مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

و «ثمّ» تستعمل في المحل البعيد سواء كان بعيدا عن العقول والأفكار ، أو بعيدا مكانيا ، ويدل على الأول قول الصادق (عليه‌السلام): «من تعاطى ثمّ هلك» حيث يدل على خطر التفكير في ذات الله تعالى ، وعلى الثاني قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) [سورة الإنسان ، الآية : ٢٠] وكذا المقام.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ). متعلق وسع يصح أن يكون كل ما يضاف إليه عزوجل من ملكه ، وعلمه ، وحكمته ، وقدرته وإحاطته وتدبيره ، قال تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥٥] ، وقال تعالى : (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) [سورة الأنعام ، الآية : ٨٠] ، وقال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٥٦] ، وقد ذكر (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) في عدة آيات ، ولعل هذا التعبير في الآيات المباركة عبارة عن عدم التناهي في جميع صفات كماله وجماله كما أثبته الفلاسفة المتألهون. أي : ان الله تعالى واسع في رحمته ولطفه بالمتوجه إليه في عبادته.

ومفاد الآية المباركة قاعدة كلية وهي أنّ الله تعالى لا يختص بمكان ولا تخصه جهة خاصة وهو منزه عن أي جهة ومكان ، فهو واسع لا يحده مكان إلّا أن حكمته المتعالية اقتضت لمصالح أن يخص بعض الأمكنة بالاستقبال في موارد خاصة في الشريعة المقدسة وفي غيرها يرجع إلى عموم هذه الآية الشريفة ، فما ورد في تفسير الآية المباركة أنها نزلت في صلاة النافلة إنما هو من باب التطبيق ، ومما يدل على ذلك ذيل الآية الشريفة ، فإن سياقها يدل على توسيع موضوع التوجه اليه عزوجل ، وأنه غير محدود بحد ، أو مكان خاص بل المناط كله هو التوجه إليه تعالى وأما سائر الخصوصيات ـ من المكان والزمان ونحوهما ـ فهي مطلوب آخر ربما يسقط لعذر أو ضرورة ويظهر من ذلك وجه ارتباطها بالآية السابقة ، فإنه تعالى بعد أن ذم من منع المساجد أن يذكر فيها اسمه ذكر تعالى أنه لا يحده مكان وجهة خاصة.

٤٠١

بحث روائي :

عن القمي في قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) إنما نزلت في قريش حين منعوا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «دخول مكة» ورواه في المجمع عن الصادق (عليه‌السلام).

أقول : هذا الحديث مما يدل على إطلاق المسجد على مكة كما في قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) [سورة الإسراء ، الآية : ١] مع الاتفاق على أن المعراج كان من بيت أم هاني. والظاهر أنه من باب التطبيق لا التخصيص.

وفي المجمع عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليهم‌السلام) في قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) قال : «إنه أراد جميع الأرض ، لقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : جعلت لي الأرض مسجدا ، وترابها طهورا».

أقول : هذا تنزيل صحيح ، لأن كل من منع من طاعة الله تعالى وعبادته بأي وجه كان يدخل في حكم الآية وإن لم يكن داخلا في منطوقها.

وعن ابن عباس ومجاهد في الآية المتقدمة أنها «نزلت في الروم لأنهم غزوا بيت المقدس وسعوا في خرابها حتّى كانت أيام عمر فأظهر الله عليهم المسلمين ، وصاروا لا يدخلونها إلّا خائفين».

أقول : إن صح الحديث يكون من أحد موارد التطبيق.

وعن قتادة والسدي إنها نزلت في بختنصّر وأصحابه «غزوا اليهود وخربوا بيت المقدس وأعانتهم على ذلك النصارى من أهل الروم».

أقول : على فرض صحة السند يكون متنه مخالفا لما هو المعلوم من التواريخ من تأخر النصارى عن بختنصر بقرون عديدة ، فلا يمكن الاعتماد على مثل هذه الأحاديث.

وعن القمي عن موسى بن جعفر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) «أنها نزلت في صلاة النافلة

٤٠٢

تصليها حيث توجهت إذا كنت في سفر. وأما الفرائض فقوله تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) يعني الفرائض لا يصليها إلّا إلى القبلة».

أقول : صدر الحديث ورد في بيان بعض المصاديق ، كما سيأتي في البحث الفقهي ، وأما ذيل الحديث فهو في صلاة الفريضة في حال الإختيار ، وأما حال الاضطرار والتحيّر فلها أحكام خاصة مذكورة في الفقه ، فلا وجه لاحتمال الناسخية والمنسوخية بين هذه الآية المباركة وقوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٠] ، لاختلاف موردهما بالنصوص المستفيضة ، بل المتواترة التي هي شارحة للقرآن.

وفي الدر المنثور عن مجاهد لما نزلت (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [سورة غافر ، الآية : ٦٠]. قالوا : إلى أين؟ فأنزلت : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ).

أقول : هذا أيضا من أحد موارد التطبيق.

وعن الواحدي عن ابن عباس : «هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)».

أقول : تقدم أنه لا وجه لاحتمال النسخ ، لاختلاف المورد فلا بد من طرح هذا الخبر.

بحث فقهي :

قد يستدل بقوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) على عدم جواز دخول الكفار والمشركين في المساجد بتقريب أنه إذا استولى عليها المسلمون وحصلت تحت سلطانهم فلا يمكّنون الكافر حينئذ من دخولها.

والصحيح أنّ الآية الشريفة لوحدها لا تدل على ذلك إلّا بضميمة

٤٠٣

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [سورة التوبة ، الآية : ٢٨] وقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «ألا لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفنّ بالبيت عريان» بعد الإجماع على عدم الفرق بين المشرك وغيره من الكافرين وكذا سائر المساجد من هذه الجهة كما يأتي في قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [سورة الأعراف ، الآية : ٣١].

ثم إنّه قد يتمسك بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) على جواز التوجه إلى غير القبلة في عدة موارد وقد ذكرنا ان ذلك من باب التطبيق ، وهي :

الأول : جواز صلاة النافلة على الدابة أينما توجهت ، كما في صحيح حريز عن أبي جعفر (عليه‌السلام): «أنزل الله هذه الآية (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) في التطوع خاصة ، وصلّى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إيماء على راحلته أينما توجهت به ، حيث خرج إلى خيبر وحين رجع من مكة وجعل الكعبة خلف ظهره». وروى مسلم عن ابن عمر : «كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه» ورواه في الدر المنثور عن جماعة.

الثاني : صحة صلاة الخوف والتحير ، كما روى زرارة عن الصادق (عليه‌السلام): «لا يدور إلى القبلة» وروى الترمذي عن ابن ربيعة : «كنّا مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة ؛ فصلّى كل رجل منّا على حياله ، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فنزلت : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ).

الثالث : جواز سجود التلاوة لغير القبلة ، رواه الصدوق في العلل عن الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام): «يسجد حيث توجهت دابته».

الرابع : عدم قضاء صلاة الفريضة إذا صليت خطأ لغير القبلة فقد روى في الفقيه عن الصادق (عليه‌السلام) ، وتمسك الجمهور برواية ابن ربيعة المتقدمة ، وفيه تفصيل ذكرناه في الفقه.

٤٠٤

وهناك موارد أخرى تعرضنا لها في كتابنا (مهذب الأحكام) ومن شاء فليرجع اليه.

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧))

ذكر سبحانه وتعالى من قبائح عقائدهم ومساويها حيث نسبوا الولد إليه تعالى وردّ الله عزوجل عليهم متدرّجا بحسب فهم المخاطبين فحكم أولا أنه غني مطلق لا يحتاج إلى شيء من خلقه ، وثانيا أن خلقه خاضع لإرادته ، وثالثا أنه خلق الخلق من غير مثال ، فلا يعقل نسبة الولد اليه.

التفسير

قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً). الاتخاذ من الأخذ ، وضمّن هنا معنى الجعل والإحداث نظير قوله تعالى : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٨] والقائل بذلك اليهود والنصارى وبعض مشركي العرب كما حكى الله تعالى عنهم في كتابه المجيد ، قال تعالى : (قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٠] ، وقال تعالى : (قالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [سورة المائدة ، الآية : ١٨] ، وقال تعالى : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٠٠] ، بل قد صدر عن غيرهم من أصحاب الديانات ، حيث جعلوا زعماء ديانتهم أبناء الله تعالى مولودين منه سبحانه وتعالى ، وذلك لأنهم يرون أن ذلك كمال لمن يعظمونه ، وهذا من غاية جهلهم حيث يزعمون أن كل ما يكون كمالا لهم يكون كمالا لله تعالى ، كما قال علي (عليه‌السلام) : «ولعل نمل الصفا يزعم أن لله زبانيتين».

قوله تعالى : (سُبْحانَهُ). من التسبيح وهو التنزيه المشوب بالعظمة والتعجب ، قولا ، وفعلا ، قلبا وتسخيرا ، قال تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ

٤٠٥

السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٤]. وسبحان مصدر كغفران لا يستعمل إلّا مضافا فإن أصله «سبحته سبحانا» فحذف الفعل وأضيف المصدر إلى ضمير المفعول وقام مقامه. ويستعمل في تنزيهه عن جميع ما لا يليق به عزوجل ، فيجتمع فيه جميع الصفات السلبية.

قوله تعالى : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). شروع في الرد عليهم فحكم بأنه غني لا يحتاج إلى أحد ، وأنّ كل ما في السموات والأرض مملوك له بالإيجاد والاختراع ، ومن كان كذلك لا يتصور الولد بالنسبة اليه. هذا إذا كان المراد بالولد معناه اللغوي العرفي أي النسبي ، منه ، وأما إذا كان المراد الاتخاذي منه ـ كما هو الظاهر من لفظ الاتخاذ في جملة من الآيات المباركة المشتملة على عنوان (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [سورة يونس ، الآية : ٦٨] ، وقال تعالى : (وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٠] فيكون مثل قوله تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) [سورة النساء ، الآية : ١٢٥] ، ونظير قوله تعالى : (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [سورة المجادلة ، الآية : ٢٢] ـ فيمكن أن تصح النسبة حينئذ ، إذ يكفي فيها أدنى مناسبة فضلا عن أعلاها. وهو باطل أيضا لأن مناط اتخاذ الولد الحاجة وهو تعالى منزه عنها ، لأنه الكمال الأتم والغني المطلق فلا يعقل الاحتياج بالنسبة إليه ، وهذا الوجه يجري في القسم الأول أيضا ، مضافا إلى ما سيذكره سبحانه وتعالى في ما بعد.

قوله تعالى : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ). القنوت بمعنى الدعاء والعبادة والخضوع ومرجع الكل إلى الأخير. ولكن للخضوع مظاهر مختلفة أي : ان الكل خاضع لإرادته ومنقاد لسلطانه ، وذلك ينافي أن يتخذ ولدا ، لأن المعبودية المطلقة مناط للاستغناء المطلق وولادة شيء من شيء مناط الاحتياج ، وهما لا يجتمعان ، فجميع ما سواه تعالى يشهد له بتنزهه عن الولد ، قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٤].

٤٠٦

قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). بديع مبالغة في الإبداع ، وهو إيجاد الشيء بصورة مخترعة بلا مادة ، ولا آلة ، ولا مكان ولا سبق مثال وهو مختص به عزوجل. وبالنسبة إلى غيره فهو مطلق إحداث الشيء من غير سبق الوجود ، فإن كان في الدين فهو البدعة المحرمة ، لقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة سبيلها إلى النّار».

ثم إنّ بداعته تعالى وكونه بديع السموات والأرض لا يختص بنوع دون نوع ، بل يشمل جميع الموجودات بأقسام جواهرها ـ من الأنواع والأصناف ـ وأنواع أعراضها وأوصافها ، ففي كل ذات من الذوات له تعالى بدائع كثيرة في أصل ذاته ، وعوارضها المحفوفة بها التي ربما لا تحصى بعد ، ولا حصر لذلك ، فيرجع هذا الاسم فيه عزوجل إلى ربوبيته العظمى المطلقة في كل ذرات الوجودات ، وكلياتها وأجزائها وجزئياتها.

وجملة : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لم تذكر في القرآن إلّا في موردين ، وكلاهما في نفي الولد عنه سبحانه وتعالى ، أحدهما هنا ، والثاني قوله تعالى ؛ (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٠١] ، وهو برهان متين جدا ، فإنه من كان مبدعا للسموات والأرض وخالقا لهما وموجدا لجميع ما فيهما يمتنع انتساب الولد اليه ، إذ لم يوجد من مخلوقاته مجانس له حتّى ينسب إليه تعالى.

قوله تعالى : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). مادة (ق ض ي) قد ذكر لهما معان ، أنهاها بعض اللغويين إلى عشرة ، وتبعهم بعض المفسرين. ويمكن إرجاع بعضها إلى بعض ، وقد خلط فيها بين الموضوع له والمستعمل فيه ، بل خلط بين دواعي الاستعمال وتعدد المستعمل فيه ، ولعل المعنى الواحد الساري في الجميع : الفعل ، بالمعنى العام الشامل للحتم ، والحكم ونحوهما ، فقضاؤه حكم وحتم وفعل ، هذا بالنسبة إلى مطلق القضاء الذي هو من فعل الله تعالى. وأما ما هو في مقابل

٤٠٧

القدر ، فقال الصادق (عليه‌السلام): «لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع : بمشيئة ، وإرادة ، وقدر ، وقضاء ، وإذن ، وكتاب ، وأجل. فمن زعم أنه يقدر على نقض واحدة فقد كفر».

أقول : هذه كلها من فعل الله تعالى ومطابقة للبراهين العقلية كما سيأتي التفصيل في محله إن شاء الله تعالى.

والأمر : الشيء كما قال تعالى : (إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس ، الآية : ٨٢] وجملة (كُنْ فَيَكُونُ) تامة لا تحتاج إلى الخبر ، وهي كناية عن إرادته تعالى والمراد بالأمر «كن» هو الإيجاد ، ولا تعبير أليق من هذا التعبير الذي يكون أقرب إلى الفهم ، وإلّا فليس في البين صوت يقرع ، ولا نداء يسمع ، بل كلامه تعالى عين إرادته وإرادته عين فعله. والسر في هذا التعبير ـ المعبر عنه في الاصطلاح بالأمر التكويني ـ هو إعلام النّاس نهاية السرعة في الخلق ، وعدم انفكاك المعلول عن العلة التامة من دون تقدم وتأخر ، لا زماني ـ لأن إرادته فعله ـ ولا رتبي إلّا في فرض العقل. وقوله تعالى : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ليس من القضايا التعليقية المحضة ، بل هي من القضايا التي سيقت لبيان تحقق الموضوع ، كقوله «الشمس طالعة فالنهار موجود» فتكون قضية «إذا طلعت الشمس فالنهار موجود» بيانا للقضية الأولى.

وأشار سبحانه في هذه الآية المباركة إلى كفاية الأمر في تحقق شيء ، وأنه إذا أراد شيئا يوجد ذلك الشيء من دون تهيئة مقدمات ، وتسبيب أسباب فالأشياء طوع إرادته ، فالتوالد محال من جانبه.

ثم إنّه قد وقع قوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ) بعد القضاء تارة قال تعالى : (سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة مريم ، الآية : ٣٥] ، وبعد الإرادة أخرى ، قال تعالى : (إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس ، الآية : ٨٢] ، والمراد بالقضاء هو القضاء المبرم ، والإرادة هو الفعل. كما أن المراد بالأمر (كن) هو الإيجاد ، كما مر هذا في غير الأمور التي جرت عادته تعالى فيها على تهيئة الأسباب وتقديم

٤٠٨

المقدمات التي بينها التقدم والتأخر الزماني ، والسبق واللحوق الذاتي ، كنفس الزمان وما يكون مثله في الحصول التدريجي ، إذ كل آن من الزمان الذي هو بين العدمين مورد إرادته تعالى ، ومورد قوله (كُنْ فَيَكُونُ) وكذا جميع الممكنات من المتدرجات وغيرها ، بناء على ما هو الحق من أن مناط الحاجة هو الإمكان لا الحدوث ، ففي كل آن له تعالى شأن جديد ، وفعل حادث في جميع مخلوقاته ، فلا يشغله شأن عن شأن بل شؤونه غير متناهية بالنسبة إلى خلقه.

بحث روائي :

في الكافي عن هشام الجواليقي : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن قول سبحان الله ما يعني به؟ قال (عليه‌السلام) تنزيهه».

أقول : أي تنزيهه عن كل ما لا يليق به ، وهذا هو معناه العرفي واللغوي أيضا.

وفي الكافي وبصائر الدرجات عن سدير عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، قال (عليه‌السلام): «إن الله ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله فابتدع السموات والأرضين ولم يكن قبلهنّ سموات ولا أرضون ، أما تسمع لقوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ).

أقول : يمكن أن يكون الاستدلال كناية عن أنه إذا لم يكن ثمّ شيء غير الماء فلا شيء حتّى يوجد الأشياء على مثاله ، مع أن الماء لم يعلم أن المراد به هو الماء الجسم الخارجي ، أو أنه كناية عن إظهار ملكه وسعة رحمته بالماء الذي هو مادة الحياة فيعم المجردات ، وسيأتي تتمة الكلام عند ذكر الآية الشريفة.

وفي الكافي والتوحيد عن صفوان بن يحيى : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق؟ قال (عليه‌السلام) : الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل. وأما

٤٠٩

من الله تعالى فإرادته للفعل إحداثه لا غير ذلك ، لأنه لا يروي ، ولا يهتم ، ولا يتفكر ، وهذه الصفات منفية عنه وهي من صفات الخلق ، فإرادة الله تعالى هي الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ ، ولا نطق بلسان ، ولا همهمة ، ولا تفكر ، ولا كيف لذلك ، كما أنه لا كيف له».

أقول : الروايات في بيان أن الإرادة فيه تعالى صفة الفعل كثيرة جدا. كما أن الفرق بين صفة الفعل ، وصفة الذات واضح وقد أشرنا إلى ذلك في سورة الحمد.

وأما قوله (عليه‌السلام) «بلا لفظ ولا نطق ـ إلخ» فهو كناية عن نهاية السرعة في الخلق والإيجاد كما ورد في رواية أخرى : «كن منه تعالى صنع وما يكون منه هو المصنوع».

بحث كلامي :

اتفق المتكلمون على عدم المجانسة بين الله تعالى وبين مخلوقاته واستدلوا عليه بأدلة كثيرة منها قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وكما وردت فيه روايات متواترة عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) ، وهو المستفاد من أقوال أكابر محققي الفلاسفة الإلهيين. وخلاصة ما ذكروه في ذلك يرجع إلى ما ورد عن علي (عليه‌السلام): «بائن عن خلقه بينونة صفة لا بينونة عزلة» ولا يصح أن ينسب إليهم القول بالسنخية والمجانسة ، فإنه لا يمكن أن يلتزموا بلوازمها ، مع جلالة مقامهم ، وقد تقدم بعض الكلام في آخر سورة الحمد. وعلى هذا فينتفي موضوع الولد له تعالى رأسا ، لأنّه مستلزم للسنخية والمجانسة ، وهي ممتنعة بالنسبة إليه.

فالآية المباركة تدل على امتناع المدّعى بوجوه :

الأول : قوله تعالى : (سُبْحانَهُ) فإنه دليل إجمالي على تنزهه عن جميع ما لا يليق به ، فإنه أحدي الذات ، واحدي الصفات ليس كمثله شيء. كما ورد في سورة الإخلاص ، فقد روي أنه جاء نفر من اليهود إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقالوا : «انسب لنا ربك؟ فأنزل الله

٤١٠

تعالى سورة الإخلاص».

الثاني : قوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنه يدل على أن مناط اتخاذ الولد هو الحاجة وبعد كون ما سواه ملكا له كيف يعقل الحاجة بالنسبة إليه تعالى حتّى يتخذ ولدا؟!! الثالث : قوله تعالى : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي خاضعون لربوبيته وعظمته ولا يعقل نسبة الولد اليه مع شهادة ما سواه على تنزيهه ، قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٤].

الرابع : قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهذا دليل تفصيلي على نفي المدعى ، بيانه : أنه تعالى مبدع الخلق ومبدؤه بلا سبق مثال ونظير ، ولا احتياج الى روية وتفكير ، ولا تعب ، ولا لغوب فهو مستغن عن الغير ، فلا يحتاج إلى الولد.

الخامس : قوله تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) دليل آخر تفصيلي لنفي الولد شرحه في قوله تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٠١] ، وذلك لأن الولدية بحسب نظام التكوين تتوقف على صاحبة وجرت سنة الله تعالى في خلقه على هذا النظام ، فإذا لم تكن له صاحبة كيف يعقل الولد له عزوجل ، فجميع هذه الآية المباركة متدرجة على حسب فهم المخاطبين.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ

٤١١

عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣))

أورد سبحانه وتعالى في ما تقدم من الآيات المباركة بعض شبه الكافرين والمنكرين لوحدانيته وقدرته تعالى ، وأقام الحجة على بطلان دعاويهم. وفي هذه الآيات المباركة يذكر سبحانه المنكرين لنبوة رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) غرورا ، وعنادا ، ويقيم الحجة عليهم ، فذكر أولا من أنكر نبوته بكثرة السؤال عنادا واستخفافا بدين الله تعالى ، ثم وجّه الكلام إلى الكفار فأمرهم بالإيمان وان هدى الله أحق ان يتبع وذكر أن طائفة منهم يرجى الإيمان منهم وهم الذين يتلون الكتاب حق تلاوته ، تسلية لنبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثم ذكّرهم بنعمه وما يترتب على أفعالهم في يوم الآخرة.

التفسير

قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ). لو لا كلمة تستعمل على وجهين :

أحدهما : امتناع الشيء لأجل الغير مثل قوله تعالى : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) [سورة سبأ ، الآية : ٣١] ويلزمه حذف الخبر ، لقيام الجواب مقامه.

الثاني : بمعنى «هلا» للعرض والطلب ، ويتعقبه الفعل كقوله تعالى : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) [سورة طه ، الآية : ١٣٤] ، والفارق بينهما القرائن المحفوفة بالكلام ، وفي المقام تأتي بالمعنى الأخير. والمراد من الذين لا يعلمون هم الذين لا يعلمون حكمة الله تعالى ، ولا يقرون بنبوة نبيّه مع دلالة الآيات الظاهرة لهم سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين.

ولعل التعبير بنفي العلم ، وعدم إثبات الجهل لهم مماشاة معهم لئلا ينفروا عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا سيما أن جمعا من القائلين

٤١٢

كانوا من رؤساء القوم وكبرائهم.

والمعنى : هلا يكلمنا الله تعالى كما يكلم رسوله أو ينزل علينا الآيات الخاصة التي اقترحناها كما حكاها عنهم في قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [سورة الإسراء ، الآية : ٩٠] ولم يكن ذلك منهم إلّا للعناد والجحود ، فإن في ما أنزل الله تعالى على نبيه دلالات واضحة ، ومعجزات باهرة.

قوله تعالى : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) أي : أن مثل هذه الاقتراحات الفاسدة قالها الذين من قبلهم في الأمم الماضية فقد اقترح اليهود والنصارى على أنبياء الله تعالى الآيات عتوا واستكبارا. وقد حكى تعالى جملة منها في ما تقدم من الآيات.

قوله تعالى : (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ). التشابه هو التماثل أي : أن قلوبهم تماثلت في الضلال والكفر والجهل فإن الجهل وعدم العلم حقيقة واحدة وإن اختلفت مظاهرها ، فإنهم جميعا يتشابهون في مكابرة الحق وإيذاء أنبياء الله تعالى.

قوله تعالى : (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). اليقين أخص من مطلق العلم ، يقال : علم اليقين ، وحق اليقين ، وعين اليقين ، وفي الحديث : «لم يقسّم الله شيئا بين الناس أقل من اليقين» ويأتي الفرق بينهما بعد ذلك ، والمراد به من يطلب العلم واليقين مما يوجبه من الآيات ولديهم الاستعداد لذلك.

والمعنى : إنّا أظهرنا الآيات مع رسولنا بدلالات واضحة وكافية بما لا يدع مجالا للشك والريب إلّا من كان من أهل الأهواء والعناد والضلال. وقد أعرض سبحانه وتعالى عن جوابهم إما لأجل أنهم ليسوا من أهل العلم والمعرفة ، أو لأجل أن سؤالهم لا يليق بالجواب. ولو فرض أن الآيات جرت على حسب أهوائهم ومقترحاتهم ، فإنه مضافا إلى كون بعضها من المستحيلات عقلا كسؤال رؤية الله تعالى ونزوله جل شأنه لصارت أمورا عادية ليس فيها أي دلالة على المعجزة والحجية ، فلا بد من مراعاة النظام

٤١٣

الأحسن والتدبير الأتم الأكمل في كل عصر بالنسبة إلى جميع أفراد الإنسان بما يوافق الحكمة البالغة كما أشار اليه سبحانه وتعالى في الآية التالية.

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً). البشير المخبر بالخير وتستعمل المادة في الشر أيضا قال تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [سورة الإنشقاق ، الآية : ٢٤]. والنذير المخبر بما فيه خوف ، وكلاهما يتحققان في أنبياء الله وأوليائه الناطقين عنه سبحانه المبشرين بثوابه والمنذرين عن عقابه.

والمراد بالحق هو القرآن وجميع التشريعات السماوية النازلة على نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الموجبة لسعادة الدنيا والآخرة ، ويمكن أن يكون المراد به الأعم من كون نفس الإرسال بالحق والمرسل له أيضا كذلك للملازمة بينهما كما هو المعلوم.

يعني : إنا أرسلنا النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالحق وفي الحق ، والحكمة في هذا الإرسال أن يكون بشيرا بالرحمة والثواب لمن يتبع الحق ونذيرا بالعقاب لمن خالف.

قوله تعالى : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ). الجحيم هي النار إذا اضطرمت وشب وقودها وقد أعدها الله تعالى في الآخرة للغاوين قال تعالى : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) [سورة الشعراء ، الآية : ٨١] أي لا تسئل عن أصحاب الجحيم الذين استحقوها بسوء اختيارهم لم اختاروا الجحيم؟ ولا يضرك تكذيبهم فلا يضيق صدرك عليهم بعد أن قمت بالوظيفة ، وأتممت الحجة عليهم ، قال تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) سورة البقرة ، الآية : ٢٧٢] وفي ذلك تسلية للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وهذه الآية الشريفة وما في سياقها مطابقة للعقل الفطري من تحقق الإختيار في الفاعل المختار ، فإن الله تعالى إنما بعث رسله مبشرين ومنذرين وعلى الإنسان أن يأخذ العلم الذي يهديه وماله دخل في استكماله

٤١٤

وما يوجب سعادته في الدارين ، فباختياره يصعد إلى الدرجات كما أن به ينزل إلى الدركات ، والمعلم غير مسئول عن ذلك بعد بذل جهده في التربية والتعليم ، وهذا أمر قد جرت عليه السيرة العقلائية في التعليم والتعلّم الدائرين بينهم.

قوله تعالى : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ). الرضاء من المبينات العرفية ، ويستعمل بين الخالق والمخلوق ، وبين المخلوقين بعضهم مع بعض قال الله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [سورة المجادلة ، الآية : ٢٢] ، وقال تعالى : (فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) [سورة النساء ، الآية : ٢٤] وهو من أهم ما يقوم به النظام.

ومادة (م ل ل) تأتي بمعنى الإملاء والإثبات ، قال تعالى : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٢] فالملة إنما هي الشريعة التي أثبتها الله لعباده على ألسنة رسله وأنبيائه ، وهي والشريعة سيان وأما مع الدين فهما واحد مصداقا ، وأعم في الاستعمال ، يقال : دين الله تعالى ، ودين محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ودين زيد ، ولا يقال في الملة ذلك إلّا ملة الله تعالى ، ويصح نسبتها إلى النبي المشرع ، قال تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) وقال تعالى : (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦١] ، ولعل السر في ذلك أنه روعي في إطلاق لفظ الملة إبلاغ التشريعات الإلهية السماوية ، وهذا يختص بالنبي دون غيره ثم اتسعت حتّى استعملت في الأديان الباطلة أيضا ، وكاد المجاز أن يغلب الحقيقة ، فقيل : «الكفر ملة واحدة».

والآية ظاهرة في اليأس عن إيمانهم بعد أن كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يطمع في إسلامهم ، بل كان يرجو مبادرتهم إلى الإيمان ، لأن الإسلام دين التوحيد ودين الفطرة فيوافق ما هم عليه في الجملة. ولذلك كبر على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إعراضهم وجحودهم ، وكان سبب ذلك أنّهم كانوا يعتبرون دينهم هو الهدى فقط ، وما سواه باطل ، فهم أحق بهذا الأمر من غيره فلا بد من اتباع ملتهم ، أو كان السبب أنهم كانوا يزعمون أنهم

٤١٥

أبناء الله وأحباؤه فلا يعقل اتباع غيرهم مع الاختلاف في الملة ، أو أنهم كانوا يرون أنفسهم أصحاب قوة ومنعة ، وجاه وثروة وغيرهم على ضعف ورفض القوي لما يدعو إليه الضعيف ـ ولو كان حقا ـ أمر مركوز في النفوس ، وكل ذلك من مظاهر عتوهم واستكبارهم ولذا رد الله تعالى عليهم.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى). لأنّ الله تبارك وتعالى هو العالم بالهداية وطرقها والقادر على جزاء متبعيها ، وليست الهداية من المقترحات النفسانية ، فلا بد وأن تنتهي اليه تعالى علما وجزاء وتقدم معنى الهداية فراجع سورة الفاتحة.

قوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ). قضية شرطية ، ومن المعلوم أن صدق القضية الشرطية إنما هو بصدق الملازمة ، لا بتحقق الموضوع ، وانطباق الجزاء على الشرط المذكور فيها بالنسبة إلى مورد الخطاب أو المخاطب ، فيكون مفاد القضية أن متابعة الهوى والآراء الباطلة توجب الخذلان من الله تعالى فالآية المباركة نظير قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [سورة الزمر ، الآية : ٦٥]. أي أن الشرك يوجب حبط العمل ، فإتيان الجملة بصورة الشرطية تفيد معنى خاصا.

مادة (ه وي) تأتي بمعنى السقوط وتستعمل في ميل النفس إلى الأمور والشهوات الباطلة فتهوي بصاحبها الى كل داهية في الدنيا ، وإلى النار في الآخرة ، وقد تقدم ما يتعلق بها أيضا.

والمعنى : لئن اتبعت أهواءهم وعقائدهم الفاسدة بعد ما جاءك من العلم بالحق يترتب عليك الجزاء الذي أوعد به الله تعالى.

قوله تعالى : (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ). أي : أنه يوجب الخذلان من الله تعالى فليس لك ولي يتولى شؤونك في الدنيا والآخرة ولا نصير ينصرك من عذاب الله تعالى كما قال جلّ شأنه في آية أخرى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ)

٤١٦

[سورة الرعد ، الآية : ٣٧] والخطاب وإن كان موجها إلى رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله). ولكن يراد به أمته ، لأنه تعالى يعلم بأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا يفعل ذلك فيكون إرشادا للإنسان إلى أن متابعة الهوى توجب الحرمان عن نعمه تعالى وإفاضاته ، فلا بد من متابعة الحق ولا تأخذه فيها لومة لائم ، لأنه يعلم بأنّ الله هو ولي أمره وناصره ، وإلّا لم يكن لائقا بعبوديته تعالى فيستحق أشد العذاب.

وفي الآية المباركة إشارة إلى أن جميع المعارف الحقة ـ أصولا وفروعا ـ لا بد أن تستند اليه تعالى وما سواها يكون من الأهواء الفاسدة والمفسدة فيجب طرحها وعدم متابعتها.

قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ). مادة (تلى) تأتي بمعنى المتابعة ولها مراتب ودرجات ترتقي من القول فقط إلى أقصى درجات المتابعة في القول والفعل والوجود وسائر الجهات. والمراد بحق التلاوة هي التي توجب فهم الكتاب والتفقه فيه واتباع احكامه وقد وردت روايات كثيرة في أن المراد بها ترتيل آياته والتفقه به والعلم بأحكامه» وسيأتي في البحث الروائي ذكرها دون مجرد الترتيل مع المخالفة العملية وإلّا فهو استهزاء به واستخفاف بالله تعالى ولذا قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «رب تال القرآن والقرآن يلعنه» والآية تتضمن قاعدتين عقليتين قررتهما الكتب السماوية.

الأولى : أنّ الاعتقاد بالحق ، والعمل به يوجبان كمال النفس وارتقاءها إلى المقامات المعنوية ، والفوز بالدرجات الأخروية.

الثانية : أنّ الكفر بالحق ، وترك العمل به يوجبان الخسران.

وفي الآية المباركة إعلام للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بأنه ربما يكون في أهل الكتاب من يرجى إيمانهم وهم الذين يتلون التوراة والإنجيل حق التلاوة فيتدبرون آياتهما ويتعلمون أحكامهما.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ). أي : من يكفر بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من بعد علمه بالحق فهو الذي خسر السعادتين

٤١٧

الدنيوية والأخروية وذلك هو الخسران المبين.

قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ). إرجاع ختم الكلام إلى بدئه وهو من محسنات البيان فقد سبق أن ذكّر سبحانه وتعالى بني إسرائيل أنواع نعمه ، وهنا ختم بتذكيرهم لها أيضا لتتم الحجة عليهم أو غير ذلك من المصالح ، وما عن بعض المفسرين من إنكار التكرار في القرآن فسيأتي البحث عنه في مستقبل الكلام ، وقد تقدم تفسير الآية الشريفة في آيتي ٤٠ و ٤٧ فراجع.

ونزيد هنا أنه قد ورد في قوله تعالى مخاطبا لأمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٢] وذكر تعالى في خطابه لبني إسرائيل : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) فمن اختلاف التعبير يستفاد علوّ منزلة المسلمين عن غيرهم فإن الذكر تعلق بهم بالذات الأقدس الربوبي ، وهو أعلى المقامات ، بخلاف بني إسرائيل. فإن الذكر تعلق فيهم بالنعمة ، وذلك لكثرة انغمارهم في الجهات المادية ، وإعراضهم عن الحق فورد الخطاب على ما ارتكزت عليه نفوسهم ، وكم فرق بين من تعلقت نفسه بنعمة المنعم وبين من تعلقت نفسه بذات المنعم.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ). تقدم تفسيرها في آية ٤٨ إلّا أنّ الأولى مغايرة مع الثانية في تقديم قوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ). والوجه في ذلك أن مورد الأولى في مقام تحلية النفس بالفضائل النفسانية أولا ثم أمر الغير بها ثانيا. ومورد الثانية إنكارهم لنبوة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلّا باتباعه لهم وقد ختم سبحانه وتعالى الكلام مع اليهود بذلك.

بحث روائي :

عن الشيخ الطوسي في قوله تعالى : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) : «إنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان مجتهدا في طلب ما

٤١٨

يرضيهم ليقبلوا إلى الإسلام ويتركوا القتال. فقال الله تعالى له : دع ما يرضيهم فإنهم لن يرضوا عنك».

أقول : تقدم ما يدل على ذلك.

العياشي عن أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) قال (عليه‌السلام): «الوقوف عند الجنّة والنار».

أقول : وهو حق لا ريب فيه ، لأن حق التلاوة عبارة عن العلم بالمتلو والعمل به كما يأتي في الرواية الآتية.

وعن الديلمي في الإرشاد عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) قال (عليه‌السلام) يرتلون آياته ويتفقهون به ، ويعملون بأحكامه ، ويرجون وعده ، ويخافون وعيده ويعتبرون بقصصه ، ويأتمرون بأوامره ، وينتهون بنواهيه. ما هو والله حفظ آياته ودرس حروفه ، وتلاوة سوره ، ودرس أعشاره وأخماسه ، حفظوا حروفه ، وأضاعوا حدوده. وإنما هو تدبر آياته والعمل بأحكامه قال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ).

وعن الكليني والعياشي عن أبي ولاد عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) قال (عليه‌السلام): «هم الأئمة».

أقول : لأن العلم بحقيقة القرآن والعمل بجميعه إنما يتحقق فيهم وبهم ، وهذا من باب التطبيق كما مر.

بحث دلالي :

المستفاد من مجموع الآيات المباركة الواردة في ذم اليهود والنصارى وغيرهما أنه ليس لذاتهم بل لأفعالهم الاختيارية الشنيعة ، وقد اتفق جميع الفلاسفة بل وغيرهم على أن السعادة والشقاوة ليستا ذاتيتين للإنسان كذاتية

٤١٩

النطق له ، كما أنهما ليستا من لوازم الذات كذاتية الزوجية للأربعة ، بل هما من لوازم وجوده الخارجي التي تحصل بالاختيار. نعم للقضاء والقدر الإلهي دخل فيهما بنحو الاقتضاء لا العلية التامة كدخلهما كذلك في أكثر ـ بل جميع ـ ما يتعلق بالإنسان فبالعمل يصير الإنسان سعيدا مستحقا للثواب ، كما أن به يصير شقيا مستحقا للعقاب ، وهذا هو المستفاد من مجموع ما ورد في هذا الباب بعد رد بعضه إلى بعض ، وسيأتي مزيد بيان لهذا البحث في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

فالشقاوة التي لحقت باليهود والنصارى إنما حصلت من أفعالهم الشنيعة مما أوجبت قساوة قلوبهم كما حكى الله تعالى عنهم في الآيات المباركة السابقة والذم تعلق بهم لأجل هذه الجهة فإذا وجدت في أي طائفة أوجبت شقاوتهم وبعدهم عن ساحة الرحمن بلا فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين ، بل هي من المسلم أقبح فإن نبيهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أفضل الأنبياء وأمته أفضل الأمم ، ولأنّ السير التكاملي في الإنسان يقضي أن يأخذ بعبر الماضين فلا يفعل ما فعلته الأمم السابقة مما أوجب شقاوتها وهلاكها ، ولذا كان جرائم المسلمين ومذام صفاتهم أقبح عند الله من جرائم غيرهم من سائر الأمم ، كما أن أفعالهم الحسنة أفضل.

والحمد لله أولا وآخرا.

٤٢٠