مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

بحث فقهي :

المحرمات في الشريعة المقدسة تارة : تكون المفاسد فيها شخصية فقط كشرب السم مثلا ، وأخرى : تكون شخصية ونوعية كالظلم وثالثة : تكون منهما مضافا إلى معرضية المعارضة مع النبوات السماوية كالسحر ، وحيث إن العقل يستقل بقبح الجميع خصوصا الأخيرتين فلا بد وأن تكونا محرمتين في جميع الشرايع الإلهية ، فالسحر محرم في شريعتي موسى وعيسى (عليهما‌السلام). وقد ورد في سفر اللاويّين الإصحاح التاسع عشر من التوراة : «لا تلتفوا إلى الجان ولا تطلبوا التوابع [النفاثات في العقد] فتتنجسوا» ، وقال في الإصحاح العشرين منه : «وإذا كان في رجل أو امرأة جان أو تابعة ، فإنه يقتل بالحجارة يرجمونه دمه عليه».

ثم إنه قد استدل بعض الفقهاء بقوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) ـ الآية على جواز تعليم السحر وتعلّمه ، لأن المنزل هو الله تعالى ، والملك معصوم ، فلا يعقل أن يكون محرما.

وفيه : إن التأمل في مجموع الآية الشريفة صدرها وذيلها يدل على ان الاستدلال بها على الحرمة أولى من الاستدلال بها على الجواز ، فإنها قد عدت السحر في عرض الكفر فكيف يستدل بها على الجواز؟ نعم قد يعرض الجواز لعناوين خارجية ، كما تزول حرمة الكذب لعروض عناوين توجب رفع الحرمة. والمسألة محررة فى الكتب الفقهية.

بحث كلامي :

لا ريب في أنّ ما يفاض على الممكنات لا بد أن ينتهي إليه سبحانه وتعالى بنحو الاقتضاء ، للأدلة العقلية والنقلية ، ففي الأثر المعروف ـ المنقول متواترا بين الفريقين ـ عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لا إله إلّا الله وحده وحده وحده» فإن الوحدة الأولى إشارة إلى وحدة الذات ، والثانية تشير إلى وحدة الصفات أي سلب جميع النقائص عنه تعالى ، وفي الثالثة إشارة إلى وحدة الفعل أي أنه مبدأ الكل ، وأنه لا

٣٦١

حول ولا قوة إلّا به ، فهذه الجملة المباركة جامعة لأنحاء التوحيد ، ولكن ذلك لا ينافي قانون الأسباب والمسببات فان الله تعالى أبى ان يجري الأمور إلّا بأسبابها ومن ذلك يعلم وجه انتساب المعجزة ، وخوارق العادات ، والكرامات والسحر والطلسمات إليه تعالى. وقد فرق الفلاسفة والمتكلمون بين المعجزة والسحر بعد اتحادهما في أنهما صادران من عالم آخر غير عالم المادة : وأنّ هدفهما هو الإنسان لا غير بوجوه عديدة :

الأول : بحسب المنشأ ، فإن المعجزة قوة إلهية تبعث في النفس ذلك التأثير بعد صفائها وارتباطها مع الله تعالى ، والاستفاضة من القدرة الإلهية. والسحر ينبعث عن نفس خبيثة مرتبطة مع الشياطين كما تقدم.

الثاني : الفرق بحسب الذات ، فإن المعجزة من طرق الهداية والصّلاح والخير ولا تصدر إلّا من النفوس الخيّرة ، بخلاف السحر فإنه من طرق الضلال والغواية والشر ، ولا يصدر إلّا من النفوس الشريرة.

الثالث : الفرق بحسب الغاية ، فإن الغاية من المعجزة هي الدعوة إلى الحق وتثبيت دعوى الأنبياء ، ولذا تكون مقرونة غالبا مع التحدي فلا تصدر من الكاذب. وأما السحر فإن الغاية منه الشر والإضرار.

الرابع : إن الشخص الذي تجري على يديه المعجزة ذو نفس كاملة قد اجتهد صاحبها في القيام بمراد المحبوب اعتقادا وعملا عن علم بأصول الشريعة وفروعها يدعو إلى الحق ، وهو يعمل بما يدعو إليه ، فإن لمثل هذه النفوس إرادة قوية ولها خلاقية في الجملة لانبعاث إرادتهم عن إرادة العليم الحكيم ، إما مباشرة كالأنبياء والأوصياء ، أو بواسطتهم كعباد الله الصالحين. وهذا بخلاف السحر ونحوه فإن صاحبه لا يكون كذلك ، بل له نفس شريرة كدرة لا يصدر منها الخير ، مرتبطة مع الشياطين ومن يحذو حذوها.

الخامس : المعجزة ليست مكتسبة ولم تكن لها قواعد مطردة ، بل هي تصدر حسب إرادة الله تعالى ، فإما أن تكون خارقة للعادة واقعا وظاهرا ، أو بحسب الظاهر وإن كانت في الواقع مطابقة لقانون السببية

٣٦٢

والمسببية. وأما السحر فهو علم له قواعده وأحكامه يصدر عن تعلم وتجربة. وهناك فروق أخرى أغمضنا النظر عن ذكرها ، فإن الأمر وجداني ظاهر لكل من رجع إلى وجدانه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥))

ذكر سبحانه وتعالى جهالة أخرى من جهالات اليهود وهي من مظاهر تحريفهم للكلام عن مواضعه ، وسوء أدبهم مع الأنبياء (عليهم‌السلام) ثم بيّن العلم الحق بعد أن أبطل بعض العلوم في الآيات السابقة وجعله كالكفر وبدأ أولا ببعض آداب التعلم ، ووجّه الخطاب للمؤمنين تشريفا لهم وإيذانا بعلو التعليم والتعلم ، ولما كان في هذا الأمر ارتباطا بينهم وبين اليهود.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). ذكر هذا الخطاب في القرآن الكريم في ما يزيد على ثمانين آية نزلت جميعها في المدينة. وفي جملة كثيرة من الأحاديث أنه ما أنزلت آية فيها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا وعليّ رأسها وأميرها. وعن علي (عليه‌السلام) «ليس في القرآن يا أيّها الذين آمنوا إلّا وفي التوراة يا أيها المساكين» ويأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات.

ويشمل الخطاب كلا من الحاضرين في مجلسه والغائبين بل المعدومين أيضا ، لأنه متعلق بالعنوان من حيث كونه طريقا إلى المعنون. وإنما ذكر الإيمان في متعلق الخطاب ، لأجل الترغيب إليه وتحريض النّاس إلى الاتصاف به ابتداء ثم العمل بما يتعلق به ، فيكون مثل هذا الخطاب أشد في جلب القلوب وآكد في الدعوة إلى المطلوب ، وله نظائر كثيرة في

٣٦٣

كلام الفصحاء من العرب وغيرهم.

قوله تعالى : (لا تَقُولُوا راعِنا). لفظ «راعنا» سواء كان من المراعاة أو من الرعونة ، أو شيئا آخر ، ليس استعماله من الأدب المحاوري ، وفي خطاب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بذلك من الجفاء وسوء الأدب لأنه يأتي بالمعنى الذي بيّنه تعالى بقوله جلّ شأنه (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) [سورة النساء ، الآية : ٤٦] وذلك لأن مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مقام المعلم الهادي ولا بد للمتعلم من حفظ الأدب معه ، ونبذ كل ما هو مشتبه الإهانة والهتك فضلا عن معلومهما. ويحترز عن إظهار منزلة لنفسه عند المعلم فإنه من الإهانة والجفاء بمقامه.

والمعروف أنّ هذه الكلمة سب بالعبرانية ، كما ورد في بعض الروايات. وقال شيخنا الأستاذ البلاغي (رحمة الله عليه) : «قد تتبعت العهد القديم فوجدت أن كلمة «راع» ـ بفتحة مشالة إلى الألف ، وتسمى عندهم (قامص) ـ تكون بمعنى الشر أو القبيح ومن ذلك ما في الفصل الثاني والثالث من السفر الأول من توراتهم. وبمعنى الشرير واحد الأشرار ، ومن ذلك ما في الفصل الأول من السفر الخامس ، وفي الرابع والستين والثامن والسبعين من مزاميرهم ، وفي ترجمة الأناجيل بالعبرانية. و «نا» ـ ضمير المتكلم ـ في العبرانية تبدل الفها واوا أو تمال إلى الواو فتكون راعنا في العبرانية بمعنى شريرنا ونحو ذلك» فتكون الكلمة في لغتهم «راعينو» موافقة للعربية في نبرتها ولهجتها ، ويكون النهي عن استعمالها لئلا يتخذها اليهود ـ الذين عرفوا بسوء الأدب مع أنبيائهم ـ وسيلة للسب والطعن في الدين فيقتدون بالمؤمنين في اللفظ ، ويقصدون المعنى الفاسد منه.

قوله تعالى : (وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا). أي : أمهلنا حتّى نفهم ما تقول ، أو راقبنا في إدراكنا وأقبل علينا. وهذه الكلمة خير من الكلمة الأولى فإنها تفيد ما كانوا يريدونه ، وتنفي ما كانت توهمه الكلمة الأولى. واسمعوا

٣٦٤

أي : افهموا ما يبين لكم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيتحقق حينئذ حقيقة الاستفادة والتعلم.

قوله تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ). أي : أن من فعل ذلك منكم ولم يسمع قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وخالف أمره يصير كافرا وللكافرين عذاب اليم بلا فرق بين اليهود وغيرهم فان حكم الآية المباركة عام ، إذ هو من الأحكام الفطرية الحسنة التي يحكم بحسنها العقلاء ، ولا بد من مراعاة ما ورد فيها من الآداب على جميع المتعلمين والمستفيدين. وتشير الآية المباركة إلى مدح كون المستفيد والمتعلم في مقام الفهم والإدراك ، وحسن التماسه ذلك من المعلم ، كما تشير إلى أنّ إفادة المفيد لا بد وأن تكون بقدر استعداد المستفيد والمتعلم وعلى قدر القابليات ، وتدل على ذلك النصوص الكثيرة ، وقد روى الفريقان عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم النّاس على قدر عقولهم».

قوله تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ). أي : ما يحب الذين كفروا من اليهود والنصارى ولا من المشركين أن ينزل عليكم أيّ خير. وكلمة «من» تفيد الاستغراق لوقوعها في حيّز النفي وفي إتيان كلمة «ربكم» إشارة إلى عطفه تعالى على هذه الأمة.

والمراد من الخير في المقام كل خير دنيوي وأخروي فيشمل منصب النبوة وما يلزمها من المعارف والكمالات الإنسانية المنبعثة عن هذه الشريعة المقدسة الغراء. والسبب في حسد الكفار والمشركين على المؤمنين هو تمني الكفار أن تكون فيهم الحركة الدينية فلا يتعدى إلى غيرهم. وأما المشركون فلأن الإسلام يهدد كيانهم ، ويخيّب آمالهم.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ). تقدم معنى الرحمة في سورة الحمد ، ويراد منها في المقام بقرينة «ب» التبعيضية خصوص تلك الرحمة التي أنزلت على نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومن تبعه من

٣٦٥

المؤمنين وهي النعمة الكاملة الدائمة الأبدية والكمال الأتم المطلق ، وهي حقيقة الإيمان التي مثلت في نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثم أشرقت منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على تابعيه وأمته الجامعة للرحمة الرحمانية والرحيمية.

قوله تعالى : (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). ذكرت هذه الجملة المباركة في موارد كثيرة من القرآن الكريم ، كما وردت مادة (ف ض ل) في مواضع أخرى منه ، قال تعالى : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٥٣] ، وقال جلّ شأنه : (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٢٥١] ، وقال تعالى : (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٩] إلى غير ذلك من الآيات الشريفة ، ومن أسمائه الحسنى المباركة «يا دائم الفضل».

وأصل هذه المادة تستعمل في الزيادة على ما يلزم على المعطي إعطاؤه ، وعلى ما يستحقه المعطى له ، فيكون إحسانا وزيادة فلا تطلق على عوض المال والعمل. نعم إذا أعطي زيادة على المثل أو القيمة أو المسمى كان فضلا. ومواهب الله تعالى على جميع خلقه من هذا القبيل على فرض الاستحقاق فضلا عن أنه لا وجه لأصل الاستحقاق ، فهي فضل وتفضل منه عزوجل سواء كان بالنسبة إلى المعنويات أو الماديات أو بالنسبة إلى النشآت الأخرى.

وفي الآية المباركة رد على الكفار والمشركين وعلى جميع الحاسدين بما يبين جهلهم أي أنه لا يمنعه مانع ، ولا يحوله حسد حاسد من اختصاص رحمته بمن يشاء من عباده حسب ما يراه من المصلحة فإنه ذو الفضل العظيم.

بحث روائي :

العياشي عن علي بن الحسين (عليهما‌السلام): «ليس في القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا وفي التوراة يا أيها المساكين» ورواه الصدوق عن علي

٣٦٦

(عليه‌السلام) أيضا.

وعن أحمد بن حنبل في المسند عن ابن عباس قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ما أنزل الله آية فيها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا وعليّ رأسها وأميرها».

وفي ينابيع المودة أخرجه موفق بن احمد عن مجاهد وعكرمة عن ابن عباس عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وقال موفق في المناقب رواه جماعة من الثقات هم الأعمش والليث وابن أبي ليلى وغيرهم عن مجاهد وعكرمة ، وعطا عن ابن عباس عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وفي الصواعق أخرجه الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ما أنزل الله آية فيها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا وعليّ أميرها وشريفها».

وقال الإربلي في كشف الغمة نقل ذلك عن ابن مردويه بأسانيده عن ابن عباس وحذيفة. وفي حلية النعيم إن النّاس يروون هذا الحديث.

أقول : نقل ذلك عن الإمامية بطرق متواترة ، وهو حق لا ريب فيه لأن عليا (عليه‌السلام) أعلم النّاس بالقرآن ، وبجهات الإيمان بإجماع المسلمين ، فتكون الروايات الواردة في الآيات المتفرقة في حق علي (عليه‌السلام) من باب الانطباق.

وفي ينابيع المودة عن أبي الحسن والضحاك وعلقمة : «ان كل شيء من القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فانه نزل بالمدينة».

أقول : مثل هذه الرواية موافقة للاعتبار ، لأن مكة المكرمة بدء نزول الوحي كانت بمنزلة المادة للإيمان وفي المدينة المنورة تحققت الصورة ، فيصح توجيه الخطاب حينئذ.

وعن الشيخ في التبيان عن الباقر (عليه‌السلام) في قوله تعالى «راعنا» إنها كلمة سب.

٣٦٧

الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) ـ الآية وذلك أن العرب كانوا يتكلمون بها فلما سمعتهم اليهود يقولونها للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أعجبهم ذلك. وكان راعنا في كلام اليهود السب القبيح ، فقالوا : إنا كنّا نسب محمدا سرا ، فالآن أعلنوا السب لمحمد ، فكانوا يأتون نبي الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيقولون : يا محمد راعنا ويضحكون ففطن بها رجل من الأنصار وهو سعد بن عبادة ـ أو سعد بن معاذ ـ وكان عارفا بلغة اليهود ، فقال : يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفس محمد بيده لئن سمعتها من رجل منكم لأضربنّ عنقه. فقالوا : ألستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) ـ الآية.

أقول : الرواية حسب الإعتبار صحيحة وتقدم وجه ذلك كما ذكرنا عن بعض مشايخنا.

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨))

بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى أنه ينزل الرحمة والوحي على من يشاء من عباده بيّن سبحانه وتعالى استيلاءه على الحكم بكل ما يشاء من النسخ والإثبات ، لأنه مالك السموات والأرض وعلى كل شيء قدير ، وفي الآيات المباركة رد لمزاعم اليهود الذين يحدّدون قدرته تعالى بحد خاص ، وقد ذم سبحانه وتعالى أيضا توجيه كل سؤال ينبعث عن قصور العقول إلى رسوله الكريم كما فعلت اليهود بالنسبة إلى موسى (عليه‌السلام). وهذا في الواقع يكون ذما للتقليد عن الكفار.

٣٦٨

التفسير

قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ). النسخ يأتي بمعنى إزالة شيء بشيء يتعقبه ، يقال نسخت الشمس الظل ؛ ونسخ الظل الشمس ، ونسخ الشيب الشباب ، ويستلزم ذلك أمور :

الأول : النقل كما يقال نسخت الكتاب ، وقال تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة الجاثية ، الآية : ٢٩] وهو عبارة عن نقله وضبطه.

الثاني : مجرد الإزالة إذا لوحظ بالنسبة إلى المنسوخ فقط وعن بعض المفسرين أن منه قوله تعالى : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) [سورة الحج ، الآية : ٥٢] أي يزيله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف ، والظاهر بطلانه لتذييل الآية المباركة بقوله تعالى : (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي يزيل ما ألقاه الشيطان وهو الباطل ويثبت الحق وأما نسخ التلاوة فسيأتي بطلانه إن شاء الله تعالى.

الثالث : الإثبات إذا لوحظ بالنسبة إلى الناسخ فقط.

الرابع : هما معا إذا لوحظ بالنسبة إليهما معا فيكون بمعنى التبديل أيضا ، ومنه اصطلاح العلماء في النسخ المبحوث عندهم أي تبديل ما كان ثابتا من الحكم الشرعي بدليل معتبر على خلافه. والتناسخ المعروف عند أهله أيضا من النقل والإزالة كما لا يخفى.

ومن ذلك يعلم أنّ تخصيص العمومات ، وتقييد المطلقات ، والقرائن العامة أو الخاصة على خلاف الظاهر ليس من النسخ في شيء لا موضوعا ولا حكما.

والآية هي العلامة ، وتطلق على تمام الآية وعلى الجزء منها ، بل قد أطلق القرآن الآية على ما جاء في الكتب الإلهية السابقة قال تعالى : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١١٣] ، وقال تعالى : (أَلَمْ

٣٦٩

يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) [سورة الزمر ، الآية : ٧١].

والمراد بها العلامات الدالة على وحدانيته تعالى ، وصفاته المقدسة وأفعاله الحسنى ، والأنبياء ، والقرآن ، وسائر المعجزات فلا تختص بخصوص الآيات المباركة القرآنية ، ويستفاد هذا التعميم من قوله تعالى في ذيل الآية المباركة (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وقال الشاعر :

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

وإن كان شأن النزول ـ كما في بعض التفاسير ـ آيات الأحكام الواردة في القرآن ، وقد ذكرنا مرارا أن شأن النزول من باب التطبيق لا التخصيص. فهي قابلة للشدة والضعف فربما يكون شيء آية له تعالى من جميع جهاته وقد يكون من جهة. والنسخ قد يتعلق بالجميع وقد يتعلق بالبعض.

قوله تعالى : (أَوْ نُنْسِها). من النسيان حذف حرف العلة للجزم بالعطف على «ننسخ» والفعل «انسى ينسي» بمعنى ترك الحفظ إما لقصور ، أو تقصير ، أو عن علم وتعمد ، لحكم ومصالح تترتب عليه. ومن الأول قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٦] ، وقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان».

ومن الثاني قوله تعالى : (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) [سورة الجاثية ، الآية : ٣٤] ، وقوله تعالى : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ) [سورة السجدة ، الآية : ١٤] ، وقوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [سورة الحشر ، الآية : ١٩] والتقصير إنما هو من العبد لا منه تعالى ، فإنه يجازي المقصرين حسب تقصيرهم. ومن الأخير قوله تعالى : (أَوْ نُنْسِها) أي نترك حفظ الآية لمصالح.

وترك الحفظ تارة : لعدم الوحي مع وجود المقتضي له ، لمصالح في الترك تغلب على المقتضي. وأخرى : ترك الحفظ عن قلب نبينا الأعظم

٣٧٠

(صلى‌الله‌عليه‌وآله) مع صدور الوحي اليه. وثالثة : بالإزالة عن قلوب المخاطبين مع صدور الوحي على لسان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله). ويصح الجميع بالنسبة إليه عزوجل فان ما سواه تحت إرادته. واستعمال النسيان في ما ينبغي أن ينسى كثير ، وفي المثل المعروف «احفظوا أنساءكم» أي التزموا بأنسائها وعدم الالتفات إليها وعدم ترتيب الأثر عليها ، وهي عبارة عن ذمائم الصفات التي يرتكبها الشخص في المجتمع على الغير أو يرتكبها الغير عليه.

وقال بعض المفسرين إن قوله تعالى : (نُنْسِها) أي نؤخرها من الإنساء ، ومنه قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «صلة الرحم مثراة للمال ، ومنسأة للأجل» ، ويقال : نسأ الله أجلك ، وقد انتسأ القوم إذا تأخروا ، أو تباعدوا.

ويمكن المناقشة فيه : بأن الكلمة لو كانت من الإنساء بمعنى التأخير لما جاز حذف الياء ، لأنها ليست حرف علة والقراءة المشهورة على خلافه ، مضافا إلى أن التأخير ملازم للترك أيضا.

ولا تنافي بين هذه الآية المباركة وقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [سورة الأعلى ، الآية : ٦] لأن الأخير بحسب التأييد الإلهي ، والأول بحسب ذات الطبيعة البشرية. بل يمكن أن يقال : إن الآية المباركة لا تشمل نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالنسبة إلى القرآن ، لأنه مؤيد بروح القدس ومتصل بالمبدأ القيوم. نعم في الموضوعات الخارجية ورد الإنساء بالنسبة إليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما تقدم في قوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) [سورة البقرة ، الآية : ٣٦] فراجع.

قوله تعالى : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها). اي نأت بخير من تلك الآية المنسوخة في الأثر ، وأنفع منها في الإقناع والصّلاح وفق المصالح ، لأن الدار دار التكامل ، وأفعال الله تعالى مبتنية على المصالح التكاملية مع اقتضاء علمه الأتم وحكمته البالغة في ذلك أيضا.

قوله تعالى : (أَوْ مِثْلِها). في التأثير ليتذكر الإنسان ما قد نسيه

٣٧١

منها.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). هذا بمنزلة التعليل لاستيلائه تعالى على النسخ والإنساء ، فإنّ قدرته التامة غير المحدودة تقتضي ذلك ، وهو قرينة على أن المراد من الآية ليس خصوص القرآن ، بل تشمل كل آية دالة على وحدانيته وصفاته الحسنى ، فتشمل المعجزات الباهرات ومنها القرآن الكريم الدالة على نبوة أنبياء الله تعالى.

والخطاب للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) تشريفي ، ولأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بمفرده بمنزلة الجميع ، ولبيان طريق الاستدلال له حتّى يتعلم منه الجميع. ويعتبرونه الواسطة بينهم وبين الله تعالى. والاستفهام تقريري وهو أبين في الإثبات من نفس الاستدلال.

ثم إنه تعالى أراد تثبيت ايمان المؤمنين لئلا يتأثروا بشبهات الكافرين فأقام الدليل الآخر على تمام قدرته.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). أي أنه مالك لهما خلقا وإيجادا ، وإرادة وتدبيرا ، والنّاس كلهم عبيده يفعل ما يشاء فيهم ويحكم ما يريد لا يعجزه شيء. والخطاب للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) تشريفا والمراد به غيره.

قوله تعالى : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ). التفات في الخطاب من الإفراد إلى الجمع لما ذكرناه والولي هو القائم بالأمر ومدير الرعية ومدبر أمورها. والنصير من يطلب النصرة والتقوية منه. أي : إنّ وليكم وناصركم هو الله تعالى وحده وهو يفعل فيكم بما تقتضيه حكمته البالغة ولا يفوته أحد ، فهو الذي يقدر الإنسان على العمل بنحو الاقتضاء ، كما أنه المالك للثواب والعقاب فيكون تعالى مبدأ الكل ومنتهاه.

والآية من الأدلة العقلية على تمام قدرته وكمال إرادته ، وكما لها نظير في الآيات القرآنية ، وفيها إشارة إلى لزوم انقطاع العباد إليه تعالى لانحصار الولاية فيه والإعانة منه عزوجل فهو مسبب الأسباب بما يشاء وإن كان جعلها تحت اختيار العبد وقدرته فلا بد وأن يكون السعي من العبد والنصرة

٣٧٢

منه عزوجل ، فإن وافقت نصرته تعالى لسعي العبد فذلك هو الفوز العظيم وإن تخلفت فهو الخسران المبين.

قوله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ). أم هنا منقطعة بمعنى بل ، وتتضمن الاستفهام فتكون إضرابا عن عقائدهم الفاسدة بما هو أفسد. والمراد بالسؤال كل سؤال لا يصدر عن فكر وروية بل يصدر عن عناد ولجاج ، ويكون منشؤه الجهل المركب. وقد بيّن سبحانه وتعالى بعض تلك الأسئلة في آيات أخرى ، فقال تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [سورة الإسراء ، الآية : ٩٠] والمراد بالسائل كل من تصدى له سواء كان من الكفار أو المشركين أو المنافقين.

والسؤال في الآية المباركة عام يشمل ما وقع في عصر البعثة بالنسبة إلى اصل حدوث الشريعة وما يقع بعدها إلى يوم القيامة كما قال تعالى : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [سورة المائدة ، الآية : ١٠١] واستنكار إرادتهم للسؤال يستلزم استنكار وقوع المراد بالأولى ، فهي أشد من تقبيح المراد والذم عليه ، فيصير نظير قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة القصص ، الآية : ٨٣] فنفى تعالى اصل تحقق المراد منهم بنفي اصل الإرادة.

قوله تعالى : (كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ). فقد طلب فرعون وقومه من موسى (عليه‌السلام) الآيات الواحدة تلو الأخرى ولم يؤمنوا بها استكبارا منهم وعنادا ، وكذلك فعل بنو إسرائيل فإنهم سألوا موسى (عليه‌السلام) أن يريهم الله تعالى جهرة كما حكى الله تعالى عنهم ، فقال عزوجل : (إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [سورة البقرة ، الآية : ٥٥] ، وقال تعالى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٣٨] وغير ذلك من اقتراحات بني إسرائيل على موسى (عليه‌السلام) من قبل.

وقيل : إن بعضهم سأل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أن يجعل

٣٧٣

لهم ذات أنواط كما كان عند أقوام آخرين. فحقيقة الجهل المركب واحدة وان اختلفت مظاهرها. وقد أخبر نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بأن ما وقع في بني إسرائيل يقع في هذه الأمة أيضا. ولا ريب أن تلك الأسئلة لا تصدر إلّا ممن طبع على اللجاج والعناد ، وعدم الإعتقاد بما جاء به الأنبياء ، ولذا أنكر عليهم سبحانه وتعالى.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ). التبديل هو جعل شيء بإزاء شيء آخر بدلا منه. والسواء هو الوسط ، وسواء السبيل الصراط المستقيم. أي إن من عاند أنبياء الله تعالى ولم يؤمن بما جاؤا به بكثرة السؤال فقد اختار الكفر على الإيمان ، ومن كان كذلك فقد ضل عن الصراط المستقيم.

والمراد بالتبديل حقيقته الأعم من أن يكونوا قد قصدوا ذلك أو لم يقصدوه ، وهذه العناية لم توجد في التعبير بالشراء والاشتراء الواقعين في آيات اخرى.

والسرّ في ذلك ما ثبت في الفلسفة العملية من أن أفعال العباد وإن كانت معلولة للإنسان لكنها مع كونها كذلك لها جهة علّية في نفس الفاعل ، فتكون مؤثرة فيه بنحو من الأنحاء فيصير علة لعمله ، وعمله علة مؤثرة فيه أيضا ، فإذا كان العمل الصادر من الإنسان خيرا أثّر فيه وأوجب صفاء نفسه ونورا في قلبه ، وإن كان شرا أوجب ظلمة وكدورة فيها حتّى تصل إلى ما قاله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) [سورة المطففين ، الآية : ١٤] وحينئذ يرى الفاعل أثر فعله في هذه الدنيا فلا اختصاص لقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزال ، الآية : ٨] بالآخرة بل يعم جميع العوالم ، كما تدل عليه الأحاديث الكثيرة التي تأتي الإشارة إليها في محلها. وعليه فإذا لم يسلك الصّراط المستقيم انسلاكا اعتقاديا أو عمليا فقد ضل عن سواء السبيل.

٣٧٤

بحوث المقام

بحث روائي :

في تفسير العياشي : «عن الباقر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) «فقال (عليه‌السلام) الناسخ ما حوّل ، وما ينسيها مثل الغيب الذي لم يكن بعد قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) قال (عليه‌السلام) : فيفعل الله ما يشاء ، ويحوّل ما يشاء مثل قوم يونس إذ بدا له فرحمهم ومثل قوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) قال (عليه‌السلام) «أدركهم برحمته».

أقول : ما ورد في الأحاديث في أصل النسخ وفي الناسخ كمية وكيفية كثير جدا ومتواتر بين الفريقين ، وما ذكره (عليه‌السلام) في هذا الحديث في النسخ بالمعنى العام أي مطلق التحويل والتغيير الشامل للبداء أيضا كما صرح في الرواية التالية صحيح لا إشكال فيه ، وتقدم في تفسير الآية ما يدل عليه أيضا.

وأما قوله (عليه‌السلام): «وما ينسيها مثل الغيب الذي لم يكن» يحتمل فيه معنيان ـ الأول : صدور الوحي إلى قلب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثم إنساء ما اوحي اليه قبل بيانه لمصالح فيه. الثاني : ثبوت المقتضي في عالم الغيب للوحي ثم ترك الوحي أصلا لمصالح فيه أيضا. والمنساق من الحديث المعنى الأخير ، لأنه باق على غيبه المكنون ، وعدم صدوره عن مرتبة الغيب إلى مرتبة اخرى من وحي وغير ذلك ، وهذا وجه حسن.

وفي تفسير العياشي عنه (عليه‌السلام) أيضا : «إن من النسخ البداء المشتمل عليه قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ونجاة قوم يونس».

أقول : كون البداء من النسخ بحسب المعنى اللغوي وهو مطلق التحويل صحيح لا إشكال فيه ، لكن المنساق من مجموع الروايات الواصلة

٣٧٥

إلينا أن مورد النسخ التشريعيات ، والبداء مورده التكوينيات ، وهذا الاختلاف بحسب المتعلق لا بحسب الذات.

وروي أيضا : «إن موت إمام وقيام آخر مقامه من النسخ».

أقول : ظهر وجهه مما تقدم من أن النسخ بمعنى مطلق التحويل أي تحويل الامامة من إمام إلى امام آخر.

وفي تفسير النعماني عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) ذكر عدة آيات من الناسخ والمنسوخ منها قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) نسخه قوله عزوجل : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي للرحمة خلقهم.

أقول : إن المراد من النسخ بالمعنى الأعم أي مطلق التحويل وإلّا فخلق الجن والإنس ليعبدون أي ليأمرهم بالعبادة كما في جملة من الأخبار ، وهو عبارة اخرى عن خلقهم للرحمة بعد امتثال الأمر.

وفيه أيضا قال (عليه‌السلام): ونسخ قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) قوله تعالى : (الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ).

أقول : هذا من سنخ التخصص بالنسبة إلى الآية الأولى. ولا ينافي ذلك قوله تعالى : (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) لفرض الخروج الموضوعي.

فما في بعض التفاسير من المنافاة بأنه لا وجه لتخصيص القضاء الحتم مغالطة بين التخصيص والتخصص. مع أنه لو كان القضاء الحتم تحت اختياره تعالى من كل جهة حدوثا وبقاء يصح التخصيص بالنسبة إليه أيضا ، وإنما أظهره تعالى بصورة التعميم والحتم لمصالح في ذلك.

وعن الواحدي في أسباب النزول في قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) ـ الآية : إن المشركين قالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه

٣٧٦

بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا؟ أما هذا القرآن إلّا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه وهو كلام يناقض بعضه بعضا فأنزل الله تعالى هذه الآية ونزل أيضا : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ).

أقول : إن ما قاله المشركون نشأ من عدم فهمهم للقواعد العرفية الدائرة بينهم.

وفي الدر المنثور عن قتادة : «كانت الآية تنسخ الآية وكان نبي الله يقرأ الآية والسورة ، وما يشاء الله من السورة ثم ترفع فينسيها الله نبيه ؛ فقال الله تعالى يقص على نبيه : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) فيها رخصة ، فيها أمر ، فيها نهي».

أقول : هذه الرواية لا تناسب مقام النبوة وحفظه لما يوحى اليه كما عرفت سابقا.

وعن الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس في قوله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) ـ الآية ـ : «نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي أمية ورهط من قريش ، قالوا : يا محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) اجعل لنا الصفا ذهبا ، وسع لنا أرض مكة ، وفجر الأنهار خلالها تفجيرا ، نؤمن بك فأنزل الله تعالى هذه الآية».

أقول : يدل على ذلك ما تقدم من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «بأن ما وقع في بني إسرائيل يقع في هذه الأمة أيضا».

بحث كلامي :

استدل بعض المفسرين بالآية الشريفة (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) على إمكان النسخ ووقوعه في القرآن الكريم ، وذكرنا ان المراد من النسخ في الآية المباركة غير المعنى المصطلح فيه ، بل هو بالمعنى الأعم. ولتوضيح ذلك لا بد من البحث فيه ولو على سبيل الإجمال.

معنى النسخ :

النسخ في اللغة هو الإزالة ويلازمها النقل والإبطال بالوجوه والاعتبار

٣٧٧

كما ذكرنا سابقا وبهذا المعنى كان معروفا في عصر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وما بعده فكانوا يطلقونه على التخصيص والتقييد بل على كل قرينة دلت على الخلاف كما عرفت.

واما بحسب اصطلاح العلماء فالمشهور بينهم أنه بيان انتهاء أمد الحكم الثابت سابقا. وتوضيح ذلك أن كل حكم إذا لوحظ بالنسبة إلى حكم آخر يتصور على وجوه :

الأول : الخروج الموضوعي أي الاختلاف بين الحكمين من ناحية الموضوع ، كخروج السؤال والالتماس عن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [سورة المائدة ، الآية : ١] فإنهما ليسا من العقود في شيء واصطلح العلماء على هذا القسم بالتخصّص.

الثاني : الخروج الحكمي مع بقاء الموضوع كخروج البيع الخياري عن العموم المتقدم فإنه بيع مع أنه لا يجب الوفاء به ، واصطلح عليه بالتخصيص.

الثالث : بقاء الموضوع والحكم على حالهما ، ولكن جعل الحكم كان محدودا بحد معين في عالم الإنشاء ، والتشريع ، وإنشاء الحكم بصورة الدوام والاستمرار لمصلحة ما ، فإذا انتهت مدة الحكم أقيم حكم آخر مقامه وهذا هو النسخ ، والفرق بين القسمين الأخيرين أن التخصيص خروج فردي وتحديد في الأفراد والحالات ظاهرا ، والنسخ تحديد في الأزمان في الواقع لا ان يكون التحديد في ظاهر الدليل ، وإلّا كان تقييدا أو تخصيصا ، بل الحكم أنشئ بصورة الدوام ولكنه في عالم التشريع مقيد إلى وقت معين. ولذا قيد العلماء في التعريف الحكم بالثابت أي : الثابت في الواقع ، وأما الثابت في الخارج فلا يرتبط رفعه خارجا بالنسخ ، لأن فعلية كل حكم تدور مدار تحقق موضوعه في الخارج فإذا وجد يترتب عليه الحكم لا محالة ، وإذا ارتفع يرتفع الحكم الفعلي ، وهذا لا ربط له بالنسخ بوجه من الوجوه ، ولا إشكال فيه من أحد.

٣٧٨

حقيقة النسخ والحكمة فيه :

لا ريب أن القوانين مطلقا ـ سواء كانت إلهية أو وضعية ـ تابعة للمصالح والمفاسد أي : أنها وضعت لتحقيق مصالح الإنسان ودرء المفاسد عنه ، فقد تقتضي المصلحة جعل القانون ثم تقتضي مصلحة أخرى رفعه أو تغييره ، وهذا مما تعارفت عليه القوانين الوضعية ، فإذا وضع الحاكم حكما لتنظيم العلاقات الفردية أو الاجتماعية ثم يرى عدم الفائدة في تطبيقه ، أو أنه لا يحقق المصالح المتوخاة من جعله يلغي ذلك القانون أو يصلحه بقانون آخر. ولم تخرج القوانين الإلهية عما تعارف عليه بين الناس ، بل لنا أن نقول أن النسخ كسائر ما يعرض على القانون من العموم والخصوص ، والإطلاق والتقييد. والمجمل والمبين من لوازم جعل القانون بحيث لا يمكن تصويره إلّا ومعه أحد تلك اللوازم.

والنسخ بهذا المعنى معلوم عند كل أحد لا ينبغي الإشكال فيه وهو بالنسبة إلى القوانين الوضعية صحيح ، فإن الواضع الجاهل بحقيقة الحال لا يعرف متى ينتهي وقت العمل بالقانون الذي وضعه ومتى يتغير ، ولكن ذلك لا يصلح في النسخ بالنسبة إلى القوانين الإلهية فإنه يستلزم الجهل بالنسبة إلى الشارع المقدس ، وهو مستحيل ، فلا بد وأن يستند النسخ إليه سبحانه وتعالى بوجه صحيح ، وعمدة الوجوه المحتملة هي :

الأول : إبداء الحكم بصورة الدوام لمحض المصلحة في الإنشاء والتشريع ، ثم تتبدل المصلحة الظاهرية إلى مصلحة واقعية في المتعلق والمجعول تقتضي نسخ ما أنشئ أولا ، نظير التكاليف الامتحانية.

الثاني : كون المصلحة الموجودة في المتعلق محدودة بحد معين في الواقع ولكن إنشاء الحكم بصورة الدوام لمصلحة في ذلك ثم إنشاء حكم آخر لمصلحة يقتضيها الوقت. وإنما ظهر من الحكم الثاني ان الحكم الأول كان محدودا بحد معين فانقضى حده ، وتبدل الأحكام بتبدل المصالح والمفاسد مما يشهد بصحته الوجدان والبرهان.

الثالث : كون الحكم ذا مصلحة كاملة من جميع الجهات في الإنشاء

٣٧٩

والمتعلق والدوام ، ثم تبدلت تلك المصلحة بأخرى مساوية أو أقوى اقتضت رفع الحكم الأول ونسخه ، فيكون مثل التخصيص إلّا أنه تخصيص زماني كما عرفت.

الرابع : كون الحكم في الواقع هو الحكم الناسخ الذي سيثبت بعد ذلك وإنما أنشئ المنسوخ لمصلحة مقدمية لبيان حكم الناسخ في ظرفه وجميع هذه الوجوه صحيحة في نسخ الله تعالى لأحكامه المتعالية ، ولا يستلزم منها أي نقص بالنسبة إليه عزوجل.

والحكمة في النسخ واضحة بعد ما عرفت ، لأنه من مظاهر ربوبيته تعالى العظمى ، فإنه عزوجل لم يكلف عباده إلّا بالتدريج والإمهال متلطفا بهم ، ومراعيا أحوالهم ، فكانت الشرايع الإلهية خطوات متصاعدة في رقي الإنسان ، وتربيته تربية تدريجية متكاملة ، فالنسخ يرجع إلى سياسة العباد والتعهد بهم ، كما أنه يظهر مقدار طاعة الإنسان ، فهو نوع من الامتحان ليميز الخبيث من الطيب. وهو بالأخرة من مظاهر علمه الأتم وحكمته البالغة ، فهو والبداء يتفقان في أنهما يكشفان عن علمه السابق إلّا أن الثاني مورده التكوينيات ، والأول مورده التشريعيات فهو عالم بحقائق الأمور ومحيط بكل شيء ولكن اقتضت حكمته البالغة أن تكون التكاليف على التعاقب والتدريج ، ومن ذلك يظهر إمكان النسخ ذاتا بالنسبة إليه تعالى ، وعدم الإشكال فيه بوجه من الوجوه.

النسخ ووقوعه :

ذكرنا أنّ النسخ واقع في القوانين الوضعية ، وأجمع المسلمون على وقوعه شرعا. وأدل دليل على إمكان الشيء ذاتا هو وقوعه ، فيمكن ادعاء إجماع العقلاء على جوازه في الجملة ، ولكن خالف في ذلك اليهود ، والنصارى ، وهم بين منكر لأصل جوازه ، أو منكر لوقوعه في شريعة من الشرايع ، واستدلوا على ذلك بأمرين :

الأول : أن النسخ يستلزم جهل الباري عزوجل ، أو عدم حكمته لأنّه إن علم سبحانه بأنّ المصلحة في الناسخ وأنّه يرفع المنسوخ فلا وجه

٣٨٠