مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

التفاسير ؛ وهذا وإن أمكن ثبوتا ، بل ورد نظيره في شمول العذاب للمذنبين وغيرهم بتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكنه بعيد عن حالتهم ، فإنها كانت حالة بدائية أي أول دخولهم في شريعة موسى (عليه‌السلام) ، فهي تقتضي الجلب والمداراة ، لا الدفع والتضييق.

الثاني : نفس القسم الأول مع اقتضائهم ذلك بأنفسهم لا بإيجاب من الله تعالى عليهم ابتداء ـ فيكون الأمر تقريرا لما سألوه ـ وهو غير بعيد ، خصوصا من الإسرائيليين الذين ينسب إليهم كل غث وسمين ، كما عن جمع.

الثالث : إنّ الأمر من الله تعالى كان امتحانيا ، كما في قضية إبراهيم خليل الله وذبح ابنه إسماعيل فلم يقع قتل في البين ، وإنّما وقع الاستسلام والامتحان موقعه.

الرابع : ما تقدم منا من قتل الأبرياء لعبدة العجل ، وسيأتي في البحث الروائي ذلك أيضا.

قوله تعالى : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ). أي توبتكم بقتلكم لأنفسكم طاعة لله ، ومطهرة لكم ، وكفارة لذنبكم فيرتفع العقاب الأخروي بذلك ، وفي تكرار لفظ البارئ اشارة إلى أنه جل شأنه يتدارك هذا القتل بلطفه وعنايته.

قوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). لأنّ ذلك مقتضى كونه بارئا ومحيطا بدقائق الأمور وأسرارها ومنعما عليهم ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) عام لجميع المذنبين ولجميع الشرائع الإلهية ، فقد وردت هذه الجملة في أغلب قصص الأنبياء (عليهم‌السلام) بل جميعها ، فيستفاد أنه لم يجعل الله تعالى دينا إلّا وقرنه بقبول توبة المذنبين ، وهذا هو النظام الأحسن الذي يرتضيه العقل ، ويدل عليه النقل أيضا.

بقي شيء : وهو أن عبادة العجل كانت شركا بالله تعالى ، وقد قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة النساء ، الآية : ٤٨]. ويمكن الجواب عنه : بأن تحمل الآية على ما إذا مات

٢٤١

مشركا ، لا ما إذا تاب وندم كما في عبدة العجل ، فإنّهم بقتل أنفسهم وتسليمهم لذلك ، وقبول توبتهم لم يبق موضوع للسؤال بعد ذلك لا في الدنيا ولا في الآخرة.

وربما يقال : إن بين قوله تعالى : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). وبين قوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تهافتا فإنه بعد عفوه تعالى عنهم لا يبقى مجال للتوبة. نقول : يؤخذ بكل منهما من جهة لا من جميع الجهات ، فإن كل مجتمع يقع فيه المنكرات ـ أصولا أو فروعا ـ أو هما معا ـ تتحقق أصناف ثلاثة : الأول : من يردع المنكر ويحاربه. الثاني : من يفعل المنكر ويأتي به. الثالث : من يهم بفعل المنكر ولم يفعله. والأول في هذه القضية كان منحصرا في موسى وهارون ، والثاني من اتخذ العجل إلها ، والثالث من همّ بالاتخاذ ولم يتخذه. والأخير مورد العفو ، والثاني مورد التوبة ، والأول هو الرادع الإلهي.

بحث روائي :

عن العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) قال (عليه‌السلام): «كان في العلم والتقدير ثلاثين ليلة ، ثم بدا لله فزاد عشرا ، فتم ميقات ربه الأول والآخر أربعين ليلة».

أقول : يأتي ما يتعلق بالنسخ والبداء تفصيلا إن شاء الله تعالى.

وفي تفسير العسكري : «لما فرج الله عن بني إسرائيل أمره الله عزوجل أن يأتي للميعاد ويصوم ثلاثين يوما ، فلما كان في آخر الأيام استاك قبل الفطر ، فأوحى الله عزوجل اليه : يا موسى أما علمت أن خلوق فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك صم عشرا أخر ولا تستك عند الإفطار ، ففعل ذلك موسى ، فكان وعد الله عزوجل أن يعطيه الكتاب بعد أربعين ليلة».

أقول : هذا نحو تحبّب واحترام بالنسبة إلى الصائم لئلا يشمئز أحد من خلوق فمه.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) : «أن موسى

٢٤٢

(عليه‌السلام) لما خرج الى الميقات ورجع إلى قومه وقد عبدوا العجل قال لهم : «(يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، فقالوا : كيف نقتل أنفسنا؟ فقال لهم موسى : اغدوا كل واحد منكم إلى بيت المقدس ومعه سكين ، أو حديدة ، أو سيف فإذا صعدت أنا منبر بني إسرائيل فكونوا أنتم متلثمين لا يعرف أحد صاحبه فاقتلوا بعضكم بعضا. فاجتمعوا سبعين ألف رجل ممن كانوا عبدوا العجل إلى بيت المقدس فلما صلّى بهم موسى (عليه‌السلام) وصعد المنبر أقبل بعضهم يقتل بعضا حتّى نزل جبرائيل ، فقال قل لهم يا موسى ارفعوا القتل ، فقد تاب الله عليكم فقتل عشرة آلاف وأنزل الله تعالى : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

أقول : وقريب منه ما في تفسير العسكري ، وقد وقع القتل من غير العابدين للعجل على العابدين له بأمر من موسى (عليه‌السلام) ، ويجوز للنبي أن يوكل بعض مقدمات القتل إلى من يشاء ، وكان ذلك توبة منهم. والحصر في العدد غير حقيقي فلا ينافي الحديث الآتي.

وفي الدر المنثور عن علي (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) الآية ـ قال (عليه‌السلام): «قالوا لموسى : ما توبتنا؟ قال موسى (عليه‌السلام) : يقتل بعضكم بعضا فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه والله لا يبالي من قتل حتّى قتل منهم سبعون ألفا فأوحى الله إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم وقد غفر لمن قتل ، وتيب على من بقي».

أقول : تقدم في الرواية السابقة وجه ذلك.

بحث فلسفي (عملي):

لا ريب في أنّ إفاضاته تعالى غير متناهية ، وليست هي محدودة بحد خاص ، والتحديد إنما هو في المفاض عليه فإن العطيات بقدر القابليات والإفاضات إنما هي محدودة بحدود الاستعدادات. وعلى هذا فإن المستفيض قد يشمله الفيض العام (مطلق الوجود) وقد يشمله الفيض الخاص ، كما أنه

٢٤٣

ربما يستفيد من الفيض الأخص ، والأخير يتوقف على أمور خاصة شرعية ـ كالرياضات والعبادات ـ توجب تهيئة النفس للإفاضة بالفيض الأخص ، بلا فرق بين الأنبياء والمرسلين وغيرهم ، فإن خاتم النبيين (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مع أنّه من أكمل النفوس وأتمها وأقربها إلى ربّ العالمين تحصل من عباداته لله تعالى ومجاهداته فيه جل شأنه حالات لم تكن له قبل ذلك.

والقابلية للاستفاضة إنما تحصل بانقلاع النفس عن العلائق الجسمانية والحواجب الظلمانية ، وانقطاعها إلى الله تعالى وتصفية مرآتها عن الغبار ومحو جميع الأنداد والأغيار ، فإن لذلك الأثر العظيم في حصول الانس وتجلي القلب بأنوار القدس فيتجلى الله تعالى على قلبه بنور عظمته ، وإليه أشار نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال : «من أخلص لله أربعين صباحا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه وأنطق بها لسانه».

والغرض من الميقات والميعاد هو ذلك ، وقد تقدم أنه قال جمع من العرفاء : إن لكل نبي وولي ميقاتا مخصوصا.

وإنّما ذكر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الرواية الصباح ليلازم العبد على الصمت والسكوت إلّا عن الحق ، لأن اليوم والصباح مظنة الخلطة مع النّاس والتكلم معهم في أمور الدنيا ، وفي الحديث : «من رأيتموه سكوتا فادنوا منه فإنه يلقي الحكمة».

ثم إنّ للميقات والميعاد مظاهر مختلفة فقد كان ميقات موسى في أربعين ليلة وفي جانب الطور الأيمن كما عرفت ، وأما مواقيت خاتم النبيين (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقد جعل لأمته مواقيت خمسة مكانية كمواقيت الحج والعمرة وزمانية كأشهر الحج أو هما معا فيما إذا اتفقتا معا ، وهي من علامات رسالته ومعجزات نبوته ؛ وفيها يتبرأ كل مسلم من الشرك والأنداد ويطرح الأغيار والأضداد ويتهيأ تهيئة الأسير الذليل بين يدي الرب العظيم ليتجلى الله تعالى عليهم عشية عرفات فيحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم فكان من إحدى مظاهر تجليات الله تعالى لعباده يوم القيامة ؛ وآخر كلام موسى (عليه‌السلام) مع ربه في الميقات «سبحانك تبت إليك».

٢٤٤

وأما أول كلام أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وآخر كلامهم إنما هو تبشيرات الوصول والمواجهة : «لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك».

ويفترق ميقات موسى بن عمران عن ميقات أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أن الأول شخصي والآخر نوعي ، وأنّ الثاني كان ميقاتا قبل خلق الخلق ، ولكن الأول صار ميقاتا بورود موسى (عليه‌السلام) اليه.

ومن المواقيت أيضا لأمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مواقيت الصلاة التي يحضرون فيها لدى الله تعالى في أوقات صلواتهم وتوجهاتهم إليه بقلوبهم وأبدانهم كما يشير إليه قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «الصّلاة معراج المؤمن» كما أن الاعتكاف الحاصل لهم في المساجد كذلك بل اجتمع فيه الميقات الزماني والمكاني والحالي أيضا.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩))

بعد ما بيّن سبحانه وتعالى بعض نعمه على بني إسرائيل مع كفرانهم لها ذكر جل شأنه في هذه الآيات المباركة بعضها الآخر ، وبيّن فيها بعض الوقائع التي وقعت عليهم أيضا ، كما ذكر فيها ما ينفعهم في صلاح حالهم.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً). أي : اذكروا ما قلتم لموسى (عليه‌السلام) لن نصدقك حتّى نرى

٢٤٥

الله جهرة ، وهذا بيان لقصة أخرى من قصصهم وهي من أعظم مظاهر جهلهم ، وكانت عقوبة هذا الجهل من أعجل العقوبات التي حلت بهم.

والإيمان بمعنى التصديق يتعدى باللام ، كما في المقام ، وبالباء كما في قوله تعالى : (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٢٣]. والرؤية هنا الإدراك بالقوة الحسية البصرية ، وتستعمل بمعنى العلم وما يدرك في عالم الرؤيا أيضا ، والجهر معناه العلانية ، والمراد به ظهور المدرك (بالفتح) معاينة في القوة الحسية إما في البصر ، كقول القائل : رأيته جهارا ، أو السمع كقوله تعالى : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [سورة طه ، الآية : ٧] ، وأكد بالجهر للفرق بين رؤية العيان وغيرها.

قوله تعالى : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ). تقدم في قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩] معنى الصاعقة ، وهي النار المحرقة ، قال تعالى : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) [سورة الرعد ، الآية : ١٣] ، وقد يراد بها الصوت الشديد الموجب للموت ، قال تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [سورة الزمر ، الآية : ٦٨] ، وتأتي بمعنى العذاب ، كما في قوله تعالى : (أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [سورة فصلت ، الآية : ١٣].

واحتمالات الصاعقة في هذه الآية المباركة هي : إما أن تكون من العذاب الأخروي جزاء لغيّهم ولجاجهم. وفيه : أنه خلاف ما في الكتب السماوية من أن العذاب الأخروي متوقف على أمور معينة يأتي بيانها إن شاء الله تعالى ، أو تكون نحو عذاب دنيوي ، جزاء لعنادهم ولجاجهم. وفيه : أنه خلاف ما جرت عليه عادة الله تعالى من التأني والإمهال في التعذيب والتأخير فيه إلّا ان يخصص المقام ، أو أن الصاعقة حصلت من آثار عظمته وجلاله وكبريائه جل شأنه فتكون من سنخ قوله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [سورة مريم ، الآية : ٩١] فهي أمر وضعي تكويني ، وتأثير الأقوال ، والأفعال غير

٢٤٦

المرضية لله تعالى في عالم التكوين يستفاد من الكتاب العزيز والسنة المستفيضة كما يأتي ، بل تدل عليه الأدلة العقلية أيضا على ما يأتي التعرض لها إن شاء الله تعالى.

والنظر فيها تقليب البصر أو البصيرة لإدراك الشيء. واستعماله في الأول أكثر عند العامة ، وفي الثاني أكثر عند الخاصة. وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على كل منهما فمن الثاني قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٨٥] ومن الأول قوله تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) [سورة التوبة ، الآية : ١٢٧] وقد استعمل في المقام بمعنى مطلق الإدراك الشامل لكل من المعنيين بحسب شعورهم وإدراكهم فيكون نحو تخويف وتشديد لما سألوه من موسى (عليه‌السلام).

وقصة سؤال بني إسرائيل رؤية الله تعالى مذكورة في التوراة ، وهي أن طائفة من بني إسرائيل اعترضوا على موسى وهارون وقالوا لماذا اختصا بالكلام مع الله تعالى مع أنهما إنما حظيا هذه المنزلة ، لكونهما من ولد إبراهيم (عليه‌السلام) وهذه النعمة تعم بني إسرائيل كلهم فقالوا لموسى : لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة فأخذهم الى خيمة العهد ، وهي خيمة نصبها موسى لنفسه وأمر بتقديسها وسميت بخيمة الزمان أيضا ، فانشقت الأرض وابتلعت قسما منهم وأحرقت الناس القسم الآخر.

ولكن نقل ابن بابويه في العيون عن الرضا (عليه‌السلام): «أن بني إسرائيل قالوا لن نؤمن لك بأنّ الله أرسلك وكلمك حتّى نسمع كلام الله تعالى فاختار منهم سبعين رجلا فلما سمعوا كلام الله قالوا لن نؤمن بأنه كلام الله حتّى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا» ، وسيأتي تفصيل القصة في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.

ويستفاد من الجمع بين هذه الآية المباركة وقوله تعالى : (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣] أن سؤال موسى لرؤية الله تعالى لم يكن لنفسه ومن عند نفسه ، بل كان لبني إسرائيل ، ولذا لم يكن مشمولا

٢٤٧

للصاعقة الموجبة للموت والبعث بعده ، بل قال تعالى في حقه (عليه‌السلام) (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣] ، وسيأتي التفصيل في سورة الأعراف.

قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). البعث بمعنى الإثارة والإرسال والتوجيه. وقد استعملت مادته في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ، ويجمع جميع هذه الاستعمالات أحد أمور ثلاثة :

أحدها : الإيجاد من العدم إلى عالم الدنيا ، كقوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) [سورة المائدة ، الآية : ٣١] ، بناء على أنه أول غراب بعث من العدم إلى الوجود ، كما هو الظاهر.

ثانيها : الإحياء بعد الإماتة ، كقوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [سورة الحج ، الآية : ٧].

ثالثها : البعث إلى المقاصد الصحيحة كبعث الرسل ، قال تعالى : (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٩].

والمعروف بين المفسرين أن الأول مختص بالله تعالى ، ويستعمل الأخيران في غيره أيضا ، لأن بعض أولياء الله تعالى يحيي الموتى ، وأما البعث في الحوائج فهو شايع عند الناس.

أقول : إن اختصاص الأول بالله تعالى منصوص في قوله عزوجل لعيسى (عليه‌السلام) : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) [سورة المائدة ، الآية : ١١٠] إلّا أن يقال : إنه من تبديل الصورة ، لا الإيجاد من العدم المحض.

والمراد بالبعث هنا المعنى الثاني أي بعثوا بعد الموت لعلهم يشكرون هذه النعمة عليهم ، ولكنهم قابلوها بالكفران.

٢٤٨

وهذه الآية المباركة دليل على مذهب الإمامية من الرجعة ، واستدلوا بجملة من الآيات المباركة هذه إحداها ، ويأتي تفصيل ما ذهبوا اليه إن شاء الله تعالى.

وفي هذه الآيات إيماء إلى النهي عن التعمق في ذات الله جلت عظمته بل استحقاق العقاب عليه ، وقد وردت عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) في النهي عن التعمق في ذاته عزوجل روايات كثيرة ، فعن أبي جعفر (عليه‌السلام): «تكلموا في خلق الله ولا تتكلموا في الله فإن الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلّا تحيرا» ، وعن الصادق (عليه‌السلام): «إنّ الله تبارك وتعالى يقول : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) فإذا انتهى الكلام إلى الله تعالى فأمسكوا».

قوله تعالى : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ). ذكر سبحانه وتعالى بعض نعمه التي منّ بها على بني إسرائيل وهي نعمة التظليل ، وذلك أنهم لما خرجوا من مصر وأرادوا الأرض المقدسة اجتازوا صحراء لا ظل فيها ولا شجر فكان يصيبهم حر شديد فشكوا إلى موسى (عليه‌السلام) فأرسل الله تعالى إليهم الغمام لتظلّهم عن حر الشمس ، كما هو مذكور في التوراة.

والظل هو الستر وكلما يستر عن الضياء يسمى ظلا ، قال تعالى في وصف أهل الجنّة : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) [سورة المرسلات ، الآية : ٤١] والفيء أخص منه ، لاختصاص إطلاقه بما زالت عنه الشمس فقط ، وليس كل ظل هو فيئا. والغمام هو السحاب والقطعة منه غمامة ، وإنما سمي غماما ، لأنها تستر السماء فيصير معنى الغمام والظل والستر واحدا ويفرّق بالاعتبار ، وتظليل الغمام لهم إنما وقع في التيه.

قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى). هذه نعمة اخرى من النّعم التي منّ بها على بني إسرائيل. والمنّ هو الإحسان والخير ، ويقع تارة ، بالفعل ، وهو حسن وكثير في القرآن ، وأخرى بالقول وهو مستقبح عند الناس إلّا عند كفران النعمة ، ولذا قالوا : «إذا كفرت النعمة حسنت المنة». والسلوى هو كلما يتسلى به الإنسان ومنه التسلي في المصيبة ، وفلان

٢٤٩

في سلوة من العيش أي : في رغده. والإنزال بمعنى الخلق والإيجاد ، وحيث يصدر كل منهما من مبدأ عال بكل معنى العلو يصح إطلاق الإنزال عليه ، كما في قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٥].

والمعنى : أنزلنا عليكم الخيرات والبركات ، وما يوجب رغد العيش ويشهد لهذا التعميم ذيل الآية الشريفة (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) فإنها في مقام الامتنان.

وقد فسر المنّ بعض المفسرين بأنه مادة لزجة حلوة تشبه العسل تقع على الحجر وورق الشجر مائعة ثم تجمد وتجف فيجمعها الناس لأجل الاستفادة منها ، والسلوى : بالسمانى وهو طائر معروف. وهذا يكون من باب التطبيق ، لا بيان المعنى الحقيقي ، ويأتي شرح ذلك في قصة التيه في سورة المائدة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ). الطيب ما تستطيبه النفس ، وهو من الأمور الإضافية فرب طيب يستطيبه قوم دون آخرين ، وذكر كلمة «من» في الآية الشريفة لهذه الجهة.

أي : ليأكل كل منكم ما يشاء ويستطيبه. وسياقها يدل على وفور النعم وكثرتها ، ولكنهم قابلوها بالكفران والمعاصي كما أشارت إليه الآية المباركة.

قوله تعالى : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). في هذه الآية الشريفة إشارة إلى أمر وجداني وهو كل من كفر بنعمة أسديت اليه فقد ظلم نفسه ، لأن ذلك سبب لانقطاع تلك النعمة وزوالها ، أو يستوجب عذاب الله تعالى ، ومما ظلموا به أنفسهم جحودهم لله تعالى الذي هو من أعظم الظلم.

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ). مادة (ق ر ي) تأتي بمعنى الجمع فيصح إطلاقها على كل مجمع إطلاقا حقيقيا. وروي أنّ بعض القضاة دخل على علي بن الحسين (عليه‌السلام) فقال (عليه‌السلام) : «أخبرني عن قول الله تعالى : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) ما يقول فيه علماؤكم؟ قال : يقولون إنها مكة فقال (عليه‌السلام) وهل رأيت سرق

٢٥٠

في موضع أكثر منه بمكة؟ قال : فما هو؟ قال (عليه‌السلام) إنما عني الرجال. قلت : فأين ذلك من كتاب الله؟ فقال (عليه‌السلام) : ألم تسمع قول الله تعالى : فكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله».

أقول : وعلى هذا لا داعي إلى الحذف والإضمار كما عليه الأدباء وتبعهم جمع من المفسرين ، لأنه مع صحة المعنى الحقيقي لا تصل النوبة إلى المجاز والحذف.

ثم إنّ المراد بالقرية هنا مطلق المدينة ، وهما والبلد نظائر لغة وإن كان قد يفرق بين القرية والبلد عرفا ، فيقال : القرية للمجمع الصغير من الناس ، والقصبة لما هو أكبر منها ، والبلد لما هو أكبر منهما.

ولم يعين القرآن هذه القرية إلّا أن المعروف بين المفسرين أنها كانت بيت المقدس ، وهو المروي عن ابن عباس. وعن بعض أنها أريحا ، وهي من حدود بيت المقدس فيرجع إلى الأول ، ويشهد له قوله تعالى : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [سورة المائدة ، الآية : ٢١]. وهذه نعمة أخرى منّ بها الله عليهم حيث أباح لهم دخول القرية بعد زوال التيه عنهم ، فيكون الأمر إرشاديا لا تكليفيا وسيأتي تتمة الكلام بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً). الرغد هو السعة والكثرة ، وإطلاقه يشمل السعة في كل شيء كالرغد في أنواع النّعم والرغد في المكان والزمان وغير ذلك في مقابل كل ضيق يفترض.

وحيث إنّ دأب القرآن أنّ آياته المباركة يبين بعضها بعضا فلفظ الرغد وإن ذكر في هذه الآية الشريفة ولم يذكر في سورة الأعراف آية ١٦١ ولكن إذا لا حظنا الآيتين معا يكون كأنه ذكر فيهما معا.

قوله تعالى : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً). لما أمرهم سبحانه وتعالى بالدخول إلى القرية المقدسة بيّن لهم كيفية الدخول وآدابه ، ولأجل هذا قدم قوله تعالى : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) على قوله تعالى : (وَقُولُوا حِطَّةٌ)

٢٥١

بخلاف ما ورد في سورة الأعراف.

والسجود هنا بمعنى الخضوع والخشوع المناسب لمن يدخل الأرض المقدسة ، وهو تأديب إلهي في كيفية دخول بيت المقدس ، ويصح تعديه الى كل بيت من بيوت الله تعالى ، وقد وردت في السنة المقدسة أمور كثيرة في آداب دخول المسجد الحرام والكعبة المقدسة تعرّض لها فقهاء الفريقين في الكتب الفقهية.

والمعروف في الباب أنّها من أبواب بيت المقدس يسمى بباب حطة (باب التوبة) ويمكن أن يراد بالباب مطلق مدخل الشيء سواء كان من الأبواب المعهودة المادية أم المعنوية ، أي : أبواب استكمالات النفس الإنسانية مطلقا ـ وإطلاق الباب على هذا المعنى شايع كثير فقد روى الفريقان عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «أنا مدينة العلم وعلي بابها ، ومن أراد العلم فليأت الباب» فالأنبياء والأوصياء والعلماء بالله العاملون أبواب معرفة الله تعالى ، وطرق الهداية إليه ، ولا بد من الخضوع لهم لاستكمال النفوس الناقصة وهذا ما تقتضيه الفطرة فليس ما في هذه الآية المباركة أمرا خارجا عن حكم الفطرة وعن أبي جعفر (عليه‌السلام): «نحن باب حطتكم» وهذا مطابق لما تقدم فباب الحطة والعلم الإلهي واحد.

ولم يعلم أن هذا الأمر في الآية المباركة كان في شرع موسى (عليه‌السلام) على نحو الندب كما في شرعنا أو على نحو الوجوب ، وظاهر الأمر يقتضي الأخير لو لا سياق الأدبية ، وترتب العقاب على خصوص الذين بدّلوا القول.

قوله تعالى : (وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ). يعني : قولوا ـ عند دخولكم الباب خاشعين متواضعين لله تعالى ـ اللهم حط عنا ذنوبنا بتشرفنا ببيتك ، وسلكنا مسلك أهل عبادتك فإذا فعلتم ذلك بدخول الباب والتوبة نغفر لكم خطاياكم الكثيرة وقد وعدهم بمزيد الإحسان وهذا من سنته عزوجل ، قال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [سورة يونس ، الآية : ٢٦] فلا تختص الآية الكريمة بموردها ، بل

٢٥٢

تشمل كل من ترك ما لا يرتضيه تعالى ودخل في ما يرضاه عزوجل.

قوله تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) التبديل : التغيير سواء كان في أصل المادة أم في الهيئة أم في بعض جهاتهما. وسواء كان في الإعتقاد أم في مجرد اللفظ أم فيهما معا ، وتبديل ما أنزله الله تعالى حرام بحكم الفطرة ، وقد أجمع المسلمون على عدم صحته في ما يتعلق بالشريعة الإسلامية ، ومنه تبديل ألفاظ القرآن الكريم ولو حرفا واحدا ، فإنه لا يجوز بلا ريب ولا إشكال.

والمعنى : أنهم غيروا ما أمروا به فخالفوه ولم يتبعوه وكان لهذا التبديل مصاديق مختلفة عند اليهود فإنهم خالفوا الأمر بالاستغفار والتوبة والسجود في بيت المقدس وبدلوه إلى شيء آخر.

وللمفسرين في تعيين المبدل إليه في السجود والحطة أقوال : فذكر بعضهم أنهم قالوا بدل «حطة» حنطة في شعرة ، وقال آخر انه بهاطا ، أو بحاطا ، أو هطا سمهاثا إلى غير ذلك. وبدلوا الأمر بالسجود أنهم زحفوا على أستاههم ، وكيف كان فقد وقع التبديل والمخالفة في ما أمروا به فشملهم العذاب ، وهذا جزاء كل مستهزئ بآيات الله وأحكامه.

قوله تعالى : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ). يستعمل الرجز بمعنى الاضطراب الموجب للعذاب ، وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «الطاعون رجز عذّب به بعض الأمم» ، وعن بعض اللغويين الرجز والرجس متقاربان كالبزاق والبصاق. والرجز (بالضم) عبادة الأوثان وهو يناسب المعنى الأول. ولم يذكر سبحانه وتعالى نوع العذاب ، وإنما ذكر بعض المفسرين أنه الطاعون فمات منهم أربعة وعشرون ألفا من كبارهم وشيوخهم وبقي الأبناء فانتقل عنهم العلم والعمل فمات الكبراء والشيوخ بالطاعون ومات الباقون بالجهل المركب الذي هو أشد من الطاعون ، وإنما كرر الظالمين في الآية المباركة إما لأجل تخصيص الرجز بالظالمين ، أو تعظيما للأمر وإظهار قبح ظلمهم.

قوله تعالى : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ). ابتلى اليهود بأنواع من العذاب

٢٥٣

جزاء بما كانوا يفسقون بمخالفة الأوامر الإلهية ، وسيأتي في سورة الأعراف تمام قصتهم إن شاء الله تعالى.

بحث دلالي :

يمكن أن يكون تظليل الغمام إشارة إلى مقام تجلّي صفاته المقدسة جلت عظمته لخلّص عباده ، وإنزال المن والسلوى إشارة إلى المقامات الحاصلة لهم من التخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل. وكلوا من طيبات ما رزقناكم إشارة إلى قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها» ، وفي قوله تعالى : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) إشارة إلى قوله تعالى : «من دنا إليّ شبرا دنوت إليه ذراعا ومن دنا إليّ ذراعا دنوت منه باعا ، ومن دنا إليّ باعا دنوت إليه هرولة» ، وقوله تعالى : (ادْخُلُوا الْبابَ) إشارة إلى باب الرضا بالقضاء الذي هو باب الله الأعظم ، وقوله تعالى : (سُجَّداً) إشارة إلى ظهور التجليات من عالم الغيب. والقرآن ذو وجوه والمطلوب هو عدم الجزم بما ظهر من الاحتمال وإيكال العلم إلى العليم المتعال.

ثم إنّ ذكر حالات بني إسرائيل في ما يقرب من أربعين آية من سورة البقرة ، وذكر قصصهم في القرآن الكريم ، وبيان لجاجهم وعنادهم مع أنبيائهم ، وتعذيبهم بأنواع العذاب لما في ذلك من التسلية للنبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بما كان يلقاه من مشركي العرب ، وإيماء إلى أن من أصرّ على جهله وعناده في إنكار الحق بعد ظهوره يرى ما رآه بنو إسرائيل من العذاب ، لوجود التشابه بينهما ، فلا بد من العبرة بما جرى عليهم ، ونبذ مساوي الأخلاق والاهتمام بإصلاح النفوس فإن الله تعالى لم يحك لنا قصص الماضين إلّا للاعتبار بها.

بحث روائي :

في تفسير القمي في قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) : «هم السبعون الذين اختارهم موسى (عليه‌السلام)

٢٥٤

ليسمعوا كلام الله تعالى فلما سمعوا الكلام قالوا : لن نؤمن لك يا موسى حتّى نرى الله جهرة. فبعث الله عليهم صاعقة فاحترقوا ثم أحياهم الله بعد ذلك وبعثهم أنبياء ، فهذا دليل على الرجعة في أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فإنه قال : لم يكن في بني إسرائيل شيء إلّا وفي أمتي مثله».

أقول : يظهر من الحديث ـ على فرض صحته ـ أنّ هؤلاء السبعين كانوا من خواص أصحاب موسى «عليه‌السلام» لاختياره لهم ، كما يأتي في الرواية اللاحقة وكانوا عالمين بشريعته ، وإصرارهم على الرؤية إنما كان لأجل أن يصلوا الى هذا المقام الرفيع أي الرؤية وترفع درجتهم عند الناس في ترويجهم لشريعة موسى (عليه‌السلام) ، ونزول الصاعقة عليهم واحتراقهم نحو تأديب إلهي لهم لإصرارهم في سؤالهم ، فليست الصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، بل انها تأديبية وإحيائهم وبعثهم أنبياء ، لأجل أنهم كانوا عارفين بخصوصيات شريعة موسى (عليه‌السلام) والظاهر أنهم كانوا جميعا أنبياء في عصر واحد كجمع من علماء أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في عصر واحد لأنهم كانوا يبلّغون أحكام التوراة.

واما ذيل الحديث فيدل عليه روايات كثيرة من الفريقين على أن كل ما وقع في بني إسرائيل يقع في أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ويشهد لذلك قوله تعالى : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [سورة الإسراء ، الآية : ٩٢] وهذا شأن جميع ذوي العقول التي انحصرت إدراكاتهم على الحس والمحسوسات ، وتأتي الإشارة إلى الآيات الدالة على الرجعة والأخبار الدالة عليها.

وفي العيون عن الرضا (عليه‌السلام): «إنهم السبعون الذين اختارهم موسى (عليه‌السلام) وصاروا معه إلى الجبل ، فقالوا له : إنك قد رأيت الله فأرناه كما رأيته. فقال لهم : إني لم أره. فقالوا له : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً)».

أقول : تقدم في الرواية السابقة ما يتعلق بهذه الرواية.

٢٥٥

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) ـ الآية ـ لما عبر بهم موسى البحر نزلوا في مفازة ، فقالوا : يا موسى أهلكتنا وأخرجتنا من العمران إلى مفازة لا ظل فيها ، ولا شجر ، ولا ماء فكانت تجيء بالنهار غمامة تظلهم من الشمس ، وينزل عليهم بالليل المنّ فيأكلونه ، وبالعشي يجيء طائر مشوي فيقع على موائدهم فإذا أكلوا وشبعوا طار عنهم».

أقول : على فرض صحة الحديث يكون هذا من سنخ أطعمة الجنة التي تكون لها حياة خاصة.

وفي الكافي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قوله عزوجل (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). قال (عليه‌السلام): «إنّ الله أعظم وأعز وأجل وأمنع من أن يظلم ولكنه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه ، وولايتنا ولايته ، حيث يقول : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا يعني الأئمة». وقريب منه ما عن أبي الحسن الماضي (عليه‌السلام).

أقول : أما قوله (عليه‌السلام) إنّ الله أعظم وأعز وأجل وأمنع من أن يظلم ، فإن الظلم بمعنى المظلومية من صفات الممكن وهو تعالى منزه عن ذلك.

وأما الظلم بمعنى الفاعل فهو مضافا إلى أنه من صفات الممكن أيضا متقوم بالاحتياج وهو تعالى منزه عنهما.

وأما قوله خلطنا بنفسه يعني : جعلنا من مظاهره تعالى على العباد ، لأن أنبياء الله تعالى وأولياءه أدلاء عليه وكل دليل مظهر لمدلوله فيكون الخلط بهذا المعنى.

وأما قوله (عليه‌السلام) فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته ، إذ لا معنى لولاية الله تعالى من كل جهة وإطاعته إلّا أن يكون الظلم عليهم ظلما على الله تعالى.

وعن ابن بابويه عن الرضا عن آبائه عن علي (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : الكمأة من المنّ الذي نزل على بني

٢٥٦

إسرائيل ـ الحديث ـ» ، ومثله ما رواه البرقي عن الصادق (عليه‌السلام) عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

أقول : هذا من باب التطبيق ، ويظهر أن للمنّ مصاديق منها ما ورد في الحديث. والكمأة شحم الأرض.

وفي تفسير العياشي عن الرضا (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل (وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ). قال (عليه‌السلام) : «قال أبو جعفر (عليه‌السلام) : نحن باب حطتكم».

أقول : تقدم ما يدل على ذلك ، وقريب منه ما ورد عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في حق علي.

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١))

ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات المباركة بعض القضايا المهمة الواقعة في بني إسرائيل في عهد موسى (عليه‌السلام) تذكيرا بنعمه عليهم فقابلوا ذلك بالكفران والعناد للحق فعوقبوا بالذلة والمسكنة وغضب من الله تعالى.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ). الاستسقاء طلب الماء وذلك أن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر وقعوا في صحراء قفر فأصابهم ظمأ

٢٥٧

شديد فاستعانوا بموسى (عليه‌السلام) فطلب من الله تعالى أن يسقيهم ، كما سبق أنهم طلبوا من موسى (عليه‌السلام) أن يظلّهم من حر الشمس فظلل عليهم الغمام ، وطلبوا الطعام فأنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى ، وجميع هذه الآيات وقعت في التيه ، وسيأتي تفصيل قصتهم في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ). أي أمرنا موسى (عليه‌السلام) أن يضرب الحجر بعصاه.

وقد ذكر بعض المفسرين أنّ هذا الحجر لم يكن حجرا معينا ، بل أي حجر ضربه (عليه‌السلام) انفجر منه الماء ، ولكنه مخالف لظاهر الآية المباركة بل كان حجرا معينا من أحجار الجنّة على ما روي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) ، فإنه قال : «ثلاثة أحجار من الجنّة : مقام إبراهيم وحجر بني إسرائيل ، والحجر الأسود». وهو موجود لدى خاتم الأوصياء (عليه‌السلام) وسيكون لهذا الحجر شأن من الشأن عند ظهوره (عليه‌السلام) ، ويشهد له ما في التوراة فإنه عبر عنه في سفر الخروج ب (الصخرة) ، وستأتي تتمة الكلام في البحث الروائي.

وعصا موسى (عليه‌السلام) معروفة في الكتب السماوية وقد كانت مظهرا لمعجزات كثيرة وأصلها من آس الجنّة كان آدم (عليه‌السلام) حملها معه من الجنّة إلى الأرض ، كان طولها عشرة أذرع على طول موسى (عليه‌السلام) ولها شعبتان تتوقدان نورا في الظلمة وكانت تتوارث مع الأنبياء وأوصيائهم حتّى دفعها شعيب إلى موسى بن عمران (عليه‌السلام) وهي موجودة الآن ، وستظهر حتّى تلقف أساس الظلم والعدوان على يد خليفة من خلفاء الرحمن إن شاء الله تعالى وفي جميع ذلك روايات معتبرة يأتي التعرض لها.

قوله تعالى : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً). الإنفجار : الإنشقاق وكل انفجار مسبوق بالانبجاس ولا عكس. وقد ذكر سبحانه وتعالى في آية أخرى الانبجاس ، فقال جل شأنه : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ

٢٥٨

اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) [سورة الأعراف ، الآية : ١٦٠] ويمكن الجمع بينه وبين المقام باختلاف المراتب شدة وضعفا ، لأجل القرائن المحفوفة بالموضوع. وكانت عدد العيون المنفجرة بعدد الأسباط لكل سبط مشرب معين لا يتعداه إلى غيره ، كما في الآية المباركة.

قوله تعالى : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ). العلم إما بإلهام منه عزوجل ذلك لهم ، أو بجعل من موسى (عليه‌السلام) أو بالتباني على ذلك ليختار كل أناس مشربهم فلا يقعوا في التنافس والتزاحم.

قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ). المراد من الرزق هنا هو الحاصل من عالم الغيب كما مر أي : كلوا مما رزقكم الله من المن والسلوى واشربوا مما فجرناه من الصخرة. وقد تقدم في أول السورة معنى الرزق.

قوله تعالى : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). العيث : شدة الفساد ، أي : لا تبالغوا في الفساد في الأرض. وفي الآية المباركة إيماء الى أن كل فساد في الأرض عظيم وشديد ، أو أن الفساد يجب أن يتحرز حتّى عن موهومه فضلا عن مظنونه ومعلومه.

وورود النهي عقيب الإنعام فيه إيماء أيضا إلى أن النعمة يجب أن لا تكون سببا لفسادهم ؛ فلا يقابلوها بالغي والكفران. ويعرف من ذلك أن فساد بني إسرائيل وتبديلهم نعم الله تعالى بالكفران لا ينفك عنهم وقد طبعوا على ذلك ، كما شاهد ذلك نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في مشركي قريش ويهود عصر التنزيل.

ثم إنّ حكم الآية عام لا يختص بخصوص المورد كما في كثير من الآيات ، ولعله لذلك التفت من سياق الكلام السابق إلى سياق آخر.

والأمر بالأكل والشرب للإباحة لجميع ما لم ينه الشارع عن أكله وشربه ، ولعامة أفراد الناس.

وظهور الماء من الحجارة بعصا موسى (عليه‌السلام) مذكور في التوراة

٢٥٩

والقرآن الكريم ، كما أن ظهور الماء من أنامل نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مذكور في كتب الفريقين ، ومن الواضح أن الثاني أشد معجزة من الأول.

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) أي : واذكر ما قاله بنو إسرائيل لموسى : إننا لن نصبر على المنّ والسلوى حيث لم يجدوا بديلا عنهما. وهذا يدل على قصور هممهم وانها مقتصرة على الماديات وعدم قابليتهم لنعم عالم الغيب فقد استولى على طباعهم السخرية والعناد فكان هذا السؤال منبعثا عن طبيعتهم.

والطعام : كل ما يتغذى به وغلّب استعماله في الحنطة لأجل الغلبة الاستعمالية وإلّا فقد يستعمل في الماء أيضا ، قال تعالى : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) [سورة البقرة ، الآية : ٢٤٩] ، وعن نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في وصف ماء زمزم : «طعام طعم وشفاء سقم».

والطعام اسم يطلق على ما يؤكل ويشرب وقد وردت مادة (ط ع م) في القرآن الكريم بهيئات مختلفة بالنسبة إلى الدنيا والآخرة ، قال تعالى : (هُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٤] وقال تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) [سورة المائدة ، الآية : ٩٣] ، وقال جلّ شأنه في وصف النار : (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً) [سورة المزمل ، الآية : ١٣]. والطعم (بالفتح) هو ما يؤديه الذوق ، قال تعالى في وصف الجنّة : (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) [سورة محمد ، الآية : ١٥] ، فهذه المادة قرينة الإنسان في جميع نشآته إلى الخلود ؛ وربما يستعمل في المعنويات أيضا ، قال تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) [سورة عبس ، الآية : ٢٤] وفسر في الأخبار إلى علمه الذي يتعلّمه الإنسان. فالطعم (بالضم) الأكل ، و (بالفتح) عرض قائم بالقوة الذائقة.

والمراد بالواحد الوحدة النوعية ، فإن الطعام كان مركبا من المنّ والسلوى وأنه يتكرر كل يوم فذلك ينافي الوحدة الشخصية.

وفي عدم صبرهم على طعام واحد يحتمل وجهان : الأول : ملالة الذوق

٢٦٠