مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

فإن كل ما في الدنيا إن قوبل بإزالة الحق عن مقره وإظهار الباطل لكان ذلك قليلا في مقابل هذا الذنب العظيم قال تعالى : (لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٠٢] وأنى للنفوس المأنوسة بالماديات معرفة آيات الله جلت عظمته وقيمها الواقعية ، وهذه الآية المباركة شارحة لقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٠١].

وكرر سبحانه وتعالى الوعيد ـ في هذه الآيات المباركة ـ ثلاث مرات إما لأجل عظمة الجرم وشناعته كما مر ، أو لأجل صدور ثلاث جرائم عظيمة هي أصل التغيير ، نشره بين الناس ، وأخذ الرشوة وإعمال الأغراض الشريرة في التغيير ، فقال سبحانه.

قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ). أي : لهم عذاب شديد لأجل التحريف ولأجل الأغراض الفاسدة وفعل المعاصي.

قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً). ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية المباركة خصلة من خصالهم السيئة وضربا من غرورهم وادعائهم أنهم من أبناء الله وأحبائه فلا بد وأن تكون مدة العقاب قليلة. وقيل : إن أكثر اليهود على أن النار تمسهم سبعة أيام وقيل : أنها تمسهم أربعين يوما ، وهي المدة التي عبدوا فيها العجل. والمس واللمس بمعنى واحد ، إلّا أن الثاني أعم موردا من الأول ، فيصح أن يقال : التمست الكتاب فلم أجده ولا يصح أن يقال : مسست الكتاب فلم أجده ، قال تعالى : (أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) [سورة الجن ، الآية : ٨] ولا يصح استعمال مسسنا السماء ، لأن المنساق منه اللصوق والمقارنة الحقيقية بين الماس والممسوس ، وأكثر ما تستعمل مادة (م س س) في القرآن إنما هو في السوء والضر والمكروه ، وقد تستعمل في الخير أيضا ، قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً)

٣٠١

[سورة المعارج ، الآية : ٢١].

وربما تعترض غالب النفوس شبهة دوران مدة العقاب مدار مدة العصيان فإذا كانت مدة العصيان محدودة فلا بد وأن تكون الأولى أيضا محدودة فلا وجه للزيادة فضلا عن الخلود والأبدية ، وقد ذكرت هذه الشبهة في علم الفلسفة والكلام والحديث ، ودفع عنه بأجوبة متعددة سيأتي التعرض لها في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ). تقدم معنى العهد وهو حفظ الشيء وإحكامه ومراعاته حالا بعد حال ، والعهد إما بين الله تعالى وبين خلقه وهو كثير ومنه قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) [سورة يس ، الآية : ٦٠]. وكل ما بيّنه رسوله الباطني ـ وهو العقل ـ من حسن الإحسان وقبح الظلم ، وجميع ما بيّنه أنبياؤه ورسله الظاهرية بواسطة الوحي السماوي يكون من عهود الله تبارك وتعالى على عباده. وإما ما بين العباد بعضهم مع بعض ، وهي المعاملات التي يقوم بها النظام وجميع هذه الأقسام واجب الوفاء بها عقلا وشرعا.

ومعنى الوجوب على الله تعالى حسن فعله وقبح نقضه ، وكلما كان كذلك فهو واجب عليه قال تعالى : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) [سورة التوبة ، الآية : ١١١] ، وقال تعالى : (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ).

قوله تعالى : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ). مركب من مقدمتين واضحتين يعترف الخصم بإحديهما وتثبت في حقه الأخرى لا محالة أي : إن كان لكم في دعواكم عهد من الله تعالى فلن يخلف الله عهده وهم يعترفون بعدمه فينسبون إليه ما لم يقله.

قوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). أي : تقولون ما لا دليل لكم عليه ، وهذه نتيجة واضحة لعدم إثبات عهد الله إليهم ، فنفى الله تعالى عنهم العلم والمعلوم تنبيها على كمال غباوتهم ولا تختص هذه الآية بقوم دون آخرين بل تجري في كل من تمنى على الله أمرا غير مشروع وافترى عليه في ذلك.

٣٠٢

قوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً). بلى : كلمة تستعمل غالبا مع النفي فتزيله ويثبت نقيضه قال تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٢] فأثبتوا الربوبية فكانوا مسلمين ـ بخلاف نعم فإنه تقرير غالبا ـ وعليه لو قالوا : نعم لكانوا كافرين ، وإذا قيل : ما عندي شيء فقال المخاطب بلى فهو رد لكلامه ، وإذا قال : نعم فهو تقرير هذا مع عدم القرينة في البين وإلّا فتتبع هي لا محالة.

فكلمة «بلى» في المقام رد لما زعموه أي : ليس الأمر كما ذكرتم بل تمسكم النار كما تمس غيركم وتخلدون فيها.

ومادة «كسب» استعملت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة فأضيفت تارة إلى القلب فقال تعالى : (يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٢٥] ، والى الأيدي أخرى فقال جل شأنه : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [سورة الشورى ، الآية : ٣٠] ، وإلى النفس ثالثة قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [سورة المدثر ، الآية : ٣٨] والمرجع في الجميع واحد لعدم الفرق بين النسبة إلى الذات أو الى اليد. وأصل المادة تستعمل في طلب النفع ، سواء كان واقعيا أم وهميا أم خياليا ، ويعتبر الاستمرار فيه في الجملة ، فلا يقال لمن اشترى شيئا لطلب النفع مرة : إنه كاسب إلّا بالعناية. وهذا من إحدى عناياته تبارك وتعالى في ما استعملت فيه هذه الكلمة في القرآن الكريم فلم يرتب الحكم على صرف الوجود غالبا إلّا في الشرك.

والسيئة الفعل القبيح وهي ضد الحسنة وتشمل جميع القبائح من الصغائر والكبائر والشرك ، فإن أريد بها في المقام الشرك ـ كما عن جمع من المفسرين ـ يكون قوله تعالى : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) بيانا للشرك الذي يكون خطيئة محيطة بالإنسان. وإن كان المراد بها مطلق السيئة فيكون المراد بالإحاطة اشتدادها حتّى يصير صاحبها من أهل الخلود في النّار.

قوله تعالى : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). الإحاطة : الغلبة والاستيلاء. والخطيئة الحالة الخاصة الحاصلة

٣٠٣

من مطلق الذنب الموجبة للخلود أو الشرك ـ أو ما يكون مثله ـ بقرينة الإحاطة والخلود في النار. وذكر الخطيئة دون السيئة إشارة إلى أن تكرر السيئة يوجب إحاطة الخطيئة وصدورها عنه ولو لم تكن عن التفات تفصيلي حينها بعد أن كان أصل السبب عن عمد واختيار منه.

ودخول أصحاب الخطايا في النار والخلود فيها كدخول الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنّة والخلود فيها مطابق للبراهين العقلية ـ كما يأتي ـ فإن من أحاطت به خطيئته يكون من الأشقياء ومن كان كذلك فهو مخلد في النار ، كما أن من آمن وعمل صالحا يكون من السعداء وكل من كان كذلك فهو مخلد في الجنّة.

ثم إن إحاطة الخطيئة بالإنسان تكون على أقسام : من أهمها الشرك والكفر بالله تعالى فإنهما يحيطان على القلب والجوارح ، قال تعالى : (مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) [سورة المائدة ، الآية : ٧٢] وقال جلّ شأنه : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [سورة مريم ، الآية : ٣٧] ومنها متابعة الذنب للذنب بحيث تستولي السيئة على مجامع قلبه فتتبدل فطرته الأولية إلى فطرة أهل الجحيم والنار مع فرض عدم تخلل التوبة والندم وما يوجب الكفران في البين وقال تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) [سورة الأنعام ، الآية : ٧٠] وقد ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «ما من عبد إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنبا خرج في النكتة نكتة سوداء فإن تاب ذهب ذلك السواد وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطي البياض فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا وهو قول الله عزوجل : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ). ومنها الاستخفاف والاستهانة بأوامر الله تعالى ونواهيه المؤدي إلى الاستهزاء بالدين قال تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) [سورة الروم ، الآية : ١٠] وغير ذلك من الأقسام التي يكون المناط فيها كله تبديل الذات المقتضية للسعادة إلى الشقاوة في مرتبة الاقتضاء فتتغير الذات من كثرة مزاولة السيئات والمعاصي ، وعدم المبالاة بها ، كما يصير الجبان بكثرة مزاولة الحروب شجاعا فمقتضيات

٣٠٤

الذات تتغير بالملكات وهي تحصل بتكرر الأفعال.

وما قيل : إنّ الذاتي لا يتغير ولا يتبدل (مردود) بأن ذلك في الذاتي المنطقي وما هو لازم الماهية ، لا الذاتي في العرف والشرع اللازم للوجود لجهات خارجة عن الذات والماهية ، ويأتي تفصيل ذلك كله في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). بعد أن ذكر سبحانه وتعالى أصحاب النار ذكر هنا أصحاب الجنّة وهم الّذين آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا الصالحات وهذا من سنته تبارك وتعالى فإنه يقرن بين الترهيب والترغيب وهو من بديع حكمته.

وهاتان الآيتان المباركتان تشبهان الآية السابقة وهي : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٦٢] في أن كلا منهما في مقام بيان أن الخلود في الجنّة والنار إنما هو للسعداء والأشقياء دون مجرد التسمية بالأسماء. والفرق أن الآيتين الأخيرتين في مقام بيان ترتب الخلود في الجنّة على السعداء والخلود في النّار على الأشقياء ويلزم الأثر للتسمية ، والآيتين الأوليين في مقام بيان عدم الأثر للتسمية أولا فيلزمه الخلود في الجنّة للسعداء والخلود في النّار للأشقياء.

بحث روائي :

في المجمع عن الباقر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا) قال : «كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فنهى كبراؤهم عن ذلك ، وقالوا : لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيحاجوهم به عند ربهم ؛ فنزلت الآية» ، وقريب منه ما رواه القمي.

أقول : تقدم أنّ ذلك تحريف في ما أنزل الله ومكر وخديعة.

٣٠٥

وعن القمي أيضا في قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) : «قال بنو إسرائيل : لن تمسنا النار ، ولن نعذب إلّا الأيام المعدودات التي عبدنا فيها العجل فرد الله عليهم».

أقول : تقدم ما يتعلق بذلك.

وفي تفسير العسكري في قوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) قال (عليه‌السلام): «السيئة المحيطة به أن تخرجه عن جملة دين الله وتنزعه عن ولاية الله تعالى وتؤمنه من سخط الله وهي الشرك بالله ، والكفر به ، وبنبوة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وولاية علي وخلفائه (عليهم‌السلام) ، وكل واحدة من هذه سيئة تحيط به أي تحيط بأعماله فتبطلها وتمحقها».

وفي الكافي عن أحدهما (عليهما‌السلام) في قوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) : «إذا جحدوا ولاية أمير المؤمنين (عليه‌السلام) فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون» ، وقريب منها ما رواه الشيخ بأسناده عن علي (عليه‌السلام) عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

أقول : في ذلك روايات مستفيضة بل متواترة وكلها من باب المصداق والتطبيق ، وتشمل جميع الأعمال الباطلة لفقد شرط من شروطها.

ثم إن الأفعال الصادرة عن الإنسان إما مباشرية له فقط ، أو تسبيبية منه ، أو مركبة منهما ، والجميع إما من الحسنات والخيرات أو من الشرور والسيئات ، ولا ريب في أنه يجزي جزاء الحسنات على الأفعال الحسنة مطلقا ، بل مقتضى قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦٠] تضاعف الجزاء. وأما السيئات فإن كانت فعلا مباشريا فيعاقب عليها ما لم تمح بالتوبة بشروطها. وأما إذا كانت الأفعال تسبيبية منه ، فقد قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في ما تواتر عنه : «من سنّ سنّة حسنة فله أجر من عمل بها ومن سنّ سنّة سيئة فعليه وزر من عمل بها» ، وتشهد لذلك الأدلة العقلية وتحريف كلام الله تعالى وآياته وتغيير السنّة المقدسة النبوية هو من القسم الأخير.

٣٠٦

بحث فقهي :

قد استدل بالآية المباركة : (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) على حرمة أخذ الأجرة على تدوين المصحف الشريف وحرمة بيعه ، وأصل المسألة مذكورة في الكتب الفقهية ، وقد استدلوا على الحرمة أيضا بأدلة أخرى لكنها قاصرة عن إثباتها فمقتضى الأصول والأدلة والقواعد الجواز إلّا أن يدل دليل معتبر بالخصوص على الحرمة وقد ذكرنا التفصيل في الفقه ومن أراد المزيد فليراجع كتابنا [مهذب الأحكام].

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى أحوال بني إسرائيل وما أنعم عليهم بأنواع النعم وما ظهر فيهم من المعجزات الباهرات شرع في تعداد ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق وهي أمور عقلية نظامية تنظم شؤونهم الفردية والاجتماعية الدنيوية والأخروية ، ويترتب على مخالفتها والاستخفاف بها الأحكام الوضعية والتكليفية. وإنما كرر جل شأنه ميثاق بني إسرائيل لأنهم أول من قامت فيهم الحركة الدينية ولعلهم يشكرون هذه النعمة ، ويدينون بما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) تعظيما لشأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) واهتماما باتباعه وتسلية له

٣٠٧

لئلا يتأثر من لجاجهم وانكارهم ، فإنهم جبلوا على ذلك.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ). الأخذ : الاستيلاء والتحصيل والحيازة ، وقد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات كثيرة جدا بالنسبة إليه تعالى وإلى خلقه ، وكذا في السنة المقدسة فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «على اليد ما أخذت حتّى تؤدي». وتقدم معنى الميثاق وهو العهد المؤكد والعقد المستحكم. والموثوق به في الآيات المباركة أمور كلها مما يستقل العقل بحسنها ، واجتمعت الشرايع السماوية عليها.

والمعنى : اذكر ايها الرسول ما أخذناه من المواثيق عليهم ، وقد بيّن سبحانه وتعالى هذه المواثيق بما يأتي.

قوله تعالى : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ). جملة خبرية في مقام الإنشاء وهذا أبلغ في الطلب وآكد أي : اعبدوا الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [سورة النساء ، الآية : ٣٦] وهو غاية كمال العقل وأولى درجة الرقي إلى المقامات العالية التي لا حد لها ولا نهاية.

قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً). أي أمرناهم بالإحسان إلى الوالدين ، وهو حكم حسن يحكم به ذوو العقول لو لم يحكم بحسنه كل ذي شعور ؛ وقد قرن سبحانه وتعالى الوالدين بالتوحيد في هذه الآية المباركة ، وفي جملة من الآيات قال تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [سورة الأنعام ، الآية : ١٥١] ، وقال جلّ شأنه : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [سورة الإسراء ، الآية : ٢٣]. وذلك ، لأن النشأة الأولى أو الخلق وإن كان من الله تعالى ولكن دوام بقاء عالم الإنسانية بالوالدين ، كما أن منشأ التربية الحقيقية من الله تعالى ، لأنه الرب على الإطلاق وجميع ما سواه مربوب له ، ثم بعد ذلك في النظام الأحسن تكون التربية من جهة الوالدين ، ولذا قرن الشكر لهما

٣٠٨

بشكره تعالى فقال جل شأنه (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [سورة لقمان ، الآية : ١٤].

والتربية تارة : تكون جسمانية وهي التي يقوم بها الوالدان ، ويتم بقاء النوع الإنساني بها. واخرى : تربية معنوية وهي التي بها تقوم الحياة الأبدية ، ويقوم بها الأنبياء والأولياء والعلماء ، ولا ريب في أفضلية الثانية من الأولى واهميتها.

وإنما اطلق تعالى الإحسان إلى الوالدين ، لأنه مما يختلف باختلاف الاعصار والأمصار والحالات كما هو معلوم ، ويتم الإحسان إليهما بمعاشرتهما بالمعروف ، ورعايتهما ، وامتثال أوامرهما والتواضع لهما.

وكيف كان فأفعال الإنسان بالنسبة إليهما على أقسام ثلاثة : الأول ما أدرك أنه حسن ، والثاني ما أدرك أنه سيئ ، والثالث ما تردد في انه من الحسن أو السيئ ، ويصح الأول بالنسبة إلى الوالدين ، ولا يجوز الثاني ، وفي الأخير تفصيل يطلب من الفقه.

قوله تعالى : (وَذِي الْقُرْبى). القربى هي القرابة أي : امرناهم بالإحسان إلى القرابة وهو مما تحكم به الفطرة أيضا ، لأن بحفظ القرابة يتحقق نظام الأسرة ، والاجتماع الذي هو من أهم مقاصد النوع الإنساني فالإحسان إليها يقوي أواصر تلك القرابة ويصلحها.

قوله تعالى : (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ). اليتم هو الانفراد ومنه قولهم درة يتيمة ، وقول الصادق (عليه‌السلام): «والله نحن اليتامى» واليتيم في الإنسان من فقد الأب ، وفي البهايم من فقد الأم ، وفي الطيور فيهما. وتقدم معنى المسكين وهو من أسكنته الحاجة ، وأطلق سبحانه وتعالى الإحسان إليهم ، لما مر آنفا في الإحسان الى الوالدين ، وسيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً). التفات في الكلام وعدول في الخطاب لأهمية المورد بعد أن أمر سبحانه وتعالى بالإحسان الى أفراد مخصوصين ـ وهم الوالدان والأقربون ، واليتامى والمساكين ـ أكد ذلك بحسن

٣٠٩

المعاشرة والقول الجميل وكل ما هو حسن للناس ولا بد من تقييد ذلك بأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو اجمع كلمة لحفظ النظام ، واحسن ما يجلب به قلوب الأنام ، فعن أبي جعفر (عليه‌السلام): «قولوا للنّاس أحسن ما تحبون أن يقال فيكم» وسيأتي في البحث الروائي ما يتعلق به أيضا.

وهذه المواثيق لم تكن تختص بطائفة خاصة بل هي أمور فطرية حكم بحسنها العقل وحث عليها الشرع ، فلو عمل بها النّاس لعمت الإلفة وزالت البغضاء والتنافر بينهم ، وانقاد الكل للكل ، واضمحل العدوان بين أفراد الإنسان ، وبلغ المجتمع الإنساني إلى ذروة المجد والشرف ، ولكنهم عمدوا إلى الشقاق والنفاق فتولوا عن الحق إعراضا فصاروا لما لا يتوقعون أغراضا.

قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ). بيّن سبحانه وتعالى معنى العبادة التي تقدمت في صدر الآية المباركة ليبطل جل شأنه افتعال المفتعلين لأن العبادة لا بد أن تستند بجميع خصوصياتها إلى الشارع. والإقامة ـ كما تقدم ـ المواظبة على إتيان الصّلاة تامة الأجزاء وجامعة للشرائط ، وهي أقوى صلة بين الله تعالى وعباده ، ومن أهم السبل في إصلاح النفس ، لما تشتمل على الإخلاص لله تعالى ، والخشوع لعظمته. كما أن الزكاة أقوى صلة بين الأغنياء والفقراء ثم بينهم وبين الله تعالى ، ففيها إصلاح المجتمع. والزكاة أيضا من الأمور العبادية فلا بد أن تستند خصوصياتها إلى الشرع ، وإن كان مطلق الصدقة محبوب بالفطرة لدى الأمم.

قوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ). بيان لما وقع منهم من عدم الوفاء بالميثاق ومعارضتهم له بالنفاق. والتولي هو الإعراض والمعروف انه إذا عدّي بنفسه يكون بمعنى الولاية والمحبة والإقبال وإذا عدّي بعن كان بمعنى الإعراض والإدبار ، والقرينة في المقام على الثاني : (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ). وغالبا ما استعمل لفظ التولي في القرآن الكريم إلّا وعقّب بالإعراض مبالغة في الترك والتولي ، وقد كان لتوليهم مظاهر مختلفة ذكر سبحانه وتعالى جملة منها في الآيات المتقدمة وسيأتي في الآيات اللاحقة بعضها الآخر.

٣١٠

والمراد بالمستثنى في قوله تعالى : (إِلَّا قَلِيلاً) بعض اليهود الذين أقاموا على دينهم ، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في حكايته عن الشيطان (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [سورة ص ، الآية : ٨٣] ونسب إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «العالمون هالكون إلّا العاملين ، والعاملون هالكون إلّا المخلصين ، والمخلصون على خطر».

ثم إنّ التوجه إلى شيء يلازم الإعراض عما يضاده وينافيه ، فهما من الصّفات ذات الإضافة بينهما التلازم شدة وضعفا ، أو كمالا ونقصا فمن توجه إلى شيء من حيث هو مع قطع النظر عن أنه صنع الله تعالى ومظاهر آياته ومورد قضائه ورضائه ، فقد أعرض عن الله تعالى بقدر ما توجه اليه ، وأما إذا كان توجهه اليه من حيث انه مورد رضائه وطلبه لا يعد ذلك إعراضا عنه تعالى ، بل توجها إليه تعالى ، وهما يتحققان بالقلب ، إذ لا يمكن أن يتحقق التوجه إليه تعالى بالجسم لما ثبت في الفلسفة من امتناع الجهة بالنسبة إليه عزوجل ، قال تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١١٥] ، وقال جلّ شأنه : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [سورة الحديد ، الآية : ٤] ، وقال تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [سورة ق ، الآية : ١٦]. والإعراض القلبي عنه عزوجل يكون إما بعدم الإعتقاد به ، أو عدم سماع أحكامه ، أو عدم العمل بها بعد الاستماع ، أو الاستهزاء بآياته ، أو التولي عن أنبيائه ورسله والقائمين مقامهم في التشريع. وفي الأخير يتحقق الإعراض القلبي والجسماني معا ، ويأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

وقد نسب إلى جمع من المفسرين أن هذه الآية المباركة منسوخة واختلفوا في تعيين الناسخ ، فقد ذهب جمع إلى أن قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) منسوخ بآية السيف ، وهي قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [سورة التوبة ، الآية : ٢٩] وهو منسوب إلى ابن عباس وقيل غير ذلك.

والحق أن الآية المباركة في مقام بيان أصل القانون وتشريع الحكم ،

٣١١

وذكرنا أن مضمونها أحكام فطرية حكم بحسنها العقل إلّا أن لها قيودا مذكورة في الكتاب ، فليست الآية منسوخة وإلّا لعمّ النسخ كل تقييد لمطلق ، أو خاص لعام ، والحديث الوارد في المقام عن الصادق (عليه‌السلام) كما سيأتي محمول على ما ذكرناه إن تم اعتباره.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ). ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية المباركة جملة من المنهيات التي أخذ العهد من بني إسرائيل باجتنابها ، كما ذكر في سابقها مما أمروا بها. والسفك والصب والإهراق بمعنى واحد. والنفس ـ بالسكون ـ بمعنى الروح ، وهما شيء واحد وإن اختلفا مفهوما ، وهي اشرف ما في الإنسان وقد تحيرت العقول فيها ولم تزل مورد بحث العلماء واجتهادهم ، وغاية ما وصل العلم فيها مع بذل الجهود الجبارة أنها مبدأ الحياة والحركة ، ولكنهم لم يقدروا أن يتوصلوا إلى الحقيقة ، بل كلما ازداد الجهد فيها في تعاقب القرون ازداد الإنسان بعدا عنها وازدادت غموضا ، ولذا قالوا : إنّ قوله (عليه‌السلام): «من عرف نفسه فقد عرف ربه» من التعليق على المحال إن لوحظ بالنسبة إلى الحقيقة ، وأما إذا لوحظ باعتبار الآثار فهو متيسر بحسب مراتب الإدراكات والاستعدادات والنفس ـ بالفتح ـ الهواء الداخل في البدن والخارج منه وبه قوام الحياة وتأتي بمعنى الفرج ، ومنه ما نسب إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إني أجد نفس الرحمن من اليمن».

وفي قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) التفات إلى الحاضرين ترغيبا لهم إلى الإيمان بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذي يبين ما أخذ عليهم من المواثيق.

والديار جمع الدار ، سميت به لدورها على ساكنها وهي من الأمور التشكيكية الإضافية ، فالدنيا مع سعتها دار الفناء ، والآخرة مع عدم انتهائها دار البقاء ، ودار المسكين التي لا تسع مدّ رجليه دار أيضا. والدّيار ـ بالتشديد ـ من سكن الدار.

والمعنى : وإذ أخذنا منكم العهد أن لا يسفك بعضكم دم بعض ولا

٣١٢

يخرج بعضكم بعضا من ديارهم بغير الحق مباشريا كان أو بالتسبيب وكل منهما من القبائح العقلية ، ولذا اعترفوا وشهدوا بذلك.

وإنّما عبّر سبحانه بالنفس وجعل غير الشخص كأنه نفسه مبالغة في النهي ، وتأكيدا في الترك ولأنهم أمّة واحدة بينهم روابط القرابة والمصلحة والدين ، فما يصيب واحدا منهم كأنما يصيب الأمة ، وأراد سبحانه وتعالى بذلك تعليم حفظ الوحدة بين الأفراد مهما أمكنهم كقوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [سورة النور ، الآية : ٦١].

قوله تعالى : (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ). الإقرار هو الإخبار الجازم بما هو لازم. والشهادة من الشهود وهو الحضور الذي لا شك فيه. والمعنى انكم أقررتم بالميثاق والعهد ؛ وتشهدون بما فعلتم به من الهتك والنقض.

قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ). إخبار عن نقضهم للعهد ، والخطاب إلى يهود عصر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وبيان لما نقضوه من سفك الدم وإخراج صاحب الدار من داره ، وفيه إشارة إلى ما كان بين اليهود في عصر النبي من التنافر والتعاند والقتل والأسر والعدوان وسيأتي في البحث الروائي ما يدل على ذلك.

قوله تعالى : (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ). التظاهر التعاون ، وهو مشتق من الظهر بمعنى المعين ، قال تعالى : (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٨٨]. والإثم والوزر والمعصية بمعنى واحد. والعدوان التجاوز عن الحد ، وفي المقام هو الإفراط في الظلم. أي أنه كان منكم من يعاون الظالم على إخوانه من اليهود بالإثم والعدوان أي القتل والأسر والإخراج من الديار.

قوله تعالى : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ). أسارى جمع أسير ، وهو كل مأخوذ قهرا. وقد يطلق الأسارى على من في الوثاق ، والأسرى على من في اليد بلا وثاق وتفادوهم من الفداء وهو طلب الفدية. والمعنى أنه يفدي كل فريق من اليهود أسرى أهل ملته وإن كان من أعدائه ، ثم يعتذرون عن ذلك بأن دينهم أمرهم بفداء الأسرى من

٣١٣

بني إسرائيل. وليس ذلك إلّا من الاستهزاء بأحكام الله تعالى ، والإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر ، فانه لو كان كذلك فلم يقتل بعضكم بعضا ويخرج بعضكم الآخر من دياره وهو محرّم عليهم في دينهم ، وقد نهاهم الله تعالى عن ذلك كما ذكره تعالى.

قوله تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ). توبيخ وتأنيب أي : أنّكم إذا كنتم مؤمنين فما بالكم تؤمنون ببعض الكتاب وهو فداء الأسرى ، وتكفرون ببعض وهو حرمة القتل ، وإخراج اهل الديار من ديارهم. وفداء الأسير حسن لا ريب في محبوبيته بشرط أن لا يكون الفادي هو السبب في أسره ، وإلّا كان تبعيضا في الإيمان ، وكفرا بأحكام الله ، ولذا توعّد سبحانه على من كان كذلك بالخزي في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة. والتعبير بالكفر إشارة إلى استهزائهم بحكم الله وجحودهم له ، وإلّا فإن مجرد ترك العمل ببعض الأحكام لا يوجب الكفر وإن أوجب الفسق.

قوله تعالى : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ). الخزي هو العذاب والهوان. قال تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩٢] والتعبير بالرد إشارة إلى أن مسيرهم في المبدأ والمنتهى واحد ، من العذاب إلى العذاب.

قوله تعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). لا تخفى عليه خافية فقد أعد لكل عمل جزاءه ، وقد تقدم معنى ذلك ، وفيه زجر شديد لهم ، وفي مثل هذه الآيات تسلية لنبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عمّا كان يلقاه من اليهود ، وارشاد لأمته إلى نبذ ما فعله اليهود وإلّا أصابهم ما أصاب اليهود.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ). بيان لقبح أفعالهم ، وقبحهم في تبديل الحياة الأبدية الشريفة بالحياة الزائلة الخسيسة بتركهم أحكام الله تعالى ، واستهزائهم بآياته وفسقهم ، ومثل هذا التبديل مما حكم العقل بقبحه ، وأجمعت الشرايع الإلهية على التنديد به ، قال تعالى في شأن الآخرة : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) [سورة العنكبوت ، الآية :

٣١٤

٦٤] ، وقال جل شأنه في الدنيا : (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٠] ، وقال تعالى : (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٨] وقد وردت أخبار كثيرة عن المعصومين (عليهم‌السلام) في ذم الدنيا وطالبها والترغيب إلى الآخرة ، فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في ما اشتهر عنه : «الدنيا ميتة وطالبها كلاب» إلى غير ذلك من الأخبار التي يصعب ضبطها.

إن قيل : إنه كيف تكون الدنيا كذلك وأنها مزرعة الآخرة ولولاها لم تتحقق الجنان العالية ولا الوجوه الناضرة. (يقال) : إذا لوحظت الدنيا من حيث نفسها فهي قبيحة مذمومة. وإذا لوحظت من حيث وقوعها في طريق الآخرة بما ارتضاه الله تعالى فهي ممدوحة بل هي من بعض مظاهر الآخرة ظهرت في هذا العالم لمصالح كثيرة على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ). الخفيف معروف ، وهو من المعاني الإضافية فربما يكون شيء واحد خفيفا من جهة وثقيلا من جهة أخرى ، قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «قول لا إله إلّا الله خفيف على اللسان ثقيل في الميزان». وهو في المقام بمعنى التسهيل ، كقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «من استخف بصلاته فلا يرد عليّ الحوض» أي تساهل فيها. ويستعمل في القرآن غالبا مقرونا بالخلود ، قال تعالى : (خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٨٨] ويمكن أن يستفاد الخلود في المقام من قوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) لأنهم بأعمالهم قد سدوا على أنفسهم أبواب رحمته تعالى فلا ينصرهم ناصر ، فيكون عدم النصر مساوقا للخلود في النار ، وتقتضيه مناسبة الحكم والموضوع أيضا.

وذكر كلمة الفاء في قوله تعالى (فَلا يُخَفَّفُ) قرينة على أن مدخولها مترتب على أفعالهم من باب ترتب المعلول على علته ، كما في قول القائل تحركت اليد فتحرك المفتاح.

٣١٥

بحث روائي :

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) قال : «أن تحسن صحبتهما ، وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين».

وفي الكافي أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) : «قولوا للناس حسنا ، ولا تقولوا إلا خيرا حتى تعلموا ما هو».

وعن العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) «قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم ، فإن الله يبغض اللّعان السبّاب الطعّان على المؤمنين ، المتفحش ، السائل الملحف ، ويحب الحليم الحيي العفيف المتعفف». ومثله ما رواه في الكافي والمعاني :

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) : «نزلت هذه الآية في أهل الذمة ، ثم نسخها قوله عزوجل : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية.

وعن العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) أيضا : «إن الله بعث محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بخمسة أسياف : فسيف على أهل الذمة ، قال الله تعالى : (قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) نزلت في أهل الذمة ، ثم نسختها أخرى قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) الآية».

أقول : المراد من النسخ في المقام ليس المعنى المصطلح فيه كما يأتي في قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) [سورة البقرة ، الآية : ١٠٦] بل المراد التقييد والتخصيص ، كما يقيد بقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٤] ، وقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [سورة الشورى ، الآية : ٤٠].

وفي تفسير العسكري في قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)

٣١٦

«أقيموا الصّلاة بتمام ركوعها وسجودها ، ومواقيتها ، وأداء حقوقها. وآتوا الزكاة من المال ، والجاه ، وقوة البدن».

أقول : تقدم ما يدل على ذلك في أول سورة البقرة.

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) في وجوه الكفر في القرآن قال : «الرابع من الكفر : ترك ما أمر الله ، وهو قول الله عزوجل : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) ـ الى قوله تعالى ـ (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) فكفّرهم بترك ما أمر الله ، ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده ، فقال عزوجل : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ) ـ الآية ـ».

أقول : ترك ما أمر الله تعالى له مراتب : مجرد الترك مع الإعتقاد به واقعا ، والترك مع عدم الإعتقاد ، والترك مع الاستهزاء ، والأخيران يوجبان الكفر ، والأول موجب للفسق كما فصلنا ذلك في الفقه فراجع كتابنا [مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام].

بحث دلالي :

هذه الآيات المباركة وغيرها من الآيات الواردة في القرآن الكريم في قصص بني إسرائيل وأحوالهم كلها تشير إلى وحدتهم وترابطهم حتّى كأن الكلام عن الأبناء والآباء واحد فيهم ، وأن اللاحق نفس السابق في العمل ، فاعتبر القرآن أنّ جزاء الجميع واحد وإن كان العمل صادرا عن بعضهم ، وليس ذلك إلّا لأجل وجود الترابط الوثيق بين أفراد اليهود فلهم وحدتهم في الدين والنسب والاجتماع وغيرها حتّى ليعدّ الفرد اليهودي عنوانا مشيرا إلى أمته ، وله من الأخلاق والعادات ما لغيره من اليهود ، فقد اتفقت طباعهم واتحدت نفوسهم وقلّما تكون هذه الظاهرة الاجتماعية في الأمم والجماعات. فكان خطاب القرآن مع اليهود في عصر التنزيل كالخطاب مع اليهود في غير عصرهم.

ولعل السر في إصرار القرآن على استعمال هذا الأسلوب من الخطاب

٣١٧

هو اعتبار هذه الأمة من أحوال الماضين ، فإن الله تعالى لم يذكر لنا أحوالهم إلّا للاعتبار بها ، أو لأجل بيان أن سنة الله تعالى في الاجتماع الإنساني أن تكون متكافلة متعاونة يسعى كل فرد في إسعاد أمته ، ويعتبر سعادته بسعادتها ، وفي ذلك آيات وروايات كثيرة يأتي التعرض لها في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١))

من أهم العهود والمواثيق الإنسانية مع الله تبارك وتعالى إرشاده إلى المعارف الإلهية التي فيها الكمال الإنساني ولم يتمكن البشر أن يبلغ ذلك إلّا بمرشدين من قبله تعالى وهم الرسل والأنبياء بما أنزل عليهم من الكتب والأحكام. وقد جرت سنته تبارك وتعالى أن يرسل الرسل بعضهم إثر بعض لئلا ينسى الإنسان ما عهد إليه ربه ولا يكون في حيرة وضلالة. ومما أنعم تعالى على بني إسرائيل أن أرسل إليهم عددا من الرسل لينبئوهم بما عهد إليهم ربهم ويجددوا المواثيق عليهم ، فلم يكن منهم إلّا الإصرار على الكفر والعصيان ذلك لأنهم اتبعوا الشهوات فقست قلوبهم ، فاستحقوا اللعن والعذاب الأليم بما كانوا يفعلون.

٣١٨

التفسير

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ). المراد من الكتاب هو التوراة الكتاب المقدس أول الكتب السماوية. والتقفية هي الارداف والمتابعة كلفظ تترى ، قال تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) [سورة المؤمنون ، الآية : ٤٤] أي متتابعا. والمعنى : لقد أرسلنا موسى وأعطيناه التوراة ثم أتبعنا بعد موته رسلا على شريعته يجددون العهد يأمرون وينهون. وعن جمع إن عدد الرسل بين موسى وعيسى اربعة آلاف. وعن آخرين إنهم سبعين ألفا ، منهم من ذكرت أسماؤهم في القرآن مثل داود وسليمان. ويونس والياس واليسع وذي الكفل ويحيى. وزكريا (عليهم‌السلام). ومنهم من لم تذكر أسماؤهم منهم يوشع صاحب دعاء السمات المعروف عندنا. وقال أبو عبد الله (عليه‌السلام): «إذا دعوتم الله بالأنبياء المستعلنين فادعوه بالأنبياء المستخفين».

قوله تعالى : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ). البينات : الحجج القيّمة ، والبراهين الواضحة ، فتشمل الإنجيل وجميع معجزات عيسى (عليه‌السلام) وهي التي ذكرها الله تعالى في سورتي آل عمران والمائدة.

وعيسى بالسريانية أيشوع ـ بتقديم الهمزة ثم الياء والشين المعجمة ـ ومعناه السيد أو المبارك ، وهو من الأنبياء اولي العزم وصاحب الكتاب المقدس ، وشريعته ناسخة لكثير من شريعة موسى (عليه‌السلام) مصدق للتوراة ، ومبشر برسالة احمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال تعالى : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٦] ، وقال تعالى : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [سورة الصف ، الآية : ٦] ولهذا خصه الله تعالى بالذكر في المقام بعد موسى (عليه‌السلام).

قوله تعالى : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ). التأييد : التقوية والإعانة. والقدس ـ بضم الدال أو سكونه ـ الطهارة والتطهير عن كل ما يوجب النقص ، ويأتي بمعنى الكمال الأتم ، وبهذا المعنى يكون من أسمائه الحسنى. فيقال

٣١٩

«يا قدوس». وروح القدس هو جبرائيل الذي ينزل على الأنبياء (عليهم‌السلام) ومنه يستمدون العلوم النازلة من الله تعالى على البشر ، فتطهر النفوس المستعدة عن أدناس الرذائل وتبلغ إلى ما أعدت لهم من درجات الفضائل. وتأييد عيسى (عليه‌السلام) بروح القدس كان من أول حمل امه به إلى أن رفع إلى السماء كما يأتي بعد ذلك. هذا ولكن يظهر من جملة من الأخبار أن روح القدس غير جبرائيل ، وهو مع الأنبياء والأوصياء (عليهم‌السلام) يستمدون منه وأما بالنسبة إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذي هو بدء سلسلة النزول وختم سلسلة الصعود ، فمقتضى المستفيضة عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «أول ما خلق الله روحي [أو نوري]» أن يكون جبرئيل يخدمه لا أن يكون مؤيّدا بجبرئيل ، وفي المقام تفصيل نتعرض له في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ).

الهوى : الميل إلى الشيء ، سمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه الى النار إذ يستعمل غالبا في الشر وفيما ليس بحق. والمعنى : أنكم تتبعون أهواءكم حتّى في اتباع رسل الله ، فمن كان منهم موافقا لهواكم تتبعونه ، وتخالفون من لا يكون كذلك.

قوله تعالى : (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ). أي أنكم كذبتم فريقا من الرسل ، كعيسى (عليه‌السلام) ومحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وتقتلون فريقا آخر منهم كيحيى وزكريا (عليهما‌السلام) وغيرهما. ومن إيراد الفعل بالمضارع يستفاد استمرارهم على هذا الفعل الشنيع فصار العناد والجحود سجية لهم.

قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ). الغلف ـ بسكون اللام ـ جمع الأغلف ـ وبضمه ـ جمع غلاف ـ كحمر وحمار ـ بمعنى الغطاء. ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلّا في موردين : أحدهما هنا ، والآخر في قوله تعالى : (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها) [سورة النساء ، الآية : ١٥٥] وكلاهما ورد في شأن اليهود وفي مقام ذمهم والطعن فيهم والمراد به على التقديرين أنهم قالوا قلوبنا مملوءة من علم التوراة فلا نحتاج

٣٢٠