها الرابطة بين العبد ومعبوده ؛ ثم ذكر الإنفاق لأنه أعظم صلة بين أفراد الإنسان وبه يحصل التعاون بينهم وتطهر أموالهم ، فالآية باختصارها جمعت بين الأصول الاعتقادية وأهم الأعمال الجوارحية وأعظم الأمور الاجتماعية وهذا من إعجاز القرآن.

كما أنه ذكر تعالى المتقين في مفتتح القرآن العظيم إعلاما بأنّ التقوى هي الأصل الذي تدور عليه الكتب السماوية خصوصا القرآن وما يدعو اليه جميع الأنبياء والمرسلين لا سيما خاتم النبيين (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فذكر المتقين من باب ذكر المعلول إجمالا وتفصيل علته بعد ذلك والعلة إنما أجملت بقوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وفصلت ثانية في الآيات التالية.

ثم إنه تعالى ذكر (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) مع أن الآخرة من أفراد الغيب الذي ذكر في أول الآية وذلك لأجل التأكيد والأهمية بالنسبة إلى الآخرة فإن عماد النشأتين ـ الدنيا والآخرة ـ هو الإيمان بالمعاد بعد الإيمان بالله تعالى وبه تنتظم حياة الإنسان الفردية والاجتماعية. وأيضا إنّ الإيمان بالغيب إجمالا قد لا يكون كافيا في حث الإنسان على العمل الصالح وردعه عن عمل المنكر بخلاف من كان مؤمنا بالآخرة تفصيلا فإن أثره يظهر على أعماله فيكون مراقبا لنفسه ومن ذلك يظهر الوجه في ذكر اليقين في الآية الأخيرة.

واليقين بالآخرة يحصل تارة : بإخبار المعصوم بعد أن قامت الأدلة على عصمته ، وأخرى : بالنظر الصحيح والتفكر والتدبر في آيات الله تعالى وخلق الإنسان وأنّ الدار الدنيا التي هي دار الكون والفساد لا يمكن أن تكون دار النعيم للأبرار أو الجحيم للأشرار فحينئذ يحكم العقل بأنّ وراء هذه الدار

٧٩

الفانية المتغيرة دار أخرى فيها يثاب المحسن ويعاقب المسيء. ويسمى هذا البرهان في الفلسفة الإلهية ب (البرهان الإنّي).

وثالثة : يحصل من المواظبة على عبادة الله تعالى كما هو حقه وترك مخالفته ، ويشير إليه قوله تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [سورة الحجر ، الآية : ٩٩] ، فإن المراد باليقين إن كان هو اليقين بالآخرة فيدل على ما ذكرناه بالمطابقة وان كان المراد به الموت فيدل عليه بالملازمة. وسيأتي التفصيل في محله.

وأما اليقين الحاصل من غير هذه الطرق فإن طابق المتيقن به الشريعة الإسلامية فصحيح وإلّا فلا اعتبار به.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))

ما تقدم كان في بيان حال طائفة من النّاس وهم المتقون المؤمنون بالغيب ، والمؤمنون بالقرآن ، وبما أنزل من قبل وما يؤول إليه أمرهم من الفوز بالهداية والفلاح.

وفي هاتين الآيتين بيان حال طائفة أخرى وهم الكافرون المعاندون الذين كانوا لعنادهم وجحدهم للحق أنهم بلغوا أقصى مراتب الغواية والضلال فلا جدوى للهداية فيهم ولا يؤثر فيهم التبشير والإنذار فكان من نتيجة عملهم أن ختم الله على قلوبهم فلا استعداد لها للإيمان وكان لهم الخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة.

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا). الكفر : ستر الشيء وتغطيته ومنه سمي الليل كافرا لأنه يغطي كل شيء بسواده والكفر يستعمل في القرآن في مقابل الشكر قال تعالى : (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [سورة لقمان ، الآية : ١٢] ، وفي مقابل الإيمان قال تعالى : (وَقُلِ

٨٠