مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

لإظهاره ، إذ لا مصلحة فيه ، وكل تشريع لم تكن فيه المصلحة يكون منافيا للحكمة. وإن لم يعلم بالناسخ حين إظهار المنسوخ يكون جهلا منه وهو ممتنع بالنسبة إليه.

والجواب : أنّ الله تعالى عالم بالناسخ والمنسوخ ولكن اقتضت المصلحة لإظهار المنسوخ بصورة الدوام ، ويكون الناسخ كاشفا عن انتهاء مدة حكم المنسوخ وقيام غيره مقامه ، لمصالح في الوضع والرفع تختلف باختلاف الجهات والمقتضيات كما عرفت.

والظاهر أنّ الإشكال المزبور نشأ من جعل النسخ من مراتب علمه تبارك وتعالى الذي هو عين الذات الأقدس ، وكل تغيير في العلم يستلزم التغيير والتبديل في الذات.

والحق أنّ النسخ من مراتب الإرادة التي هي عين فعله سبحانه وهو قابل للتغير والتبديل مع علمه تعالى بذلك ، ولا يلزم من ذلك أي محذور.

الثاني : إنّ رفع الحكم الواقع وإزالته لا يمكن فإن الشيء لا يتغير عما وقع عليه ، كما ثبت في الفلسفة.

والجواب : أنّ ذلك من قياس الإرادة الإلهية على إرادة الفاعل المختار الممكن ، وهو باطل لأن فعل الفاعل المختار إذا صدر عنه خرج عن تحت اختياره فلا يمكن تغييره عما وقع عليه. وأما الإرادة الإلهية فالمراد تحت إرادته حدوثا وبقاء ، وإيجادا وإفناء لا سيما بناء على ما ثبت في الفلسفة المتعالية أن مناط الحاجة هو الإمكان لا الحدوث ، ولعلنا نتعرض لهذه المسألة في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

وهناك وجوه أخرى استدلوا بها على إنكار النسخ إمكانا ووقوعا أغمضنا النظر عنها لوضوح بطلانها.

ويمكن أن نقول : إنّ الغاية من إنكار النسخ هي رد الشرايع السماوية لا سيما شريعة خاتم الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والاحتفاظ لأنفسهم بالحركة الدينية ، وهذا ضرب من غرورهم وجهلهم ، والإيمان

٣٨١

ببعض الكتاب والكفر ببعضه الآخر ، كما حكى الله تعالى في كتابه المجيد. وكيف يحق لهم الإنكار وهم يذعنون بأن شريعتهم نسخت الشرايع السابقة ، ثم كيف يمكن لهم ادعاء استحالة النسخ مع وقوعه في كتب العهدين وهو كثير نذكر منه موردين. أحدهما من العهد القديم ، والثاني من العهد الجديد.

الأول : ورد في الباب الثاني والعشرين من سفر التكوين أن الله تعالى أمر إبراهيم (عليه‌السلام) بذبح إسحاق (عليه‌السلام) ثم نسخ هذا الحكم قبل العمل ، فقد ورد فيه : «ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه ، فناداه ملاك الرب من السماء وقال : ابراهيم ابراهيم فقال : ها أنا ذا. فقال : لا تمد يدك إلى الغلام ، ولا تفعل به شيئا ، لأني الآن علمت أنك خائف الله ، فلم تمسك ابنك وحيدك عني ، فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه ، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضا عن ابنه». وكذلك ورد في الإصحاح التاسع من سفر التكوين : أن كل دابة كانت مباحا في شريعة نوح ثم نسخت في شريعة موسى ، فقد ورد فيه : «كل دابة حية تكون لكم طعاما كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع».

الثاني : ورد في الآية الثالثة عشرة من الإصحاح الثامن من الرسالة العبرانية «فإذا قال جديدا عتق الأول ، وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال». وذكر ياييل في تفسير هذه الآية : «هذا ظاهر جدا أنّ الله يريد أن ينسخ العتيق بالرسالة الجديدة الحسنى فلذلك يرفع المذهب الموسوي اليهودي ويقوم المذهب المسيحي مقامه» إلى غير ذلك مما ذكروا من موارد النسخ التي تزيد عن ثلاثين موردا وإنما لم نتعرض لها خوفا من الإطالة.

شرائط النسخ :

يظهر من ما تقدم شروط النسخ : وهي ثلاثة :

الأول : أن يكون النسخ في الأحكام الشرعية ، فلا يقع في غيرها إلّا

٣٨٢

بالعناية والمجاز ، كما سيأتي.

الثاني : أن يكون النسخ بدليل شرعي سواء كان من القرآن أو السنة أو الإجماع القطعي. فلا يكون من النسخ موارد ارتفاع الموضوع أو انتفاء الشرط.

الثالث : أن يكون دليل الناسخ ناظرا إلى الحكم المنسوخ ومعارضا له تعارضا حقيقيا لا يمكن الجمع بينهما ، فيكون كاشفا عن رفعه ، فليس كل تناف بين الدليلين أو الحكمين من النسخ ، ولذا وقع الخلاف في كثير من الآيات المباركة التي ادعي النسخ فيها ، وهي ليست كذلك بل من التقييد أو التخصيص ، وسيأتي البحث عن كل آية في محلها إن شاء الله تعالى.

ثم إنّ الناسخ والمنسوخ يتصوران بحسب الاحتمالات العقلية ثلاثة أقسام : تقارنهما زمانا ، تقدم الناسخ على المنسوخ ، تقدم المنسوخ على الناسخ ، والمتعارف من النسخ ، والمنساق منه في الكتاب والسنة هو الأخير. والأولان من مجرد الإمكان الذاتي.

نسخ الشرايع :

ذكرنا أنّ النسخ ـ في الجملة ـ من لوازم جعل القانون ، سواء كان إلهيا أو وضعيا ، فلا يختص بشريعة دون أخرى فهو واقع في الشرايع السابقة كشريعة موسى (عليه‌السلام) ، وشريعة عيسى (عليه‌السلام) بلا فرق بين أن يكون في شريعة واحدة أو في لاحقة بالنسبة إلى الشريعة السابقة ، راجع كتب العهدين تجد الأمثلة على كلا القسمين ، وقد ذكرنا سابقا ما يدل على ذلك.

وأما بالنسبة إلى شريعة الإسلام فقد دلت الأدلة العقلية على أنها خاتمة الشرايع الإلهية ، وناسخة لجميعها ، ولا خلاف بين المسلمين في ذلك قال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩] وقال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ

٣٨٣

الْخاسِرِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٨٥] إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

وقد ذكرنا أن الشرايع الإلهية خطوات متكاملة في سبيل رقي الإنسان ، وأنها مدارج كماله ، فهي تبتدئ من الأمور الفطرية المودعة في الإنسان الذي بها يتميز عن سائر المخلوقات حتّى تصل إلى أقصى درجات الكمال من جميع الجوانب ، فكل شريعة من الشرايع الإلهية خطوة من خطوات تلك التربية الحقيقية الإلهية حتّى تصل إلى الصرح الشامخ الإسلامي الذي يكون جامعا لجميع الحقائق والكمالات ، قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [سورة المائدة ، الآية : ٣] ، وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلّا موضع لبنة من زاوية من زواياه ، فجعل النّاس يطوفون به ويعجبون له ، ويقولون هلّا وضعت هذه اللبنة ، قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : فانا اللبنة وأنا خاتم الأنبياء» ، وفي حديث آخر عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». ولا ينافي ذلك قوله تعالى : (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة النساء ، الآية : ١٢٥] وغيرها من الآيات المرغبة إلى اتباع ملة إبراهيم لأنها كالمادة القريبة للملة الإسلامية وهي متمم صورتها.

ولا بد أن يعلم أنّ النسخ في الشرائع الإلهية يقتصر على تلك الأحكام الشرعية التي تتبدل بحسب المصالح والظروف ، فيكون تبدل الأحكام في الشرائع المتعددة كتبدل حالات المصلي في شريعة الإسلام من الصحة والمرض ، والسفر والحضر. وفقد بعض الشروط ووجدانه ونحو ذلك.

فلا مجرى للنسخ في أصول الدين ، وكذا بالنسبة إلى الأحكام العقلية التي يحكم بحسنها جميع العقلاء والتي كشف عنها الشارع المقدس وكذلك بالنسبة إلى مهمات فروع الدين ـ كأصل الصّلاة والصوم والزكاة

٣٨٤

ونحوها ـ ويدل على ذلك جملة من الآيات الشريفة ، قال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) [سورة الشورى ، الآية : ١٣].

فما قيل : إنّ الأصل في كل شريعة أن تنسخ ما قبلها ، وقد نقل أنه : «لم تكن نبوة قط إلّا تناسخت». فإن أريد منه على نحو الجملة أو الإجمال فهو صحيح لا ريب فيه ، كما تقدم. وأما إذا أريد منه على نحو الكلية فهو باطل ، بل لنا أن نقول إنّ كل شريعة لاحقة مقرّرة للشريعة السابقة إلّا إذا علم بنسخها أو بطلانها.

أقسام النسخ :

قد ذكر العلماء للنسخ أنواعا وأقساما ، والمهم منها ما كان مرتبطا بأركانه وهي : المنسوخ ، والناسخ ـ ولا يخفى أن الناسخ هو الله تعالى ويطلق على الدليل مجازا ـ ومورد النسخ. ويظهر حكم بقية الأقسام ضمنا.

التقسيم الأول : ينقسم النسخ باعتبار الناسخ إلى أنواع ثلاثة :

الأول : أن ينسخ الحكم الثابت بالقرآن بمثله. وهذا لا إشكال فيه عقلا ، وواقع كثيرا ، كما يأتي في هذا الكتاب.

الثاني : أن ينسخ الحكم الثابت بالقرآن بالسنة المعتبرة ، او الإجماع القطعي ، وهذا القسم أيضا لا إشكال فيه عقلا ونقلا ، وخالف في ذلك بعض العلماء فذهب إلى أن نسخ الكتاب الشريف لا يكون إلّا بمثله ، واستدل بقوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) [سورة البقرة ، الآية : ١٠٦] بتقريب أن الله تعالى أسند إتيان الناسخ إلى نفسه عزوجل وما يأتيه هو القرآن فقط. وهذا الاستدلال موهون جدا ، فإن السنة المقدسة أيضا من الله تعالى ، قال عزوجل : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [سورة النجم ، الآية : ٣].

الثالث : نسخ الحكم الثابت بالقرآن بالخبر الواحد ، وفي جوازه وعدمه قولان : نسب إلى المشهور الثاني ، والمسألة محررة في الأصول.

٣٨٥

التقسيم الثاني : باعتبار المنسوخ وذكروا له حالتين.

الأولى : نسخ الحكم الثابت بعد حضور وقت العمل به ، وهو واقع بلا ريب ولا إشكال.

الثانية : نسخ الحكم قبل حضور وقت العمل به وفيه قولان : قول بعدم صحته ، لعدم الفائدة والمصلحة فيه ، وقول آخر بالصحة ، وهو المشهور بين الإمامية.

وأورد على القول الأول بأن المصالح والمفاسد لا يعلمها إلّا الله تعالى ولا ملزم أن يعلمها كل أحد ، مع إمكان دعوى مصلحة الامتحان والابتلاء فيه. نعم الغالب في النسخ أن يكون بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ ، ولكن ليس ذلك من المقومات الذاتية له ، فالمدار على وجود المصلحة سواء كان بعد حضور وقت العمل ، أو في أثنائه ، أو قبله.

ثم إنّهم ذكروا أنّ الحكم الناسخ (تارة) يكون أخف من الحكم المنسوخ مثل قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٧] بعد تحريم الجماع ، والأكل والشرب بعد النوم في ليلة الصيام (وأخرى) يكون مساويا له مثل نسخ وجوب استقبال بيت المقدس بوجوب استقبال الكعبة المقدسة. (وثالثة) : يكون أشد مثل نسخ حد الزنا بالحبس في البيت ، والتعنيف بالحد مائة جلدة والرجم.

ولا إشكال في الأقسام الثلاثة إمكانا ووقوعا ، بل يمكن تحقق النسخ بلا بدل وإيكال الأمر إلى البرائة العقلية. إن قيل : إن هذا مناف لظاهر قوله تعالى : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها). يقال : الحكم البتي العقلي يكون من (مثلها) لفرض أنها مقررة بالكتاب والسنة.

التقسيم الثالث : النسخ في القرآن ، وهو أنواع ثلاثة :

الأول : نسخ الحكم فقط ، ولا إشكال في إمكانه ووقوعه ، بل هو المشهور من النسخ إذا أطلق في القرآن الكريم ، وهو كثير مثل نسخ وجوب تقديم الصدقة على مناجاة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال تعالى : (يا

٣٨٦

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) [سورة المجادلة ، الآية : ١٢] ويأتي التعرض للآيات المتضمنة لذلك في محالّها إن شاء الله تعالى. وخالف في ذلك بعض المفسرين ، بل قال بعدم وقوع النسخ في القرآن. بل في شريعة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله). وهو مردود عقلا ونقلا.

الثاني : نسخ التلاوة فقط والمشهور بين العامة وقوعه في القرآن الكريم. واستدلوا بآية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» فقالوا : إن هذه الآية لم يعد لها وجود في القرآن ، مع أن حكمها ثابت.

والحق عدم وقوع هذا النوع من النسخ ، بل يعد ذلك من التحريف الذي أجمعت الإمامية على نفيه في القرآن زيادة ونقيصة ، وما استدلوا به أخبار آحاد معارضة بروايات أخرى كثيرة تدل على أن الآية ليست من القرآن ، مضافا إلى عدم وجود المصلحة فيه إن لم تكن فيه المفسدة.

الثالث : نسخ الحكم والتلاوة وذهب جمهور المفسرين إلى إمكانه واستدلوا على وقوعه بما ورد عن عائشة أنها قالت : «كان في ما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات ، وتوفي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهن في ما يقرأ من القرآن».

ويرد عليه ما أورد على النوع السابق ، مع أنه لا يتصور معنى معقول للنسخ في هذا النوع ، وسوف نتعرض لمسألة تحريف القرآن في المحل المناسب إن شاء الله تعالى.

ثم إن سور القرآن بالنسبة إلى وجود الناسخ فيها ، أو المنسوخ أربعة أقسام :

القسم الأول : السور التي لم يدخلها ناسخ ولا منسوخ كسورة الفاتحة ، ويوسف ، ويس ، والإخلاص وغيرها ، وقيل : إنها ثلاث وأربعون سورة.

القسم الثاني : السور التي فيها ناسخ ومنسوخ وهي : البقرة ، آل عمران ،

٣٨٧

النساء ، المائدة وغيرها من السور التي عدّوها.

القسم الثالث : السور التي فيها ناسخ وليس فيها منسوخ وهي الفتح ، الحشر ، المنافقون وغيرها من السور التي ذكروها.

القسم الرابع : السور التي فيها منسوخ ، وليس فيها ناسخ وهي طه والرعد وغيرهما من السور التي عدّوها.

ولكن في هذا التفصيل خلاف بين المفسرين ، وسيأتي تفصيل كل ذلك في محله إن شاء الله تعالى.

وقد حصر بعض المفسرين جميع الآيات المنسوخة في عشرين آية ومع ذلك فيه بحث.

بحث دلالي :

قد تكرر قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ) [في آيتي : ١٠٦ ـ ١٠٧] ويمكن أن يكون الوجه في ذلك تعدد منشأ النسخ والإزالة فأطلق تارة بالنسبة إلى الأعراض والاعتباريات ، وأخرى بالنسبة إلى الجواهر والذوات كما قالت اليهود بالنسبة إلى كل منهما ، فزعموا أن قدرته تعالى محدودة بالإحداث فقط فإذا حدث يخرج عن تحت قدرته جل شأنه ، كما حكى الله تعالى عنهم (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٦٤] فأبطل تعالى في المقام كل ذلك ، وحكم بأن الأشياء كلها تحت قدرته حدوثا وبقاء أما الحدوث فبقوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وأما البقاء فلقوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

ثم إنّ إطلاق الآية المباركة : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) يشمل جميع آياته عزوجل من حيث أحكامه تعالى ، ومن جهة جماله وجلاله ، فكل شيء له آية من الجواهر والأعراض في الأرضين والسموات ، وله عزوجل في ذلك كله إبداع وإنشاء ، فهي من الأمور التشكيكية شدة وضعفا ، كمية وكيفية ، فنسخه تعالى يشمل جميع ذلك كله

٣٨٨

بحيث لأحد للناسخ ولا حد للمنسوخ ولا يحيط بكل واحد منهما إلّا هو تعالى ، وفي كل شيء له آية ، وكل شيء له فيه نسخ وتغيير وتبديل ، ولا معنى لما أثبته أكابر الفلاسفة من أن مناط الحاجة هو الإمكان حدوثا وبقاء إلّا هذا ، كما لا معنى لكونه تعالى مهيمنا على ما سواه ، على الإطلاق ، وإن عنده خزائن الأشياء كلها وما ينزلها إلّا بقدر معلوم إلّا هذا.

والنسخ قد يتعلق بتمام الآية أو الحكم كله ، وأخرى ببعض الجهات دون البعض ، والثاني لا ينافي بقاءها من سائر الجهات ، وسيأتي التفصيل في هذه المباحث في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣))

بعد أن ذكر سبحانه وتعالى مكائد اليهود ومكرهم بالنسبة إلى المسلمين بيّن تعالى في الآية الأولى أن سبب ذلك هو الحسد ـ وخبث نفوسهم ـ الذي لا ينفك عنهم ، ثم وعد المسلمين بالنصر وأمرهم بالإيمان والعمل الصالح لئلا يتأثروا بشبه المنكرين وتشكيك الكافرين ، ثم ذكر جل شأنه بعض أمانيهم الفاسدة الأخرى وهو انحصار دخول الجنّة باليهود أو النّصارى ، وقد أبطل ذلك تعالى بالدليل العقلي وهو أن الجنّة لا تكون إلّا بالعمل الخالص ، بل هي نفس العمل الخالص فقطع أمانيهم بذلك.

٣٨٩

التفسير

قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً). مادة (ود د) تأتي بمعنى المحبة وتستعمل في التمني أيضا ، لأنه مشتمل على المحبة ومتضمن لها. أي : تمنى كثير من اليهود والنصارى أن يرجعوكم عن دينكم ويردونكم إلى الكفر ، كما قال تعالى : (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) [سورة آل عمران ، الآية : ٦٣].

قوله تعالى : (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ). الحسد تمني زوال نعمة عمن يستحقها سواء أرادها لنفسه أولا ، بخلاف الغبطة التي هي تمني مثل تلك النعمة للنفس من دون إرادة زوالها عن الغير. والأول مذموم ، والثاني محمود ، فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «المؤمن يغبط ، والمنافق يحسد»وفي الحديث القدسي : «المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون».

والمعنى : أن حبهم لإضلالكم عن الإيمان ، وإرجاعكم إلى الكفر سببه الحسد الكائن في نفوسهم من بعد ظهور الحق بأن محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هو النبي الموعود المبشّر به في كتبهم ، وإتمام الحجة عليهم بالآيات التي أتى بها. وفي قوله تعالى : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) إيماء إلى أن ما يصدر عنهم إنما هو من سوء سرائرهم وفساد أخلاقهم لا أن يكون عن غبطة لحق ، أو غيرة عليه ، أو شبهة ونحو ذلك.

والآية المباركة تشير إلى أمر طبيعي ، وهو أن كل طائفة إذا اعتنق أفرادها أمرا وصار ذلك الأمر مألوفا عندهم يحبون أن يكون غيرهم على طريقتهم ، لا سيما إذا وجد ما يخالف ذلك القديم فيتصدون له ويعارضونه بكل ما أمكنهم وينتهي ذلك إلى الحسد الكائن في النفوس فيكون ذلك من عند أنفسهم بعد ظهور الحق.

وفي قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) إشارة إلى هذا الأمر الطبيعي المغروس في الفطرة في بداية ظهوره ، كما أن في قوله

٣٩٠

تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا) [سورة النساء ، الآية : ٨٩] إشارة إلى ذلك بنحو مطلق.

قوله تعالى : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا). العفو : ترك المؤاخذة على الذنب. والصفح : إزالة أثره عن النفس ، والاعراض عن المذنب بصفحة الوجه ، وهما والتجاوز بمعنى واحد ، وهي من مكارم الأخلاق. أي عاملوا النّاس بمكارم الأخلاق من العفو والصفح والإغماض عنهم وحسن المعاشرة معهم حتّى يشتد أمركم ، وتغلب شوكتكم ، ويمكّنكم الله منهم فتعملوا فيهم بما هو الصّلاح.

وفي الآية المباركة إيماء إلى أن المسلمين مع قلتهم حين ذاك هم أصحاب القدرة والمنعة ، فإن العفو والصفح إنما يطلبان من القادر. وفيها البشارة بالغلبة وتأييدهم بالعناية الإلهية.

قوله تعالى : (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ). من القتل ، أو الطرد والجلاء ونحو ذلك. والمراد من الأمر الأعم من التشريعي وهو الجهاد والتكويني.

وفيه البشارة للمؤمنين بوعدهم التأييد والنصر والغلبة ، كما أن فيه التهديد للكافرين على أن لا يتعرضوا للمسلمين بسوء فإنهم في حصن الله تعالى.

والسياق يدل على أن الصفح والعفو محدود بزمان خاص بقرينة آيات أخرى وردت في الجهاد والقتال ، فهذه الآية المباركة منسوخة بتلك الآيات ، بل نفس هذه الآية الشريفة مغياة بغاية خاصة فلا معنى للنسخ الحقيقي حينئذ.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). تأكيد للوعد الذي وعده للمؤمنين.

قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ). بعد أن أمرهم بالعفو والصفح ، والمداراة مع الأعداء ليأمنوا من كيدهم ظاهرا ويجلبوا قلوبهم إلى الإسلام واقعا أمرهم تعالى بأقوى أسباب الاتصال بينهم وبين الله عزّ

٣٩١

وجل والتمسك بأوثق عرى الإسلام ليحصل ارتباطهم مع خالقهم وهي الصّلاة ، فإنها من أقوى دعائم الدين وأبرز مظاهر إسلام المسلمين ، فيتنزه العبد بمناجاة الله تعالى عن إتيان الفواحش والمحرمات ، وأمرهم بإيتاء الزكاة ، وصلة الأغنياء للفقراء ، وفي ذلك من الوحدة والايتلاف ورفع التفرق والاختلاف ما لا يخفى ، وقد تقدم تفسير هذه الآية المباركة.

قوله تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ). أي : إنّ ما تعملونه في دار التكليف والعمل محفوظ عند الله فلا يرغب عامل عن العمل ، ولا يعتريه ريب فكل خير يصدر منكم تجدون جزاءه عند ربكم ، فالدعوة عامة ، والرحمة تامة ، والوفاء ثابت ، فإنه تعالى هو الذي يأخذ منكم ذلك ولا يتصور أن يضيع ما أخذه كما قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزلة ، الآية : ٨] وهذه الآيات المباركة وما في سياقها صريحة في ظهور نفس العمل من حيث هو في الدار الآخرة ، وفيها تأكيد لتثبيت النفوس على رؤية نفس العمل إلّا أنه يربّى كما يشاء الله تعالى وفي الحديث : «كما يربّي أحدكم فصيله». وسيأتي في المحل المناسب إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). قد تكررت هذه الآية الشريفة في القرآن كثيرا ، وفي بعضها بدئت بالإعلام قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٣٣] وهو يدل على علمه الإحاطي بالجزئيات ، ويكفي في ذلك قوله تعالى : (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [سورة سبأ ، الآية : ٣] ومنه يظهر بطلان ما نسب إلى جمع من الفلاسفة من نفي علمه تعالى بالجزئيات لتوقف العلم بها على الآلات الجسمانية ، وهو تعالى منزه عنها فأرادوا التنزيه فوقعوا في التعطيل ، ومثل ذلك كثير ، وسنعود إلى تفصيل المقال في مباحث العلم إن شاء الله تعالى.

وفي الآية المباركة من الترغيب على إتيان الأعمال الصالحة ، والترهيب عن

٣٩٢

المعصية ما لا يخفى.

قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى). عطف على قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وفي الكلام اختصار بديع ، وإيجاز حسن. أي : قالت اليهود لن يدخل الجنّة إلّا من كان يهوديا ، وقالت النصارى كذلك في أنفسهم واشتراكهما في المقول أوجب جمعهما في القول وهذا زعم كل من يدعي الإعتقاد بدين وهو غافل عن أحكامه ، أو جاحد معاند.

وإنّما عبر سبحانه وتعالى بكلمة «هود» دون التعبير باليهود ، لأن هود قوم منهم يقولون لا يقبل الله توبة عبد إلّا من كان منهم ، ولذا خصهم بالذكر ، ولكن الظاهر أن جميع اليهود يقولون بذلك ، ولعل التعبير كان باعتبار منشأ الحدوث.

ولازم كلام كل من الطائفتين نفي دخول المسلمين الجنّة.

قوله تعالى : (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ). أي أنّ قولهم ذلك من مجرد أمنياتهم التي لا تتجاوز عن الخيال ولا واقع لها بوجه ، والمقام من مصاديق قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) [سورة البقرة ، الآية : ٧٨] وهذه من جملة تلك الأماني.

قوله تعالى : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). تكذيب لهم ومطالبتهم بالبرهان على دعواهم ، وهذا شأن كل دعوى فإنّها لا تقبل إلّا مع إقامة برهان على صدقها ، وإلّا كانت دعوى كاذبة.

قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ). بلى : كلمة رد لما زعموه ، وتقدم ما يتعلق بها في قوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) [سورة البقرة ، الآية : ٨٢].

مادة (س ل م) تدل على السلامة من العيب والنقص والخلوص بلا فرق بين كون العيب والنقص من الجسمانيات أو المعنويات ، في الدنيا أو في الآخرة ، قال تعالى : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [سورة

٣٩٣

الأنعام ، الآية : ١٢٧] ، وقال تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [سورة الشعراء ، الآية : ٨٩]. واستعمالات هذه المادة كثيرة بهيئات مختلفة ، ومنها الإسلام لخلوصها ، وتخليصه للمعتقد به عن المعايب والنواقص المعنوية.

والمراد بأسلم في المقام التوجه والخضوع ، والصدق والتخليص كما قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في معنى الخلوص : «أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

والوجه مستقبل كل شيء وأشرفه ، وطريق الوصول إليه ، ويطلق على الذات أيضا. والمراد هنا عمل الجوانح ، وأعمال الجوارح ، فيكون المعنى من أخلص دينه لله تعالى اعتقادا وعملا وهو محسن في عمله ، فيكون المناط كله في السعادة الأبدية هو الإيمان والعمل ، وقد تكرر ذلك في القرآن الكريم في مواضع متعددة بعبارات مختلفة نفيا واثباتا ونظير هذه الآية المباركة قوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة البقرة ، الآية : ١٣٥].

قوله تعالى : (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). هذا من قبيل ترتب المعلول على العلة ، فإن من أخلص وجهه لله اعتقادا وعملا وأحسن في عمله له أجره ولا خوف عليهم من المتوقع ، ولا يحزنون على الواقع ، وذلك من قبيل السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع. وفي قوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّهِ) دلالة على أن الأجر محفوظ عن التغيير والتبديل ، كقوله تعالى : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [سورة النحل ، الآية : ٩٦] ، مضافا إلى الأدلة العقلية الدالة على ذلك.

ثم إنّ إسلام الوجه لله عزوجل بالتوجه اليه ، وسلوك طرق مرضاته والخضوع والانقياد له تعالى ، والإقبال عليه ، وصرف النظر عن غيره والمواظبة على الإخلاص يجعل الفاعل في المحل الأعلى من الكمالات المعنوية ، ويجلو جوهر النفس عن الرين والفساد ، ويمنع عن استيلاء الأغيار عليها ، فيفتح له باب إلى الغيب المحجوب فيرى ما في نفسه من

٣٩٤

المساوئ والعيوب. وتقدم أن النفس فاعل للعمل ، والعمل مؤثر في النفس ، ويأتي في آيات أخرى مزيد بيان لذلك.

قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ). أي : ادعى كل فريق أن صاحبه ليس على شيء. وذلك أن أصحاب كل نحلة ودين لا يرون غيرهم على حق ، وهذا الاختلاف قديم جدا يرجع إلى أوائل الخليقة ومنذ حدوث الاجتماع الإنساني ، فكل طائفة ترمي الطائفة الأخرى بالباطل ، بل نرى ذلك بين المذاهب المختلفة من دين واحد فضلا عن الأديان المختلفة ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ).

ولو تأملنا في المنشأ الحقيقي لذلك فإنه لا يرجع إلّا إلى الوهم والخيال ، وطرح العقل المؤيد بالشرع ، وتغليب الهوى مع أن الحق واحد في جميع الأديان الإلهية التي يجمعها أنها من الله الواحد وكتاب منزل منه تعالى ، وأنه لا يوجد دين سابق إلّا ويبشر بالدين اللاحق ، كما أن الأخير متمم للسابق ، وما عدا ذلك فهو من الوهم والخيال ، فتراهم يكفرون بأنبياء الله تعالى ورسله وكتبه وعليه جرت طريقتهم حتّى صار يعد من الأمور الاجتماعية بين البشر وكم كان جديرا بالإنسان أن يرجع إلى فطرته ، ويهتدي بهدي عقله وينبذ الاختلاف والعناد حتّى يرى ما كان يجلبه من الخير والصلاح ولم يصل إلى ما وصل إليه من الانحطاط والإفتراق ، وفي ذلك عبرة لمن اعتبر.

قوله تعالى : (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ). أي : أنّهم قالوا ذلك وهم يتلون التوراة والإنجيل وفيهما ما يأمرهم بخلاف ما يقولون فإن أحد الكتابين يدعو إلى الآخر ، وكلاهما يدعوان إلى القرآن كما أن الأخير يدعو إليهما ، فما بالهم ينقضون كتابهم ولا يعملون بدينهم وفي ذلك من التوبيخ ما لا يخفى.

قوله تعالى : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ). أي : إنّ

٣٩٥

الذين لا يعلمون من الحق شيئا يقولون مثل قولهم سواء كانوا من المشركين أو الكفار ، بل يشمل كل من لا يعلم بالحق ولا يعمل به وغلب عليه هواه ولو كان من المسلمين.

إن قيل : إنّ الآية المباركة تدل على ذم التقليد ، وقد جرت سيرة المسلمين عليه خلفا عن سلف. (يقال) التقليد تارة يكون عن حجة معتبرة وبحجة كذلك وأخرى لا يكون كذلك والثاني باطل ومذموم دون الأول.

قوله تعالى : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). أي أنّ الجميع يرجع إليه وينتهي الحكم إليه ، فهو الحاكم بينكم في هذا الاختلاف ، ويحكم لمن كان منكم على الصراط المستقيم.

بحث روائي :

في الدر المنثور في قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ـ الآية أنّ كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ويحرّض عليه كفار قريش في شعره ، وكان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدمها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يؤذون النبي وأصحابه أشد الأذى ، فأمر الله تعالى نبيّه بالصبر على ذلك والعفو عنهم ، وفيهم أنزلت (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ).

وفيه أيضا عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) ـ الآية «نزلت في يهود أهل المدينة ، ونصارى أهل نجران ، وذلك أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أتاهم أحبار اليهود ، فتناظروا حتّى ارتفعت أصواتهم ، فقالت اليهود : ما أنتم على شيء من الدين ، وكفروا بعيسى (عليه‌السلام) والإنجيل ، وقالت لهم النصارى : ما أنتم على شيء من الدين ، وكفروا بموسى (عليه‌السلام) والتوراة فأنزل الله تعالى هذه الآية».

وقريب من ذلك ما رواه في المجموع عن ابن عباس ، وما روي عن

٣٩٦

الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه‌السلام).

أقول : مع الغض عن أسانيد الأحاديث لا يمكن الاعتماد على متونها ، لأن النصارى مطلقا يعترفون بالتوراة ، ونبوة موسى (عليه‌السلام) ، لأنّ الإنجيل متمم للتوراة ، ومشتمل على كثير من أحكامها.

بحث دلالي :

تتضمن الآيات الشريفة أمورا :

الأول : العفو والصفح عن المذنبين والصبر على أذى الأعداء وانتظار الفرصة لتهيئة العدة للغلبة عليهم.

الثاني : لا يمكن أن تتحقق الغلبة على الأعداء ما لم يوثق عرى الإيمان بين العبد وبين الله تعالى ، ثم توثيق الروابط بين الأغنياء والفقراء وتحقق الوحدة الاجتماعية ليكونوا يدا واحدة على الأعداء.

الثالث : العلم بأنّ ما يصدر من العبد من خير مذخور عند الله تعالى ، وأن جزاء عمله حاضر لديه عزوجل ، مما يوجب سكون النفس في العزيمة فلا يؤثر فيه تشكيك المبطلين وشبه المفسدين. ويزيد في ذلك شهود الله تعالى لأعمال العباد ، ومراقبته لعبيده ، وربوبيته العظمى لهم مما يجعل الإنسان مواظبا على ما يصدر منه من الأعمال والأقوال.

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أن المدار في ارتقاء النفس بالمعنويات والفوز بالدرجات العاليات إنما هي عبادة الله تعالى وطاعته عزوجل لا مجرد التسمية بكون الشخص يهوديا أو نصرانيا أو مسلما ، والآيات المباركة في هذا المعنى كثيرة جدا والسنّة فوق حد التواتر بين المسلمين ، فمثل هذه الآيات الشريفة مطابقة للعقل والفطرة السليمة حيث جعلت المناط على العمل والحقيقة ، دون مجرد التسمية فقط ، قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ

٣٩٧

وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٩٤].

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى مثالب اليهود والنصارى بيّن تعالى في هذه الآية المباركة بعض ما وقع منهم من الظلم النوعي ـ بأن منعوا المساجد أن يتعبد فيها ـ ثم أوعدهم الله تعالى بالخزي في الحياة الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة ، وردّ عليهم بأنه لا يحده مكان ولا جهة فيجوز لكل إنسان أن يعبد الله تعالى في أي مكان واية جهة فإن الله تعالى واسع المغفرة عليم بطاعة عباده.

التفسير

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ). المساجد هي الأماكن المحررة للعبادة والسجود له تعالى ، بل يمكن أن يراد بها ، مضافا إلى ذلك عباد الله المخلصين الذين أفنوا جميع شؤونهم وحيثياتهم في طاعة الله تعالى وعبادته بكل معنى العبودية فصاروا من مظاهر آيات الله كالمساجد وعبادته ، فيكون المراد من منعهم عن ذكر اسم الله تعالى السعي في تشتت حالهم ، وتفرق بالهم ، وهجرانهم الأهل والديار ، وتشديد الرد عليهم ليسكتوا عن إظهار الحق ، وإزالة الباطل فتاهوا في الأرض بلا سند ولا ذنب غير أنهم يقولون (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [سورة الأحقاف ، الآية : ٣١] بل لا يبعد التعدي إلى مطلق ما أعد لذلك كعرفات والمشعر الحرام ومنى.

ووجه كونه أظلم من غيره ، لأنه جمع في المساجد حق الله تعالى

٣٩٨

وحق الناس ، فوقع الظلم بالنسبة إلى الحقين فيكون المنع عن ذكر اسمه فيها ظلما نوعيا ، وتترتب عليه المفاسد فيكون أظلم.

والمنع من ذكر اسم الله تعالى فيها أعم من أن يكون بالمباشرة أو التسبيب ورب سبب أقوى من المباشر.

والمراد بالذكر الأعم مما كان باللسان ، أو القلب ، أو الجوارح كالصّلاة مثلا ، ويشمل كل عبادة لله تعالى ولو كانت بمجرد الإمساك كالصوم في المسجد مثلا ، فإن الجميع داخل تحت عنوان ذكر الله تعالى إلّا أن ظهوره في البعض أكثر من الآخر ، وذلك لا ينافي ظهور الإطلاق. كما أن المراد من اسمه تعالى الأعم أي كل ما تصح به الإشارة إليه عزوجل وكان له تعالى.

قوله تعالى : (وَسَعى فِي خَرابِها). المراد به إما تهديمها كما وقع من بعض العتاة والجبابرة ، أو تعطيلها عن إقامة الشعائر فيها ، وحكم الآية المباركة عام لا يختص بفرد خاص. وما ورد في شأن النزول فقد ذكرنا مرارا أنه من باب التطبيق. وللمفسرين في المقام تفاسير غريبة لا يخفى بطلان بعضها.

قوله تعالى : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ). يمكن أن يراد بدخولهم خائفين الإخبار عن مستقبل حالهم بعد استيلاء المسلمين ، وتسلطهم عليهم ، وطردهم عنها ، كما في فتح مكة ، وفي الآية المباركة إشارة إلى منعهم عن دخول المساجد. أو أن يراد به الإخبار عن حالهم الفعلي من أنهم في خوف واضطراب أي : من صدر منه هذا الظلم يخاف على نفسه في الجملة ولو كان كافرا ، لأنه يرى نفسه محاربا له تعالى مباشرة. ويحتمل أن يكون تعجيبا منهم ، وتوبيخا لهم أي : أنه ما كان لهم إلّا أن يدخلوها خاشعين لله تعالى خائفين من عقابه تعالى لا أن يدخلوها مفسدين مخربين فانها وضعت لعبادة الله تعالى.

قوله تعالى : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ). الخزي بمعنى الإهانة والاستخفاف والانكسار ، وقد استعملت

٣٩٩

هذه المادة في القرآن الكريم بالنسبة إلى الدنيا والآخرة قال تعالى : (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) [سورة التوبة ، الآية : ٦٣] ، وقال تعالى : (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) [سورة فصلت ، الآية : ١٦] ، وقال تعالى : (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) [سورة الحج ، الآية : ٩] وقد ظهر خزيهم في عام الفتح بكسر أصنامهم ، وخذلانهم ، وتسفيه أحلامهم ، وتشتت دولتهم ، ولحوقهم الذل والهوان إلى غير ذلك مما أعد الله تعالى للظالمين فكيف بمن كان أظلم.

ولهم في الآخرة عذاب عظيم بما أعده الله تعالى للمحاربين مع الله ورسوله ومنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وما يترتب عليه من الفساد فالآية من القضايا العقلية.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ). المشرق موضع الشروق ، والمغرب موضع الغروب ، وهما أمران إضافيان يختلفان باختلاف حركة المنظومة الشمسية ، فتحقق المشارق والمغارب لا محالة ، ولذا قال تعالى في آية أخرى : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [سورة المعارج ، الآية : ٤٠]. وأما الاعتدالي منهما اثنان قال تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) [سورة الرحمن ، الآية : ١٧] ، والكل ملكه ، ومن مظاهر آياته تعالى.

وإنما خص جل شأنه المغرب والمشرق بأنهما ملكه عزوجل ، لأنه يستلزم مالكيته تعالى لجميع الجهات ملكية حقيقية ، فإن الكل تحت سلطانه وربوبيته فالمتوجه إليهما متوجه إليه تعالى.

قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ). المراد بالتولي هنا الإقبال والتوجه اليه عزوجل. وقد تقدم معنى الوجه في قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [سورة البقرة ، الآية : ١١٤]. والمراد به في المقام التوجه.

٤٠٠