مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

إلى شريعة جديدة ، أو أن قلوبنا في حجاب وغلاف لا نفهم ما جاء به الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، كما قال تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) [سورة فصلت ، الآية : ٥] استخفافا بما أنزله الله تعالى وغرورا بما عندهم. والمعنيان متلازمان كما لا يخفى ، وهذا القول ـ كسائر أقوالهم وأفعالهم القبيحة ـ من مظاهر استكبارهم. ولا يختص ذلك باليهود بل يصدر من كل من يزعم كمالا لنفسه ـ وهو فاقد له ـ فيغتر بما عنده ، وقد ردّ الله عليهم ، وأبطل مزاعمهم.

قوله تعالى : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ). اللعن : الطرد والمعنى إن سبب نفورهم عن الإيمان ليس ما قالوه بل هو كفرهم وعنادهم كما جبلت عليه نفوسهم مما أوجب طردهم وبعدهم عن كل خير ، ومنه الإسلام.

قوله تعالى : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ). قليلا صفة للمصدر أي : إيمانا قليلا ، والتنوين فيه للتنكير ، و «ما» نكرة تفيد تأكيد الإبهام أو زيادته أي : يؤمنون ايمانا قليلا يكون بحكم العدم من حيث الكمية والكيفية. ويستفاد منه أنه لما كان سبب لعنهم وطردهم عن رحمته تعالى هو كفرهم ولجاجهم وعنادهم المنطبعة عليه نفوسهم فهم قوم قد كتب عليهم الشقاء فلا يرجى منهم خير ، ولا يؤمل منهم ايمان إلّا إذا أدركته بركة التوفيق منه عزوجل فيفيء الى فطرته ، فيؤمن ، وإن كان ذلك قليلا جدا.

قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ). بيّن سبحانه وتعالى ذميمة أخرى من ذمائم أخلاق بني إسرائيل ، وهي من مظاهر استكبارهم وبغيهم ، أي لما جاءهم القرآن بما فيه من الدلائل على أنه من عند الله تعالى مصدق لما معهم من التوراة المشتملة على التوحيد والمعارف الإلهية ، المبشرة بالقرآن ورسالة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

قوله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا). الاستفتاح الإستنصار ، ومنه الحديث كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «يستفتح بصعاليك المهاجرين» أي يستنصر بهم كما ورد في حديث آخر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنه قال : «إنما نصر الله هذه الأمة

٣٢١

بضعفائها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم» والمعنى : يستنصرون بمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وشريعته على المشركين ، ويأملون لأن يستظهروا به على من سواهم من المشركين.

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ). أي : فلما جاءهم ما كانوا قد عرفوه من أمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ورسالته وقرآنه جحدوا به ، حسدا منهم واستكبارا ، فكان جزاؤهم أن كتب الله عليهم اللعن والطرد من رحمته. وكفرهم هذا من كفر الجحود ـ ككفر إبليس ـ الذي هو من أشد أنواع الكفر. ولا يختص حكم هذه الآية المباركة باليهود بل يشمل كل من أنعم الله عليه ثم أنكرها ولو بعدم أداء شكرها ، ويأتي في قوله تعالى : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) [سورة النحل ، الآية : ٨٣] ما ينفع المقام. وفي تكرار قوله تعالى : (لَمَّا جاءَهُمْ) تأكيد للذنب وتهويل له.

قوله تعالى : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ). بئس كلمة تستعمل في جميع أنحاء الذم ، كما أن نعم كلمة تستعمل في جميع أنحاء المدح. و «ما» نكرة مبهمة بمعنى مطلق الشيء أي بئس شيء اشتروا ، ويجوز أن تكون موصولة أي بئس الذي اشتروا به. والشراء والاشتراء بمعنى واحد ، ويستعمل كل منهما في البيع والشراء ، ويأتي بمعنى مطلق المبادلة. أي : بئس ما فعلوه من تبديل النفس التي من حقها أن تقابل بالإيمان ، والمعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة ، والأعمال الصالحة لتكون لها السعادة في الدارين ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [سورة التوبة ، الآية : ١١١] ولكنهم بدلوها باختيارهم بأخس الأمور وذمائم الأخلاق والكفر بما أنزل الله تعالى حسدا منهم واستكبارا ، فجلبوا لأنفسهم شقاوة الدارين ، وهذا حال من أعرض عن الله تعالى. وفي الآية المباركة تسفيه لأحلامهم ، وتوبيخ لهم.

قوله تعالى : (بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). البغي هنا هو الفساد. ويتضمن معنى التجاوز عن الحد والطلب ،

٣٢٢

ويختلف باختلاف المتعلق. ويستعمل في الخير والشر. وفي مورد الإطلاق ينصرف إلى الشر ، قال تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٨] ، وقال جلّ شأنه : (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [سورة الشورى ، الآية : ٤٢] ومن مفهومه يستفاد البغي بالحق ، وفي الحديث : «إن الله يحب بغاة العلم» أي طلاب العلم ورواده. وفي الحديث أيضا : «أبغوني الضعيف فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم».

وجملة (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) في موضع نصب بيان للبغي أي : أن سبب كفرهم إنما هو البغي الذي جبلت عليه نفوسهم ، وكانت له أسباب متعددة منها كراهة أن ينزل الله تعالى من فضله على من يشاء من عباده ، وقد حملهم الحسد على أن يحتفظوا لأنفسهم الحركة الدينية ، والقول بأنهم شعب الله المختار بأن لا يعترفوا بنبي في غير ملتهم وحسدهم هذا وكفرهم نظير كفر إبليس بالله تعالى ، وحسده على آدم (عليه‌السلام) فهو الذي شيد أساس الكفر والجحود ، وتبعه اليهود فالحقيقة واحدة والمظاهر مختلفة.

قوله تعالى : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ). تقدم ما يتعلق به. والمراد انهم رجعوا إلى غضب على غضب بتكرار المعاصي منهم وان كل سوء اعتقادي يصدر من الإنسان ثم يصدر منه سوء آخر كذلك فهو من الغضب على الغضب ، فلا وجه لجعل الغضب الأول هو الذي استوجبوه بالكفر بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والغضب الثاني هو الذي لحقهم من عبادة العجل ، أو غضب الله عليهم من أجل الكفر مع المعرفة وغضبه الآخر من أجل حسدهم وعنادهم للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو غير ذلك من الوجوه التي ذكرها المفسرون ، بل يشمل جميع المخالفات الإلهية المتكررة التي توجب الغضب المستمر عليهم ، ولذلك مصاديق مختلفة فإن كل من يختار دينا باطلا ثم يتركه ويدخل في دين باطل آخر ، أو من يرتكب مخرما تكليفيا ثم يعقبه بمحرم تكليفي آخر يختلف مع الأول في النوع ، أو يرتكب محرما تكليفيا آخر متفق مع الأول في النوع من الكبائر ، أو كان من الصغائر من دون أن يتخلل بين ارتكاب المحرمات تكفير وتوبة ، فجميع هذه الصور تكون داخلة في هذه الآية

٣٢٣

المباركة ، وإن الفاعل يستوجب غضبا على غضب على حسب مراتب الذنب كبيرة أو صغيرة.

قوله تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ). الهوان بمعنى الذلة وهو إما ممدوح عند الخالق والمخلوق ، وذلك في ما إذا طرح الإنسان عن نفسه جميع أنحاء الأنانية والتكبر كما قال تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [سورة الفرقان ، الآية : ٦٣] وهو من الخلق الكريم ، والروايات في مدحه متواترة ، ويكفي في حسنه سيرة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وخلفائه المعصومين (عليهم‌السلام) وقد روى الفريقان عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «المؤمن هيّن ليّن».

وإما مذموم وهو ما إذا حصل عن استخفاف الغير للإنسان واستذلاله له في غير ما اذن فيه الشرع ، ولا ريب في أنه مرجوح بل حرام ، وأما إذا كان بإذن منه ففيه تفصيلات مذكورة في الفقه.

والمراد به في المقام ذلك الذل والإهانة الحاصلان للإنسان من ارتكابه المعاصي والمحرمات الإلهية ، والكفر الموجب لخلوده في النار. وفي جعل الظاهر موضع المضمر ـ فلم يقل : ولهم عذاب مهين ـ إشارة إلى بيان التعليل في خلودهم في النار وهو الكفر.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا). ذكر سبحانه وتعالى مظهرا آخر من مظاهر استكبارهم وغرورهم ، وقد سبق أن قالوا : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) لم نفهم الإيمان ، ولا نعقل ما يدعو إليه الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهنا ذكر تعالى اعتذارا آخر منهم والرد عليهم. أي : إذا قيل لليهود آمنوا بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قالوا بغيا واستكبارا : نؤمن بالذي أنزل علينا من التوراة ولا نؤمن بغيرها ، وفي قوله تعالى : (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) إشارة إلى أن المناط هو الإيمان بالذي أنزله الله تعالى سواء كان على موسى (عليه‌السلام) أو محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فإنّ الأنبياء إنما هم مبلغون عن الله تعالى. وفيه رد لمزاعم اليهود وغيرهم من أن الإيمان لا بد وأن يكون بالذي أنزل على نبي

٣٢٤

معين ، كما أن فيه إيماء إلى أن الإيمان بجميع الرسل والأنبياء أخذ بنحو الوحدة فمن لم يؤمن بواحد منهم فكأنه لم يؤمن بالجميع ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٣٦].

قوله تعالى : (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ). مادة (وري) تأتي بمعنى الستر في الجملة سواء دلت عليه بالمطابقة كقوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [سورة ص ، الآية : ٣٢] ، وقوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٦] ، أو بالالتزام كما في المقام ، ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم منها الخلف والأمام وغيرهما. والجامع القريب بين تلك الاستعمالات ما ذكرناه.

فما عن بعض اللغويين من أنها من الأضداد تستعمل في الخلف والأمام خلط بين المفهوم والمصداق ، وكم لهم من هذا النحو من الاخلاط في اللغة كما لا يخفى.

والمعنى : إنهم يكفرون بما عدا ما أنزل عليهم من القرآن وهو الحق الذي لا ريب فيه جاء مصدقا لما معهم. وفيه من الإشارة إلى سفاهتهم وخبطهم في دعواهم ما لا يخفى ، فإنهم لو كانوا مؤمنين بما أنزل عليهم لاستلزم الإيمان بالقرآن ، لأن التوراة تشتمل على البشارة بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وما أنزل عليه ، وأن القرآن مصدق للتوراة في كثير من الأحكام ، وأنّهم إذا كانوا مؤمنين كذلك فلما ذا يقتلون أنبياء الله تعالى؟! مع أن التوراة تعظّم شأنهم ، وتنهى عن مطلق القتل فضلا عن قتل الأنبياء ، فإيمانهم بما أنزل عليهم والكفر بما سواه إن هو إلّا تناقض في القول والاعتقاد واتباع الشهوات.

قوله تعالى : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ

٣٢٥

مُؤْمِنِينَ). إلزام لهم بالحجة أي : انكم تتبعون الشهوات والأهواء ، لأنه إذا كنتم صادقين في إيمانكم بما أنزل على الأنبياء فلما ذا تقتلونهم ، فإنهم لم يدعوكم إلّا إلى الإيمان والعمل الصالح ، ونهوكم عن القتل مطلقا.

وفي إسناد القتل الى اليهود في عصر التنزيل ، مع أنه وقع من أسلافهم ما تقدم كرارا من أنّهم أمة واحدة ، وأنهم في الطباع والعادات والأخلاق كنفس واحدة فاقتضى صحة خطاب الأبناء بما فعل الآباء.

بحث روائي :

في «الكافي» عن الصادي (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) قال : «كان قوم في ما بين محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وعيسى (عليه‌السلام) ، وكانوا يتوعدون أهل الأصنام ، بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ويقولون : ليخرجنّ نبيّ وليكسرنّ أصنامكم ليفعلنّ بكم ما يفعلنّ ، فلما خرج رسول الله كفروا به».

أقول : يمكن أن يجمع بين هذه الرواية والروايات الآتية الظاهرة في اليهود إما بتقييد هذه الرواية بها ، أو أنهم قوم آخرون غير اليهود.

وعن القمي : «كانت اليهود يقولون للعرب قبل مجيء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : أيها العرب هذا أوان نبي يخرج من مكة وكانت مهاجرته بالمدينة ، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم ، في عينيه حمرة ، وبين كتفيه خاتم النبوة ، يلبس الشملة ويجتزي بالكسرة والتميرات ، ويركب الحمار العريّ ، وهو الضحوك ، القتّال يضع سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى ، يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر ، لنقتلنكم به يا معشر العرب قتل عاد. فلما بعث الله نبيه بهذه الصّفة حسدوه وكفروا به ، كما قال الله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية».

أقول : يمكن أن اليهود قد استظهروا صفاته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وحالاته من التوراة.

٣٢٦

وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ ...) الآية قال (عليه‌السلام) : «كانت اليهود تجد في كتبهم أن مهاجر محمد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ما بين عير وأحد فخرجوا يطلبون الموضع ؛ فمرّوا بجبل يقال له : حداد ، فقالوا : حداد وأحد سواء ، فتفرقوا عنده فنزل بعضهم بتيماء ، وبعضهم بفدك ، وبعضهم بخيبر. فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم ، فمرّ بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه وقال لهم : أمر بكم ما بين عير وأحد ، فقالوا له : إذا مررت بهما فآذنّا لهما ، فلما توسط بهم أرض المدينة ، قال : ذلك عير وهذا أحد فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا له : قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت.

وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر : انا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا ، فكتبوا إليهم : إنا قد استقرت بنا الدار ، واتخذنا بها الأموال وما أقربنا منكم فإذا كان ذلك أسرعنا إليكم ، واتخذوا بأرض المدينة أموالا فلما كثرت أموالهم بلغ تبّع فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ثم آمنهم فنزلوا عليه ، فقال لهم : إني قد استطبت بلادكم ولا أراني إلّا مقيما فيكم ؛ فقالوا : ليس ذلك لك إنها مهاجر نبي ، وليس ذلك لأحد حتّى يكون ذلك ، فقال لهم : فإنّي مخلّف فيكم من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده. فخلف حيين تراهم : الأوس والخزرج فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود ، فكانت اليهود تقول لهم : أما لو بعث محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لنخرجنّكم من ديارنا وأموالنا ، فلما بعث الله محمدا آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود وهو قوله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) وقريب منه ما في الدر المنثور عن ابن عباس.

أقول : «عير وأحد» : جبلان بالمدينة كما ورد في أخبار التقصير في الصّلاة أيضا ، وفي الحديث عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «حرّم ما بين عير واحد».

ونقل الواحدي عن ابن عباس : «كان يهود خيبر تقاتل غطفان فكلما التقوا هزمت يهود خيبر ، فعادت اليهود بهذا الدعاء ، وقالت : اللهم إنّا نسألك

٣٢٧

بحق النبي الأمي الذي وعدتنا ان تخرجه لنا في آخر الزمان إلّا نصرتنا عليهم ، قال : فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء ، فهزموا غطفان ، فلما بعث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كفروا به فأنزل الله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بك يا محمد ـ الى قوله تعالى ـ فلعنة الله على الكافرين».

وفي الدر المنثور عن ابن عباس أنه قال : «كانت يهود بني قريظة والنضير من قبل أن يبعث محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يستفتحون الله يدعون الله على الذين كفروا ، ويقولون : اللهم إنّا نستنصرك بحق النبي إلّا نصرتنا عليهم ، فينصرون ، فلما جاءهم ما عرفوا : يريد محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولم يشكوا فيه كفروا به» وقريب من ذلك روايات أخرى.

أقول : عن بعض المفسرين الإشكال في هذه الروايات الأخيرة أولا : بقصور السند. وثانيا : بوهن الدلالة ، لأنه لا وجه لإقسام الله تعالى مع أنه لا حق في البين حتّى يقسم به ، لأنّ الكل مخلوقه ومملوكه تعالى.

ولكنه غير صحيح أما الأخبار فلأنها مستفيضة بين الفريقين ، بل متواترة معنى كما لا يخفى على الفاحص المتتبع ، فلا موضوع لتضعيف السند. وأما إقسام الله تعالى فإقسام العظيم بما هو شريف ومحترم لديه تعالى ، والقسم بالعزيز من العرف المحاوري بين جميع أفراد الإنسان وعليه جرت محاورة الكتاب والسنة ، قال تعالى : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [سورة الحجر ، الآية : ٧٢] ، وقال تعالى عن إبليس : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة ص ، الآية : ٨٢] ، وفي الحديث إن الله تعالى قال : (وعزتي وجلالي لأقطعن أمل كل مؤمل أمل غيري).

وأما أنه لا حق في البين حتّى يقسم الله تعالى به فلا وجه له ، لأن الحق هو الثابت الواقع المتحقق فالله عزوجل هو الحق المحض وجميع ما سواه حق له ، لأنه مالك كل شيء وخالقه واليه مرجع الجميع ، وأي معنى للحقّية يتصور أشد وأعلى من ذلك؟! وهو تعالى جعل لبعض عباده حقا على نفسه الأقدس تشريفا وتعظيما لهم ، قال تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)

٣٢٨

[سورة الروم ، الآية : ٤٧] ، وفي الحديث : «حقّ على الله تعالى أن لا يعصى في مكان إلّا وأظهرها للشمس ليطّهرها» والأحاديث في موضوع جعل الله تعالى حقا لخلقه على نفسه خصوصا عباده المخلصين كثيرة جدا ، وخاتم النبيين من أفضلهم ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام.

العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قال : وإنما نزل هذا في قوم اليهود ، وكانوا على عهد محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يقتلوا أنبياء الله بأيديهم ، ولا كانوا في زمانهم ، وإنما قتل أولياؤهم الذين كانوا من قبلهم ، فنزّلوا بهم أولئك القتلة فجعلهم الله منهم وأضاف إليهم فعل أوائلهم بما تبعوهم وتولوهم».

أقول : تقدم وجه ذلك في البحوث السابقة فلا وجه للتكرار ،

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦))

تبين هذه الآيات المباركة أخذ الميثاق والتشديد فيه ثم كفرهم وارتدادهم ، ورد لأمانيّهم الباطلة من أنهم أبناء الله تعالى وأن الدار الآخرة لهم دون غيرهم ، والذم بأنهم أحرص النّاس على الحياة الدنيا.

التفسير

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ). البينات جمع بيّنة ، وهي الدليل الواضح. والمراد بها الدلائل الواضحة والبراهين الظاهرة ، وهي إما

٣٢٩

عقلية ، أو حسية ، أو هما معا ، وبينات موسى (عليه‌السلام) هي التوراة ، وما ذكره تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) [سورة الإسراء ، الآية : ١٠١] ، وهي العصا ، والسنون ، واليد ، والحجر ، والدم ، والطوفان ، والقمل ، والضفادع ، وفلق البحر وسيأتي التفصيل في سورة الإسراء. وهي آيات باهرات تدل على وحدانيته تعالى فلا مجال للشك والريب بعد مجيئها.

قوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ). أي أنكم بعد أن وضح لكم الحق وظهر صدق موسى (عليه‌السلام) في ما يدعيه من توحيد الله تعالى ، وأنه هو المعبود المطلق عدلتم إلى عبادة العجل واتخذتموه إلها لكم وأنتم ظالمون ، وأي ظلم أعظم من الشرك بالله تعالى ، والارتداد عن دينه ، وفيه من التوبيخ والتقريع العظيم لهم ويستفاد من هذه الآية المباركة أن الظلم الواقع منهم إنما كان بعد الإمهال لهم بالنظر في تلك الآيات البينات ، وإتمام الحجة ، وحينئذ يكون ظلمهم أعظم.

قوله تعالى : (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا). تقدم شرح مثله في الآية المباركة ـ ٦٣ من هذه السورة إلّا أن في الآية السابقة ذكر سبحانه وتعالى : (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) وهنا أمرهم بالفهم ، والمعنيان متقاربان ، فإن المراد من الذكر هو المذاكرة والحفظ كما أن المراد من السمع هو الفهم والعمل بالمسموع لا خصوص الدرك الظاهري من دون ترتيب الأثر عليه ، قال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) [سورة الأنفال ، الآية : ٢١] فإن السماع الحقيقي الذي يترتب عليه نظام الإفادة والاستفادة ، والتعليم والتعلم ، بل جميع الكمالات إنما هو العمل بالمدرك إن كان حقا لا نفس الإدراك من حيث هو ، إذ ليس فيه كمال حتّى يذكر ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٥] وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [سورة الزمر ، الآية : ١٨] وغير ذلك من الآيات المباركة الكثيرة. ولعل ذكر السمع هنا لصحة إردافه بقوله تعالى : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) وإلّا فالسمع والذكر في الحقيقة واحد كما عرفت.

٣٣٠

قوله تعالى : (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا). التفات من الحاضر إلى الغيبة وهذا كقوله تعالى : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) [سورة البقرة ، الآية : ٧٥] إلّا أن المقام يدل على سرعة النقض. أي : أنهم قبلوا الميثاق ولكنهم خالفوه ولم يعملوا به ، والظاهر أن ذلك كناية عن بيان حالهم وسرعة عصيانهم. وقيل : إنه من ظاهر مقالهم. وعلى أي تقدير ففيه توبيخ ، ورد لمزاعمهم حيث قالوا (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) [سورة البقرة ، الآية : ٩١] ، وهذا أيضا من فضائحهم ، إذ كيف يقبلون أمرا يعلمون أن فيه سعادتهم ، ثم يبادرون إلى إنكاره وعصيانه.

قوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ). الإشراب المخالطة والامتزاج ، وهو كناية عن انهماكهم في حب العجل حتّى كأنه خالط قلوبهم كما يخالط الصبغ الثوب ، أو كما يدخل المشروب في بدن الإنسان أي أنهم بسبب كفرهم قد انهمكوا في حب العجل ، وذلك لأن كثرة ملازمة الشيء ومحبته توجب صيرورة القلب والإرادة مظهرا من مظاهره ، وقد اشتهر : «أنّ حب الشيء يعمي ويصم» ، وفي الحديث : «يحشر النّاس على نياتهم يوم القيامة» وفيه أيضا : «من أحب شيئا حشره الله معه» وإشراب القلوب لما هو المحبوب وجداني لكل ذي قلب خولط قلبه بغير ذكر الله تعالى.

ويرجع حب بني إسرائيل للعجل إلى ما كانوا عليه من الوثنية في مصر ، فانه كان لهذا الحيوان منزلة عظيمة عند المصريين ، وسيأتي في سورة الأعراف تفصيل القصّة.

قوله تعالى : (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). توبيخ وتقريع عظيم لهم أي بئس الإيمان إيمانكم الذي يأمركم بعبادة الأوثان ، ونقض العهود ، وقتل الأنبياء ، فأعمالكم التي هي أثر الإيمان تدل على نفي الإيمان الذي أمركم الله تعالى فإنّه يأمركم بتوحيده تعالى ونبذ الأوثان ، وطاعة الأنبياء ، واحترام العهود. وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) للتنزيل والمجاراة مع المخاطبين ، وإلّا فلا إيمان لهم حقيقة وهذا الحكم لا يختص باليهود ، بل يشمل كل أمة أمرهم الله تعالى بالإيمان والعمل الصالح فخالفوا الله تعالى

٣٣١

واتبعوا أهواءهم ، فيقال للمسلمين العاملين على غير طريقة القرآن. إنكم آمنتم بالقرآن فبئسما يأمركم به إيمانكم أنكم آمنتم بأهوائكم فلستم بمؤمنين إذ لا بد أن يظهر أثر إيمانكم بالقرآن في أعمالكم.

قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ). الزام لهم بالحجة ، فإنهم ادعوا دعاوى باطلة كما حكاها الله تعالى في القرآن الكريم كقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [سورة البقرة ، الآية : ٨٠] ، وقولهم (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [سورة المائدة ، الآية : ١٨] ، وأنهم شعب الله المختار وادعاؤهم الإيمان بما أنزل عليهم ، فرد الله تعالى عليهم وأكذبهم ، فقال تعالى : قل لهم إن كانت دعاويكم صادقة وأن الدار الآخرة مع ما فيها من الثواب والنعيم مختصة بكم فتمنوا الموت ، لأنه يوصلكم إلى ذلك النعيم ، فإن من علم أنه من أهل النعيم كان الموت أحب اليه من الحياة في الدنيا التي لم تبرح عن الشقاء والأذى ، ولم يعقل من الإنسان أن يؤثر الشقاوة على السعادة ، مع أنهم يفرون من الموت ويحبون الحياة ، وهذا من التناقض بين القول والفعل الذي لا ينبغي صدوره من العاقل. فإن معيار حب الآخرة حبا صادقا حقيقيا هو التحرز عن جميع العلائق والانقطاع الى رب الخلائق ، كما قال ذلك علي (عليه‌السلام) في خطبه المباركة لا سيما الخطبة المعروفة في وصف المتقين وقد نسب إليه (عليه‌السلام) أنه قال : «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه» وكذلك يكون الذين أماتوا شهواتهم في الدنيا الفانية فأحبوا الحياة الأبدية في الدار الآخرة.

قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). أي إن كنتم صادقين في دعاويكم ، وفيه إيماء إلى كذب دعواهم.

قوله تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ). كناية عن مطلق العمل السيئ سواء كان بالجوارح أو الكفر والضلال. وهذا الاستعمال شايع في المحاورات. أي : إنهم يعرفون مصيرهم بما قدموه من سيئات الأعمال ، وما اجترحوه من موبقات الخطايا والضلال ، فلن يتمنوا الموت

٣٣٢

أبدا. ويظهر من ذلك فساد حالهم وبطلان مقالهم.

قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ). أي إنّ الله يعلم أنهم ظالمون لا تخفى عليه أعمالهم ونواياهم لو جحدوا ذلك ، وفيه من التهديد والتوعيد ما لا يخفى.

ثم إنّ التمني على أقسام : فتارة : يكون وهميا خياليا لا حقيقة له بوجه من الوجوه ، وهذا ضرب من الكذب ، ومن علامات الحمقى كما في الحديث. وأخرى : يكون تمنيا حقيقيا مقرونا بتهيئة الأسباب فإما أن يصل إلى الغاية ، أو لا يصل إليها لخروجها عن تحت اختياره فإن الله تعالى على كل شيء محيط ، وفي الحديث «العبد يدبّر والله يقدّر» وثالثة : ما يكون متعلقا بعالم الآخرة ونعيمها مع تهيئة الأسباب وتقديم الأعمال ، وهذا هو التمني المطلوب عقلا وشرعا ، وهو من مقاصد القرآن وسائر الكتب الإلهية ، فإنه من الإسراع في الوصول إلى المشتاق بل هو الغرض الأفضل على الإطلاق ، والتخلص من دار النوائب والمكاره والوصول إلى دار السعادة والراحة. ورابعة : التمني لدار الآخرة مع عدم تهيئة النفس وعدم تقديم الأعمال ، وهذا القسم مذموم عقلا وشرعا بل باطل عند كل ذي شعور له قوة التمييز بين الصحيح والسقيم. وتمني اليهود من هذا القسم ، ولذا أنكره تعالى عليهم.

قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ). الحرص شدة طلب الشيء والإفراط فيه ، بيّن سبحانه وتعالى حقيقة حالهم فإنه بعد أن ذكر أنهم لن يتمنوا الموت أبدا قال سبحانه : إنهم يحبون الحياة ويؤثرون البقاء ولهم في ذلك حرص شديد ليس لهم في النّاس من نظير ، وهذا واضح لمن انغمر في الماديات وسلبت قواه وغرّته الحياة الدنيا وزبرجها فاتخذ إلهه هواه فلم يؤمن بما وراءها شيئا ، وهم الذين حكى الله تعالى عنهم في قوله : (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) [سورة البقرة ، الآية : ٨٦]. وتنكير الحياة للتحقير أي : يحبون البقاء في الحياة ولو كانت حياة بؤس وشقاء ، أو كانت قليلة ، لأنه يعلم بأنه يرد إلى أشد العذاب.

٣٣٣

قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا). أي إنّهم أحرص النّاس على الحياة حتّى من المشركين الذين ينكرون المعاد والحياة بعد الموت سواء كانوا من مشركي العرب أو غيرهم.

وإنما خصهم بالذكر لأنّهم لا يعرفون غير الحياة الدنيا ، ولا علم لهم بالبعث والحساب كما حكى الله تعالى عن قولهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ٣٧].

فما عن بعض المفسرين من أن المراد بها المشركون الذين جرت عادتهم على الدعاء للعاطس بقولهم : «عش الف سنة» إنما يكون من باب التطبيق لا التخصيص.

قوله تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ). مادة (ود د) تستعمل بمعنى المحبة ، وتطلق على الله تعالى حينئذ قال عزوجل : (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) [سورة البروج ، الآية : ١٤] ، وتستعمل بمعنى التمني وهو كثير في القرآن الكريم ومنه المقام.

ومادة (ع م ر) ـ بسكون الميم أو ضمها. أو فتح العين وسكون الميم ، وإن كان هذا الأخير يختص بالقسم قال تعالى : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [سورة الحجر ، الآية : ٧٢]. مأخوذة من العمارة أي عمارة البدن في الحياة الدنيا ، أو عمارة الدنيا للكون فيها ، أو عمارة الآخرة للارتحال إليها ، أو عمارة الجميع وهي أفضلها. أي : يتمنى كل واحد منهم أن يعمّر في الحياة الدنيا ألف سنة أو أكثر ، لأنه يعلم أن البقاء في الدنيا مع الآلام والمشاق خير له من الآخرة فإن فيها العذاب. ولكنه لا يعقل أن هذه المدة القليلة المحدودة لا تنفعه ولا تدفع عنه العذاب ، إذ لا بد من الإيمان والعمل الصالح.

وإنما عبّر تعالى بألف سنة إما لأجل أنه مثال لكثرة العمر كما أن لفظ سبعين كان مثالا للكثرة في العشرات مثل قوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [سورة التوبة ، الآية : ٨٠] ، أو لأجل أنه نوع تقبيح لهم في مبالغاتهم ومقترحاتهم

٣٣٤

الدائرة بينهم ، أو لأن الألف آخر أسماء مراتب الأعداد.

والسنة : مأخوذة من سنه كما عن بعض ، وعن آخرين أنها مأخوذة من سنو بالواو بقرينة سنوات ، والظاهر أن هذا خلط بين هاء السكت ومادة أصل الكلمة كما يظهر للمتأمل في استعمالات هذا اللفظ ، فلا فرق بين الاستعمالين.

قوله تعالى : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ). الزحزحة : الإزالة عن المقر ، والتنحية عنه ، وفي الحديث : «من صام يوما في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار سبعين خريفا». أي : ليس طول العمر من حيث هو موجبا للخروج عن العذاب بل المناط كله إنما هو العمل الصالح واكتساب الحسنات وترك السيئات.

وإنما كرر تعالى كلمة «أن يعمر» ولم يأت بالضمير لبيان أن مقصوده الأهم وقوع طول العمر خارجا ، لا مجرد تمني ذلك ولو أتى بالضمير لم يكن ظاهرا فيه.

قوله تعالى : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ). المراد بالبصر عند الإطلاق عليه عزوجل العلم ، وإنما خصه بالذكر ، لبيان كمال الإحاطة بالدقائق التي لا تدرك إلّا بالبصر. وفيه تهديد عجيب وتوعيد غريب لمن هو غافل عن السعادة الأبدية ، ولا يتحفظ على عمره ولا يصرفه إلّا في ما لا يرتضيه تعالى ، فإن الإنسان إنما خلق في الدنيا لكي يعيش فيها برهة من الزمن ثم يغادرها إلى دار أخرى هي مقر له فيحصد ما عمله مدة حياته في الدنيا ، فإما أن تكون الدار الآخرة هي دار الراحة والسكون والسعادة ، أو تكون دار الشقاء والعذاب ، فما يحصله الإنسان من خلقه إنما يكون في عمره ، فلا بد وأن يبذله في تحصيل السعادة الأبدية ولا يصرف هذه الجوهرة الثمينة في ما لا فائدة فيه ، أو تكون الفائدة منحصرة بالدنيا الفانية. ونعم ما نسب إلى علي (عليه‌السلام): «بقية عمر المؤمن لا قيمة لها ، يدرك بها ما فات ويحيي بها ما أمات» فيكون محبته للحياة لأجل أن يدفع عن نفسه موجبات الشقاوة ويكتسب فيها أسباب السعادة

٣٣٥

الأبدية ، وكراهته للموت لأنه يوجب فراق الأحباب والانقطاع عن الأصحاب. وفراق الأليف مما لا يرتضيه بالطبع كل وضيع وشريف ، ولذا ورد كراهة تمني الموت ولا بأس بأن يقول : «اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي وأمتني إذا كان الممات خيرا» كما ذكر في الحديث ، وفي غير هاتين الصورتين حب الحياة إن رجع إلى حب الدنيا فيكون مذموما ومن الأمراض المهلكة ، ولا بد من علاجها ، وسيأتي شرح ذلك في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

بحث روائي :

عن القمي في قوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) : «أي أحبوه حتّى عبدوه».

أقول : تقدم ما يدل على ذلك.

وعن العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قوله تعالى أيضا قال : «فعمد موسى (عليه‌السلام) فبرد العجل من أنفه إلى طرف ذنبه ثم أحرقه بالنار فذره في اليم. قال : فكان أحدهم ليقع في الماء وما به إليه من حاجة فيتعرض بذلك الرماد فيشربه ، وهو قول الله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)».

أقول : رواه الفريقان ، ولو فرض صحة سنده يكون المراد إن الشرب الظاهري بيان وكاشف عن حبهم للعجل ؛ فتتم الحجة عليهم بذلك.

وعن القمي أيضا في قوله تعالى : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) لأن في التوراة مكتوب إن أولياء الله يتمنون الموت ولا يرهبونه».

أقول تقدم مثل ذلك عن علي (عليه‌السلام).

بحث أدبي :

عن جمع من الأدباء ـ وتبعهم بعض المفسرين ـ أنّ كلمة (لو) تستعمل في معان : الأول : للسببية بين الشرط والجزاء.

٣٣٦

الثاني : لامتناع الجواب بدون الشرط.

الثالث : التعليق في المستقبل كقوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) [سورة النساء ، الآية : ٩].

الرابع : أن تكون مصدرية بمنزلة (إن) المصدرية. وأكثر وقوعها كذلك بعد (ود ، ويود) ويفترقان في أن مدخول (لو) بعيد الحصول أو ممتنع إما في نفسه أو بحسب العادة أو إبرازه بصورة البعيد أو الممتنع بخلاف (إن) كقوله تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) [سورة البقرة ، الآية : ٩٦] ، وقوله تعالى : (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ)

(يُضِلُّونَكُمْ) [سورة آل عمران ، الآية : ٦٨] ، وقوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) [سورة الحجر ، الآية : ٢] وفي غير ذلك تأتي أن المشددة المفتوحة ، أو إن الساكنة المصدرية مكانها.

الخامس : للعرض كقولهم : «لو تنزل عندنا فتصيب منا خيرا».

السادس : للتقليل كقول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «اتقوا النّار ولو بشق تمرة».

السابع : التمني كقوله تعالى : (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٨] ، وقولهم «لو تأتيني فتحدثني» والفرق بينها وبين (لو) المصدرية التي لم يكن فيها معنى التمني أنّ ما بعد الفاء بعد لو التي للتمني يكون منصوبا بخلاف ما بعد لو المصدرية.

ويستفاد من ذلك أنها من المشترك اللفظي ، ولهم في ذلك نظائر كثيرة ، والحق أنّ ذلك من خلط المستعمل فيه بدواعي الاستعمال ، فإن شأن أداة الشرط مطلقا إنما هو جعل متلوّها واقعا موقع الفرض والتقدير ، وأما الخصوصيات فإنما تستفاد من جهات أخرى. وقد حصل هذا الخلط من الخليل في كتاب العين ومن غيره ، فتعدد دواعي الاستعمال معلوم وتعدد الوضع والمستعمل فيه مشكوك فيرجع فيه إلى الأصل.

إن قيل : إن هذا من مجرد الدعوى بلا دليل عليها (يقال) تعدد

٣٣٧

الدواعي وجداني عند المستعملين وتعدد الوضع والمستعمل فيه يحتاج إلى دليل وهو مفقود بل الأصل ينفيه.

إن قيل : إن باب المجاز واسع وكلما زيد في الكلام مجازاته واستعاراته يزاد في حسنه (يقال) : إن رجع ذلك إلى ما قلناه فهو حسن ، وإن رجع إلى ما اشتهر بينهم من ملاحظة ما اعتبروه في المحاورات والاستعارات فالأصل والوجدان ينفيان ذلك كله ، وقد فصلنا القول في علم الأصول فراجع هناك.

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١))

تبين هذه الآيات المباركة جملة أخرى من المساوئ الاعتقادية والأخلاقية لهم كعداوتهم للملائكة والرسل بلا سبب معقول لذلك بل بمجرد الأوهام الفاسدة ثم بيان عنايته تبارك وتعالى للنّاس ، وأنه لا يكون عدوا إلّا للكافرين الذين يستحقون تلك العداوة باختيارهم.

التفسير

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ). العدو ضد الصديق. وجبرئيل اسم أعجمي ليس من الألفاظ العربية ، ولذا كثرت فيه اللغات ـ كما في غيره من الألفاظ غير العربية التي تكثر فيها اللهجات ـ حتّى أنهاها بعضهم إلى ثلاث عشرة لغة.

بيّن سبحانه وتعالى ذميمة أخرى من ذمائم أخلاقهم فقد افتروا على

٣٣٨

أمين وحي الله عزوجل بأنه ملك ينزل الحرب والدمار ، والشدة والفناء ، وأنه أنذر بخراب بيت المقدس ، وأنه يفعل من عند نفسه بخلاف غيره من الملائكة. فرد سبحانه وتعالى عليهم بأنّ هذا الملك وغيره من الملائكة مسخرون تحت إرادة الله تعالى المهيمن على الجميع الفعّال لما يشاء فلا يفعلون إلّا ما ارتضاه الله تعالى ، ولا يقضون إلّا ما أحبه عزوجل ، قال تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [سورة التحريم ، الآية : ٦]. وإذا كانت أفعال جبريل مستندة إليه عزوجل فيلزم أن تكون عداوتهم له عداوة الله تعالى ويرشد إلى ذلك ذيل الآية المباركة «بإذن الله» أي إنّ كل ما ينزله جبريل على رسول الله وسائر الأنبياء إنما يكون بإذن من الله تعالى لا من عند نفسه.

قوله تعالى : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ). التفات من الغيبة إلى الخطاب ، وهو من أحسن بدايع الفصاحة. والضمير في «نزله» يرجع إلى القرآن المستفاد من قرائن الحال وذلك يدل على رفيع شأنه فكأنه لشهرته لم يذكره في المقال وفيه من الإيماء إلى شرف جبريل (عليه‌السلام) وذم أعدائه. والمراد من «إذن الله» علمه وإرادته ، وإنما ذكر سبحانه القلب لأنه موضع تلقي العلم والمعارف والكمالات. وخص قلب نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لأنه خاتم الأنبياء وأشرفهم ، بل غاية أصل الخليقة وسيدها والإشارة إلى أن ما نزل على الأنبياء السابقين كموسى وعيسى (عليهما‌السلام) من أشعة ما نزل على قلبه ولمعات من هذا النور العظيم ، فكما أن ذاته الأقدس غاية الخلق يكون كتابه المقدس غاية الكتب المقدسة السماوية. والغاية مقدمة في العلم وإن تأخرت في الوجود كما ثبت في الفلسفة.

قوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ). أي : إن القرآن الذي أنزله جبريل على محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مصدق لما تقدم من الكتب الإلهية وهدى وبشرى للمؤمنين ، وتقدم شرح ذلك في أول هذه السورة. ونزيد هنا أن الهداية والبشارة متلازمتان في جميع أطوار وجودهما ومراتب ظهورهما في الدنيا والآخرة والعمل. وسياق الآية المباركة يدل على أن لها شأنا

٣٣٩

وسببا لنزولها ، وسيأتي في البحث الروائي الكلام عنه.

قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ). مادة (ع د و) تأتي بمعنى التجاوز عن الحد المعين في الشيء ، وللتجاوز موارد كثيرة ، فإذا كان التجاوز في الميل القلبي يطلق عليه العداوة والمعاداة ، وفي الاقتصار في المشي يطلق عليه العدو ، وفي المرض يطلق عليه العدوى وفي المعاملات والمجاملات يطلق عليه العدوان والتعدي والاعتداء ، إلى غير ذلك من موارد استعمالاته في المحاورات. وقد ذكرت هذه المادة في القرآن الكريم بجملة كثيرة من متفرعاتها ، وهي بالمعنى الحقيقي ممتنعة بالنسبة إليه عزوجل ، إذ لا يعقل التجاوز بالنسبة إلى من هو غير متناه من حيث القدرة والغلبة والقهارية. نعم يصح بالمعنى الاعتقادي ، وهو يرجع إلى مخالفته في الإعتقاد والعمل. هذا وإن أرجعنا عداوته إلى عداوة أنبيائه وأوليائه يصح بالمعنى الحقيقي أيضا ، وكذلك إن أرجعناها إلى عقابه.

وإنّما أضاف سبحانه وتعالى العداوة إلى نفسه تشريفا لملائكته ورسله وأوليائه ، وفي الحديث : «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» وقد وردت آيات وروايات دالة على حسن مخالطته تعالى مع عباده على ما يأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى ، وليس المراد بالمخالطة ما هو المنساق من ظاهر اللفظ ، بل ما قاله علي (عليه‌السلام): «داخل لا بالمجانسة ، وخارج لا بالمباينة ، فبينونته تعالى بينونة صفة لا بينونة عزلة». كما أنّ في ذكر نفسه أولا ثم الملائكة والرسل إشعارا بعدم الفرق في هذه العداوة بينه تعالى وبينهم ، لأنهم مظاهر آياته وأولياء خلقه ووسائط فيضه.

قوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ). تقدم وجه اشتقاقهما. واتفق جميع الفلاسفة على أنّ الملائكة ذوات مجردة ليست من الماديات إلّا أنّ فلاسفة المسلمين ذكروا أنّها جواهر مجردة ، والمتكلمون منهم يقولون : إنّها أجسام لطيفة لعدم ثبوت الجواهر المجردة عندهم. وشبهوا الأجسام

٣٤٠