مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

اللطيفة بالأجسام التي نشاهدها في عالم النوم ، وما يوجد في الذهن. وحيث إن وجود الملائكة لا يتوقف على المادة وتهيئة الأسباب فيكفي في إيجادها مجرد الأمر الإلهي ، وهي بجميع أقسامها من عالم الأمر (أي : ما يوجد بمجرد أمره تعالى من غير توقف على المادة والزمان ونحوهما) فمنها مالها مراتب ومنازل كالمدبرات أمرا ، والنازعات ، والفارقات ونحو ذلك ، ومنها ما ليس كذلك وقد اصطلح على تسمية الكل بالملائكة ، وعلى تسمية من له شأن من الشأن بالملك ، فكل ملك ملائكة وليس كل ملائكة ملك فنسبة الملك (بفتح الميم واللام) إلى البقية كنسبة الملك (بكسر اللام) إلى الرعية ، ويأتي تفصيل أحوال الملائكة وشؤونها وأفعالها في المحل المناسب إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ). إنّما خصهما تعالى بالذكر إعلانا بعلوّ شأنهما وتشريفا لهما ، أو لأنّ اليهود إنما خصوصهما بالذكر فقالوا : إنّ جبريل ملك الإنذار والعذاب ، وميكال ملك الرحمة فنزلت الآية ردا عليهم بأن معاداة أحدهما هي معاداة الآخر ومحبتهما كذلك. وإلّا فهما من سادات الملائكة ، وهم أربعة : جبريل الذي هو موكل بإفادة العلوم للذوات المستعدة لكل علم وفن وصنعة. وميكائيل موكل بالأرزاق. وإسرافيل موكل بإفاضة الأرواح لكل ذي روح. وعزرائيل موكل بقبض الأرواح ، ولكل من هؤلاء الأربعة أعوان وجنود لا يعلمها إلّا الله تعالى وهو المهيمن على الجميع.

قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ). أي : أنّ من كان كذلك لا يكون إلّا كافرا به تعالى والله عدو للكافرين ، وعداوته لهم عبارة عن سخطه تعالى عليهم وعقابه لهم ، وهم الظالمون لأنفسهم وكفى بذلك خزيا.

وفي الآية إشارة إلى أن عداوة الله لا تتحقق إلّا بسبق عداوة العبد له تعالى ، فهو كالموضوع لعداوته عزوجل ، والموضوع متقدم على ما يلحقه ؛ فبينهما ملازمة الجزاء والشرط. كما أن في الآية المباركة من الوعيد الشديد والذم لمعادي الملائكة لا سيما جبرئيل فإن اليهود وإن كانوا لا

٣٤١

يدعون معاداة جميع الملائكة ولكنه في الواقع كذلك فإن عداوة أحدهم تكون عداوة للكل. وفي وضع الظاهر موضع الضمير في قوله تعالى : (لِلْكافِرِينَ) إشارة إلى أن العلة في العداوة هي الكفر.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ). الآيات البيّنات أي الأدلة الواضحة التي لا ريب فيها على صدق نبوته من القرآن وسائر المعاجز.

قوله تعالى : (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ). الفسق الخروج يقال : فسق الرطب أي خرج عن قشره ، وكل من خرج عن طاعة الله تعالى فهو فاسق ، وله مراتب كثيرة تتفاوت بين الشدة والضعف ففسق الكفر مرتبة منه ، وفسق الكذب والغيبة المتداولين بين النّاس فسق أيضا. وهو الجامع بين المعاصي الكبيرة والصغيرة الواردة في الكتاب والسنة المشروح في علمي الفقه والأخلاق. بل يمكن القول بأن الفسق حجاب للقلب عن استشراقاته المعنوية من المبدأ القيوم ، فإما أن يعم الحجاب جميع القلب أو يكون حجابا عن بعضه فيكون كنقطة سوداء في القلب تتغير زيادة ونقيصة ، فإذا صدرت من الكافر معصية. كالكذب مثلا اجتمع فيه قبحان وخطيئتان : قبح الكفر وخطيئته وقبح الكذب وخطيئته ، ويأتي التفصيل في المحل المناسب.

والمعنى : إنّ معك أيّها النبي العظيم آيات بينات تدل على صدق دعواك وكل من أنكرها يكون خارجا عن الحق وقد استحب الكفر عنادا ، وعلى هذا يصح أن يراد بالكفر والفسق العقليان منهما أيضا لا خصوص الشرعي ، لأن رد تلك الآيات البينات خروج عن طريقة العقل والعقلاء ونور الفطرة في رد الآيات البينات من غير دليل وحجة بل بمجرد العناد والجحود والتقليد الأعمى.

قوله تعالى : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ). الواو في «أو» حرف عطف تصدر بأداة الاستفهام الدالة على التوبيخ والتقريع لعادتهم في نقض العهود. والعهد ما يلزم مراعاته وحفظه والقيام به والمراد

٣٤٢

به عهودهم مع الأنبياء والرسل. والنبذ هو طرح الشيء لقلة الاهتمام والاعتناء به.

قوله تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). فيه إيماء إلى ما قد يتبادر من لفظ الفريق القلة منهم ، فذكر سبحانه أن أكثرهم لا يؤمنون ، وهو في مقام التعليل لما يصدر عنهم من الأفعال القبيحة ونقض العهود ، يعني أنهم ينقضون العهد ، لأن أكثرهم لا يؤمنون. ويستفاد من هذه الآية المباركة عدم الوثوق بهم لاعتيادهم على نقض العهود ، وعدم رجاء الإيمان من أكثرهم.

كما يستفاد منها ذم الكثير والأكثر ، كما ورد في ما يقرب من مأة آية قال تعالى : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) [سورة الحج ، الآية : ١٨] ، وقال تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٩] إلى غير ذلك من الآيات المباركة بخلاف القليل والأقل ، فقد ذكروا بالمدح قال تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سورة سبأ ، الآية : ١٣] ، وقال تعالى : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [سورة النساء ، الآية : ٤٦] ولو تأمل شخص في أحوال عامة النّاس رأى أن ذلك حق مطابق للواقع ، وتدل على ذلك أقوال الأئمة (عليهم‌السلام) ففي الحديث : «المؤمنة أعز من المؤمن ، والمؤمن أعز من الكبريت الأحمر ؛ ومن رأى من أحدكم الكبريت الأحمر؟!».

وفي الآية المباركة تسلية لنبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وإخبار له بإدبار الأكثر عنه.

قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ). تقدم معناه في الآية ٨٩ أي : لما جاءهم محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الرسول من عند الله تعالى المصدّق لجميع ما أنزله الله تعالى من التوراة والإنجيل المشتملين على التوحيد وسائر المعارف الإلهية ، والأحكام التشريعية ، وصفات الرسول الذي وعدوا وبشّروا به وأنه من آل إسماعيل ، فإن أصول الأحكام واحدة وإن ظهرت تارة في صحف إبراهيم ، وتوراة موسى أخرى ، وإنجيل عيسى (عليهم‌السلام) ثالثة ، وقرآن

٣٤٣

نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) رابعة فمن نبذ واحدا منها فقد نبذ الجميع ، فالكل مصدّق للكل ، والجميع شريعة واحدة.

قوله تعالى : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ). نبذ الشيء وراء الظهر كناية عن ترك العمل به وكفرهم به. والمراد بكتاب الله مطلقه الأعم من التوراة والإنجيل والقرآن.

قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ). تنزيل لعلمهم منزلة الجاهل المقصّر في العصيان واستحقاق العقاب ، وفيه من المبالغة في الترك والإهمال ، ما لا يخفى. يعني أنكم مع علمكم بأنه الحق فقد نبذتموه وراء ظهوركم فلم تحرّموا حرامه ولم تحللوا حلاله ، فصار الجحود أشد ، والعقاب أكثر.

بحث روائي :

القمي في قوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) : «إنما نزلت في اليهود الذين قالوا لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : إنّ لنا في الملائكة أصدقاء وأعداء فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من صديقكم ، ومن عدوكم؟ فقالوا : جبرئيل عدونا ، لأنه يأتي بالعذاب ولو كان الذي ينزل عليك القرآن ميكائيل لآمنّا بك ، فإن ميكائيل صديقنا ، وجبريل ملك الفضاضة والعذاب ، وميكائيل ملك الرحمة».

أقول : رواه الفريقان ، وفي الدر المنثور قريب من ذلك.

وفي المجمع في الآية أيضا قال ابن عباس : «كان سبب نزول الآية ما روي أن ابن صوريا وجماعة من يهود أهل فدك لما قدم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) المدينة سألوه ، فقالوا : يا محمد كيف نومك؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان ، فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : تنام عيناي وقلبي يقظان ، قالوا : صدقت يا محمد ، فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة؟ فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل ، وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة. قالوا : صدقت يا

٣٤٤

محمد فما بال الولد يشبه أعمامه وليس فيه من شبه أخواله شيء؟ أو يشبه أخواله وليس فيه من شبه أعمامه شيء؟ فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أيهما علا ماؤه كان الشّبه له. قالوا : صدقت يا محمد. فأخبرنا عن ربك فما هو؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى : قل هو الله أحد ـ إلى آخر السورة ـ فقال له ابن صوريا : خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك واتبعتك ؛ أيّ ملك يأتيك بما ينزل الله عليك؟ فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : جبرئيل. قال : ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب ، وميكائيل ينزل باليسر والرخاء ، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك».

رواه الطبرسي في الإحتجاج عن جابر بن عبد الله. ورواه أيضا في الدر المنثور.

أقول : أما قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): تنام عيني وقلبي يقظان. فقد نقل مستفيضا عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهو كذلك بحسب ما أثبتوه من حضوره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عند ربه دائما ، كما يدل عليه قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على ما رواه الفريقان : «إني لست كأحدكم أبيت عند ربي فيطعمني ربي ويسقيني ربي» والمراد منهما الإفاضات المعنوية والجذبات الواقعية الرحمانية ، فلا يعقل حجاب لقلبه بمثل النوم والغفلة ونحوهما ، ويشهد له ما هو من خصائصه من أنه يرى من خلفه كما يرى من أمامه وأنه لا ظل له ، وتأتي تتمة الكلام في المواضع المناسبة إن شاء الله تعالى.

وأما قوله : (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل» فقد أثبت العلم الحديث ذلك أيضا كما يأتي مفصلا.

وفي الدر المنثور : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) قال ابن عباس : «هذا جواب لابن صوريا حيث قال لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل عليك من آية بينه فنتبعك بها فأنزل الله تعالى الآية».

٣٤٥

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣))

بيّن سبحانه وتعالى بعض أعمالهم الفاسدة ، كالافتراء على أنبياء الله تعالى ، والسحر ، ثم أبطل ذلك وحكم بكذبهم وأمر باتباع طريق الحق ، وأن التقوى خير لهم مما هم عليه.

التفسير

قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ). اختلفت أقوال المفسرين في هذه الآيات المباركة فصارت معترك الآراء والاحتمالات وقلّما يوجد مثلها في سائر الآيات الشريفة ، ومع ذلك فهي على فصاحتها وبلاغتها لم يعترها من تلك الاحتمالات إجمال ولا في حسن نظمها وفصاحتها كلال ، وليس ذلك إلّا من تقدير العليم الحكيم. ونحن نشير إلى ما يستفاد مما هو الظاهر منها.

فنقول : مادة (ت ب ع) تأتي بمعنى التقفية في الأثر ، والاقتداء والمتابعة سواء كان ذلك في الحق أو الباطل كقوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [سورة الجاثية ، الآية : ١٨]. والضمير يرجع إلى اليهود [الذين عمدوا الى هذه المتابعة سواء كانوا من يهود عهد سليمان أو من غيرهم ، بل يشمل غير اليهود أيضا ممن ينطبق عليه عنوان المتابعة]. وتتلوا إن كان بمعنى مطلق القراءة والبيان فالأمر واضح ، وإن كان بمعنى قراءة ما نزل من عالم الغيب على حسب دعوى الشياطين وزعمهم بأن ما يقرءون إنما هو من

٣٤٦

الغيب ، لكن بعد إثبات كفرهم في ذيل الآية الشريفة تكون هذه الدعوى منهم كاذبة لا محالة.

والمراد بالشياطين الأعم من شياطين الإنس والجن على حد قوله تعالى : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [سورة الأنعام ، الآية : ٧٢] ويحتمل أن يكون المراد خصوص شياطين الجن ، فإن شياطين الانس بمنزلة القوى العاملة لها.

والمراد بملك سليمان عهده وأهل مملكته ، ولعل ما في التعبير به إشارة إلى غلبة السحر والكهانة في ذلك الزمان حتّى استولى على ملك سليمان. وذلك لأن اليهود زعموا أن ملك سليمان إنما قام على أساس السحر والكهانة والطلسمات ونحو ذلك من الحيل التي نسبوها إليه كذبا وافتراء ، فغلبت على النّاس واعتادوا عليها واتخذوا السحر وسيلة إلى مقاصدهم وأغراضهم ، أو ليتوصلوا بها إلى الملك كما توصل سليمان به بزعمهم. وهذا يدل على شدة انغماسهم في الماديات. وإعراضهم عن الحقائق وأحكام الله تعالى وأنبيائه ورسله ، وهو لا يختص باليهود فإن كل قوم أعرضوا عن آيات الله واتبعوا أهواءهم ولم يقتدوا بالعلماء الداعين إليه تعالى صاروا مرتعا للشياطين ووساوسهم فيعملون كلما يشاءون في إبطال الحق وإفشاء الباطل وذلك هو الخسران المبين.

و «على» في قوله تعالى : (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) تصلح أن تكون بمعنى (في) أي في ملك سليمان أو بمعنى (مع) كما في قوله تعالى : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩٤] أي على ألسنة رسلك ، أو معهم.

قوله تعالى : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا). لأنّ إفشاء الباطل في عهده أو على ملكه من الشياطين لا دلالة فيه على أن سليمان اعتقد بالباطل بوجه من الوجوه بل إثبات النبوة له يمنع عن ذلك مطلقا ، وفيه تبرئة من الله لسليمان وإثبات الكفر لمن نسب اليه السحر.

والمراد بالكفر المنسوب إلى الشياطين الكفر المطلق فيصير المقام

٣٤٧

بالنسبة إليهم ، من باب التطبيق لا التخصيص ، أو بيان غاية قبح السحر. ثم بيّن تعالى بعض وجوه كفرهم بما ذكره جل شأنه.

قوله تعالى : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ). ليفتنوهم عن دينهم ويضلوهم عن سبيل الحق ، وفي الآية المباركة إشارة إلى قبح السحر بل إيجابه الكفر ، وقد عبّر في الأحاديث عن السحر بالكفر ، فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «السحر والشرك مقرونان» ، وعن علي (عليه‌السلام): «من تعلم شيئا من السحر ـ قليلا أو كثيرا ـ فقد كفر».

قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ). الملكين (بفتح اللام) تثنية الملك [بالفتح] ، وهي القراءة المشهورة ، وصريح بعض الروايات كما يأتي في البحث الروائي ، وقرأ بعضهم ملكين (بكسر اللام) تثنية الملك ، ولم يعهد ذلك في التاريخ ، ولو كان لشاع وبان ، وقد ذكروا في توجيه ذلك أمورا لم يقم عليها دليل من العقل أو النقل فالأولى الإعراض عن ذكرها.

وكيف كان فهما ملكان بعثهما الله تعالى لإتمام الحجة على شعب بابل ليعلّموا مضار السحر ، ويدفعوا به عن سحر السحرة وكيد الشياطين ، ولعل ذلك كان مقدمة لظهور دعوة أنبياء الله تعالى ، وإيذانا بزوال دعوة الشياطين إلى السحر والكهانة ونحوهما من الأباطيل ، وسيأتي معنى الإنزال.

قوله تعالى : (بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ). بابل هي المدينة المعروفة في العراق عاصمة البابليين أعظم مملكة في المعمورة في ذلك الحين. وقد دلت التواريخ على أنها كانت أقوى مركز للسحر والكهانة في تلك الأعصار ، بل ليس في الحضارات كلها حضارة أغنى في الخرافات من الحضارة البابلية. كما أنها كانت مركزا تجاريا هاما يؤمها التجار فكانت مورد اختلاف النّاس من أطراف العالم لأغراضهم الدنيوية ، ولذلك كثر تردد أنبياء الله (عليهم‌السلام) إليها لإظهار الحجة والبيان عليهم في كل فرصة يجدونها ، فالقادسية (بانيقا) موجودة حتّى الآن قرب بابل ، وهي محل رعي

٣٤٨

أغنام إبراهيم خليل الرحمن (عليه‌السلام) كما أن تل نمرود الذي ألقي الخليل منه في النار معروف في هذه المدينة وإنّ مقام إدريس وإبراهيم موجودان في مسجدي الكوفة والسهلة ، وعن أبي جعفر (عليه‌السلام) في وصف مسجد الكوفة : «إنها سرة بابل» ، وقبر هود وصالح (عليهما‌السلام) مشهوران في ظهر الكوفة. وعن علي (عليه‌السلام) في وقعة الخوارج أنه (عليه‌السلام) لما وصل إلى أرض بابل قال : «هذه أرض ملعونة قد عذّبت في الدهر مرتين وهي تتوقع الثالثة ، وهي إحدى المؤتفكات ، وهي أول أرض عبد فيها وثن» فاقتضت المصالح التكوينية والتشريعية أن يتم الله تعالى الحجة على أهل تلك الديار بما تقتضيه الظروف وأحوال العباد فأراد سبحانه وتعالى أولا أن يميز لهم الإرادة الوهمية الشيطانية والإرادة الغيبية الإلهية ، ثم التدرج في المعارف الإلهية بما تقتضيه الحكمة المتعالية.

وهاروت وماروت اسمان أعجميان وهما ملكان نزلا من السماء في صورة الإنسان وكانا بين النّاس مدة من الزمان فعلا ذكرهما وشاع أمرهما ، وكثرت مراودة النّاس إليهما حتّى صارا بمنزلة ملكين لهم. وقيل : إنهما من البشر كانا من أهل صمت ووقار. والظاهر أن أصحاب هذا القول نظروا إلى هذين الملكين بعد تجسمهما بصورة البشر فلا نزاع في البين. وقد أنزل الله تعالى هذين الملكين لتعليم الناس السحر وإنذارهم عن مضاره فيحذروا عن سحر السحرة وكيد الشياطين ، وكان ذلك لمصالح كثيرة ، منها : التمييز بين المعجزة والسحر ، وأن الأولى من الله تعالى ، والثاني من الشيطان وأعوانه. فالمراد بالإنزال في الآية المباركة إنما هو نحو من الإلهام ، وإنما ألهمهما الله تعالى ذلك لدفع المفاسد المترتبة على السحر ، لا لموضوعية فيه حتّى يكون من الإلهام الفاسد.

قوله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ). مادة (فتن) تأتي بمعنى الاختبار والامتحان سواء في الخير أو الشر ، قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [سورة الأنبياء ، الآية : ٣٥]. والمراد بها في المقام مطلق الاختبار ، لأنهم إنما نسبوا إلى سليمان (عليه‌السلام) السحر وافتروا عليه بأن تسخيره للجن والإنس وغيرهما إنما كان بواسطة السحر

٣٤٩

حتّى غلب على أهل عصره ، وكاد أن يذهب معجزة أنبياء الله تعالى رأسا ، فأنزل الله الملكين يعلمان النّاس السحر ، ليفرقوا بين الحق والباطل مع تصريحهما لمن كان يتعلمه بأن ما يتعلمه إنما هو لأجل الامتحان والاختبار ، ودفع كيد الشياطين والتفرقة بين الحق والباطل ، وأن السحر كفر فلا تكفر بتعلمك له كما ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك.

قوله تعالى : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ).

ذكر سبحانه مصداقا من مصاديق السحر لأجل كونه من أهمها الشايع بينهم.

قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). لفرض أن جميع الموجودات من خيرها وشرها مورد قضائه وقدره فلا يخرج أثر السحر عن تقديره تعالى وقضائه ، لئلا يبطل نظام القضاء والقدر وجعل المسببات مترتبة على أسبابها حسب ما اقتضته الطبيعة ، وما يختاره الفاعل المختار.

قوله تعالى : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ). النفع ما يتوصل به إلى الخير ، فهو خير وضده الضر. وقد استعمل ذلك في القرآن الكريم كثيرا ، قال تعالى : (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) [سورة الحج ، الآية : ١٢] وهو لفظ عام يشمل جميع موارد النفع في الدنيا والآخرة ، بل يطلق عليه سبحانه وتعالى فمن أسمائه المقدسة (يا ضار يا نافع) قال تعالى : (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ) [سورة يس ، الآية : ٧٣] ، وقال تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [سورة المائدة ، الآية : ١١٩] إلى غير ذلك من موارد الاستعمال في القرآن الكريم ، فيطلق على الواجب والجوهر والعرض في الدنيا أو الآخرة.

ثم إنّ النفع والضر إما واقعيان حقيقيان ، وهما المنساقان منهما في استعمالات القرآن. أو وهميان خياليان قال تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٦] وغالب أمور الدنيا مبنية على الوهم والخيال.

٣٥٠

والمعنى : إنهم يتعلمون من السحر ما كان فيه ضرر عليهم في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فلعدم إحاطة المعلم بالواقعيات ، ولا كون العلم من الوسائل إليها ، فإن المنفعة الوقتية الخيالية التي يجلبها من السحر مع ما فيها من الإيذاء لسائر النّاس لا تعد خيرا أصلا لا سيما إذا كان جزاؤه عظيما. واما في الآخرة فمع كون المعلوم قرين الكفر بالله تعالى فلا بد وأن يكون إثمه عظيما ، فقد أوقعوا أنفسهم في الخسران والنقصان بسوء اختيارهم. وفي نفي المنفعة بعد إثبات المضرة إشارة إلى وجود منفعة مّا في السحر ولكنها قليلة.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ). اللام للتوكيد وإن كانت في محل القسم. ولفظ (من) موصولة يصلح فيه الجنس والإفراد والجمع ، والضمير يعود إلى السحر. والخلاق النصيب من الخير ، يستعمل في القرآن في نصيب الآخرة.

والمعنى : إنّ الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين واختاروا السحر وسيلة لنيل مقاصدهم ، واستبدلوا ما في التوراة بذلك ونبذوه وراء ظهورهم يعلمون أنه ليس لهم في الآخرة نصيب ، لفرض وجود العقل فيهم وتمييزهم بين الخير والشر ، والنفع والضر ، وإتمام الحجة عليهم بدعوة الأنبياء وتحريم السحر عليهم فما بذلوه بإزاء تعلمهم السحر واتّباعه هو دينهم وآخرتهم. والقضية من القضايا العقلية التي لا اختصاص لها بقوم دون آخرين ، وهي استبدال الخير بالشر.

قوله تعالى : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). أي : ولبئس ما استبدلوا به أنفسهم ، لأنهم عرّضوا أنفسهم للهلاك والعذاب الدائم بما رضوا بالسحر ـ لو كانوا يعلمون علما فعليا بأنهم باعوا أنفسهم بأخسّ الأثمان وأقبحها. وفي الآية المباركة من الفصاحة ما لا يخفى على من تأمل فيها ، وتقدم نظيرها في الآية ٩٠ من هذه السورة.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ). مادة

٣٥١

(ث وب) تأتي بمعنى الرجوع في جميع متفرعاتها ، وسمي الجزاء ثوابا لأنه رجوع العمل بوجوده الحقيقي الواقعي إلى العامل. قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزال ، الآية : ٨] ، وقال تعالى : (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) [سورة المطففين ، الآية : ٣٦] وغلّب استعمالها في مقابل العقاب.

والمعنى : أنهم لو استبدلوا السحر ، واتباع الشياطين بالإيمان والتقوى لكان ثواب الله على أفعالهم الصالحة خيرا لهم من جميع ما اكتسبوه من أفعالهم. وتنكير المثوبة لبيان أنّ أقل ما يصدق عليه الثواب هو خير لهم مما عملوه.

قوله تعالى : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). المراد به العلم الفعلي ولو إجمالا أي : أنّهم لو كانوا يلتفتون إلى أنّ الإيمان بالله والتقوى أعلى درجات الكمالات في الإنسان ، وجزاء ذلك أغلى كل جزاء لعلموا قبح ما بدّلوه.

بحوث المقام

بحث دلالي :

يستفاد من الآيات المباركة أمور :

الأول : أنّ الله تعالى لم يبين حقيقة السحر في هذه الآية الشريفة ، وأجمل الأمر ، وإنما وصفه سبحانه في آية أخرى أنه تخييل وضرب من الخداع النفسي ، قال تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [سورة طه ، الآية : ٦٦] ، وقال تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) [سورة الأعراف ، الآية : ١١٦] ولعل الحكمة في ذلك أنه أوكل معرفة الحقائق المكتسبة إلى بحث الإنسان وجهده في تحصيلها ، وقد ذكرنا في قصة الخليقة ما يتعلق بالمقام.

الثاني : يستفاد من الآية المباركة أن السحر كان من الأمور العادية يتعلمه النّاس في تلك الأعصار ، وهذا من جملة الفروق بينه وبين المعجزة فإنها ليست كذلك ، وسيأتي مزيد بيان في البحث الآتي.

٣٥٢

الثالث : لعل الوجه في إنزال السحر على الملكين دون الأنبياء (عليهم‌السلام) إما لأجل أن الملكين كانا محشورين في الناس يعرفان كيد الشياطين ومكر السحرة ، أو لجلالة مقام الأنبياء (عليهم‌السلام) لئلا يتهمهم النّاس بما لا يليق بهم.

الرابع : تدل الآيات المباركة على أن في عمل السحر معرضية للكفر ولا ريب فيه لأن الأنس بما هو من شؤون الشيطان يوجب البعد عن ساحة الرحمن.

الخامس : الآية الشريفة تنص على أن تعليم الملكين للسحر إنما كان لغرض إفساد سحر السحرة ، وبيان السحر والمعجزة. وفيها إشارة إلى أن التفريق بين المرء وزوجه وغيره من الأعمال الفاسدة إنما هو من عمل النّاس ، وليس من تعليم الملكين ، وأنه كان ذلك من سوء اختيارهم ومنه يظهر السر في اختفاء جملة من العلوم ، والاسم الأعظم وبعض الدعوات المستجابة.

السادس : إنّ في قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) من الإيحاء النفسي للإنسان بأن لا يتأثروا بسحر السحرة فإنه ليس لهم تلك القوة الغيبية التي تؤثر على النفوس ، بل أعمالهم تستند على ضرب من الخداع والتخييل ، فما يحصل من المسببات المستندة إلى أسبابها إنما تكون بإذن من الله تعالى وقدره وقضائه.

السابع : يظهر من هذه الآية المباركة وما في سياقها من الآيات الشريفة أن العلوم التي يتعلمها الإنسان على أقسام ، منها ما ينفع لدينه ودنياه ، ومنها ما يضر بهما ، ومنها ما ينفع لدنياه ويضر بدينه ، ومنها ما يكون عكس ذلك ، ومنها ما لا نفع فيه أصلا وإنما هو من صرف الوقت في ما لا يعنيه ولا يفيده والمائز بين هذه الأقسام هو الكتاب الكريم ، والسنة المقدسة ، وقد ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وخلفائه المعصومين (عليهم‌السلام) أحاديث كثيرة تعين بعض العلوم النافعة للنّاس ، ولعل أجمعها قول نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إنما العلم

٣٥٣

ثلاثة : آية محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سنّة قائمة وما خلاهنّ فهو فضل» فذكر (صلى‌الله‌عليه‌وآله) علم المبدأ والمعاد من أصول العقائد ، وعلم التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل ، وعلم مسائل الحلال والحرام ، وشرايع الأحكام. فبيّن (صلى‌الله‌عليه‌وآله) العلوم الدخيلة في استكمال الإنسان في عوالمه الثلاثة (عقله وروحه وبدنه) وقد جمعها علي (عليه‌السلام) في عبارة موجزة : «العلم أكثر من أن تحيطوا به فخذوا من كل شيء أحسنه» هذا كله في العلم الذي له دخل في الكمال المطلق ، والسعادة الأبدية. وأما العلوم والصنايع والفنون فالناس بالفطرة يتوجهون نحوها ، فإن الدار دار الاستكمال والخروج من القوة إلى الفعلية فلا يحتاج إلى ترغيب من مرغب إلهي أو غيره ، فإن الساكن إنما يتحرك نحو المطلوب بالفطرة ، ولذلك لم يعهد تفصيل ذلك في القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، نعم أشير إليها في قوله تعالى : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) [سورة القصص ، الآية : ٧٧] ، وما ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا» فالإنسان خلق لأجل الاستكمال والسعادة ولا ينفك عن ذلك ، وداعيه وقائده والمرغب إليه إما هو الله تعالى وأنبياؤه وأولياؤه ، أو يكون هي الفطرة التي هي جزء من السير التكاملي الموجود فيه. وفي المقام تفصيل يأتي في المحل المناسب إن شاء الله تعالى.

الثامن : ليس في قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) دلالة على أن مطلق السحر مما أوحي الى الملكين حتّى تدل بالملازمة على إباحته ، لأن الإنزال من الله تعالى أعم من ذلك خصوصا إذا كان من باب دفع الأفسد بالفاسد.

بحث روائي :

الطبرسي في الإحتجاج عن الصادق (عليه‌السلام) وقد سئل من أين علم الشياطين السحر؟ قال : «من حيث عرف الأطباء الطب بعضه. تجربة ، وبعضه علاج».

٣٥٤

أقول : الحديث موافق للاعتبار وهو شارح لجميع أخبار الباب مع غض النظر عن الأسناد.

وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) عن الباقر (عليه‌السلام) في حديث : «فلما هلك سليمان (عليه‌السلام) وضع إبليس السحر وكتبه في كتاب ثم طواه وكتب على ظهره : هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا وكذا فليعمل كذا وكذا ، ثم دفنه تحت سريره ثم استثاره لهم فقرأه ، فقال الكافرون : ما كان يغلبنا سليمان إلّا بهذا ، وقال المؤمنون : بل هو عبد الله ونبيّه ، فقال الله جلّ ذكره : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان» ورواه القمي أيضا.

أقول : هذا الحديث شاهد على حمل قوله تعالى : (ما تَتْلُوا) على الافتراء والافتعال ، وهو شايع في الاستعمال ، يقال : ما قلت وما تلوت أي : ما افتريت. والمراد من إبليس كل مصدر للشر والفساد.

وفي العيون في حديث الرضا (عليه‌السلام) مع المأمون : «وأما هاروت وماروت فكانا ملكين علّما النّاس السحر ليتحرزوا به عن سحر السحرة ، ويبطلوا كيدهم ، وما علّما أحدا من ذلك شيئا إلّا قالا له : إنما نحن فتنة فلا تكفر ، فكفر قوم باستعمالهم لما أمروا بالاحتراز عنه وجعلوا يفرقون بما يعلمونه بين المرء وزوجه قال الله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

أقول : هذا الحديث أيضا مبيّن وشارح لظاهر الآية المباركة ولجميع ما ورد في الباب من الأخبار ، كما أنه ظاهر في الكفر العملي مضافا إلى كفرهم الاعتقادي ، والسحر قد يكون من الكفر العملي وقد يكون من الكفر الاعتقادي أيضا وقد فصلنا ذلك في الفقه. وهناك روايات أخرى بين مفصلة وغيرها مروية عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وخلفائه المعصومين أعرضنا عن ذكرها لأن سياقها يدل على عدم صدورها عن المعصومين (عليهم‌السلام) بل هي من المفتعلات كما هو الظاهر منها ، وعلى فرض

٣٥٥

صحة بعضها لا بد من رد علمه إلى أهله.

وفي العيون أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) في تفسير قوله تعالى : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) قال (عليه‌السلام): «لأنهم يعتقدون أن لا آخرة ، فهم يعتقدون أنها إذا لم تكن آخرة فلا خلاق لهم أي لا نصيب لهم في دار بعد الدنيا ، فهم مع كفرهم لا خلاق لهم فيها».

أقول : ظاهر الحديث نفي الخلاق بنفي الموضوع أي : لا يعتقدون بأصل الآخرة ، ولكنهم على قسمين : قسم يعتقدون بها وينكرونها عملا ، وقسم آخر لا يعتقدون بها أصلا ، فنزّل (عليه‌السلام) الأول منزلة الثاني لعدم الأثر لمجرد الاعتقاد بلا عمل.

بحث علمي :

السحر ضرب من ضروب التأثير النفساني وهو علم كسائر العلوم له قواعده وأحكامه وقد ورد في القرآن الكريم في ما يقرب من ستين موضعا وأكثره ورد في قصص موسى (عليه‌السلام) وفرعون ولم يبين سبحانه وتعالى حقيقته ـ كما هو دأبه جلّ شأنه في الحقائق العلمية ـ ليرجع الإنسان إلى نفسه في البحث عنها والاجتهاد في تحصيلها والارتقاء في العلم كما عرفت سابقا وإذا تتبعنا موارد استعمالات لفظ السحر نرى أنه يأتي بمعنى الافتتان والفتنة ، وفي الحديث : «ان من البيان لسحرا». وهذا هو المعنى الدارج عند العامة حينما يتعجبون من شيء ويفتتنون به. يقال : سحرتنا الطبيعة عند مشاهدة بديع صنع الله تعالى فيها. ويقال : سحرنا جماله إذا افتتن به وأمثال ذلك.

وأما السحر بالمعنى العلمي فهو ضرب من التأثير النفسي المشوب بالفتنة ، وإظهار ما ليس بواقع بصورة الواقع المعبّر عنه في القرآن الكريم بالتخييل والخداع ، قال تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [سورة طه ، الآية : ٦٦] ، وقال تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) [سورة الأعراف ، الآية : ١١٦] فإن الإرهاب المقارن مع

٣٥٦

التخييل والخداع له الأثر النفسي في الإنسان.

والعلوم من ناحية الموضوع تنقسم إلى أقسام :

الأول : ما كان موضوعه المادة والماديات كالعلوم الطبيعية.

الثاني : ما كان موضوعه الروح وما وراء المادة وهذا القسم يختلف من حيث تجرد موضوعه عن المادة بالكلية ، كالعلوم الإلهية ، أو لم يكن كذلك كالعلوم التي تبحث عن الملائكة والأرواح ونحوهما.

الثالث : ما كان موضوعه مزيجا من المادة والروح كعلم السحر والطلسمات ، والنيرنجات وأمثال ذلك ، فإنها من دون اتصالها بالأرواح لا أثر لها ، كما أنها لو لم تستعن بأمور خاصة لم يتأثر الطرف المقابل كحركات في اليد أو في العين أو تحريك في اللسان أو رموز في الكتابة او تدخين وغير ذلك. نعم من شدة اعتماده على الأثر النفسي يمكن لنا أن نقول انه في جوهره عمل نفسي له آثار مادية ، ولذا لا يمكن أن يأتي تحت تجربة وإلّا كان وهما في وهم. ومن الواضح أن الأثر النفسي لا يمكن أن يتحقق إلّا في محل قابل ومستعد لقبول ما يصدر عن الساحر ، ولذلك كان تأثيره في الإنسان محدودا بالفرد الناقص من حيث المعرفة والكمال وأما الإنسان الكامل فلا أثر للسحر فيه ، ولم يعهد أن نبيا من أنبياء الله تعالى تغلّب عليه السحر وأثّر فيه ما ورد في سحر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فلنا فيه كلام يأتي في محله. ومن ذلك يعلم وجه انتشار السحر في الأمم البدائية التي يكثر فيها الجهل والإعتقاد بالخرافات.

ثم إنّ إنفاذ السحر وتأثيره في النفوس الضعيفة يتوقف على قوة الساحر وثبات في العزيمة ، وأكاذيب يستعين بها على التأثير في وعي المسحور ووهمه يشبه في ذلك بعلم التوهم ـ علم التنويم المغناطيسي ـ المبني على التأثر في وهم الأفراد ويستفيد الساحر من الأكاذيب والمفتعلات ما لا يستفيده من غيرها ، وهو إنما بلغ إلى هذه المرتبة بفضل ما كان يعتقده النّاس في السحر والسحرة من ان لهم التصرف في كل شيء وتصدر عنهم أعمال عظيمة كإحياء الأموات ، أو إصابة الناس

٣٥٧

بالأمراض ، فكانوا يخافون منهم كخوفهم من الله تعالى. ولم تسلم الأمم الراقية في هذه الأعصار عن هذه الخرافات حتّى جعلوا للساحر منزلة اجتماعية عظيمة يتوصلون بهم لإنجاح مقاصدهم. وساعد ذلك ما يدعيه السحرة من أنهم قادرون على استحضار الأرواح فيسألونها عما يريدونه أو يأمرونها بأعمال خاصة ، أو أنهم قادرون على إطلاق الرياح وإنزال الأمطار أو يعرفون حوادث المستقبل ويعلمون مقاصد الإله الى غير ذلك من الأكاذيب فيتأثر النّاس بها فينطبع في نفس الواهم أن الأرواح تستجيب إلى أوامر الساحر ولما كان كل ذلك من الوهم ذهب بعض العلماء إلى أنه ليس للسحر حقيقة إلّا ما يؤثّر في الوهم والخيال.

ولقد كان موقف الأديان الإلهية والأنبياء (عليهم‌السلام) والكتب السماوية من السحر واضحا فكان أكبر همهم هو إرجاع الإنسان إلى تمييزه وعقله ، وإبطال ما كان يحيط بالسحرة من العظمة والكبرياء ، وأما القرآن الكريم فقد أبطل السحر من جهتين :

الأولى : إزالة الأثر النفسي للسحر والسحرة فقال تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٠٢] فنفى سبحانه وتعالى عن السحرة القوة الغيبية ، وكم لهذا الكلام الشريف من الأثر النفسي المعاكس للسحر ، وأباطيل السحرة ، فإن الإنسان إذا اعتقد ان جميع الممكنات تحت إرادته تعالى وقضائه وقدره ، وهو القيوم المطلق ولا يقدر أحد ان يتصرف في شيء إلّا بإرادته تعالى كان لهذا الاعتقاد الأثر الكبير في نفسه ، فلا يبقى مجال حينئذ لأباطيل السحرة.

ولعل من حكم إنزال الملكين ـ هاروت وماروت ـ هو تعريف الناس بأعمال السحرة ، وإبطال ما أثاروه حولهم من الإشاعات ، وتهيئة النفوس لتلقي المعارف الإلهية كما عرفت.

الجهة الثانية : هدم صرح السحر حينما قال سبحانه وتعالى بأنه ضرب من الخداع والتخييل ، وان الساحر لا يفلح في أمره مهما حاول إظهار الجد في عمله. وهذا لا ينافي إثبات الحقيقة له في الجملة بل إثبات

٣٥٨

الوجود هو إثبات للتحقق له ، فإن الوجود مساوق للشيئية والتحقق ، قال تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) [سورة المدثر ، الآية : ٢٤] والمراد من الأثر في الآية المباركة الإتباع على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى ، فإنه مما لا ينكر ظهور بعض الأعمال وخرق العادة على يد الساحر ولو بحسب وجدان المسحورين ، ومن نفى عنه الحقيقة إنما أراد نفي الحقيقة بالنسبة إلى الواقع كالمعجزة والكرامة ، وهذا مسلّم لا ريب فيه.

ثم إنّ تأثير السحر في الإنسان ضرب من تأثير القوى الفعّالة فيه. كتأثير الكواكب في الأرض بما فيها الإنسان مما لا ينكره أحد ، كما أن تأثير الملائكة المقربين أيضا كذلك. وتأثير الأنبياء والأوصياء وبعض الصالحين بما يصدر منهم المعاجز وخوارق العادات لا يشك فيه عاقل. ومنها تأثير العين والإصابة بها فإنه لا يرتاب فيها أحد وان اختلف العلماء في كيفية تأثيرها ، وفي الحديث : «لو كشف عن القبور لرأيتم أكثر موتاكم من العين» ، وسيأتي تفصيل الكلام في سورة القلم إن شاء الله تعالى.

نعم الفرق بين ما يصدر من الأنبياء والأولياء والعلماء الذين حذوا حذوهم وبين ما يصدر من الشياطين وتابعيهم من السحرة والكهنة واضح ، فإن بينهما فرقا بحسب الذات والمنشأ والغاية.

توضيح ذلك : إنّ الإنسان في عالم الدنيا قائم بالاختيار. وأما عالم الآخرة فهو عالم جزاء الفاعل المختار ، فلو لا الاختيار لبطل العالمان والاختيار بما هو اختيار متعلق بطرفي الفعل ـ الخير والشر ، أو الهداية والضلالة ـ ولكل منهما قائد ودليل. والأنبياء (عليهم‌السلام) ومن يتلو تلوهم أدلاء الهداية وأئمتها. والشياطين ومن يحذو حذوها قواد الشر والفساد وأدلاؤهما. ونظر كل واحد من القائدين والدليلين هو الإنسان لا غير ، فالمعجزات والكرامات وخوارق العادات المنبعثة عن القدرة الإلهية غير المتناهية كلها من الأنبياء والأوصياء والأولياء الذين أقدرهم الله تعالى على تلك الأمور وهي سلاسل يجرّ بها النّاس إلى الجنّة ، وفي مثلها قال نبينا

٣٥٩

الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «عجبت من أقوام يجرّون إلى الجنّة بالسلاسل». والسحر والكهانة والشعبذة وأمثالها من الحيل كلها من الشياطين وهي سلاسل يجرّ بها إلى النّار. فذات المعجزة من طرق الهداية وذات السحر ونحوه من طرق الضلالة. كما أن منشأ الأولى صفاء النفس وارتباطها مع الله تعالى وإفاضته جل شأنه على الفرد ، ومنشأ الثاني كدورة النفس وخبثها وارتباطها مع الشياطين. ومع ذلك لم يكن للسحر تأثير إلّا بإذن الله تعالى وقدرته ، فإنه القيوم المطلق على جميع الممكنات (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [سورة سبأ ، الآية : ٣].

ثم إنّهم ذكروا للسحر أنواعا كثيرة تختلف في التأثير شدة وضعفا. ولكن يمكن لنا القول بأن تلك الأنواع خلط بين السحر وغيره ، فقد ذكروا منها الاستعانة بالأرواح الطاهرة السماوية ، والنفوس الفلكية فإن مثل ذلك لا يعدّ من السحر أبدا. فإن الشخص لا يصل إلى هذه المرتبة إلّا إذا كانت نفسه طاهرة وكاملة ، كما أن الاستعانة بالأدوية أو بعض الآلات ، أو الأخذ بالعين فإنها لا تسمى سحرا أيضا وإن اثّرت اثره ، كما لا يخفى على من تتبع الكتب ، فالسحر كما عرفت هو الاستعانة بالأرواح الأرضية كالشياطين والأجنّة إما بالتسخير ، أو بأفعال خاصة.

كما أنّ تسخير الأرواح ـ سواء تعلقت بذوات الأرواح أو بالنفوس الفلكية أو غيرها. أو تبديل عنصر إلى عنصر آخر ـ سواء كان بآلة أو غيرها ، كل ذلك ممكن عقلا وواقع خارجا ، وإن لم يترتب عليه حرام فهو جائز شرعا ، وليس ذلك من السحر في شيء ، بل هي من سبل استكشاف المجهول ولا يمكن ذلك إلّا بتهيئة النفس وإعدادها بأعمال شاقة. كما أن من طرق استفادة السر المكنون علم الحروف والنجوم وهما ليسا من السحر أيضا ، بل نسب الأول إلى الأئمة الهداة (عليهم‌السلام). وسمي بالجفر ، وهو من العلوم الشريفة كثيره لا يدرك ، وقليله لا ينفع.

٣٦٠