مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

النعمة بالخصوص لينبههم على أنهم أولى بالإيمان بالإسلام. والعالمين وإن كان مطلقا ، ولكن يراد به خصوص عالمهم فإنّه فضّلهم على غيرهم بكثرة الأنبياء منهم ، وكثرة المعجزات فيهم ونزول التوراة عليهم ، ولكن ذلك لا يمنع أفضلية غيرهم عليهم ، فإن الأدلة العقلية والنقلية دلت على أفضلية خاتم الأنبياء على جميعهم وأفضلية أمته على سائر الأمم ، إذ السير التكاملي في كل شيء خصوصا في البشر يقتضي فضيلة الأمة اللاحقة على السابقة ، ولقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١١٠] والسنّة المستفيضة الدالة على ذلك ، وسيأتي في البحث الروائي ما ينفع المقام.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً). أي : واخشوا ذلك اليوم الذي تتقطع فيه الأسباب ، فتكون نظير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) [سورة لقمان ، الآية : ٣٣] ، فيكون سياق هذه الآيات سياق القضايا المنتفية بانتفاء الموضوع. والعوالم الاستكمالية التي ترد على الإنسان أنواعها على قسمين :

الأول ـ ما يكون الاستكمال والكمال فيه فرديا فقط ، من دون دخل للأسباب الاختيارية فيه ، كالعوالم التي ترد على الإنسان قبل وروده إلى الدنيا ـ كالنطفة ، والعلقة ، والمضغة ، والجنين في عالم الرحم ـ فهو يسير فيه بالسير الطبيعي منفردا ، قال تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [سورة الأنعام ، الآية : ٩٤].

الثاني : ما يكون اختياريا بجميع أطوارها ـ من جمعها ، وكثرتها وقلتها ، وفقدانها ـ دخل في الاستكمال والكمال ، فيكون دار الأسباب من جميع الجهات ، وقد جرى علم الله تعالى الأزلي وقضاؤه وقدره في ذلك «وأبى الله أن لا يجري الأمور إلّا بأسبابها» كما في الحديث فكم من شجاع يغلب غيره بسلاحه ، وكم من صانع يقهر غيره بصنعه إلى غير ذلك مما لا يحصى.

ويختلف عالم الآخرة عن ما يتقدمه من العوالم بوجهين :

٢٢١

الأول : أنّ الكمال في الآخرة وعدمه فردي فقط ، فصاحب العمل الصالح له مقام خاص به يختلف باختلاف مراتب العمل من دون أن يكون في البين تسبب أسباب ، وتهيئة أمور فيها ، لكونهما في الدنيا ، ويظهر أثرها في الآخرة.

الثاني : أنّ فيها تنحصر الملكية والمالكية والملك في الله تعالى فلا ملك إلّا له ، ولا مالك إلّا هو ، ولا ملك إلّا وهو قائم به عزوجل فتنقطع بذلك الأسباب والمسببات الاختيارية وغيرها ، بل هو تعالى كذلك في جميع العوالم ، إلّا أنه جرت إرادته الكاملة على تسبب الأسباب الظاهرية ، ليجري النظام الأحسن على أكمل الوجه ، وأتم الحكمة. نعم باب الشفاعة مفتوح ، لكنه محدود بحدود خاصة ، كما ستعرف فلا حكم إلّا حكمه ولا ملك إلّا ملكه ، فقياس الآخرة على الدنيا كما تراه بعض الأمم ـ منهم اليهود ـ حيث يتوهمون دفع المكروه والعذاب عن النفس بالفداء ، أو الشفاعة ، أو مناصرة بعض له ، أو دفن بعض الأثاث لينتفع بها في مهماته الأخروية كما كان ينتفع بها في الدنيا ، كل ذلك باطل ، فإن في الآخرة تنقطع الأسباب إلّا سبب واحد وهو العمل الصالح في الدنيا ، قال تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [سورة الشعراء ، الآية : ٨٨].

(إن قيل) : تدل الأخبار الكثيرة على أنه يلحق بالميت كل خير يهدى اليه من دار الدنيا حتّى أنه قد يكون في ضيق فيوسع الله عليه بذلك كما يأتي.

(قلت) : فرق واضح بينهما ، فإن ما يلحق بالميت من الصدقات والخيرات إنما يصرف في سبيل الله تعالى فيصل ثوابها اليه لا محالة لا أن ينتقل نفس المال إلى الميت ، ودفن المال والسلاح لا يستفيد منه الميت على فرض أن الله تعالى يعيده في الآخرة.

نعم ، ورد في بعض الروايات أن الشهيد يدفن بثيابه ولا ينتزع منه شيء ، قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في شهداء بدر : «زمّلوهم بدمائهم فإنهم يبعثون معها يوم القيامة» وذلك لأنه رمز الحياة الأبدية والنعمة السرمدية فلا تزال تبقى معه أبدا.

٢٢٢

فالأقسام المتصورة في عمل الإنسان في الدنيا والآخرة أربعة :

الأول : تأثير عمل كل فرد يعمله في الدنيا لنفسه في الآخرة ـ إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ـ وهذا كثير ، وهو الذي تدل عليه الكتب السماوية ، ويكون المناط عليه في المعاد.

الثاني : تأثير عمل الشخص في الآخرة لنفسه فيها. وهذا غير صحيح كما عرفت ، فإن الآخرة دار الجزاء ، لا دار الأعمال إلّا ما ورد بالنسبة إلى بعض الأعمال ، ففي الحديث : أنه يقال لقارئ القرآن يوم القيامة : «اقرأ وارق» ، بناء على أن قرائته للقرآن سبب لارتقاء درجاته فيها ، وما ورد في من مات في حال تعلمه للقرآن فإنه «يبعث الله تعالى من يعلّمه القرآن في قبره».

الثالث : أن يؤثر عمل شخص في الدنيا لشخص في الآخرة وهو كثير ، وقد دلت الأدلة الكثيرة على انتفاع الأموات بما يهدي إليهم الأحياء من الخيرات والتبرعات ولا سيما الأرحام فيهم حتّى ورد أنه : «ربما يكون في ضيق فيوسع الله تعالى عليه بذلك الخير الذي يوصل اليه من الدنيا» خصوصا إذا كان بتسبب من نفس الميت ، ففي الحديث المعروف بين الفريقين : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث : صدقة جارية ، ومصحف يقرأ فيه ، وولد صالح يستغفر له».

الرابع : تأثير دعاء الميت لأحد في دار الدنيا ، وهذا القسم أيضا واقع ، وقد ورد في الأولاد : «أنّ الولد ربما يكون بارا لوالديه ويصير عاقا بعد موته». فيدعو الميت على الولد في عالم البرزخ فيصير بها عاقا. هذا إجمال الأقسام ويأتي تفصيلها في الآيات المباركة المناسبة لها إن شاء الله تعالى.

والحاصل : أنّ ارتباط العوالم بعضها مع بعض ثابت عقلا ونقلا وإن كان خصوصيات هذا الارتباط غير معلومة إلّا لعلام الغيوب ، وقد يفيض الله تعالى لمعة من إشراقاته الى بعض أوليائه فيتعلم أسرار التكوين بقدر ما يفاض عليه من المبدأ الفياض ويستفيض من فيض وجوده حتّى مراتب الانبساط والانقباض.

٢٢٣

قوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ). لأنّ أصل الشفاعة منوطة بإذن الله تعالى ، وقبولها إنما يكون منه تعالى ، قال عزوجل : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) [سورة طه ، الآية : ١٠٩] ، لأن جميع موجبات الشفاعة التي فصلت في الكتاب والسنة الشريفة من مظاهر إرادته ورضاه. فيظهر التوحيد العملي حينئذ بجميع مظاهره وشؤونه ويضمحل الشرك بجميع معانيه. ولا منافاة بين نفي الشفاعة في مورد وإثباتها في آخر لأن في القيامة مواقف ، وعقبات ، وحالات ، ويأتي البحث عن الشفاعة في قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥٥].

قوله تعالى : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ). العدل : بمعنى الاستواء والمماثلة ويختلف باختلاف الجهات ، فيقال : هذا عادل : أي : متشبث بدينه. وهذا عدله أي مثله في جهة من الجهات ، سواء من جنسه أو من غير جنسه ، وقد يفترق بفتح العين في الأول وكسره في الثاني قال تعالى : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) [سورة المائدة ، الآية : ٩٥] أي ما يساويه في جهة التكليف ، وقال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «بالعدل قامت السموات والأرض»أي بالتساوي في الجهات التكوينية التي لا يعلمها إلّا الله تعالى والجهات الاختيارية التي أمر الله تعالى بها عباده.

والمراد بالعدل هنا الفدية ، قال تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ) [سورة الحديد ، الآية : ١٥] أي لا فداء من أحد لأحد يوم القيامة إن استطاع أن يأتي بالفدية ، وكذا لا توبة هناك ، قال تعالى : (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً) [سورة الفرقان ، الآية : ١٩] والصرف هو التوبة.

قوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ). النصرة بمعنى المعونة والتقوية أي : لا أحد يمنعهم من العذاب ، لأن النصرة منحصرة بالله تعالى وبالعمل الصالح وهما خالصان للمؤمنين ، لانقطاع النصرة عن جميع الممكنات وانحصارها في الواجب بالذات ، قال تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الروم ، الآية : ٤٧] ومن بعد عنه تعالى فقد حرم نفسه عن

٢٢٤

نصرته مطلقا ، قال تعالى : (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [سورة التوبة ، الآية : ٧٤] ، وقال تعالى : (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [سورة الشورى ، الآية : ٨].

وبعبارة أخرى : إنّ النصرة متوقفة على القدرة عليها ولا قدرة كذلك إلّا لله تعالى في ذلك اليوم.

وهذه الآيات رد على مزاعم اليهود من أنهم أحباء الله تعالى ، وأنهم شعبه المختار وأبناؤه ، وأنّ الله تعالى يشفع لنا يوم القيامة وينصرنا من العذاب ، فنفى الله عنهم ذلك قال تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) [سورة المائدة ، الآية : ١٨].

بحث روائي :

في تفسير العسكري في قوله تعالى : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي فعلته بأسلافكم فضلتهم دينا ودنيا».

أقول : سيأتي بيان ذلك.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى في ما تقدم من الآية «وإنما فضلهم على عالمي زمانهم بأشياء خصهم».

وعن ابن بابويه «قيل لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : ما العدل؟ قال : الفدية. قيل : ما الصرف يا رسول الله؟ قال : (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : التوبة».

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى بعض نعمه العامة على بني إسرائيل مقرونا ببيان بعض إرشاداته لهم ذكر سبحانه في هذه الآيات المباركة جملة من نعمه

٢٢٥

الخاصة ـ منا عليهم ـ ولا ريب في أن ذلك من موجبات الرغبة لو كان المنعم عليه من أهل الرغبة إلى نعم الله تعالى.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ). مادة (ن ج و) تدل على الانفصال والانقطاع عن الشيء والخلاص منه. وقد استعملت هذه المادة في القرآن العظيم بهيئات مختلفة جامعها يرجع إلى ما ذكرناه.

والآل والأهل بمعنى واحد إلّا أن الأول أخص من الثاني ، لأنه لا يضاف إلّا لذوي القدر والشرف ، بخلاف الثاني فإنه يضاف إلى كل شيء وضيعا كان أو شريفا ، زمانا كان أو مكانا أو شيئا آخر. والجامع القريب بينهما هو الرجوع ، فآل الرجل من يرجع إليه في قرابة ، أو رأي ، أو نحو ذلك.

وفرعون لقب كان يطلق على كل من ملك مصر ـ كقيصر لملك الروم ، وتبّع لملك اليمن ، وخاقان لملك الترك ، وكسرى لملك الفرس ـ وفرعون كلمة غير عربية مركبة من لفظين مصريين (ير) و (عون) : أي البيت الأعظم ، فصارت علما لملوك مصر قبل الميلاد بأكثر من ألف سنة ، وهو مثل (الباب العالي) المستعمل في سلاطين آل عثمان ، وقد ورد هذا اللفظ في الكتب المقدسة كثيرا ، كما ورد في القرآن العظيم في ما يزيد على سبعين موضعا ، وقد ضبط التاريخ أسماءهم وصفاتهم ، وأعمالهم إلى أن ذهب الله تعالى بهم ، كما قال عزوجل : (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٣٧].

قوله تعالى : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ). السوم هنا الكلفة والمشقة ، فسامه أي : كلفه. وسوء العذاب ؛ أي أشقه وأذله والمعنى : أنّهم كانوا يذيقونكم كل ما يتصورون من المشاق والمتاعب الشديدة.

وقد وصف سبحانه وتعالى هذا العذاب تارة : بالبلاء العظيم فقال جلّ شأنه : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) [سورة

٢٢٦

الأعراف ، الآية : ١٤١]. وأخرى : بالعذاب المهين ، فقال تعالى : (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) [سورة الدخان ، الآية : ٣٠] ، وشرحه علي (عليه‌السلام) في خطبته فقال : «فاعتبروا بحال ولد إسماعيل ، وبني إسحاق ، وبني إسرائيل (عليه‌السلام) فما أشد اعتدال الأحوال وأقرب اشتباه الأمثال تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أربابا لهم يجتازونهم عن ريف الآفاق ، وبحر العراق ، وخضرة الدنيا إلى منابت الشيح ، ومهافي الريح ، ونكد المعاش ، فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر ووبر أذل الأمم دارا ، وأجدبهم قرارا لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها ، ولا ظل ألفة يعتمدون على غيرها ، فالأحوال مضطربة ، والأيدي مختلفة ، والكثرة متفرقة ، في بلاء أزل (أي شدة) وإطباق جهل».

ثم بين سبحانه بعض ذلك العذاب بقوله : (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ).

الاستحياء الاستبقاء ، فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في وقعة بدر «اقتلوا المشركين واستحيوا شراخهم» أو «شرخهم» ، أي شبابهم الذين ينتفع بهم في الخدمة يعني : أنهم كانوا يقتلون الذكور ، ويستبقون النساء ، وكان قصدهم من ذلك إذلالهم وإبادتهم بقطع نسلهم ، أو إبقاء النساء للانتفاع بهنّ بكل ما أمكن من أنحاء الاستمتاعات. وأدب القرآن اقتضى التعبير بلفظ جامع وإلّا لأحد لظلم هذا المتجبر المدعي للألوهية المتسلط على بني نوعه ، وقد قال تعالى عن ظلم فرعون وجبروته في آية أخرى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [سورة القصص ، الآية : ٤] ومن ذلك يعلم أنه لا وجه لحصر بعض المفسرين ظلمه في شيء محسوس.

وإنّما ذكر تعالى النساء بدل البنات في مقابل الأبناء للتغليب ومجاز المشارفة ، وقد يقال : إن معنى استحياء النساء أي يطلبون فروجهنّ لأن الحياء الفرج. وفيه : أن الحياء بهذا الإطلاق يختص بالفرج من ذوات الخف

٢٢٧

والظلف ـ كما صرح به ابن الأثير ـ فلا يشمل الإنسان.

ولكن كل ما قيل من هذه الاحتمالات في قصة فرعون وبني إسرائيل يناسب ما نسب إليهم من السيئات.

قوله تعالى : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ). البلاء الإختيار والامتحان ، ويستعمل في الخير والشر ، قال سبحانه : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [سورة الأنبياء ، الآية : ٣٥] ، وقال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [سورة محمد ، الآية : ٣١] ، فهو إما إنعام أو انتقام ، وربما يكون إنعاما لقوم ، وانتقاما من آخرين وهو كثير في سنة الله الجارية في هذا العالم ، ولذا عبّر تبارك وتعالى بكلمة (ربكم) لأن الربوبية العظمى تقتضي ذلك.

قوله تعالى : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ). الفرق والفلق هو الانفراج ، ولكن الأول مع الفصل ، والثاني مع الإنشقاق. وفرق البحر انفصال بعضه عن بعض مع بقاء الجسم السيال على سيلانه ، وهو من أعظم المعجزات لموسى (عليه‌السلام) كما شرحه الله تبارك وتعالى بقوله جلّ شأنه : (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [سورة الشعراء ، الآية : ٦٣] والطود هو الجبل.

والبحر هو الاتساع والانبساط ، ومنه سمي البحر بحرا ، وهو من الموضوعات الإضافية التشكيكية ، فالبحر المحيط بالدنيا بحر ، ودجلة والفرات أيضا بحر بالنسبة إلى السواقي ، والمراد به هنا هو بحر القلزم [البحر الأحمر] على المعروف.

والباء في قوله تعالى : (بِكُمُ الْبَحْرَ) للسببية ، لأن عبورهم في البحر بإعجاز منه جل شأنه صار سببا لفرق البحر ، فلا تنافي بين هذه الآية المباركة وقوله تعالى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) [سورة الشعراء ، الآية : ٦٣] لأنه أيضا سبب منه تبارك وتعالى ظهر في عصا موسى ، فهم كانوا السبب الغائي لفرق البحر ، والعصا كانت بمنزلة السبب الفاعلي ، والكل منه تبارك وتعالى.

٢٢٨

وأما احتمال أن فرق البحر وهذه الآيات الباهرة كانت من مجرد مجاري الطبيعة من المد والجزر ونحوهما ، كما عن بعض المفسرين المنكر للمعجزات وخوارق العادات. فهو ساقط مطلقا ، لكونه مخالفا لنص الآيات القرآنية ، وما ذكر مفصلا في التوراة ، كما لا يخفى على من راجعها.

قوله تعالى : (فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ). النجاة هي الانفصال والخلاص ، واستعمل هنا في مقابل الغرق. وأصل الغرق هو التجاوز عن الحد المعتبر في الشيء وغالب استعمالاته في القرآن إنما هو بالنسبة إلى فرعون وآله ، وقوم نوح ؛ والأول إضافي ، والثاني كلي عالمي ؛ والنظر : هو الإقبال إلى الشيء فإن كان بالقلب يسمى فكرا واعتبارا ، وان كان بالعين يسمى نظرا ورؤية ، وإن كان باليد سمي لمسا إلى غير ذلك من مصاديق معنى الإقبال والتوجه بالمعنى العام.

وإنما ذكر تعالى آل فرعون ولم يذكر غرق نفسه ، لأن المراد من الآية هو استيصالهم رأسا فيشمل غرق نفسه أيضا ، مع أن ذكره في آيات أخرى يغني عن ذكره هنا ، قال تعالى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [سورة يونس ، الآية : ٩٠].

وإنما ذكر سبحانه وتعالى (النظر) لأنه بالنسبة إلى هلاك العدو وغرقه سرور عظيم لبني إسرائيل فتكون النعمة عليهم أتم وأعظم.

وفي هذه الآيات المباركة اعتبار عجيب لمن اعتبر ، فإن فرعون افتخر بملك مصر ، وجريان الأنهار من تحته فأغرقه تعالى وأهلكه في ما افتخر به ، وهذه هي سنة الله تعالى في كل من غفل عنه وجعل همه في غيره جل شأنه ، قال تعالى : «وعزتي وجلالي وعلو شأني ، وارتفاع مكاني لأقطعن أمل كل مؤمل غيري ، ولأكسونه ثوب المذلة والأياس».

بحث اجتماعي :

ثم إنّ هنا بحثا اجتماعيا ، وحاصله أنه يمكن إرجاع كل اختلاف واقع بين أفراد الإنسان ـ ومنه الاختلاف بين بني إسرائيل وقوم فرعون ـ إلى أحد

٢٢٩

أمور :

الأول : السبب الاجتماعي ، كالاختلاف في العادات والتقاليد والأخلاق والحضارات.

الثاني : السبب الاقتصادي ، فإن الاختلاف في مراتب الغنى والفقر يوجب التعاند والتنازع بين أفرادها.

الثالث : السبب العقائدي ، فإن لكل قوم دينا ومعتقدا يغائر ما لقوم آخرين وكل يريد بسط عقيدته على الآخرين. وهناك بعض الأسباب الخفية ـ شخصية أو نوعية ـ لا يعلمها إلّا الله تعالى. وجميع هذه الأسباب من أطوار المجتمع البشري التي أشار إليها تعالى في قوله : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) [سورة نوح ، الآية : ١٤] فجعل جل شأنه ذلك من أبرز علامات وجوده وأظهر آيات ثبوته. وهذه الأسباب جميعها اجتمعت بالنسبة إلى بني إسرائيل والطواغيت الفرعونية ، فإن بني إسرائيل كانوا مقهورين تحت ظلم الفراعنة وعبيدا لهم.

بحث تاريخي :

تعبر التوراة عن الإسرائيليين ب (العبريين) وترجع كلمة (عبري) إلى عهد إبراهيم الخليل (عليه‌السلام) ، فقد أطلق الكنعانيون هذه التسمية على إبراهيم ، ثم اتسعت فشملت جميع أسرته فصاروا يعرفون بالعبريين.

وغير خفي أن هذه التسمية لم تكن تختص باليهود ، بل كانت تطلق على القبائل التي عبرت الأنهار إلى أرض كنعان ، فالعبريون هم الأقوام الدخيلة على الكنعانيين الذين كانوا في حرب معهم ولأجل ذلك لم يرد في القرآن الكريم اطلاق العبريين على اليهود.

وقد عاش هؤلاء مع الكنعانيين زمنا طويلا وأخذوا من الأخيرة عاداتهم وتقاليدهم حتّى كانوا لا يختلفون عنهم كثيرا إلّا في العقيدة فإنهم كانوا يعبدون الإله الواحد دون الأصنام ، بخلاف الكنعانيين ولم يمض من الوقت كثير حتّى أصبح العبريون قبيلة كبيرة يمتهنون الرعي ينتقلون من مكان إلى

٢٣٠

مكان يبحثون عن المراعي الخصبة حتّى حل الجدب والمجاعة في أرض كنعان وما جاورها ، فكان لا بد لهم من الهجرة إلى مصر التي عرفت بوفور نعمها وكثرة مياهها ، ولم تكن مصر غريبة عنهم فقد دخلها أبوهم إبراهيم من قبل.

وأول من دخل مصر من بني إسرائيل هو يوسف بن يعقوب (عليهما‌السلام) وانضم اليه إخوته وعشيرته كما بيّن سبحانه وتعالى قصتهم في سورة يوسف. وعاشوا فيها زمنا طويلا ، فتكاثر نسلهم وازداد عددهم عاما بعد عام. والمذكور في التوراة أنّ ذرية هذه الجماعة هي التي خرجت من مصر بعد مرور أكثر من أربعة قرون بسبب اضطهاد فرعون وقومه لهم.

والإسرائيليون في مصر كانوا في عزلة تامة عن المصريين لا يختلطون معهم ، ولذلك لم يتعرض لهم المصريون بسوء حتّى ازداد نسلهم وكثرت أموالهم فأصبحوا مصدر قلق لملوك مصر واشتد هذا القلق في عهد رمسيس (١٣٠٠ ـ ١٢٣٣ قبل الميلاد) الذي يعد من أعظم الفراعنة قدرة ومنعة ، فقد تغلب على أعداء مصر وجلب منهم عددا كبيرا إليها ، وأسرف في البناء فكان من نتائجه أن نصف ما بقي من العمائر المصرية تعزى إلى أيام حكمه ، وراجت التجارة في عهده وازدادت ثروة المصريين ، وقد أظهر العداء لبني إسرائيل وكان لذلك أسباب عديدة كان من أهمها أنهم عرفوا بخيانتهم للعهد والإفساد لدى المصريين وكان ذلك نتيجة انعزالهم وابتعادهم عنهم وامتناعهم عن قبول عقيدتهم.

وقد نقل التاريخ أنّ هذا الملك جمع قومه وسألهم عما يفعله ببني إسرائيل فنصحوه باستعبادهم حتّى يتغيروا عما هم عليه ، فإن للعبودية أثرا كبيرا في إذلال النفس وتغييرها. وقد أخذ بنصيحتهم فاستعبدهم إلّا أنه لم يتحقق له ما يريده ، واستبطأ أثر الاستدلال فعمل على انقراضهم حتّى نمى اليه أنهم يريدون التآمر عليه فازداد قسوة عليهم فأذلهم وسخرهم في الأعمال الشاقة كالبناء وحصرهم في ساحات العمل ووكل بهم من يتبعهم حتّى لا يجدوا فسحة للراحة ، فقد عانوا من هذا الوضع أشد العذاب وانتشرت فيهم

٢٣١

الأوبئة والأمراض ، ولكنه لم يكتف بذلك لما رأى ازدياد نسلهم فسنّ قانونا يقضي بقتل كل مولود ذكر من بني إسرائيل واستبقاء نسائهم ، كما ورد في الحديث أيضا : «إنّ فرعون لما بلغه أنّ بني إسرائيل يقولون يولد فينا رجل يكون هلاك فرعون وأصحابه على يده كان يقتل أولادهم الذكور ، ويدع الإناث» وكان قصده من ذلك تزويج المصريين بهنّ ونقض كيانهم المستقل بانقراضهم ، أو أن يفعل بهنّ ما يشاء لاذهاب حيائهنّ كما حكى عنه عزوجل في القرآن العظيم ، وكان موسى (عليه‌السلام) من مواليد هذا العهد فبعثه الله تعالى نبيا إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الإيمان وإطلاق الإسرائيليين ليعبدوا إلههم فأبى ولم يستجب له كما قال تعالى : (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) [سورة الأعراف : الآية : ١٠٤ ـ ١٠٥].

ولكن فرعون شدد عليهم الأمر فازداد ظلمه بهم ، ويشير إلى ذلك ما ورد في سفر الخروج من التوراة : إن الله تعالى انبأ موسى بأنه سيجعل قلب فرعون قاسيا على بني إسرائيل ، ويزيد النكال بهم ، وقد تبرم بنو إسرائيل من هذا الوضع الجديد ، كما قال تعالى : (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) [سورة الأعراف ، الآية : ١٢٩] فتهيأ موسى للخروج من مصر.

وقد قيل في سبب الخروج أمور كثيرة ، فقيل : إن فرعون أذن لهم بالخروج بعد أن شكى قومه إليه من الوباء المتفشي بينهم ، ثم ندم فرعون على ذلك فأتبعهم ـ وقيل إن موسى أمر نساء بني إسرائيل أن يأخذن حلي نساء القبط ، كما ورد في التوراة فأمرهم بالخروج فأتبعهم فرعون.

وكيف كان فقد سار بهم موسى حين بلغ ساحل البحر الأحمر عند خليج السويس ، ولكن فرعون اتبعهم حتّى طلع عليهم عند شروق الشمس فأيقن بنو إسرائيل بالهلاك ، قال تعالى : (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) [سورة الشعراء ، الآية : ٦٠] وقاد موسى جيشه وعبر بهم إلى الشاطئ الشرقي بعد أن ضرب بعصاه البحر (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [سورة

٢٣٢

الشعراء ، الآية : ٦٣] وأبى فرعون إلّا متابعتهم فعند ما توسط البحر هو وجنوده انطبق عليهم البحر فغرقوا جميعا وخرجت جثة فرعون لتكون لمن بعده عبرة ، كما حكى تعالى : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) [سورة يونس ، الآية : ٩٢] وهي محفوظة إلى الآن في مقبرة الفراعنة (الأهرام) في المتحف المصري. وكان خروجهم من مصر حوالي سنة ١٢١٣ قبل الميلاد ـ بعد أن أقاموا فيها من عهد يوسف ٤٣٠ ـ في شهر أبيب [الشهر الحادي عشر من السنة القبطية] كما هو المذكور في التوراة.

وكان بنو إسرائيل الذين انطلقوا مع موسى جيشا كبيرا ، وقد ذكر في التوراة أن عددهم كان يقارب ٠٠٠ / ٦٠٠ نسمة ـ وإن كان في هذا العدد شيء من المبالغة.

وقد اختلف المؤرخون في فرعون الذي خرج في عهده الإسرائيليون فقيل : إنه رمسيس الثاني ، وقيل : إنه منفتاح. والصحيح أنّ عهد الاضطهاد كان في ملك رمسيس الثاني ، وعهد الخروج كان في ملك منفتاح ، وسيأتي بقية قصصهم في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤))

هذه الآيات كسابقتها في مقام تعداد النّعم على بني إسرائيل وهي تشتمل على نزول التوراة التي هي من أعظم النّعم عليهم ، لأنها من أهم الكتب السماوية بعد القرآن وان قوبلت منهم بالرد والكفران ، وعبادة العجل.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً).

الوعد : معروف ، وقد استعملت مادة (وع د) بجميع هيئاتها في القرآن

٢٣٣

الكريم ، وتستعمل في الخير تارة : وهو كثير ، قال تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٩] وقال تعالى : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [سورة النساء ، الآية : ٩٥]. وفي الشر أخرى : كقوله تعالى : (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [سورة الحج ، الآية : ٧٢]. وفيهما معا ثالثة : كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [سورة فاطر ، الآية : ٥].

والإيعاد والوعيد يستعملان في الشر ، قال تعالى : (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) [سورة ق ، الآية : ٢٨] ، وقال تعالى : (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) [سورة ق ، الآية : ١٤]. وخلف الوعد بالخير قبيح ولكن لا قبح في خلف الوعيد.

والمعروف بين الأدباء وتبعهم المفسرون ان كل واحد من الوعد وخلفه خير يتصف بالصدق والكذب وهو بالنسبة إلى خلف الوعد باطل ، لأنه من مقولة الفعل والعمل لا من مقولة اللفظ والقول إلّا أن يريدوا الإلحاق الحكمي لا الموضوعي. وكذا بالنسبة إلى نفس الوعد فإنه قد يستعمل في مقام الإنشاء لا الإخبار.

ثم إنّ المفسرين ذكروا تبعا لأهل اللغة أنّ المواعدة من الطرفين فلا بد من قيام المصدر بهما ، وقد ذكرنا في قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٩] أنّ أصل المفاعلة لا تدل إلّا لإنهاء المصدر إلى الغير سواء قام الغير بهذا الفعل أو لا ، ولا بد في تعيين ذلك من التماس القرينة.

ولما اجتاز بنو إسرائيل البحر ـ كما تقدم ـ سألوا موسى أن يأتيهم بكتاب من ربهم فواعده ربه فضرب له ميقاتا ، وقد ذكر الميعاد في القرآن الكريم في موارد ثلاثة هنا ، وفي آية ١٤٢ من سورة الأعراف ، وفي آية ٨٠ من سورة طه.

وكان مكان الميعاد هو الجانب الأيمن من طور سيناء قال تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) [سورة طه ، الآية : ٨٠].

٢٣٤

وأما زمان الميعاد فهو ذو القعدة والعشرة الأولى من ذي الحجة كما يستفاد ذلك من الروايات الواردة على ما يأتي ، ويقتضيه الإعتبار أيضا ، لأنه زمان قبول توبة آدم (عليه‌السلام) ، ومن أشهر الحج ومن أشهر الحرم ، وزمان ورود وفد الله تعالى من أطراف الأرض الى المواقيت المكانية فاتحد الميقاتان : المكاني ، والزماني ، وهما مقام تجلي عظمة الله تعالى لأمة نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما تجلى لموسى بن عمران ، وقد أدرك (عليه‌السلام) الميقاتين أحدهما جانب الطور الأيمن وثانيهما ما حكاه أبو جعفر الباقر (عليه‌السلام): «أحرم موسى من رملة ، ومر بصفائح الروحاء محرما يقود ناقته بخطام من ليف عليه عباءتان تطوانيتان يلبّي وتجيبه الجبال».

والأربعون هي مجموع المدة ، ويمكن أن يكون في أصل التشريع ثلاثين ليلة فزيد عليه إتمام العشرة ، لأن أفعاله جلّت عظمته تتغير بتغير المصالح والمقتضيات ، ولذلك تقع مورد البداء والنسخ ، كما يأتي تفصيله ، ويدل على ما ذكرنا قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٢] فذكر تعالى هنا الأربعين باعتبار مجموع الوعدين.

وكانت الغاية المطلوبة من هذا الميقات هي الانقطاع عن جميع العلائق والتوجه التام إلى رب الخلائق ليستعد بذلك للاستشراق والتجلي وتلقي المعارف والتوراة ، وعن جمع كثير من العرفاء أنه قد كان لكل نبي ميقات زماني ومكاني مع ربه يختلف ذلك باختلاف حالاتهم ودرجاتهم ومنهم من ذكره الله تعالى في القرآن الكريم بإشارات مختلفة ، ومنهم من لم يذكره.

وإنّما خص سبحانه وتعالى الليالي بالذكر دون الأيام إما لأن الليالي أولى واجمع للمناجاة معه جل شأنه ، أو لأن الليل أسبق من اليوم لأنها غرر شهور العرب التي وضعت على سير القمر وظهور الهلال ، أو لأن الليل يشتمل تمام اليوم دون العكس.

ويمكن أن يكون ذكر الليالي لأجل بيان أن موسى (عليه‌السلام) كان يوصل صومه بالليل ولو اقتصر على ذكر خصوص اليوم لما أفاد هذا المعنى

٢٣٥

وفي الحديث عن الصادق (عليه‌السلام): «ان موسى (عليه‌السلام) كان حين ذهابه إلى المناجاة يمضغ ورق شجرة ويطرحه تحرزا عن رائحة فمه حين مناجاته مع ربه ، فأوحى الله تعالى اليه : يا موسى لخلوق فم الصائم أحب إليّ من ريح المسك».

ولكن عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) النهي عن صوم الوصال ، مع أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يصوم صوم الوصال ، فقيل له : «كيف ذلك يا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)؟! فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : إني لست كأحدكم إني أبيت عند ربي فيطعمني ويسقيني ربي».

و (موسى) اسم غير عربي مركب من لفظين : [مو] وهو الماء و [شا] وهو الشجر ، سمي بذلك لأن التابوت الذي وضعته أمه فيه وألقته في البحر امتثالا لوحي الله تعالى إليها : (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) [سورة القصص ، الآية : ٧] وجد عند الشجر فسمي باسم الماء والشجر.

وعن جمع من المفسرين واللغويين إبدال الشين بالسين المعجمة ، ويشهد لهم بعض اللغات العبرية ، وهو موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليه‌السلام).

وقد ورد اسمه (عليه‌السلام) في القرآن الكريم في ما يقرب من مائة وست وثلاثين موضعا ، وشرح الله تعالى حالاته بالتفصيل من ولادته الى هجرته من مصر ونشر دعوته بما لم يشرح حال نبي من أنبيائه بمثل ذلك.

وأما جعل الميعاد في الأربعين فلأن الإخلاص لله عزوجل في هذا المقدار من الزمان له موضوعية خاصة ، ولهذا العدد آثار معينة كما يشهد به وجدان أهل الحال ، وثبت ذلك في الفلسفة العملية وعلم الأخلاق ، وقد قرره نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بقوله : «من أخلص لله أربعين صباحا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه وأنطق بها لسانه».

وأما ذكره بعنوانين ثلاثين ، والإتمام بالعشر في آية أخرى ، قال تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ

٢٣٦

لَيْلَةً) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٢] فلأجل أن للعشر الأخير من الأربعين الإخلاصية آثارا خاصة لا تحصل في سائر عشراتها السابقة ، وتأتي تتمة الكلام في البحث الفلسفي الأخلاقي.

قوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ). الاتخاذ : الافتعال والجعل ، سواء كان بمعنى عبادتهم للعجل أم جعله إلها : والعجل : ولد البقر ، وإنما عبر به إما لعجلة السامري اتخاذه إلها وعبادته له ، أو لعجلة موسى في إفنائه دفعا للشر ؛ كما قال تعالى : (لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) [سورة طه ، الآية : ٩٧] فكان جعله إلها وافناؤه بالتعجيل.

والمعنى : اتخذتم العجل إلها بعد غياب موسى عنكم ، وذهابه إلى الميعاد لأخذ التوراة ، وهذا من عجيب حالهم حيث قابلوا النعمة بأقبح أنواع الخيانة للعهد وأشد أفراد الجناية على النفس ، لأنهم استبدلوا التراب برب الأرباب ، وما رأوه في العجل من الخوار بالعزيز الجبار وسيأتي تفصيل قصة العجل وعبادته في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). العفو : إنما يصدق بالنسبة إلى استحقاق العقاب أيضا ، ولكنه لم يصل إلى الفعلية إمهالا منه في عقوبة عباده ، فلا بد وأن تشكروا على هذه النعمة ، أي عدم العجلة في العقوبة حتّى تختاروا إما البقاء على الكفر أو الاهتداء فتتحقق العقوبة بالنسبة إلى الأول ، دون الأخير.

قوله تعالى : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).أي : اذكر نعمة أخرى لبني إسرائيل وهي من أهم النّعم ، المعنوية والظاهرية ، الفردية والنوعية وهي نزول التوراة كتاب يفرق بين الحقّ والباطل ، فيه تفصيل كل شيء ، وسبب للاهتداء الى الحق المبين والصراط المستقيم ، كما قال تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٥] فقد حصل من الميعاد

٢٣٧

أمران : أحدهما خير الأمور ، وهو من الله تعالى ، والثاني شر الأمور وهو عبادة العجل وكان من الشيطان ، لقانون مقابلة كل حق بباطل حسب ما اقتضته المقادير الإلهية في الأمور النوعية ، بل الشخصية أيضا.

والفرقان هو ما يفرق بين الحق والباطل. وهذا وصف لكل كتاب سماوي ، وشريعة إلهية ، قال تعالى : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٣]. ويمكن أن يكون المراد بالفرقان المعنى الوصفي الشامل للجميع لا خصوص المعنى العلمي للقرآن.

كما يمكن أن يراد من الفرقان هنا المعنى الجامع لكل ما يفرق بين الحق والباطل من التوراة ، وفرق البحر ، وسائر الآيات والمعجزات التي فرق بها بين الحق والباطل.

وكلمة (لعل) إذا استعملت في كلامه تعالى تكون بداعي محبته تعالى لمدخولها ورضائه واشفاقه بالنسبة إليه ، لا بمعنى الترجي الحقيقي لاستحالته بالنسبة إليه عزوجل ، إذ كيف يتصور فيه ذلك وهو عالم الغيب والشهادة من جميع الخصوصيات مما هو موجود وما مضى وما هو آت ، فكل شيء حاضر لديه ، وعن جمع من المفسرين أنها بمعنى «كي» التعليلية.

وفي هذه الآيات المباركة تعجيب منهم فإنّه مع ظهور الآيات الكثيرة لبني إسرائيل ، ليتدبروا فيها ، ويعتبروا منها ، ويعملوا بما أمرهم الله تعالى به ، لكنهم قابلوا تلك بالكفران ، ونقض ما أمرهم الله تعالى فكفروا برسالة خاتم النبيين.

ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أمر مركوز في أنفسهم وهو انهم كانوا يتوقعون أن يكون خاتم النبيين من بني إسرائيل ، لتتم لهم الحركة الدينية ابتداؤها وانتهاؤها لكن جعلها الله تعالى في بني إسماعيل فحصلت المعاداة الفطرية بينهم.

وعلى أية حال ففي هذه الآيات إشارة إلى بعدهم أيضا عن مقام الشكر والاهتداء ، لإفراطهم في اللجاجة والعصيان.

٢٣٨

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ). أي اذكر لبني إسرائيل ما فاله موسى لهم. والظلم الحاصل من عبادة العجل عظيم بتمام معنى العظمة ، لأنه شرك وقد وقع بعد الآيات الكثيرة الواقعة من الله تعالى ، فكأنهم سقطوا من السماء إلى الأرض بظلمهم هذا ، ومن درجات المقربين إلى أسفل السافلين. ولذلك كان ظلما عظيما على أنفسهم بعد تمامية الحجة عليهم حيث صاروا كفارا جاحدين ، وحكمهم شديد في شريعة التوراة والقرآن ، فقول موسى (عليه‌السلام) : «إنكم ظلمتم» إخبار لهم عن كفرهم وجحودهم وهم اعترفوا بذلك ولم يحك القرآن الاعتراض منهم على موسى (عليه‌السلام) في ذلك ، مع بنائهم على الاعتراض واللجاج.

والقوم اسم جمع لا واحد له من لفظه وواحده [امرؤ] والمعروف بين أهل اللغة اختصاصه بالرجال ، دون النساء ، قال تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) [سورة الحجرات ، الآية : ١١] ، وقال زهير :

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

وقد يراد من القوم النساء أيضا ، لقرينة تدل عليه قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٥٩] ، وقال تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ٨٣] ومعلوم أن الرسالة تعم الرجال والنساء.

وهو في المقام منادى مضاف حذف منه الياء وأصله يا قومي. وخطاب موسى لقومه إنما كان بأمر منه تعالى ، وإنما فعل ذلك إجلالا لشأن موسى (عليه‌السلام) ، وأن خطابه كخطاب الله تعالى معهم ، ولا بد وان يكون كذلك ، لأن كلام النبي (عليه‌السلام) في جهات التشريع وتربية أمته نفس كلام المنبأ عنه وإلّا لغي التشريع المبني على النبوءة الإلهية ، فقد ورد في حق نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [سورة النجم ، الآية : ٤] وهذا الحكم يجري فى جميع أنبياء الله

٢٣٩

تعالى كل في أمته ومورد نبوته.

قوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ). البارئ مثل الخالق لفظا ومعنى ، لكنه أخص من الثاني من جهات ثلاث :

الأولى : اختصاصه بالإطلاق على الله عزوجل ، ولا يطلق على غيره إلّا بالعناية.

الثانية : اختصاصه في كون متعلقه الحيوان ، يقال : خالق الخلق وبارئ النسمات.

الثالثة : اختصاص مورده بالأمور الدقيقة التي لا يحيط بها إلّا علّام الغيوب. فهو أخص من الخالق والمصور ، قال تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة الحشر ، الآية : ٢٤].

والبارئ من الأسماء الحسنى. والتعبير به في هذه الآية المباركة إشارة إلى نهاية جهلهم ، حيث اختاروا عبادة الحيوان المعروف بالغباوة في مقابل من هو بارئ لذاته ومن ذاته ، وتقدم معنى التوبة في آية : ٣٧.

قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ). بيان للتوبة ، أي : ليقتل من لم يعبد العجل من عبده ، ولعل التعبير ب «أنفسكم» اشارة الى ملاحظة التراحم بينهم لئلا يتسرعوا الى القتل ، لأن بينهم كانت وحدة القرابة والدين ، وليس المراد قتل الإنسان نفسه [الانتحار] كما في بعض التفاسير ، بل قتل بعضهم بعضا لما قلنا من وجود الوحدة بينهم ـ هذا في شريعة موسى (عليه‌السلام) ، وأما في الشريعة المقدسة السمحاء فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «ما أنعم الله على عبده بعد الإسلام أفضل من التوبة» ، وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «كفى بالندم توبة» ، أو : «إن الإسلام يجبّ ما قبله».

والأمر بالقتل في الآية المباركة يتصور على وجوه :

الأول : القتل العشوائي ـ كالسباع الضارية التي يتكالب بعضهنّ على بعض ـ بلا فرق فيه بين البر ، والفاجر ـ أي عابد العجل ـ كما في جملة من

٢٤٠