مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

الظلمات ، قال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥٧] وقوله تعالى : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) [سورة النور ، الآية : ٣٥] فالنور والصراط المستقيم لا يعقل التعدد فيه لأن مبدأه منه تعالى كما أن بقاءه به ومنتهاه إليه بخلاف الظلمات فإنها مختلفة حسب الإعتقادات والأهواء الباطلة قال تعالى : (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٦].

نعم المستفاد من مجموع الآيات والروايات أن الظلم والشرك من الشيطان فهما حقيقة واحدة لها مراتب كثيرة ومظاهر متفاوتة والاختلاف في التعبير دون الحقيقة وسيأتي تفصيل ذلك في بيان حقيقة الشيطان إن شاء الله تعالى.

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

قوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ). بيان للصراط المستقيم وإنما كرر لفظ «الصراط» ، لأهمية الموضوع وأنّ المطلوب ليس مجرد حدوث الهداية فقط بل بقاؤها وإبقاؤها ؛ وقد بيّن تعالى الصراط المستقيم بنفسه ، لأن صراطا يكون مبدؤه من الله تعالى ومنتهاه اليه كيف يمكن وصفه وبأي وجه يتحقق نعته؟!! فلا يقدر المخلوق أن يصفه إلّا بما وصفه الخالق بالقول الجامع في قوله : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) فمن يقدر أن يحد هذه النعمة العظمى التي هي أجلّ مواهب الله تعالى في الدنيا والآخرة وأعلى الكمالات الإنسانية في ما يرد عليه من العوالم كلها وأنّى للممكن المتناهي من كل جهة أن يحيط بحقيقة ما يكون كله منه تبارك وتعالى.

وعن جمع من اللغويين أن استعمال النعمة يختص بذوي العقول فلا يستعمل في غيرهم إلّا بالعناية وله وجه إن أريد منه أن الغاية من خلق النّعم هو الإنسان ، كما في قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [سورة

٤١

البقرة ، الآية : ٢٩]. وأما لو أريد ملاحظة الوسائط بعضها مع البعض فلا كلية له ، قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) [سورة لقمان ، الآية : ٣١].

وإنما اطلق لفظ النعمة في الآية المباركة ، ليفيد التعميم من كل جهة تتصور من النّعم الظاهرية والباطنية ، قال تعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) [سورة لقمان ، الآية : ٢٠].

كما بين تعالى بعض مصاديق نعمه في الآية المباركة : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) [سورة النساء ، الآية : ٦٩] فإنهم نعم مطلقا وان النّعم الواردة من المبدأ غير محدودة بحد خاص ، قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [سورة إبراهيم ، الآية : ٣٤].

ثم إنّ مادة (نعم) استعملت في القرآن العظيم بهيآت مختلفة كلها تشعر بالحنان والرأفة والعطف والرحمة قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ) [سورة الغاشية ، الآية : ٨] ، وقال تعالى : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ٤٧] ، وقال تعالى : (وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) [سورة الدخان ، الآية : ٢٧] إلى غير ذلك من الآيات المباركة الدالة على ما ذكرنا.

تلخيص ما تقدم في أمور :

الأول ـ لا ريب في أنّ تشريع الأديان السماوية وإنزال الكتب الإلهية وتكميل النفوس الإنسانية بل وتنظيم العالمين ـ الدنيا والآخرة ـ متقوّم بهدايته تبارك وتعالى ولكثرة أهمية ذلك صارت الهداية من شؤونه المختصة به ، قال تعالى : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) [سورة آل عمران ، الآية : ٧٣] وقال جل شأنه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [سورة القصص ، الآية : ٥٦] وكما تكون نفس الهداية من فعله تعالى كذلك تكون مراتبها وأقسامها لأنّه حكيم عليم بخصوصياتها ولكنّها في الإنسان بتوسط الإختيار دون غيره من سائر المخلوقات.

٤٢

ثم إنّ هذه الهداية ـ بالمعنى الذي تقدم ـ واجبة في النظام عقلا لأنّ في تركها إهمالا للنفوس المستعدة وتضييعا لها وهما قبيحان عقلا وكل قبيح ممتنع بالنسبة إليه جل شأنه.

وسبل الهداية بالنسبة إلى الله تعالى كثيرة فكل ما يسوق العبد اليه عزوجل يكون من مظاهر هدايته ومصاديقها فالقرآن من هدايته تعالى لعباده قال تعالى : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ٩٧] ، وقال تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٥]. وكذلك سائر الكتب السماوية ، قال تعالى : (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٦] ، وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٤]. وجعل الكعبة المشرفة أيضا من مظاهرها قال تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٩٦]. كما أن السنة الشريفة أيضا كذلك ، لأنها أحسن سبيل لتكميل النفوس الإنسانية.

الثاني ـ إنّ هدايته جل شأنه لعباده على أنواع :

الأول : عام يشمل الجميع قال تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [سورة الدهر ، الآية : ٣] ، وقال تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [سورة البلد ، الآية : ١٠]. ولا ريب في شمولها لجميع أفراد الإنسان كما يستفاد من الآيات المباركة المتقدمة.

الثاني : الهداية الخاصة وهي تخص بجمع بذلوا وسعهم في العمل بالشريعة المقدسة فزادهم الله تعالى بذلك أنحاء الهداية لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [سورة العنكبوت ، الآية : ٦٩] ، وقال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) [سورة السجدة ، الآية : ٢٤] ، وقال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [سورة الأنعام ، الآية : ٩٠] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

٤٣

الثالث : ما هو أخص من الثاني كما ورد في شأن رسوله وحبيبه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [سورة الإسراء ، الآية : ١] ، وقال تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [سورة الأنعام ، الآية : ٧٥]. وغير ذلك مما ورد في شأن أنبيائه الكرام وهذا مقام عظيم لا يليق لأحد إلّا لهؤلاء (صلوات الله عليهم أجمعين). ولكل من هذه الأنواع مراتب كثيرة أيضا.

(الثالث) : حيث إنّ منشأ الصراط المستقيم ـ بكلا معنييه ـ من علمه تعالى وإبداع حكمته التامة وإحاطته به من جميع الجهات فهو الأصل في الكمالات وينبعث منه سائر الكمالات في المخلوقات ، فيكون مبدؤه علمه تعالى وبقاؤه بديع حكمته جل شأنه ومنتهاه الخلود في جنته وفي مثل هذا الأمر ـ الذي لا يدرك عظمته ـ لا يتصور فيه نقص وينطوي فيه جميع المعارف الإلهية ، وما يتصور فيه من الاشتداد والضعف إنما هو من ناحية المتعلق ويأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء الله تعالى.

(الرابع) : تقدم أن الصراط هو الطريق المؤدي إلى المطلوب واستعمل في القرآن الكريم موصوفا بالاستقامة والإستواء غالبا ، وقد أضيف اليه تعالى بأنحاء الإضافة كقوله تعالى : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢٦] ، وقوله تعالى : (صِراطِ اللهِ) [سورة الشورى ، الآية : ٥٣] وقال الله تعالى : (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [سورة سبأ ، الآية : ٦].

ولم يضف الصراط الى غيره تعالى إلّا نادرا بخلاف السبيل فإنه أضيف إلى غيره تعالى كثيرا ، كما أنّه ذكر بلفظ المفرد والجمع ، قال تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٥٣] ، وقال تعالى : (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [سورة العنكبوت ، الآية : ٦٩].

والسبيل هو الطريق الموصل إلى الصراط واختلاف السبل لا يوجب الاختلاف في أصل الصراط ، فمثل الصراط المستقيم والسبل المؤدية إليه مثل البحر وما يتفرع عنه من الجداول فالبحر يفيض على الكل والكل

٤٤

مستفيض من البحر وكلها موصوفة بالاستقامة والرشاد وبإزائها الاعوجاج والانحراف والسبل المنحرفة المتفرقة هي سبل الشيطان كما تقدم.

(الخامس) : للصراط المستقيم مراتب من الوجود. (الأولى) : مرتبة البيان وإتمام الحجة وهي من الله تبارك وتعالى وأنبيائه العظام وأوصيائهم (عليهم‌السلام) ويدخل في ذلك جميع الشرايع الإلهية والرسالات السماوية. (الثانية) : مرتبة الاعتقاد. (الثالثة) : مرتبة العمل وهما من وظائف العبد إلّا أن الثاني أشقهما عليه (الرابعة) : مرتبة ظهوره في النشأة الآخرة ومن هذه المرتبة الصراط في يوم القيامة الذي لا بد من العبور عليه للوصول إلى محل الخلود.

فالعبور وضعي لا أن يكون تكليفيا ، إذ لا تكليف في يوم القيامة وان اختلف زمان العبور وكيفيته تبعا لاختلاف درجات العابرين ومعنوياتهم.

قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ). بيان للآية السابقة اهتماما بصراط المنعم عليهم واعتناء بشأنهم وأنه يباين طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين فالجملة الأولى وقعت في مقام المدح لعباد الرحمن والأخيرة كأنها وردت في مقام رجم الشيطان ومن تبعه.

والغضب : هو الشدة ، ورجل غضوب أي : شديد الخلق. وغضب الله تعالى عقابه دنيويا كان أو أخرويا أو هما معا ، كما أن رضاه ثوابه ، وهما من صفات الفعل لا من صفات الذات وتقدم بيان الفرق بينهما.

الضلال بمعنى التحير ويستلزمه الهلاك والغيبة عن المقصود الحقيقي والعقاب والهلاك متلازمان ، وإنما ذكرهما معا بيانا للمبدأ والأثر ، فالضلال مبدأ العقاب ومنشأ استحقاقه والعقاب مترتب على الضلال ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر) وإنما قدم الغضب والعقاب على الضلال إرشادا للإنسان بأن لا يرتكب ما يوجب غضب الله تعالى.

والغضب استعمل في القرآن مع اللعن ومع الرجس ومع العذاب كما في قوله تعالى : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) [سورة المائدة ، الآية : ٦٠] ، وقوله تعالى : (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) [سورة الأعراف ،

٤٥

الآية : ٧١] ، وقال تعالى : (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [سورة النحل ، الآية : ١٠٦] ، وقال تعالى : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ) [سورة الفتح ، الآية : ٦] بل ورد في مورد بعض المحرمات أيضا : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ) [سورة النساء ، الآية : ٩٣].

ويستفاد من ذلك كله شموله لكل من انحرف عن الصراط المستقيم بالكفر سواء كان مشركا أو غيره من أي ملة كان.

وأما الضلال فهو بمعنى التحير كما عرفت فيشمل مطلق الكفر أيضا ، قال تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) [سورة النساء ، الآية : ١٣٦] فتفسير الأول باليهود والثاني بالنصارى من باب التطبيق لا التخصيص حتّى أنه أطلق الضلال على مطلق العصيان أيضا قال تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٣٦].

بحوث المقام

بحث روائي :

وردت روايات كثيرة متفق عليها بين المسلمين في فضل فاتحة الكتاب ـ المسماة ب (السبع المثاني) ، و (أم الكتاب) أيضا ، كما في روايات كثيرة ـ ويكشف ذلك عن امتياز هذه السورة عن سائر السور فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «أن فاتحة الكتاب أفضل سورة أنزلها الله تعالى في كتابه وهي شفاء من كل داء إلّا الموت» ويحمل ذلك على الموت الحتمي الذي لا بداء فيه وإلّا فيمكن أن يكون شفاء عن الموت غير الحتمي أيضا لقول أبي عبد الله (عليه‌السلام): «إنها من كنوز العرش وانها لو قرئت على ميت سبعين مرة ثم ردت فيه الروح ما كان عجبا».

٤٦

أقول : لا يتصور محل أرقى من كنوز العرش الذي نزلت منه هذه السورة المباركة وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان العرش وما يتعلق به في الآيات المناسبة له. وعن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش» ، وعن علي (عليه‌السلام): «نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش».

وعن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «انه قال لجابر : ألا أعلّمك أفضل سورة أنزلها الله تعالى في كتابه؟ قال : بلى علمنيها فعلمه الحمد لله أم الكتاب ثم قال هي شفاء من كل داء».

أقول : الأم هي الأصل في كل شيء بحيث يتفرع منها الأشياء ، فأم الكتاب أي : أصل الكتاب.

كما أن أم القرى أصلها أيضا بحيث تفرعت عنها سائر القرى ، كما ورد في النصوص ، وسيأتي بيانها عند قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [سورة الشورى ، الآية : ٧] ، تكون الفاتحة كذلك ، لاشتمالها على كثير من معارف القرآن على نحو الإجمال ، كما سيأتي في البحث الدلالي.

وعن ابن عباس في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) قال هي : أم القرآن تثنى في كل صلاة.

أقول : سميت الفاتحة أما لأصالتها وتفرع سائر القرآن منها ، كما تقدم.

وأما تسميتها بالسبع المثاني فلما ورد عن الفريقين أنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «أعطيت الطول مكان التوراة ، وأعطيت المئين مكان الإنجيل ، وأعطيت المثاني مكان الزبور ، وفضلت بالمفصل سبع وستين سورة».

أقول : المراد من الطول من سورة البقرة إلى سورة التوبة ، والمئين هي السور التي تتضمن أكثر من مأة آية. والمثاني ـ التي هي جمع مثنى ـ مثل المعاني جمع معنى ـ أي : ما كرر فيه شيء ، وهي السور التي تقصر عن المئين ، أي : ما كانت على نحو مأة آية أو أقل ، وأما المفصل فهي السور التي

٤٧

تفصل بينها البسملة كثيرا وتقصر آياتها.

وفي ذلك أقوال أخر : (الأول) إنها سميت ب (المثاني) لتكررها في الصّلاة. (الثاني) : إنما سميت بذلك لنزولها مرتين مرة بمكة ، كما تقدم عن علي (عليه‌السلام) ، وأخرى بالمدينة ، لعظمة شأنها ، ونسب ذلك إلى مجاهد ، ولكن المشهور على خلافه ويقتضيه الإعتبار أيضا. (الثالث) : أنّ المثاني جميع القرآن وفاتحة الكتاب سبعة آيات من أعظم آيات القرآن ؛ قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [سورة الحجر ، الآية : ٨٧] ، ويشهد له ما تقدم في تفسير الآية المباركة عن ابن عباس.

ويصح أن يقال : إن المثاني من الأمور الإضافية ، كما عرفت وإطلاقها على فاتحة الكتاب بكل معنى يتصور بالنسبة إلى عنوان المثاني صحيح ؛ فهذه الأقوال من باب تطبيق الكلي على الفرد.

وقد روى الفريقان عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : قال : «قال الله عزوجل : قسّمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي ، فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ؛ إذا قال العبد : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال الله جلّ جلاله : بدأ عبدي باسمي وحق عليّ ان أتمم له أموره وأبارك له في أحواله ، فإذا قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، قال الله جلّ جلاله : حمدني عبدي ، وعلم أن النعم التي له من عندي وأنّ البلايا التي دفعت عنه بتطولي ، أشهدكم اني أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا ، وإذا قال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، قال الله جلّ جلاله : شهد لي عبدي أنّي الرحمن الرحيم أشهدكم لأوفّرن من رحمتي حظه ولأجزلنّ من عطائي نصيبه ، فإذا قال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، قال الله تعالى : أشهدكم كما اعترف بأني أنا المالك يوم الدين لاسهلنّ يوم الحساب حسابه ولأتقبلنّ حسناته ولأتجاوزنّ عن سيئاته فإذا قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ، قال الله عزوجل صدق عبدي إياي يعبد أشهدكم لأثيبنه على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي فإذا قال : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، قال الله تعالى : بي استعان عبدي

٤٨

وإليّ التجأ أشهدكم لأعيننه على أمره ولأغيثنه في شدائده ولآخذن بيده يوم نوائبه ، فإذا قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إلى آخر السورة قال الله عزوجل : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل وقد استجبت لعبدي وأعطيته ما أمل وآمنته مما منه وجل». وقريب منه عن ابن عباس عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أيضا.

أقول : هذه الرواية تكشف عن أهمية سورة الفاتحة بالنسبة إلى سائر آيات القرآن ، فإنه (أولا) : جعل عبده شريكا لنفسه في المخاطبة والمكالمة (وثانيا) : قسّم السورة بين نفسه جل شأنه وبين عبده نصفين. (وثالثا) : جعل على نفسه الوفاء بما جعله لعبده. (ورابعا) : إنها أوثق رابطة بين العابد والمعبود وتوجه كل منهما إلى الآخر. (وخامسا) : حنان خاص من المعبود الحقيقي إلى عابديه.

فهذه السورة المباركة ـ التي جعلها الله تعالى في صلاة المسلمين ـ هي كمرآة لجميع معارف القرآن بأخصر البيان.

وعن علي (عليه‌السلام) في تفسير الحمد لله : «إنّ الله عرّف عباده بعض نعمه عليهم جملا ، إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل ، لأنّها أكثر من أن تحصى أو تعرف فقال لهم : قولوا : الحمد لله على ما أنعم به علينا».

أقول : ويدل عليه قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [سورة النحل ، الآية : ١٨].

وعنه (عليه‌السلام) في تفسير رب العالمين : «مالك الجماعات من كل مخلوق من الجمادات والحيوانات وخالقهم وسائق أرزاقهم إليهم من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون يقلّب الحيوانات بقدرته ويغذوها من رزقه ويحوطها بكنفه ويدير كلا منها بمصلحته ، ويمسك الجمادات بقدرته ويمسك المتصل منها ان يتهافت ويمسك المتهافت منها أن يتلاصق ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه والأرض أن تنخسف إلّا بأمره.

أقول : الحديث ظاهر في عموم ربوبيته تعالى لجميع الموجودات بتمام شؤونها ، ويدل على ذلك ما تقدم في معنى الرب.

٤٩

وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في بيان مالك يوم الدين : «إنّ أكيس الكيّسين من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت وإنّ أحمق الحمقاء من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ، وأحمق النّاس من باع آخرته بدنياه ، وأحمق منه من باع آخرته بدنيا غيره». وفي معناه ورد كثير من الروايات ، وعنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا أو زنوها قبل أن توزنوا».

أقول : هذه الروايات المتواترة تدل على أهمية المعاد ووجوب كثرة الاهتمام به.

وعن علي (عليه‌السلام) في بيان (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) : «أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ما مضى من أيامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا».

أقول : والمراد من الإدامة تجدد مراتب الهداية بعد تحصيل كل سابق ، كما تقدم.

وعن الصادق (عليه‌السلام): يعني أرشدنا للزوم الطريق المؤدي الى محبتك والمبلغ الى جنتك والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب أو نأخذ بآرائنا فنهلك».

وعنه (عليه‌السلام) في الصراط : «هو الطريق الى معرفته عزوجل وهما صراطان : صراط في الدنيا وصراط في الآخرة. فأما الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة من عرفه في الدنيا واقتدى به مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة ، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه على الصراط في الآخرة فتردى في نار جهنم».

وعن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) فقال : «فاتحة الكتاب من كنز العرش فيها (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الآية التي تقول : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) ، (و (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) دعوى أهل الجنّة حين شكروا الله حسن الثواب. و (مالك يوم الدين). قال جبرائيل : ما قالها مسلم قط إلّا

٥٠

صدّقه الله وأهل سماواته (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إخلاص العبادة. (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أفضل ما طلب به العباد حوائجهم (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) صراط الأنبياء وهم الذين أنعم الله عليهم (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) اليهود (وَلَا الضَّالِّينَ) النصارى».

وعنه (عليه‌السلام) أيضا في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ). قال : «صراط محمد وأهل بيته».

وعن ابن عباس كذلك قال : «قولوا معاشر العباد أرشدنا إلى حب محمد وأهل بيته».

أقول : الأخبار في ذلك كثيرة عن الفريقين ، وهو تعبير عن الكلي بالفرد وبيان أحد المصاديق ومثل ذلك كثير في القرآن العظيم والسنة الشريفة.

بحث دلالي :

هذه السورة تتضمن أمورا ـ :

الأول : إثبات وحدة ذاته تعالى لأنّ لفظ الجلالة (الله) كما تقدم بمعنى الذات المسلوب عنها جميع النواقص الواقعية والإدراكية والشريك في الذات نقص بل من أخس أنحائه.

الثاني : إثبات وحدة فعله تعالى بذكر «رب العالمين» لأنّ العالمين بمعنى ما سواه وهو فاعل الكل ومربيه.

الثالث : إثبات وحدة المعبود بذكر (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

الرابع : المعاد الذي هو من أهم المعارف الإلهية والإعتقاد به بذكره تعالى (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).

الخامس : الإشارة إلى النبوات السماوية والشرايع الإلهية بذكر (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

٥١

فهذه السورة على اختصارها مشتملة على جميع المعارف الإلهية والمعتقدات الحقة المذكورة في الكتب السماوية ، ويدل على فضل هذه السورة وكمالها مضافا إلى ذلك أمور أخرى :

منها : حسن نظمها وجمالها فإنها ابتدأت بالبسملة ثم الحمد وبعده ثناء الله عزوجل بأتم الصفات ثم إظهار العبودية لله تعالى التي هي أعلى مقامات الإنسانية ، فالاستعانة منه جل شأنه لدفع المهالك وجلب المنافع ثم طلب الهداية منه تعالى إلى طريق الصلاح ، فقد تجلى الله سبحانه وتعالى في القرآن وتجلى القرآن في الفاتحة ولأجل ذلك استحقت السورة ان تسمى ب (أم الكتاب) لاحتوائها ـ على اختصارها ـ عامة ما يحويه القرآن من المعارف وهي من أهم جوامع الكلم التي فضل الله تعالى خاتم أنبيائه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بها وان شئت الظفر على بعض ما قلناه فانظر إلى ما يقرؤه أهل التوراة والإنجيل وسائر الأديان في صلواتهم تجد الفرق بينهما كبيرا.

ومنها : أنّها تبين أدب العبودية وتعلم العبد كيفية التكلم والمخاطبة معه جل شأنه ، والتلقين منه تبارك وتعالى دليل على القبول والاستجابة ، وقد روى الفريقان عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنه يقول : «قال الله عزوجل قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي». وقد تقدم في البحث الروائي.

ثم إنّ ابتداء هذه السورة بالحمد يدل على محبوبيته له تعالى وحسنه على كل حال سواء كان لذاته أو لفعله أو لصفاته. والظاهر من إضافة الحمد إلى الله تعالى أن الذات الأقدس ذات محمودة والذات المحمودة بالذات تستلزم محمودية الصفات ـ التي هي عين الذات ـ فما تعارف بين العلماء من أن الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري ـ كما تقدم ـ إنما هو بحسب الغالب المتعارف بين المخلوق بحسب إدراكهم والذات الأقدس خارج عن الاختيار ، والحمد على الذات الأقدس هو أعلى مراتب الحمد وعن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».

نعم ، لا بد وأن ينتهي الحمد إلى الذات الأقدس والا لتسلسل ، لأن إنشاء الحمد من الحامد نعمة منه تعالى فهو يحتاج الى حمد آخر وهكذا

٥٢

فيتسلسل ، وقال (عليه‌السلام) في الصحيفة السجادية : «وكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يحتاج إلى شكر فكل ما قلت لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول لك الحمد».

فمن لطائف القرآن ابتداؤه ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وآخر دعوى المخلدين في الجنّة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قال تعالى : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [سورة يونس ، الآية : ١٠] ، فترجع النهاية إلى البداية ، وعليه شواهد من الكتاب والسنة تأتي الإشارة إليها إن شاء الله تعالى.

بحث فقهي :

يظهر من الروايات المستفيضة بين الفريقين أنّ قوام الصّلاة بفاتحة الكتاب فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنّه : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» وقال : «كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج» الى غير ذلك من الروايات الكثيرة.

وأما التأمين بعد الفاتحة فيبحث فيه تارة ، بحسب الثبوت ، وأخرى : بحسب الإثبات.

أما الأول : إنّ الهداية إما أن تلحظ من حيث إضافتها إلى الله تعالى فهو الهادي فحينئذ لا رجحان لذكر آمين بعدها ، كما في جميع صفاته تعالى الفعلية ، وإما أن تلحظ من حيث اضافتها إلى العبد أي : طلب الهداية منه تعالى فكذلك أيضا لفرض حصول جميع مناشئ الهداية وأسبابها وموجبات إتمام الحجة منه عزوجل فقد حصل المطلوب خارجا فلا يعقل معنى صحيح للتأمين على ما وقع وحصل.

وإن كان المراد بها بحسب البقاء لا أصل الحدوث فإن أضيف البقاء إليه عزوجل فهي باقية لأنّ حجته تامة وباقية ببقاء الإنسان ولا وجه للتأمين عليه أيضا وإن أضيف الى العبد فهو من فعله ولا معنى لتأمين الشخص على فعله.

وإن أريد به أن يوفق الله عبده لإدامة الهداية لنفسه في المستقبل كما

٥٣

وفقه في الماضي ، فهو خروج عن ظاهر اللفظ بلا دليل.

وأما الثاني : فقد نسب إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بأسناد غير نقية قول : «آمين» بعد تمام الحمد. فالمقام مقام الحمد لله تعالى على هذه النعمة العظيمة من وقوف العبد بين يدي الله تعالى ومخاطبته معه جل شأنه ، ويرشد الى ذلك قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) [سورة الأعراف ، الآية : ٤٣] ، وقد ورد عن الصادق (عليه‌السلام): «إذا قال الامام ولا الضالين فقولوا الحمد لله رب العالمين».

ثم إنّه يجوز قصد الإنشاء بجملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) و (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ونحوها من الآيات الكريمة مع قصد القرآنية أيضا لأنّ المتكلم في مقام إيجاد مفاهيم هذه الألفاظ لفظا والبناء على العمل طبقها خارجا.

وقد أشكل عليه جمع من المفسرين بأنّه من استعمال اللفظ في معنيين ، وهو غير جائز. (وهو مردود) : لأنّ الاستعمال الممتنع على فرض امتناعه إنما هو في ما إذا كان المعنيان فردين مستقلين في الإرادة الاستعمالية كل منهما في عرض الآخر لا في ما إذا كان أحدهما استقلاليا والآخر تبعيا. وإلّا فهو واقع كثيرا في المحاورات الصحيحة ، والمقام من هذا القبيل فيقصد القارئ القرآنية استقلالا والإنشائية تبعا والمسألة أصولية تعرضنا لها في [تهذيب الأصول].

بحث فلسفي :

المعروف بين جمع من الفلاسفة لزوم السنخية بين العلة والمعلول ، فالمباين من كل جهة لا يمكن أن يصير علة للمباين كذلك كما أنّ المباين من كل جهة لا يصدر من المباين كذلك وبنوا عليه مباحث فلسفية وعرفانية.

ولكن ظاهر قوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) وغيره من الآيات المباركة

٥٤

ـ الكثيرة التي يأتي بيانها ـ ينفي ذلك فإنّ موجد العوالم ومربّيها لا سنخية بينه وبينها إذ لا سنخية بين الممكن بالذات والفقير المحض وبين الواجب بالذات والغني المطلق كذلك.

ودعوى : انّ السنخية في مفهوم الموجودية متحققة. (مردودة) : بأنّه لا علية ولا معلولية في المفاهيم وإنّما هما من شؤون الحقائق فما هو مشترك لا يتصور العلية والمعلولية فيه وما هو علة ومعلول لا يتحقق الاشتراك فيه ، وسيأتي تفصيل هذا البحث في الآيات المناسبة له إن شاء الله تعالى.

ولذا ذهب جمع من محققي فلاسفة المسلمين إلى أنّ السنخية إنما تصح في العلل الطبيعية ، كتوليد النّار للحرارة. وأما الفاعل المختار القدير فلا وجه لذلك فيه ، كما عرفت.

٥٥
٥٦

سورة البقرة

مدنية وهي مائتان وست وثمانون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

سميت هذه السورة المباركة ب (البقرة) لذكر قصتها في السورة وهي من أهم السّور القرآنية ففيها آيات من ذروة العرش بل من كنوزها ، ومن لباب المعارف الإلهية أسرارها ورموزها. وفيها أعظم آية في كتاب الله ، وأجمع آية للكمالات الإنسانية وآخر آية نزلت على صاحب النبوة وفيها شرعت جملة من أركان الدين وجعلت الكعبة المقدسة قبلة للأنام ومطافا لهم يأتونها من كل فج عميق.

وبالجملة كمال السورة إن كان لاشتمالها على المعارف الربوبية فهي في رأسها ، وإن كان لأجل اشتمالها على الأحكام التشريعية الفرعية فهي في مقدمتها ، وإن كان لأجل اشتمالها على القصص القرآنية فهي في طليعتها ، فحق أن تسمى سنام القرآن ، وسنام كل شيء ذروته وأعلاه.

التفسير

قوله تعالى : (الم) : المعروف بين المفسرين أنّ هذه الحروف

٥٧

المقطعة في أوائل السور القرآنية من المتشابهات ولا ريب في أنّ العلم بها مختص بالله تبارك وتعالى أو بمن علّمه عزوجل لأنّ هذه الكلمات المقطعة قد أعيت العلماء على جهدهم عن الوصول الى آثارها فضلا عن العلم بكيفية تركيبها والاطلاع على حقائقها وأسرارها.

والظاهر أنّ ذكر الحروف المقطعة في القرآن العظيم يشير إلى أهمية الحروف الهجائية وكثرة عناية الله عزوجل بها لأنّها محور الشرايع السماوية والكتب الإلهية بل بها تقوم الحياة الاجتماعية في الإنسان ، ولأجل ذلك جعل تعالى البيان [أي النطق بها] في قبال خلق الإنسان فقال تبارك وتعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [سورة الرحمن ، الآية : ٤]. وعلى هذا يمكن أن يكون «ذلك الكتاب» مبتدءا مؤخرا و «الم» خبرا مقدما.

يعني : أنّ ذلك الكتاب العظيم هو هذه الحروف الهجائية التي تنطقون بها ولكنه بحسب النظم والجمال والكمال والمعارف شيء خارج عن مقدوركم ، ويكون من عالم الغيب وقد ظهر إلى عالم الشهادة مقرونا بالتحدي والتعجيز وإتماما للحجة ، فكما أتم الله الحجّة عليهم بمن هو من أنفسهم أتمّ الحجّة عليهم أيضا بما هو من ألفاظهم.

ثم إنّ الحروف المقطعة في أوائل السور أسماء باتفاق أئمة أهل اللغة وليست بحروف وهي تقرأ مقطعة بذكر أسمائها لا مسمياتها فيقال : ألف ـ لام ـ ميم ـ ساكنة الأواخر والسور التي فيها هذه الكلمات المقطعة تسع وعشرون سورة وأصل الحروف الهجائية أيضا كذلك بناء على عد الهمزة حرفا مستقلا.

وأما بناء على عدها مع الألف واحدة فثمان وعشرون ، وجميع الأحرف المقطعة بعد حذف المكررات نصف الحروف الهجائية ، وإنّما ذكر تبارك وتعالى نصفها استغناء بذلك عن الجميع وهذا من جهات البلاغة أيضا.

ولا ريب في أنّ هذه الحروف ليست من المهملات بل هي مستعملة في معان اختلف في فهم المراد منها ، وقد تعددت أقوال المفسرين في ذلك ربما تبلغ إلى عشرة أو أكثر :

٥٨

منها : أنّ المراد بها الإشارة إلى حساب الجمل الذي كان متداولا في العصور القديمة فاستخرجوا منها جملة من الحوادث ومنها مدة حياة هذه الأمة ، واستند بعضهم إلى حديث أبي لبيد المخزومي. وأصل هذا التفسير باطل لا دليل عليه من عقل أو نقل والحديث ضعيف ودلالته مخدوشة والحساب الواقع فيه غلط على كل تقدير فلا يمكن الاعتماد عليه.

ومنها : ما عن جمع من مفسري الصوفيّة تفسيرها بالقطب والولي والأوتاد وغاية ما ادعوه في إثبات ذلك الكشف والشهود.

ولكن التفسير بذلك باطل أيضا ، ولا دليل عليه وما ادعوه من الكشف مردود لا مجرى له في القرآن الكريم والسّنة الشريفة والأحكام الإلهية ونصوصنا به متواترة.

ومنها : إنّها إشارة إلى إعجاز القرآن فإنّ ما يستعمل في التكلم والتخاطب إنما هو المركبات دون المقطعات ومع ذلك فإن في هذه المقطعات لطافة لا تكون في غيرها وحلاوة لا توجد في ما سواها فإعجازها في الفصاحة والبلاغة نحو إعجاز خاص إلى غير ذلك من الوجوه التي يمكن إرجاعها الى الحكم والفوائد المتصورة كما ستعرف وإلّا فلا يمكن القول بأنها معان لها.

والحق أنّها بحسب المعنى من المتشابهات التي استأثر الله تعالى علمها لنفسه ، كما تقدم. فلا يلزم على العباد الفحص عن حقيقتها وبذل الجهد في دركها وفهمها ، بل لا بد من إيكال الأمر إليه تعالى ، وقد وردت في ذلك روايات كثيرة عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة الهداة (عليهم‌السلام). نعم يمكن أن يلتمس لتلك الحروف حكم وفوائد :

منها : أنّ استعمال الرموز بالحروف المقطعة كان شايعا عند العرب ، وقد يعد ذلك من علم المتكلم وحكمته ، والقرآن الكريم لم يتعدّ عن هذا المألوف فأشار بذكرها إلى أنّ القرآن الكريم هو من هذه الحروف وجامع لما هو المتعارف لديكم ، ومع ذلك فقد أبدع إبداعا عجزت العقول من جمال لفظه فضلا عن كمال معناه.

ومنها : أنّها ذكرت لأجل جلب استماع المخاطبين فإنّهم إذا سمعوها

٥٩

تهيئوا لاستماع البقية ، فهي تشويق وتنبيه لاستعداد تفهم شيء جديد.

ومنها : إرشاد النّاس الى أنّ وراء كل ظاهر باطن فلا يكتفى بالجمود على الظاهر ، بل لا بد من التأمل في بطون الكلمات القرآنية لأنّ في كل كلمة من كلمات القرآن بانفرادها دقيقة ، كما أنّ في سائر جهاتها دقائق ولطائف.

ومنها : أنّها تشير إلى بعض الحقائق ورموز الى بعض العلوم التي سترها الله تعالى عن العباد لما رآه من المصالح حتّى يظهر أهلها فيستفيد منها وتكون لغيره من مخفيات الكنوز فلها ربط بعلم الحروف.

ومقتضى الأخبار الكثيرة أنّ عند الأئمة الهداة شيء كثير منه وهو مما اختصهم الله تعالى به فعلم فواتح السور من الأسرار المودعة لدى الإمام (عليه‌السلام) ، ويرشد إلى ذلك ما يستفاد من مواظبة الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) في حالاتهم الانقطاعية مع الله تعالى وتوسلهم اليه عزوجل بفواتح السور ، وأنّ لها شأنا من الشأن ومنزلة عظيمة عند الله تعالى. وهذه قرينة معتبرة على سقوط كثير من احتمالات المفسرين وبذلك تخرج عن التشابه المطلق لأنّ ما ذكره الأئمة الهداة انما كان من الإفاضات الربوبية عليهم.

قوله تعالى (ذلِكَ الْكِتابُ) : فسر الأدباء «ذلك» للإشارة إلى البعيد ـ ذهنيا كان أو خارجيا ، حسيا كان أو عقليا ـ وأنّ موارد استعمالاته في القريب إنّما تكون بالعناية ، كقوله تعالى : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) [سورة يوسف ، الآية : ٣٢] وقوله تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٠٢] والمراد بالأولى بعد جمال يوسف (عليه‌السلام) عن كل ما يتصورون فيه وبالثانية بعد حقيقته تعالى عن إحاطة العقول بها مطلقا.

وفيه : أنّ كل ذلك تكلّف مستغنى عنه فإن أرادوا الحقيقة والمجاز يعني أنّ استعمال «ذلك» في البعيد حقيقة وفي غيره مجاز أو أنه من تعدد الوضع فالأصل ينفي كلا منهما ؛ وإن أرادوا به مجرّد الاستحسان فهو مخالف للقاعدة التي أسسوها من أن اللغة لا تثبت بالاستحسان.

وحينئذ فإن قالوا بأنّ الموضوع له في أسماء الإشارة عام فهي كأسماء الأجناس لا فرق فيها بين القريب والبعيد والتفرقة بينهما ساقطة. وإن قالوا بأنّه

٦٠