مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

قولي أو حالي أو عملي أو بالجميع ، والتجاء الأنبياء والأولياء من القسم الأخير ، لشدة انقطاعهم اليه عزوجل ، ولعل من أشده قول مريم ابنة عمران : (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ١٨] ، وقال تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) [سورة الفلق ، الآية : ١] إلى غير ذلك من الآيات المباركة فالالتجاء إلى الله تعالى لا بد أن يكون حاليا وعمليا ، لا أن يكون من مجرد القول فقط.

والجهل تارة يطلق على ما يقابل العقل ، وأخرى : على فعل ما لا ينبغي فعله إلّا من الصغير وبعض مراتب الشبان ، ومنه قوله تعالى : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) [سورة يوسف ، الآية : ٨٩] وهو ملازم للمعنى الأول.

ويمكن أن يستدل بمثل هذه الآية المباركة على عصمة الأنبياء لأن الاستهزاء والسخرية قبيحان لا ينبغي صدورهما منهم خصوصا إذا كانا في مورد أحكام الله تعالى.

قوله تعالى : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ). الدعاء في هذه الآيات بمعنى طلب الحاجة ويجوز في ضمير البقرة كل من التذكير والتأنيث. وقد سألوا من موسى (عليه‌السلام) ان يسأل ربه ان يبين صفات البقرة.

قوله تعالى : (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ). الفارض المسنة. والبكر ما لم يستفحله الفحل ، وضربة بكر أي قاطعة. وعن ابن فارس : «كانت ضربات علي (عليه‌السلام) أبكارا إذا اعتلى قد ، وإذا اعترض قط». والعوان النصف وهو التوسط بين السنين أي : ان البقرة متوسطة في السن ليست بكبيرة لا تحمل ، ولا صغيرة لم تحمل.

وقوله تعالى : (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ). تأكيدا للأمر الأول وفيه من التنبيه على ترك التعنت.

قوله تعالى : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ). الفاقع صفة كمال للصفرة كما يدل عليه ذيل الآية الشريفة أي : خلصت صفرته يقال : أسود حالك ، وأحمر قانئ ،

٢٨١

وأبيض ناصع ، وأخضر ناضر ، وأصفر فاقع. وكلها صفات مبالغة لهذه الألوان. وقد نقل أن الصفرة الشديدة توجب السرور ، وتجلي البصر ، وعن الصادق (عليه‌السلام): «من لبس نعلا صفراء لم يزل مسرورا حتّى يبليها».

قوله تعالى : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ). تشديد آخر منهم على أنفسهم ، وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إنهم أمروا بأدنى بقرة ، ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم وايم الله لو لم يستثنوا ما اهتدوا إليها أبدا». والمنساق من هذه الآية المباركة أنها في مقام بيان صفات فعلها ، والآية السابقة في مقام بيان صفات جسمها.

والمعنى : إنّ وجوه البقرة تتشابه فأرادوا زيادة التمييز ، وقوله تعالى : (إِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) استثناء منهم ، وهذا هو المراد من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لو لم يستثنوا ويقولوا إن شاء الله لما تبينت لهم إلى آخر الأبد».

قوله تعالى : (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها). الذلول من البهيمة ما كانت منقادة ومعتادة للعمل أي : صعبة ليست معتادة لعمل إثارة الأرض ، ولا تطاوع لأن يسقى بها الزرع أو يستقى عليها والمراد بالمسلّمة أي : سلمها الله تعالى من العيوب. و (لا شِيَةَ فِيها) أي لونها متحد ليس فيه اختلاف وتعدد كما في بعض الأبقار وأصله من الوشي وهو خلط اللون باللون.

قوله تعالى : (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ). أي : إنك بينت الحق ، لظهور الأوصاف التي بيّنها موسى (عليه‌السلام) في ما وجدوها من البقرة.

قوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ). لكثرة ثقل ذلك التكليف عليهم بما شددوا على أنفسهم ، أو لغلاء ثمنها ـ كما في بعض الروايات على ما يأتي في البحث الروائي ـ أو خوفا للفضيحة وكيف كان فهو يدل على امتهانهم لأوامر الله تعالى ، وإنما أمروا بالذبح دون ضرب الحي لئلا يقعوا في الضلالة أكثر.

٢٨٢

قوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها). هذه الآية المباركة مقدمة معنى وإن تأخرت في اللفظ لما عرفت و «ادّارأتم» أصله تدارأتم أي : اختلفتم وتنازعتم ، فأدغمت الياء في الدال ، لأنهما من مخرج واحد ، وزيدت الف الوصل حذرا من الابتداء بالساكن كقوله تعالى : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها) [سورة الأعراف ، الآية : ٣٨] ، وكذا قوله تعالى : (إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٨] ، وقوله تعالى : (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) [سورة يس ، الآية : ٤٩].

ومادة درأ تأتي بمعنى الدفع ، ومنه قوله تعالى : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) [سورة القصص ، الآية : ٥٤] ، وتأتي بمعنى الجلب والملائمة ، ومنه قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس» ، وكذا قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «أمرت بمداراة النّاس كما أمرت بأداء الفرائض». ويمكن أن يكون من الدرء بمعنى الدفع أي : يدفع الإنسان عن أخيه ظلما يوجب التفرقة بينهما ويحمله على الإلفة والموافقة.

ومعنى الآية المباركة : إنّ بعضكم قتل نفسا فتخاصمتم وتدافعتم في شأنه فصار كل واحد يدفع عن نفسه التهمة. وقد نسب القتل إلى اليهود في عصر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لأنهم من نسلهم ، وتصح في المحاورات النسبة إلى اللاحقين بفعل السابقين.

قوله تعالى : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ). أي : أنه تعالى يظهر جميع ما تكتمونه من أسراركم وتهمة بعضكم لبعض.

قوله تعالى : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها). يعني : اضربوا المقتول ببعض البقرة المذبوحة. ولم يعين سبحانه وتعالى هذا البعض فيكتفى بضرب أي جزء كان ، ولكن للمفسرين في تعيينه تفاصيل غير مستندة إلى مدرك صحيح ، ولا دليل صريح ، فالأولى الإغماض عن التعرض لها.

وإنما أمرهم بالضرب من دون أن يضرب موسى (عليه‌السلام) بنفسه ، لأن الفعل إذ كان صادرا منهم فهو أبين لقطع النزاع كما يظهر من ذيل الآية الشريفة.

٢٨٣

قوله تعالى : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى). أي : كما أنه أحيى المقتول بعد موته كذلك يحيي كل ميت. وهذا من تنظير الكلي المعقول على الجزئي المحسوس ، وإثبات للمدعى الكلي بإحساس بعض جزئياته ، إذ الكليات إنما تستكشف عند عامة النّاس من الجزئيات ، ولذا اشتهر «من فقد حسا فقد علما».

قوله تعالى : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). أي : أنه فعل ذلك من الاحياء بعد الإماتة ، وما ترتب على ذلك من فصل الخصومة وإظهار القاتل لعلكم تفقهون وتدركون أنّ الله تعالى قادر على إحياء مطلق الأموات حيوانا كان أو نباتا كما قال تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [سورة الحديد ، الآية : ١٧] فتدبروا في آيات الله تعالى فاعتبروا بها وامنعوا أنفسكم من العصيان ، واتباع الأهواء والشهوات.

قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) القسوة الصلابة والشدة والرداءة والغلظة ، ولم تستعمل في القرآن الكريم غالبا إلّا مضافة إلى القلب ، فيكون المعنى الغلظة والصلابة عما من شأنه أن يكون رقيقا ، قال تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) [سورة الزمر ، الآية : ٢٢].

وقسوة القلب من أشد الأمراض النفسية الروحية بل أصلها وأمها ، فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام لغير ذكر الله تقسي القلب ، وإنّ أبعد الناس من الله القلب القاسي» ، والقلب المتصف بالقساوة كمرآة عليها حجاب غليظ لا يرى فيها صورة أصلا ، وسيأتي تفصيل المقال فيه إن شاء الله تعالى.

وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي : من بعد أن رأيتم الآيات والمعجزات ودلائل التوحيد والرسالة وعرفتم الحق.

قوله تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً). كلمة «أو أشد» يصح أن تكون بمعنى التنويع أي : أن بعض القلوب كالحجارة وبعضها الآخر أشد منها ، أو باعتبار الحالات ففي بعض الحالات يكون القلب كالحجارة ، وفي بعضها الأخرى يكون أشد فحينئذ يصح الكلام بالنسبة إلى المتكلم والسامع.

٢٨٤

كما يجوز أن تكون بمعنى الترديد ، أو بمعنى بل ، والكلام حينئذ سيق مساق فهم السامع.

قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ). الأنهار جمع نهر بسكون الهاء وفتحه كما في قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) [سورة القمر ، الآية : ٥٤] والفتح أفصح ، ولذا لم يستعمل في القرآن مفرد الأنهار إلّا مفتوحة العين ، ولم يرد بسكونها فيه. وتقدم معنى الإنفجار في قوله تعالى : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) [سورة البقرة ، الآية : ٦٠] و «يشقق» أصله (يتشقق) أدغمت التاء في الشين.

ذكر سبحانه وتعالى أنّ الحجارة ينفجر منها الأنهار كالعيون في الجبال فتعود منفعته على الحيوان والنبات. وأن بعض الحجارة يتشقق فيخرج منها الماء ، كالأحجار التي ينبع منها الماء قليلا كان أو كثيرا ، وأن منها لما يهبط من خشية الله تعالى ، لأن جميع الموجودات مسخرة تحت إرادته وقدرته عزوجل ، قال تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [سورة الجمعة ، الآية : ١] ، وقال تعالى : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) [سورة الرعد ، الآية : ١٣].

والخشية هي الخوف ولكنها أعم منه موردا ، لاطلاقها على الجمادات أيضا ، وأخص منه مفهوما لأنها الخوف المشوب بالتعظيم ، بخلاف مطلق الخوف. وللخشية والخوف منه تعالى مراتب كثيرة جدا وبعض مراتبها يختص بالعلماء بالله تعالى قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) : «يعني بذلك من يصدّق فعله قوله ، ومن لم يصدّق قوله فعله فليس بعالم وإن شق الشعر في المتشابهات» هذا بالنسبة إلى الفاعل المختار ، وأما بالنسبة إلى سائر الموجودات من الجماد والنبات والحيوان فحيث أن الخشية منه عزوجل من لوازم ربوبيته العظمى وقيمومته فتتصف جميع تلك الموجودات بالخشية منه تعالى ، قال جلّ شأنه : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [سورة

٢٨٥

الحشر ، الآية : ٢١] ولم يدل دليل عقلي أو نقلي على أن مفاهيم الألفاظ لا بد وان تختص بعالم الإنسان وبما نتعقله من المعاني ، بل هي عامة لجميع العوالم كل على حسب وجوده ، بل الأدلة العقلية والنقلية تدل على الخلاف ، ويأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

وقد حدث في بني إسرائيل جميع ما تقدم من الآيات فقد انفجر الماء من الحجارة واندك الجبل ورفع فوقهم كأنه ظلة. وفي ذلك كله توبيخ وتحقير عجيب لهم ولمن يكون قاسي القلب ، فإنه مع رؤية جميع تلك الآيات الباهرات ودلائل الحق والتوحيد لا تؤثر في قلبه فقد جعلوا القلب الذي له المحل الأعلى في مصاف أخسّ الأشياء بمساوئ الأخلاق ورذائلها فلا تجدي فيه المواعظ والحكم.

إن قيل : بعد قدرة الله تعالى على تسخير الحجارة وما هو أصلب منها فهو قادر على تسخير القلوب أيضا. (يقال) : تسخير القلوب تكوينا تحت إرادته تعالى بلا إشكال ، ولكن اختياره لا بد وأن يكون تحت إرادة صاحب القلب ليتم بذلك نظام التشريع والجزاء كما تقدم.

قوله تعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). مادة (غ ف ل) تأتي بمعنى ذهاب التوجه الفعلي الحاصل للنفس عن الشيء بعد حصول العلم به في الجملة ، وتستعمل في مورد السهو والنسيان أيضا ، وقد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات كثيرة ، وقد ورد في آيات كثيرة قال تعالى : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٣٢] ، وقال جلّ شأنه : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٤٢].

والغفلة إما من الخلق عن الله تعالى ، أو عنه تعالى عن خلقه. والثاني مستحيل إذ كيف تعقل الغفلة عمن كان ذاته بذاته العلم والحياة ، والقيمومة المطلقة على ما سواه ، إلّا إذا رجعت الغفلة فيه تعالى إلى عدم التعجيل في الجزاء وإمهاله في العقاب ، وهذا صحيح وقد دلت الأدلة العقلية والنقلية عليه ، وقد اشتهر : «إن من أفضل أخلاق الكرام تغافلهم عما يعلمون من مساوئ

٢٨٦

غيرهم» فهذا تغافل ممدوح. ولكن إطلاقه على الله تعالى غير مأذون فيه شرعا.

وأما الأول وهو غفلة النّاس عن الله تعالى ، وهذا القسم معلوم لكل من رجع إلى نفسه ، بل يمكن أن يرجع بعض مراتبها إلى الكفر.

ثم إنّه لا ريب في اتصاف الإنسان بالسهو والنسيان والغفلة ، ولكن هل يتصف الحيوان بها؟ فيه بحث عند الفلاسفة والعلماء ولنا فيه كلام سيأتي في محله إن شاء الله تعالى.

فالاعتقاد بحضوره تعالى وشهوده مع عمل كل عامل وعلمه الأزلي بجميع الخصوصيات يقتضي أن تكون الحالة غير ما نرى والعمل غير ما نعمل.

بحوث المقام

بحث دلالي :

يستفاد من مجموع هذه الآيات المباركة الواردة في قصة البقرة أمور :

الأول : استهزاؤهم بأوامر الله تعالى ، وامتهانهم لما جاء به الأنبياء (عليهم‌السلام) ولقد كان الواجب عليهم التسليم بما جاء به موسى (عليه‌السلام) وكان جزاؤهم أن شدد الله تعالى عليهم ونسبهم إلى الجهل وشبّه قلوبهم بالحجارة.

الثاني : مرجوحية كثرة السؤال والمداقة بالنسبة إلى الأحكام ، بل إنها توجب التشديد في الأحكام ، وقد يوجب العقاب وغضب الله تعالى ، قال عزّ من قائل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [سورة المائدة ، الآية : ١٠١] ، وورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إن الله كره لكم قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال» وغير ذلك من الروايات.

الثالث : إنّما أمروا بذبح البقرة دون غيرها من الأنعام والحيوان إما

٢٨٧

اختبارا لهم ببقاء حب العجل وتعظيمهم له ، أو تحقيرا لهذه الدابة لأن البقرة كانت من جنس معبودهم فأراد سبحانه وتعالى أن يبين أنها لا تقدر أن تدفع عنها السوء فضلا عن العابدين لها ، أو لأجل أنهم كانوا يعدون البقرة من أعظم القربات حتّى أنهم جعلوا لها بيتا لا يدخله إلّا خيارهم بكيفية خاصة فأمرهم الله تعالى بذلك تقريرا لعادتهم في ما يتقربون عند حوائجهم اليه تعالى.

الرابع : إن ما ورد من التخصيصات في البقرة كما تقدم في الآية الشريفة لأجل أن منشأ الحياة ـ ولو كان جسمانيا ـ لا بد أن لا يتخصص سوى الإضافة إلى الله تعالى ، وأن لا يدعي أحد في القرون التالية أن ما يملكه من البقرة من نسل تلك البقرة التي أحيي بها الموتى فهذه البقرة كانت منفية الصفات والخصوصيات كما تقدم.

الخامس : التنبيه على تمام قدرته تعالى ، فإن من أوضح الواضحات أنه لا يمكن إحياء ميت بتلاقي جسمين لا حياة فيهما ، فلا بد وأن تكون الحياة في القتيل بعد ضربه ببعض البقرة من عالم الغيب المحيط بعالم الشهادة ، كما يدل عليه قوله تعالى : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) في ذيل الآية المباركة ، حيث حصر الإحياء بذاته الأقدس فكان الإحياء من المعجزات.

السادس : ما ورد من الآيات المباركة في هذه القصة الإعتبار العظيم ، والتسلية لنبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما كان يلقاه من يهود عصره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومشركي قريش ، وتكفي في إتمام الحجة عليهم لنبوة خاتم الأنبياء لاعترافهم بأنها ليست من تعليم بشري وإنما هي من وحي سماوي. ولكن (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً) [سورة النحل ، الآية : ١٤] فاستحقوا بذلك العذاب الأليم.

ثم إنه يمكن أن يكون في قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) إشارة إلى العزوف عن حطام الدنيا وزخارفها ، ولا يتحقق ذلك إلّا بالاستيلاء على الشهوات النفسانية التي هي أقوى من البقرة ، ولا تصل النفس الإنسانية إلى أسرار عالم الغيب والشهادة إلّا بإماتة تلك الشهوات ، وكيف يعقل أن تنكشف الأسرار وتتجلى الأنوار مع وجود تلك الحجب ، وقال نبينا الأعظم (صلّى الله

٢٨٨

عليه وآله): «لو لا أن الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات» وستأتي بقية البحث في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

بحث روائي :

العياشي عن إسحاق بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن قول الله تعالى : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أقوة في الأبدان أم قوة في القلوب؟ قال (عليه‌السلام) : فيهما جميعا».

أقول : المراد بالقوة في القلوب رسوخ ملكة الإيمان في قلبه بحيث تمنعه عن المحارم ، وقد تقدم ما يتعلق بالرواية أيضا.

عن القمي في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) قال : «ان موسى (عليه‌السلام) لما رجع إلى بني إسرائيل ومعه التوراة لم يقبلوا منه فرفع الله جبل طور سيناء عليهم وقال لهم موسى : لئن لم تقبلوا ليقعن الجبل عليكم وليقتلنكم فنكّسوا رؤوسكم».

أقول : لا يخفى انه معجزة من معاجزه (عليه‌السلام) وهي في مقام تخويفهم ، ولا ينافي ذلك بقاء اختيارهم في الإيمان فاستسلموا اختيارا.

عن العياشي عن الحلبي في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) قال (عليه‌السلام) «اذكروا ما فيه واذكروا ما في تركه من العقوبة».

أقول : في الحديث اشارة إلى ما في الامتثال من الثواب ، وفي المخالفة من العقاب.

عن زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما‌السلام) في قوله تعالى : (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) قال (عليه‌السلام): «لما معها ، ينظر إليها من أهل القرى. ولما خلفها ، قال (عليه‌السلام) : ونحن ، ولنا فيها موعظة».

أقول : المراد من قوله (عليه‌السلام): «ونحن ، ولنا» ليس خصوص الإمام (عليه‌السلام) ، بل جميع من تتلى عليه هذه الآيات.

٢٨٩

وعن العياشي عن ابن فضال قال سمعت أبا الحسن (عليه‌السلام) يقول. «إنّ الله أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة ، وإنما كانوا يحتاجون الى ذنبها فشدد الله عليهم».

أقول : هذا مطابق للقاعدة وهي تحقق الإجزاء بمطلق الامتثال للمأمور به ، ويأتي في الرواية الثانية ما يؤيده. وأما تعيين الذنب فلأنه من أجزاء البقرة ، ولكن الظاهر من الحديث أن فيه موضوعية خاصة.

وفي الدر المنثور قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لو لا أنّ بني إسرائيل قالوا : وإنا (إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) ما أعطوا أبدا ولو انهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت منهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم».

وروى العياشي عن أحمد بن أبي نصر البزنطي قال : «سمعت أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) يقول : «إنّ رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له ثم أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ، ثم جاء يطلب بدمه ، فقالوا لموسى (عليه‌السلام) : إن سبط آل فلان قتلوا فلانا فأخبر من قتله؟ قال : ايتوني ببقرة (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ). ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ) يعني : لا صغيرة ولا كبيرة (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ). ولو أنهم عمدوا إلى أي بقرة أجزأتهم ، ولكن شددوا فشدد الله عليهم ، (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) ، ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل ، فقال : لا أبيع إلّا بملء مسك ذهبا ، فجاؤا إلى موسى (عليه‌السلام) ، وقالوا له ذلك ، فقال : اشتروها ، فاشتروها وجاؤا بها فأمر بذبحها ، ثم أمر أن يضربوا الميت بذنبها ، فلما فعلوا ذلك حيي المقتول ، وقال : يا رسول الله إن ابن عمي قتلني

٢٩٠

دون من يدّعى عليه قتلي ، فعلموا بذلك قاتله ، فقال لرسول الله موسى (عليه‌السلام) بعض أصحابه : إن هذه البقرة لها نبأ ، فقال (عليه‌السلام) ما هو؟ قالوا : إن فتى من بني إسرائيل كان بارا بأبيه وإنه اشترى بيعا فجاؤا إلى أبيه والأقاليد (مقاليد) تحت رأسه فكره أن يوقظه فترك ذلك البيع فاستيقظ أبوه فأخبره ، فقال له أحسنت هذه البقرة فهي لك عوضا لما فاتك ، قال : فقال له رسول الله موسى (عليه‌السلام) : «أنظر إلى البر ما بلغ لأهله».

أقول : مقتضى إطلاق الآية المباركة ـ كما هو صريح الأخبار ـ وإن كان هو الاكتفاء في ذبح البقرة بكل ما يسمى بقرة كما هو مقتضى القاعدة في مطلق الخطابات التي سيقت هذا المساق. ولكنه مشكل بل ممنوع إلّا فيما إذا أحرز أن المتكلم في مقام بيان ماله دخل في مراده من كل جهة ، ولا وجه لاحراز ذلك في المقام ، بل هو محرز العدم أما بالنسبة إلى الله تعالى فلعلمه جل شأنه بأنه سترد على هذه البقرة قيود تصيّرها منحصرة في الفرد وأما بالنسبة إلى المخاطبين فلبنائهم على التشكيك والتدقيق في مطلق أمورهم العادية فكيف بمثل هذا الأمر الذي هو من أهم الأمور الخارقة للعادة والقاطعة للخصومة فالتقييد والانحصار في الفرد ظاهر من سياق حال أصل التكليف وأحوال المكلفين والتمسك بالإطلاق في مثل هذا النحو من البيان غير مأنوس في المحاورات العقلائية بل مأنوس العدم.

إن قيل : كيف وهذا مصرح به في الروايات من أنهم لو عمدوا إلى ذبح أي بقرة لكفى؟ (يقال) : أولا : إنّها غير نقية السند. وثانيا : إنّها ليست في مقام بيان خصوصيات القضية ، بل في مقام بيان مذمة التعمق والمداقة في خصوصيات التكليف ، ويأتي في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [سورة المائدة ، الآية : ١٠١].

ويمكن الجمع بين الأخبار ورفع المنافاة بينها أنهم لو عمدوا وذبحوا مطلق البقرة نسخ الحكم الأول عنهم لمصلحة المبادرة إلى الامتثال وترك المداقة ، ومنه يظهر ما في جملة من التفاسير من التطويل.

وفي تفسير القمي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «إن رجلا من خيار

٢٩١

بني إسرائيل وعلمائهم خطب امرأة فيهم فأنعمت له وخطبها ابن عم لذلك الرجل وكان فاسقا رديا فلم ينعموا له فحسد ابن عمه الذي أنعموا له فقعد له فقتله غيلة ، ثم حمله إلى موسى (عليه‌السلام) فقال : يا نبي الله هذا ابن عمي قد قتل قال موسى : من قتله؟ قال : لا أدري وكان القتل في بني إسرائيل عظيما جدا فعظم ذلك على موسى (عليه‌السلام) فاجتمع اليه بنو إسرائيل فقال : ما ترى يا نبي الله؟ وكان في بني إسرائيل رجل له بقرة ، وكان له ابن بار وكان عند ابنه سلعة فجاء قوم يطلبون سلعته وكان مفتاح بيته تحت رأس أبيه وكان نائما وكره ابنه أن ينبهه وينغّص عليه نومه ، فانصرف القوم ولم يشتروا سلعته ، فلما انتبه أبوه قال له : يا بني ماذا صنعت في سلعتك؟ قال : هي قائمة لم أبعها ، لأن المفتاح كان تحت رأسك فكرهت أن أنبهك وانغص عليك نومك ، قال له أبوه : قد جعلت هذه البقرة لك عوضا عما فاتك من ربح سلعتك وشكر الله لابنه ما فعل لأبيه ، وأمر بني إسرائيل أن يذبحوا تلك البقرة»

أقول تقدم البحث عنه في الخبر السابق.

بحث تاريخي :

لم ترد قصة البقرة بهذا التفصيل في التوراة وإنما ورد فيها حكم كلي فقد جاء في سفر التثنية الإصحاح الحادي والعشرين ما هذا لفظه : «إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعا في الحقل لا يعلم من قتله يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل ، فالمدينة القربى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالنير ، وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه ولم يزرع ، ويكسرون عنق العجلة في الوادي ثم يتقدم الكهنة بنو لاوي لأنه إياهم اختار الرب إلهك ليخدموه ويباركوا باسم الرب وحسب قولهم تكون كل خصومة ، وكل ضربة ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي ويصرحون ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم ، وأعيننا لم تبصر به اغفر لشعبك بني إسرائيل الذي فديت يا رب ، ولا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل

٢٩٢

فيغفر لهم الدم فتنزع الدم البري من وسطك إذا عملت الصالح في عيني الرب» والظاهر من ذلك أنه كان من بقايا قصة معلومة مبينة عندهم دخلتها يد التحريف والتضييع وكم لهم من هذه التحريفات وقد صحح القرآن هذه القصة بالكيفية المذكورة ثم شرحتها الأخبار الواردة عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والأئمة الهداة (عليهم‌السلام) كما تقدم في البحث الروائي.

بحث فلسفي :

تضمنت الآية الشريفة عقوبة من العقوبات التي حلت على بني إسرائيل فقد مسخهم الله تعالى على صورة القردة والخنازير ، وتقدم ما يتعلق بها. والمسخ هو من أقسام التناسخ الذي كان مورد البحث بين الفلاسفة امتناعا وجوازا منذ القدم. وقد أثبت الممتنعون ـ وهم أكابر الفلاسفة ـ استحالته ، سواء كان صعوديا [من مطلق الحيوان إلى الإنسان] أو نزوليا أو عرضيا ، ولكن استدل المجوزون بأدلة عقلية ونقلية من الكتاب الكريم والسنة الشريفة ، فاستدلوا بمثل هذه الآية المباركة (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) وما سيقت مساقها كقوله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) [سورة المائدة ، الآية : ٦٠] والنصوص الكثيرة الواردة في الأبواب المختلفة ، مثل ما ورد في صلاة الجماعة : «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله تعالى رأسه رأس حمار» بل قيل إنه ما من مذهب إلّا وللتناسخ فيه قدم راسخ.

والحق أن يقال : إنّ هنا موضوعين لا ربط لأحدهما بالآخر أحدها : التناسخ وهو عبارة عن انتقال نفس من بدن ـ كان بينهما اتحاد في مدة من الزمان ، قليلة كانت أو كثيرة ـ إلى بدن آخر وحصول الاتحاد بينهما. وله أقسام صعودي ونزولي وعرضي كما مر.

الثاني : تجسم الملكات وظهورها عن كل نفس في بدن يناسب تلك الملكات ، والصفات النفسانية في الخارج بصور تناسبها. ولا ربط لأحد الموضوعين بالآخر.

والذي ينفيه أكابر الفلاسفة وأجمع المسلمون على نفيه إنما هو التناسخ

٢٩٣

لا تجسم الملكات ، وما أثبته جمع بالبرهان إنما هو الثاني وادعى أهل العرفان فيه الشهود والعيان ، والسنة المقدسة مشحونة به لا سيما في أبواب المعاد ، فقوله تعالى : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أو قوله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) [سورة المائدة ، الآية : ٦٠] قول وجعل تكويني في جعل ملكاتهم وصفاتهم السيئة التي تكون في نفوسهم ، ونشأت عليها أبدانهم في قالب هذه الحيوانات المناسبة لفعالهم وملكاتهم ، فالروح والملكات عين ما كانت في السابق لكن اقتضت الحكمة الإلهية ظهورها في قالب الإنسان مدة ثم ظهورها في قالب يناسب تلك الصفات والملكات في مدة أخرى ، فالحقيقة واحدة والمظاهر مختلفة بإرادة الله تعالى وجعله.

ومن ذلك يظهر أن تجسم النفس بصور صفاتها وأخلاقها لا ربط له بمسألة التناسخ ، وبطلان الثاني لا يستلزم بطلان الأول.

ثم إنّ أساس مذهب التناسخ يدور مدار أحد أمور ثلاثة : إما قدم النفوس ، أو كون النفوس المجردة كالماديات التي تعتورها التغييرات والتبدلات ، أو النقص في قدرة الله تعالى وتضييقها بقدر عقولهم. والكل باطل ، فلا تناسخ لا في عالم الدنيا ، ولا في عالم الغيب أي دار السعادة والشقاوة ، ولا في عالم العقول المحضة ، ويأتي تفصيل ذلك كله إن شاء الله تعالى.

وعلى فرض تحقق المسخ الاصطلاحي فما هو الموجود من القردة والخنازير ليس من نسل المسوخ لما دل من النصوص على أن المسوخ لا بقاء لها بعد ثلاثة أيام وما هو الموجود ـ ويطلق عليه المسوخ ـ إنما يكون مثلهم لا أن يكون من نسلهم ومما اتفق عليه المسلمون أنه ليس في القردة والخنازير من هو من أولاد آدم (عليه‌السلام).

وخلاصة الكلام : المسخ إما في الظاهر أو في الباطن أو فيهما معا وكل هذه الأقسام إما في هذا العالم أو في عالم الآخرة أو فيهما معا وما كان في الدنيا إما أن يكون نسله مثله بعد المسخ أو يكون مثله قبل المسخ فيكون آدميا أو ينقطع نسله بالمرة بل يهلك نفسه بعد قليل من زمان مسخه ولكل من هذه الأقسام تفصيلات ربما نتعرض لها في ضمن الآيات المستقبلة.

٢٩٤

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢))

هذه الآيات المباركة تدل على اخباره جل شأنه للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأصحابه باليأس عن إيمان اليهود وعدم أهليتهم للإيمان بالله ورسوله ولو ظاهرا لما فيهم من الكيد والخيانة للرسول الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومكرهم بتحريف كلام الله تعالى بكل ما تمكنوا وقد أوعدهم الله تعالى بالويل والنار.

التفسير

قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ). الطمع : تعلق النفس بما تعتقد فيه النفع ، وبمعناه الأمل والرجاء إلّا أن الطمع أقوى منهما. وتستعمل المادة في الخير والشر ، وأكثر استعمالاتها في الثاني ولذا يعد من الصفات الذميمة. والهمزة للإنكار ، وفيه إيماء باستبعاد ايمانهم به (صلى‌الله‌عليه‌وآله) واليأس منه ، والخطاب للرسول والمؤمنين أي : كيف تطمعون أن يؤمن اليهود وهم من أهل السوء والعناد ـ وقلوبهم قاسية كالحجارة ـ ولهم سابقة في الكفر والتحريف لكلام الله تعالى. ولقد كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)

٢٩٥

والمؤمنون شديدي الحرص على إيمانهم لأسباب عديدة منها انهم من أهل الكتاب وهم على معرفة برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ودينه لما ذكر في كتابهم.

قوله تعالى : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ). الفريق اسم جمع لا واحد له ، والمراد به من له القدرة على التحريف سواء كان من الأحبار والعلماء أو من تبعهم في ذلك وإن لم يكن منهم موضوعا ، وإن كان ظاهر الآية يختص بالطائفة الأولى.

والمراد بسماع كلام الله تعالى ما أدركوه بقوة السمع سواء كان عند خطاب الله لموسى (عليه‌السلام) أو منه إليهم أو من أنبيائهم وكلامه تعالى سواء كان من التوراة أو ما ورد في أوصاف خاتم النبيين (صلى‌الله‌عليه‌وآله). والتحريف التبديل والتغيير حسب مشتهيات النفس ، سواء كان في اللفظ أو في المعنى أو في المحل ـ بأن ينقل اللفظ من موضعه إلى موضع آخر ـ والكل حرام عقلا وشرعا إلّا إذا ورد إذن من قبل الشارع كما في تغيير القراءة فيه وهو لا يعد من التحريف الاصطلاحي ، ويأتي تفصيل ذلك كله إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). أي : من بعد ما عرفوه وفهموه وتمت الحجة عليهم وهذا معنى قوله تعالى في الآية المباركة : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) [سورة المائدة ، الآية : ٤١] أو عن (مَواضِعِهِ) [سورة المائدة ، الآية : ١٣] وهم يعلمون بأنّهم يحرّفون ويكذبون على الله تعالى. وذلك نص على تعمدهم وسوء قصدهم. وفي هذين القيدين من التشنيع لفعلهم ما لا يخفى.

وحكم الآية المباركة عام يجري في كل من يحرّف كلام الله حسب مقاصده وإن لم يكن من اليهود فيشمل أهل البدع والآراء والمقاييس ولو كانوا من المسلمين.

ومعنى الآية المباركة أنه كيف تطمعون في إيمانهم وقد كان لهم سلف يفعلون السوء وقد جبلوا على العناد والإصرار على الضلال وكان من أفعالهم

٢٩٦

الشنيعة أنهم كانوا يحرفون كلمات الله تعالى هذا حال سلفهم وأما أحوال الحاضرين فهي لا تتخطى عمن تقدمهم كما بيّن ذلك سبحانه وتعالى في الآيات التالية.

قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا). بيّن سبحانه وتعالى صفة أخرى من ذمائم أخلاقهم وشعب نفاقهم أي : إذا واجه اليهود أصحاب الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) اعترفوا بالإسلام وقالوا : إنا آمنا برسولكم ـ كما آمنتم به ـ بحكم التوراة من البشارة ببعثته ولكن قولهم ذلك كان على سبيل النفاق.

قوله تعالى : (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ). الفتح في الأصل إزالة الأغلاق والأشكال سواء كان ذلك في الأمور المادية أو المعنوية أو الاعتبارية وقد استعمل في القرآن الكريم بجميع مشتقاته ، قال تعالى : (يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) [سورة سبأ ، الآية : ٢٦] وقال تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) [سورة الأنعام ، الآية : ٥٩] أي : عنده ما يفتح به أبواب الرحمة على الخلق وكل نبي فاتح لامته أبواب المعارف الإلهية ويبين الأحكام للناس ، ومنه اطلاق الفاتح على الحاكم والفتح على الحكم والقضاء ، والفتاح على القاضي. والمراد به هنا ما كان مبينا في التوراة. ويستفاد منه انهم كانوا يزعمون أن ذلك سرّ لهم خاصة.

ومادة (ح د ث) تأتي بمعنى الكون بعد العدم ، سواء كانت البعدية ذاتية أم زمانية. والحديث بمعنى الكلام والخبر ، وإنما يفترق بالاعتبار فيسمى حديثا باعتبار حدوثه وتجدده ؛ وقد أطلق الحديث على نفس القرآن أيضا ، قال تعالى : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) [سورة النجم ، الآية : ٥٩] ، وقال تعالى : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) [سورة الواقعة ، الآية : ٨١].

والمعنى : أنه إذا خلا بعضهم ببعض يذم من أظهر منهم ما كان في التوراة من البشارة بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وصفاته والأمر باتباعه.

قوله تعالى : (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ). مادة (ح ج ج) تأتي بمعنى

٢٩٧

القصد ، والمحاجة أن يقصد كل واحد رد الآخر بدليل معتبر. أي إنكم إذا أظهرتم للمؤمنين ما في التوراة يصير حجة عليكم من المسلمين فيحاجوكم به ، وليس هذا إلّا النفاق.

قوله تعالى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ). يحتمل أن يكون قول الأحبار والرؤساء لمن أظهر منهم الإيمان أي : أفلا تعقلون أن هذا الحديث يوجب إتمام الحجة للمسلمين على بني إسرائيل. ويحتمل أن يكون الخطاب من الله تعالى للمؤمنين أي : أفلا تعقلون أنّ بني إسرائيل منافقون في أقوالهم وأعمالهم وأنهم لا يؤمنون فلا تعتمدوا على ما يصدر منهم.

قوله تعالى : (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ). الإسرار خلاف الإعلان ، وللإسرار مراتب كثيرة قال تعالى : (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [سورة طه ، الآية : ٧]. وعن بعض أهل اللغة ـ وتبعه بعض المفسرين ـ أنه من الأضداد لقوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) [سورة سبأ ، الآية : ٣٣] أي أظهروا الندامة ولكنه مردود لأنه خلاف ظاهر الآية المباركة كما يأتي في محلها. نعم يمكن أن يكون شيء واحد سرا من جهة وإظهارا من جهة أخرى فهو من الصفات ذات الإضافة ، قال تعالى : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) [سورة التحريم ، الآية : ٣] ، وقال جلّ شأنه : (إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) [سورة نوح ، الآية : ٩] ، وقال تعالى : (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) [سورة الرعد ، الآية : ٢٢]. وعلى أية حال فهذه الآية المباركة من القضايا التي يكون دليلها معها بعد تصورها ؛ وفيها توبيخ وتقريع لكل من يعلم بالحق ولا يحقه أو يعلم بالباطل ولا يبطله فضلا عن أن يظهر خلافه في كل منهما ، فإنه تعالى حاضر لدى القلوب فلا بد أن تكون القلوب حاضرة لديه حضورا عمليا لا اعتقاديا فقط ، إذ لا أثر للاعتقاد بدون العمل.

وهذه الآية المباركة من الآيات التي تدل على إحاطته تعالى بما سواه وهذه الإحاطة واقعية فوق ما نتعقله من معنى الإحاطة ، ولذا عقّب سبحانه وتعالى علمه الإطلاقي بما سواه بالألوهية المطلقة تارة ، فقال جل

٢٩٨

شأنه : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) [سورة الأنعام ، الآية : ٣]. وأخرى : علقه على ذات الألوهية ، فقال تعالى : (لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) [سورة النحل ، الآية : ٢٣] ويأتي شرح ذلك في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ). الأمي من لا يكتب ولا يقرأ وهو صفة ذم ، وقد تكون من صفات المدح كما في نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فإنه كان أميا ولكن علمه الله تعالى من لدنه جميع المعارف وجهات التشريع. والأماني جمع أمنية : وهي التصورات التي لا حقيقة لها ولا واقع وإن ظن أن لها واقعا وحقيقة.

وهذه الجملة تحتمل معنيين :

الأول : أن كتاب الله تعالى يشتمل على أشياء لا حقيقة لها بزعمهم ويشهد له قوله تعالى : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [سورة الفرقان ، الآية : ٥].

الثاني : أن يكون المراد أنه لاحظ لهم من معنى الكتاب ومراد كلامه تعالى ، وهمهم إنما يكون في غير ذلك. وإنما عبر بالامنية لأنه لا يتجاوز الوهم والخيال الذي هو أنزل العوالم ولا يمكن أن يصل إلى مراده تعالى الذي هو من عالم الغيب ، فيكون من أدلة النهي عن تفسير كلام الله بالرأي. وتأتي بمعنى القراءة أيضا أي لا يعلمون الكتاب إلّا قراءة اللفظ من دون التعدي إلى فهم المعنى الحقيقي. وهؤلاء هم الفريق الثاني من اليهود الذين لاحظ لهم من الكتاب إلّا الأكاذيب والمفتعلات ، وهم المأوّلون لكتاب الله على طبق آرائهم وأمنياتهم التي ليس لها أصل صحيح. وأما الفريق الأول فهم المحرفون لكتاب الله تعالى.

قوله تعالى : (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ). المراد بالظن الوهم أي ليس حظهم من الكتاب إلّا ما يتوهمونه من الأغراض الفاسدة كما يأتي في ذيل الآية المباركة.

قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ

٢٩٩

عِنْدِ اللهِ). ذكر سبحانه وتعالى فريقين من اليهود وهم المحرفون لكتاب الله تعالى ، والمأوّلون له. وبقي قسم ثالث وهم المفترون على الله تعالى.

الويل : لفظ جامد لا تثنية فيه ولا جمع. والويلات جمع ويلة لا الويل. ومعناه شدة الشر والحزن والعذاب والهلكة ، وقد استعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم في ما يقرب من أربعين موضعا كلها مقرونة بما يدل على الذم والحزن والمكروه ، وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إن الويل واد في جهنم بين الجبلين» وهذا من باب التطبيق لا بيان المعنى الحقيقي. وقد كرر اللفظ في المقام ثلاث مرات لشدة عظم المعصية وتغليظا لفعلهم وهو كذلك عقلا ، فإن الافتعال والجعل من غير من له حق الجعل فعل شنيع وفيه خطر عظيم فأفعال هذه الفرق الثلاث وهم : المحرفون ، والمأولون ، والمفترون ، فيها قبح عقلي وكل ذلك داخل في الظلم الذي يحكم بقبحه العقل فلا اختصاص له بقوم دون آخرين.

وإنّما أضاف الله تعالى الكتابة إلى اليد مع أنها لا تكون إلّا بها تبيينا للموضوع كما في قوله تعالى : (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) [سورة يس ، الآية : ٣٥] وفي المحاورات : «رأيته بعيني» و «سمعته باذني». وإشارة إلى تحقير الموضوع يعني أن ما يفعل باليد لا يليق أن ينسب إلى الله تعالى فإن ما عنده ليس إلّا الحقائق الواقعية التي تجل عن تدخل القوى الإمكانية فيها. ويمكن أن يكون فيه إيماء إلى إيكال الأمر إلى أنفسهم اي : أنه مع أنكم تعلمون أنه من مفتعلات أنفسكم كيف تنسبونه إلى الله تعالى.

ويراد من الكتاب الذي كتبته أيديهم الأعم مما كتبوه قبل بعثة نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو حينها أو بعدها ، ومن ذلك ما روي أن أحبارهم عمدوا إلى التوراة وحرفوا ما ورد في صفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وسيأتي في البحث الروائي ما ينفع المقام.

قوله تعالى : (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً). ليس المراد بالاشتراء خصوص الشراء مقابل سائر النقل والانتقال بل المراد به التبديل ، ووصف سبحانه وتعالى الثمن بالقلة إما لأجل فنائه وإن كان كثيرا أو لأجل أن الحق لا يقابل بأي ثمن

٣٠٠