مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

الضعيف ، وبقاء الفرد المستعد للكمال.

والمسلمون بل جميع المليين في غنى عن هذا القول بعد تصريح كتبهم المقدسة باستقلالية خلق الإنسان ، بل إنّ الطبيعة من جميع جهاتها مقهورة تحت إرادته وهو بديع السموات والأرض.

مع أن هؤلاء الفلاسفة أثبتوا للطبيعة اتفاقيات ونوادر فليكن هذا الخلق منها ، ولا محذور فيه كما في سائر الاتفاقيات.

كما أنّ داروين وأنصاره لم يبينوا لنا متى حصل هذا التحول في الإنسان ، وما هي الحلقة التي انتقل منها إلى الفرد الكامل.

مع أنّ لنا أن نتسائل منهم هل أن ذلك كان بحسب نظام الطبيعة فقط مع قطع النظر عن المدبر الحكيم والخالق العليم؟ وهذا محال ، لأن انقلاب نوع بعد تعينه النوعي ـ روحا وجسما ـ إلى نوع آخر مستحيل إلّا بالاستحالة ، ولا يقولون بها. أو بالتناسخ الذي أثبت الكل بطلانه.

إن قيل : إنّ مسألة النشوء والارتقاء لا تخرج عن مسألة الحركة الجوهرية التي أثبتها بعض أكابر محققي الفلاسفة.

يقال : بين المسألتين فرق كبير لا ربط لإحديهما بالأخرى ، كما يظهر بالتأمل وسيأتي شرح الأخيرة في مستقبل الكلام إن شاء الله تعالى.

إن قلت : إنّهم يدعون العثور على جماجم وعظام مضى عليها أكثر من مائة الف سنة الدالة على التطور في بعضها ، وهذا لا يناسب ما ضبطه أهل التواريخ والسير من جميع الفرق من المدة القليلة الماضية على هبوط آدم (عليه‌السلام) إلى الأرض.

أقول : إنه لا بد وأن يتأمل في أصل الدعوى ؛ وعلى فرض الصحة يمكن أن يكون ما عثروا عليه من تلك الجماجم والعظام من الآدميين ما قبل خلق آدم (عليه‌السلام) فإنه آخر الآدميين في العوالم الدنيوية وقبله آدم الى سبعين آدم كما في الحديث ، ولا يعلم مقدار تلك الأزمنة ولا مقدار الفاصل بين الآدميين ، ولا كيفيتهم إلّا الله تعالى.

٢٠١

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣))

بعد أن ذكر سبحانه خلق الإنسان وحالاته وأطواره خاطب طائفة خاصة وهم اليهود ـ وبدأ بذكرهم ، لأنهم أقدم الطوائف التي أرسل فيهم الأنبياء والرسل ، وأنزل فيهم الكتب ، وهم أول طائفة من الأمم هبطوا من ذروة المقام الإنساني الى درك حضيض البهيمية ، وهم السابقون في نقض عهد الله ، مصرين على ذلك ، وملتزمين بغيهم وجحودهم لا يرتدعون برادع أرضي أو سماوي أتعبوا أنبياء الله بغيهم ولجاجهم وشق على سيد المرسلين فسادهم وإفسادهم ، وهم أشد الناس عداء للمؤمنين ، ومن سنة الله تعالى المداراة مع العصاة بكل ما أمكن ـ كما سيأتي في الآيات الشريفة ـ فقد تكرر ذكرهم في القرآن لعلهم يرشدون.

التفسير

قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ). إسرائيل مركب من كلمتين [إسراء] بمعنى العبد ، أو الصفوة ، أو القوة ـ على ما يأتي في البحث الروائي ـ و [ائيل] بمعنى الله تعالى ومعناه عبد الله أو صفي الله ، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن مكررا. وإنما ذكرهم سبحانه بهذا التعبير تحريضا لهم بالتحلي بمكارم الأخلاق ونبذ مساويها ، لأنهم يرون أنفسهم من أهل صفوة الله والعبودية له عزوجل ، فلا ينبغي لهم هذا النحو من اللجاج والعناد والفساد ، كما في قوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) [سورة الأحزاب ، الآية : ٣٢].

و (الذكر) بمعنى الاستحضار سواء كان باللسان أو القلب أو هما معا ، فمن الأول قوله تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) [سورة الأنبياء

٢٠٢

، الآية : ٥٠] ، ومن الثاني قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٢] ، ومن الأخير قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٠٠] ، وكذا قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) [سورة النساء ، الآية : ١٠٣] ، وفي الحديث : «كانت الأنبياء إذا حزبهم أمر فزعوا الى الذكر» وفي بعض الأخبار «الصلاة» بدل الذكر ، ويشهد له قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [سورة البقرة ، الآية : ٤٥].

والآية لم تعين هذه النعمة التي اختصهم الله تعالى بها ولكنه عزوجل كرّم بني إسرائيل بأعظم أنحاء النعم كما قال تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١١] فجعلهم من أولاد الأنبياء ووسمهم بالوسام الجليل حيث جعلهم من ذرية إبراهيم الخليل وفضلهم على الأمم ، قال تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [سورة المائدة ، الآية : ٢٠] ، واصطفاهم بالنبوة زمنا طويلا وفيهم من أنبياء أولي العزم موسى وعيسى (عليهما‌السلام) ، وأنزل فيهم التوراة التي هي أقدم الكتب السماوية وأعظمها بعد القرآن الكريم قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة الجاثية ، الآية : ١٦]. وبالجملة فقد أعطاهم الله تعالى من كل ما سألوه فلا بد أن يذكروا هذه النعم التي اختصوا بها ، ولكنهم قابلوا ذلك بالكفران والإساءة وأعرضوا عما أمروا به فكفروا بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بعد ما جائتهم البينات.

قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ). الوفاء ضد الغدر ، وهو الحفظ والإتمام وعدم النقض ، وكثيرا ما يستعمل في القرآن متعديا من باب الإفعال كما في المقام ، وقوله تعالى : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٧] ، ويستعمل من باب التفعيل أيضا ، وقال تعالى في شأن خليله : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [سورة النجم ، الآية : ٣٧] أي بذل غاية جهده في جميع ما طولب به من الله تعالى ، وهو من أجل مقامات الخلة.

٢٠٣

والعهد : حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال والاهتمام به ، وهو من الصفات الإضافية ، له تعلق بالعاهد والمعهود اليه والمعهود به إلّا أن في الأول يكون من الإضافة الى الفاعل ، وفي الثاني كذلك إذا كان مع العوض ، كما يكون من الإضافة الى المفعول أيضا.

والفرق بين العهد والميثاق هو أن الثاني أخص من الأول ، لأنه العهد المؤكد بأنحاء التأكيدات والتوثيقات ، سواء أكان بين الله تعالى وبين خلقه أم بين خلقه بعضهم مع بعض ، ومادة (وث ق) تدل على كمال التثبت.

والمعنى : أوفوا بعهدي الذي أبلغته إليكم بواسطة الأنبياء والرسل من المواثيق والطاعات والعبودية ، وهي كثيرة يأتي في الآيات التالية تعداد أصولها ، ومن جملة ما عهد إليهم الإيمان بشريعة خاتم المرسلين كما يستفاد من قوله تعالى : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ). والوفاء بالعهد مطلقا سواء أكان من النّاس ام من الله تعالى يرجع إلى مصلحة النّاس أنفسهم.

وإنما سمى سبحانه ذلك عهدا وأوجب وفاءه على نفسه ، تحننا منه وترغيبا لعباده إلى الطاعة حيث يكون لهم حق مطالبة الجزاء مع الشرط فيصير المقام نظير آية الاشتراء : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [سورة التوبة ، الآية : ١١١] مع أن السلعة والمشتري وقدرته وارادته من الله تعالى ولذلك نظائر كثيرة يأتي التعرض لها. ويمكن أن يكون الترتيب في قوله تعالى : (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) من قبيل ترتب المعلول على العلة ، لا من ترتب وفاء أحد المتعاوضين على وفاء الآخر.

قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). الرهب هو الخوف المشوب بالاضطراب. وتقديم الضمير المنفصل يفيد الحصر ، أي لا بد أن يكون الخوف من الله تعالى الذي هو على كل شيء قدير ، والمطلع على الضمائر والظواهر ، فإن الرهبة إن كانت لأجل عظمة المرهوب منه وجلاله فلا نهاية لهما فيه عزوجل ، وإن كانت لأجل علمه بموجبات السخط والعقاب فلا يعزب عن علمه شيء في السموات والأرض ، وإن كانت لأجل قهاريته التامة فهي من أخص صفاته ، وعهوده هبات منه عزوجل فيكون نقضها عظيما.

٢٠٤

ثم إنّه شرع في بيان جملة من عهوده المباركة على بني إسرائيل وهي الإيمان بالله تعالى والقرآن المشتمل على تصديق سائر الكتب السماوية ، وعدم الكفر ، والمحافظة على آيات الله تعالى وعدم تبديلها ، وتقوى الله ، وعدم كتمان الحق ، وعدم خلطه بالباطل. وهذه هي من أهم العهود الإلهية وأصولها على عباده ، ولا اختصاص لها بطائفة دون أخرى ، وإن كانت تختص ببعض الأحكام الفرعية.

والعهود الإلهية وإن كانت تعد من الأمور التشريعية لكن كل تشريع له دخل في نظام التكوين ، لأن جميع جهات التشريع ترجع إلى تربية الإنسان الذي هو المقصد الأقصى من نظام التكوين فيرجع التشريع اليه.

قوله تعالى : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ).

تفصيل بعد إجمال ، فإن قوله تعالى : (أَوْفُوا بِعَهْدِي) يشمل الإيمان بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلّا أنه تعالى ذكره بالخصوص تنبيها لهم وتعظيما لأمره ، وهذه الآية المباركة تدل بالدلالة الالتزامية العادية على إخبار موسى (عليه‌السلام) بشريعة خاتم الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، لأن كل شريعة سابقة لا بد أن تخبر بالشريعة اللاحقة كما أخبر تعالى عن الشرائع السابقة في القرآن ، وقوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) يدل على تصديق هذه الشريعة لما تقدم من الشرائع ، وقد ذكرنا في ما سبق أن الشرائع الإلهية وإن تعددت بحسب الظاهر إلّا أنها متحدة في أصول العقائد والأحكام التي ترجع إلى تربية الإنسان وسعادته في الدارين.

قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ). لأنكم أعرف بحقيقة هذا الدين بعد أن كان الإيمان بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مذكورا في التوراة ـ كما سيأتي ـ وأن هذا القرآن مصدق لما معكم فمن بادر منكم إلى الكفر يكون أشد خزيا ومنقصة ، ويكون من أئمة الكفر في ملته ، كما أنّ من بادر من أهل الكتاب الى الإيمان بالله والرسول يكون أول مؤمن به.

قوله تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً). المراد بالاشتراء هنا مطلق المبادلة ، والثمن القليل هو الدنيا وما فيها ، لأنها تنفذ وآيات الله تعالى

٢٠٥

لا تنفذ ، وكل من قدّم هوى نفسه على رضاء الله تعالى فقد اشترى بآيات الله ثمنا قليلا ، لأنه خسر رضوان الله تعالى ، وعن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام): «من أصغى الى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق نطق عن الله فقد عبد الله ، وإن كان الناطق نطق عن الشيطان فقد عبده» وتشمل مثل هذه الأخبار تبديل آيات الله بجميع الأغراض الدنيوية. والمراد بآيات الله تعالى مطلق تشريعاته في معارف الدين وأحكامه.

قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ). بوفاء العهد واتباع الهدى وترك الركون الى الدنيا. وهو يدل على وجوب التقوى وانحصارها بالنسبة إليه تعالى المستفاد من تقديم الضمير المنفصل.

وقوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). اللبس هو الخلط والتغطية ، أي لا تخلطوا الحق الذي أنزلناه بالباطل الذي تفعلونه. ولبس الحق بالباطل يستلزم كتمان الحق لا محالة ، وقد أفرده تعالى بالذكر ، اهتماما به وتبيينا لكل واحد من المتلازمين بالذكر ، ولا تكتموا الحق بعدم بيانه مع الحاجة الى البيان ، وذلك يتصور على وجوه : إظهار الحق في صورة الباطل وبالعكس ، كتمان الحق مع الحاجة إلى بيانه ، الافتراء على الله تعالى ، والجميع من القبائح ومن شعب النفاق ، مع أنكم تعلمون الحق وما تعلمون من لبس الحق بالباطل وكتمانه والافتراء على الله.

قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ). بعد أن أمرهم الله تعالى بالإيمان أمرهم بأهم وظائف العبودية وهي الصلاة على ما قررتها الشريعة ، ثم أمرهم بأهم الوظائف الاجتماعية وهي الزكاة بما قررتها الشريعة من بذل المال والسعي في الحوائج ، بل زكاة الجاه. ثم أمرهم بالركوع مع الراكعين ، لأن العبادة الاجتماعية أهم من العبادة الفردية لما فيها من المصالح الكثيرة. والمراد بالركوع إما الركعة ويكنى به عن الصلاة ، لأنه أهم أركانها أو لأجل أنّ الركوع كان أشق عليهم من السجود فذكره تبارك وتعالى بالخصوص ، أو للإشارة إلى نبذ عبادتهم والإتيان بهذه العبادة الجديدة.

٢٠٦

بحث روائي :

عن ابن بابويه في العلل عن أبي عبد الله (عليه‌السلام): «ويعقوب إسرائيل ومعنى إسرائيل عبد الله لأن أسراء هو عبد وئيل هو الله عزوجل» وروى في خبر آخر : «إن أسراء هو القوة وايل هو الله فمعنى إسرائيل قوة الله عزوجل».

أقول : قد ورد في التوراة الوجه الأخير والمراد بالقوة هنا قوة يعقوب من حيث اعتماده على ربه فيرجع إلى المعنى الأول لأن عبودية الأنبياء (عليهم‌السلام) تكون عن اعتمادهم من كل جهة على الله تبارك وتعالى مطلقا وذلك يستلزم لهم القوة.

وعن القمي عن جميل عن الصادق (عليه‌السلام): «قال له رجل : جعلت فداك إن الله تعالى يقول أدعوني أستجب لكم وإنّا ندعوا فلا يستجاب لنا قال (عليه‌السلام) لأنكم لا توفون بعهد الله لو وفيتم لله لوفى الله لكم».

أقول : يظهر منها ومن سائر الروايات المتواترة أن لاستجابة الدعاء شروطا كثيرة سيأتي بيانها في قوله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [سورة المؤمن ، الآية : ٦٠].

وعن العياشي عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن قول الله عزوجل : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة قال : هي الفطرة التي افترض الله على المؤمنين».

أقول : قريب منه روايات أخرى ، وهذا كله من باب التطبيق.

وعن ابن عباس في قول الله تعالى : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) : «نزل في رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وعلي بن أبي طالب (عليه‌السلام) وهما أول من صلّى وركع».

أقول : في ذلك روايات أخرى مستفيضة من الفريقين.

٢٠٧

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦))

ذكر سبحانه في هذه الآيات من أفعال اليهود وفسادها أنهم كانوا يدعون الى الإيمان وتلاوة الكتاب ، وقد وصفوا أنفسهم بالعدل ، وخالفوا إلى غيره ، ووبّخهم على هذا الفعل توبيخا شديدا ، والخطاب وإن كان موجها إلى بني إسرائيل لكنه عام إلى جميع من يأمر بالحق ولا يعمل به ، وهو من أعظم القبائح النظامية في الاجتماع ، ثم أمرهم سبحانه بالرجوع إليه والاستعانة بالصبر والصّلاة ونبذ ذلك العمل الشنيع.

التفسير

قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ). البر : هو سعة الخير ، ويطلق على كل خير من الإحسان. والنسيان غيبة الشيء عن النفس بعد حضوره فيها ومنه قوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٦٤] ، إذ لا يعقل النسيان ممن كان ما سواه حاضرا لديه. ويستعمل بمعنى مطلق الترك أيضا ، قال تعالى : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [سورة الحشر ، الآية : ١٩]. وهو أخص من السهو والغفلة.

قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ). التلاوة : القراءة لكن لوحظ في الأولى معنى المتابعة ، لأن الحروف المقروءة تتتابع بعضا بعضا ، وفي الثانية لوحظ معنى الجمع ، لأن القراءة تستلزم جمع الحروف.

والعقل من العقال ، لأنه يربط صاحبه عن ارتكاب القبائح. ويحرّضه على إتيان المحاسن ، وهو ضد الجهل ، وله إطلاقات كثيرة في السنّة بل واصطلاح الفلاسفة ، ويأتي شرح ذلك في الآيات المناسبة.

ومفهوم العقل من أبده الأشياء ولكن كنهه في غاية الخفاء ، فهل هو جوهر مجرد روحاني متعدد الأفراد حسب تعدد أفراد العقلاء يقبل الشدة

٢٠٨

والضعف. أو أنه عرض قائم بالغير. أو أنه من مراتب وجود النفس الإنساني. أو أن له وجودا واحدا فرديا كالشمس إلّا أن له إشراقات على النفوس. أو أنه إشراق حاصل للنفس من عالم آخر غير عالم الجواهر والأعراض. أو أن جميع ذلك صحيح بحسب اختلاف النفوس ومراتبها. أو أن الكل باطل ولا يحيط به الناس ، بل العلم به منحصر بالله تعالى؟

وغاية ما يدرك أنّه القوة المميزة بين الحسن والقبح ولم يزل الموضوع مورد البحث منذ وجود العاقل على وجه البسيطة ولا يزال كذلك والقدر المسلّم به أنه موجود ومتعقل خارجي وقع مورد جعل الله تبارك وتعالى وإرادته وخطابه ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

والخطاب وإن كان موجها إلى بني إسرائيل لكنه عام يشمل الجميع وأشد معاتبة الآمرون بالمعروف التاركون له ، والناهون عن المنكر الفاعلون له حتّى نفى الله تعالى عنهم العقل بلسان التوبيخ والتأنيب ، وهو كذلك لأن من أول مرتبة العقل والكمال العقلي هو مطابقة القول للفعل ، بل يعد ذلك من الأمور النظامية الاجتماعية فإن نظام المجتمع يقوم بالقانون والعمل به وبدونه يكون خرقا للنظام وإشاعة للفساد. كما أنّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أحق باتباع ما يأمرونه ، والانتهاء عما ينهون عنه ، لأن الحجة عليهم أتم ، فإن من لم ينسلخ عن شهوة نفسه كيف يتمكن من إزالة الشهوة عن غيره ، ولذا ورد التأكيد عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) بقولهم : «كونوا دعاة الى الله بغير ألسنتكم». وقد ثبت في الفلسفة ، وفي الأحاديث الكثيرة على أن للحركات القلبية والجذبات النفسية آثارا خاصة في النفوس ، بل قد يكون الشخص في عين أنه ينهى بلسانه مثلا يكون تأثيراته النفسية أقوى من النهي اللساني على النفوس.

وهذه الآيات تتضمن قاعدة محاورية من صحة خطاب الأبناء بما يفعل الآباء ، أو خطاب الآباء بما يفعل الأبناء ، أو خطاب الجميع بما يفعل البعض.

قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى

٢٠٩

الْخاشِعِينَ). بعد أن ذكر سبحانه من سوء أفعالهم ونفى العقل عنهم فلم تنفعهم تلاوة الكتاب أرشدهم إلى استكمال أنفسهم بالكمالات الظاهرية والواقعية بالاستعانة بالصبر والصّلاة وحيث إن بني إسرائيل كانوا مسبوقين بالصبر على المتاعب والشدائد ، وظهر لهم أثر صبرهم في الاستيلاء على عدوهم (فرعون وقومه) ، قال تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٣٧]. وكذا في الصّلاة التي اعتادوا عليها فظهر لهم بعض آثارها ، قال تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة يونس ، الآية : ٨٧] فحثهم الله تعالى على ما وجدوا أثره بأنفسهم من إدمان الاستعانة بالصبر والصّلاة ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٣].

والاستعانة : طلب العون كما تقدم في سورة الحمد (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). والمراد هنا جعل الصبر والصّلاة وسيلة لإفاضة الله تعالى عليهم ما يهمهم من المقاصد وتدل الآية المباركة على أن الاستعانة بهما توصل إلى كل خير نوعيا كان أو شخصيا كليا أو جزئيا.

والصبر هو كف النفس عن الهوى مع مراعات تكليف المولى ، وهو من أهم مكارم الأخلاق ، بل لا فضيلة إلّا وللصبر فيها دخل.

ثم إنّ استعانة الإنسان إما أن تكون من نفسه بنفسه ، أو من نفسه بغيره ، والأول هو الصبر ، ومن الثاني الصّلاة. والاستعانة بالصبر هي فعل الطاعات وترك المحرمات ، وقد يراد منه الصوم لأنه الإمساك وكف النفس عن المفطرات فيكون من صغريات المعنى اللغوي ففي الحديث : «إنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان إذا حزبه أمر استعان بالصوم والصّلاة» ، وعن الصادق (عليه‌السلام): «الصبر الصيام وإذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم ، فإن الله تعالى يقول : واستعينوا بالصبر والصلاة».

والاستعانة بالصّلاة استعانة بالله تعالى ، لأنها تنهى عن الفحشاء

٢١٠

والمنكر ، وأنها من أقوى الأسباب وأشدها تأثيرا في قضاء الحوائج وتيسير الأمور.

وإنما قدم تعالى الصبر على الصّلاة ، لأنها لا تقبل إلّا بالتقوى ، وهي لا تحصل إلّا بالصبر على ترك المحرمات ، فيكون من تقديم المقتضي [بالكسر] على المقتضى [بالفتح].

والآية على اختصارها تشتمل على جميع الكمالات الإنسانية الفردية والاجتماعية ، والعامل بها حائز لجميعها ولكثرة عظمة الأمر واحتوائه على المشاق قال تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) والضمير يرجع إلى الصّلاة فإنها شاقة وكبيرة عظيمة ، لأن الوقوف بين يدي الله تعالى مع الالتفات إليه صعب جدا إلّا على الخاشعين المخبتين لله الذين نبذوا جميع ما سواه وراء ظهورهم ، وأنهم في مقام الأنس بربهم فلهم به أشواق ، ومنه تعالى لهم جذبات فهانت عليهم متاعب الدنيا وصعابها.

والخشوع والخضوع هما التواضع والتذلل والمسكنة في مقابل الاستكبار ، وهما من الكمالات النفسانية منبعثان من القلب على الجوارح. ويفترق الأول عن الثاني في إطلاقه على الصوت والبصر ، قال تعالى : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) [سورة طه ، الآية : ١٠٨] ، وقال تعالى : (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) [سورة القلم ، الآية : ٤٣] ويحصلان على القلب إما من الإخبات إليه تعالى والخشية منه ، أو من تصور عظمة الله تعالى والمداومة عليه.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ). وصف سبحانه الخاشعين بما يبين كثرة خوفهم ووجلهم منه عزوجل بحيث لا تستقر لهم حالة. والملاقاة هي وصول أحد الطرفين إلى الآخر ، والمراد بها هو لقاء أهوال يوم القيامة وشدائدها ، أو لقاء جزاء أعمالهم يوم الحساب ، أو الفوز بلقاء عظمة الله وجلاله الذي هو أجل المقامات التي هي دون حد الوجوب وفوق الممكنات وغير ذلك مما يمكن أن يقع مورد التلاقي المختلف باختلاف مراتب الكمالات المعنوية. وفيه تحبيب منه تعالى

٢١١

بالنسبة إلى المؤمنين الخاشعين وإنذار للعاصين المذنبين.

وأنهم اليه راجعون لتوفية جزاء أعمالهم بما قدموه من صالح الأعمال. والتعبير بالرجوع من حيث كونه تعالى مبدأ الكل فيكون منتهاه أيضا.

والظن : مرتبة من الإعتقاد ، وهو مما يضعف ويشتد ، ويعبر عن الثانية ب (اليقين) والمائز بينهما القرائن الخارجية أو الداخلية ، قال تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ) [سورة الحشر ، الآية : ٢] أي حصل لهم اليقين بذلك وكذا في المقام فإن مقام الخشوع لا يناسب إلّا مع اليقين فلا تنافي بينه وبين قوله تعالى : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٤].

ولعل في التعبير بالظن إشارة إلى أن الخاشعين اكتفوا بالظن فاشتد خوفهم منه وهانت عليهم مشاق الدنيا فكيف بمن تيقن بالملاقاة ، وتوبيخ منه بالنسبة إلى هؤلاء الآمرين بالبر الذين ينسون أنفسهم بأنهم لم يتمكنوا من تحصيل الظن من تلاوة الكتاب ليحملهم على العمل الصالح ، أو لأن لشدة كونهم في مقام الخوف والرجاء لا يعتمدون على يقينهم لما يرد عليهم ، فعبر تعالى بالظن سوقا للكلام على مراد المخاطب ، ويشهد لذلك قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «لا يزال المؤمن خائفا من سوء العاقبة ولا يتيقن الوصول إلى رضوان الله تعالى حتّى يكون وقت نزع روحه ـ الحديث ـ». ويصح أن يراد بكلام واحد وجوه متعددة باعتبارات مختلفة.

إن قيل : اللقاء والملاقاة من صفات الأجسام الخارجية وهو تعالى منزه عنها ، فلا يناسب الإطلاق عليه عزوجل.

يقال : إن اختصاص اللقاء بالأجسام أول الكلام فقد ورد في قوله تعالى : (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) [سورة الطور ، الآية : ٤٥] مع أن اليوم ليس بجسم ، ومع ورود التنصيص بذلك في الكتاب الكريم فلا وجه لهذا الإشكال ، وإنما حصل الإشكال من كثرة الأنس بالماديات وإلّا فالتلاقي في عالم الرؤيا وعالم البرزخ واقع حقيقة ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٧] وقال تعالى : (قَدْ

٢١٢

خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) [سورة الأنعام ، الآية ٣١] إلى غير ذلك من الآيات المباركة. والأولى الحمل على العموم بحسب مراتب الإيمان ودرجاته ، فالتلاقي تلاصق اثنين سواء كانا من الجواهر أو الأعراض أو المجردات ، مع سبق البعد ظاهريا أو معنويا أو منهما معا ، وسواء كان البعد من جهة أو من جهات ، والتلاصق كذلك.

بحث روائي :

القمي في الآية : «نزلت في القصّاص والخطّاب ، وهو قول أمير المؤمنين (عليه‌السلام): وعلى كل منبر منهم خطيب مصقع يكذب على الله ، وعلى رسوله ، وعلى كتابه».

أقول : هذا من باب التطبيق على أحد الموارد لا التخصيص.

وفي مصباح الشريعة عن الصادق (عليه‌السلام): «من لم ينسلخ عن هواجسه ولم يتخلص من آفات نفسه وشهواتها ، ولم يهزم الشيطان ، ولم يدخل في كنف الله وأمان عصمته لا يصلح للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأنه إذا لم يكن بهذه الصّفة فكل ما أظهر يكون حجة عليه ، ولا ينتفع الناس به ، قال تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ). ويقال له : يا خائن أتطالب خلقي بما خنت به نفسك وأرخيت عنه عنانك».

أقول : ما ذكره (عليه‌السلام) مطابق للوجدان ، كما لا يخفى على أهله.

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام): «كان علي (عليه‌السلام) إذا أهاله أمر فزع ؛ قام إلى الصّلاة ، ثم تلا هذه الآية واستعينوا بالصبر والصّلاة».

وفي الفقيه عنه (عليه‌السلام) أيضا في الآية : الصبر الصيام ، وإذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة ، فليصم فإن الله تعالى يقول : (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) ، يعني الصيام».

وعن العياشي عن الصادق (عليه‌السلام): «ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غمّ من غموم الدنيا أن يتوضأ ثم يدخل مسجده فيركع ركعتين فيدعو الله

٢١٣

فيهما ، أما سمعت الله يقول : واستعينوا بالصبر والصّلاة».

أقول : أما الاستعانة بالصبر في الأمور الدنيوية والأخروية فلها أثر في الأمور التكوينية ، فضلا عن الاختيارية ، والصوم من أحد تلك المصاديق. وأما الاستعانة بالصّلاة فهي استعانة وتوجه إلى مسبب الأسباب ومسهل الأمور الصعاب ، وبذلك يحصل تكميل النفس فضلا عن حصول المراد.

وعن ابن بابويه عن علي (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) ، يعني يوقنون أنهم يبعثون ويحشرون ويحاسبون ويجزون بالثواب والعقاب ، والظن هاهنا اليقين».

وعن العياشي عن الصادق (عليه‌السلام): «اللقاء البعث والظن هاهنا اليقين».

أقول : لا ينافي تفسير الظن باليقين من جهة وبقائه على معناه الحقيقي من جهة أخرى ، كما استظهرناه من الآية المباركة.

وفي تفسير الإمام العسكري (عليه‌السلام): «يقدرون ويتوقعون أنهم يلقون ربهم اللقاء الذي هو أعظم كرامته لعباده».

أقول : تقدم أن ملاقاة العبد لربه أرفع المقامات وأجلها ، وهي من حدود وجوب الوجود.

وعن ابن عباس : «أنّ الآية نزلت في علي (عليه‌السلام) وعثمان بن مظعون ، وعمار بن ياسر ، وأصحاب لهم».

أقول : هم من صغريات موارد تطبيق الآية.

بحث أخلاقي :

الصبر هو أم الفضائل ، وأصل مكارم الأخلاق ، ومنه تتفرع كل موهبة ومكرمة ؛ فكما أن الحي القيوم أم الأسماء الحسنى ومنهما تتفرع سائرها ، كذلك يكون الصبر ، فهو حقيقة المقاومة مع المكاره والشهوات والمشتهيات ، والاستقامة مع ما يرتضيه العقل والشرع من محاسن

٢١٤

الأخلاق ، والوصول إلى المعارف والكمالات ، والمواظبة على الواجبات وترك المحرمات.

وقد اعتنى الله تعالى به اعتناء بليغا ، فقد وردت مادة (ص ب ر) في القرآن الكريم في ما يقرب من مائة موضع ، ولم يرد فضيلة أكثر ذكرا منه فيه ، وقد تكرر الأمر به ، قال تعالى : (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [سورة هود ، الآية : ١١٥] ، وقال جل شأنه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٢٠٠] ، وقال عزوجل : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [سورة غافر ، الآية : ٥٥]. وورد الأمر بالاستعانة به في قوله تعالى : (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٣].

والاستعانة بالصبر في الأمور التكوينية استعانة بأسبابها الظاهرية والمعنوية ، وكلها ترجع إلى مراعاة حصول المسببات عند حصول أسبابها المقتضية لها ، واستنتاج النتائج من المقدمات المعدة لها ، وترك المبادرة الى نقض هذا الأمر العقلي النظامي ، فإنه يؤدي إلى خلاف المطلوب.

وفي الأمور الاختيارية فهو إما على ما تكره النفس ، أو على ما تحبه ، والأول عبارة عن مقاومة النفس للمكاره الواردة عليها وثباتها في مقابلها ، وعدم تأثرها ، وعدم انفعالها ، وقد يعبر عن ذلك بالشجاعة وسعة الصدر أيضا. والثاني عبارة عن مقاومة النفس لمدافعة القوى الشهوانية والغلبة عليها بالعقل والفكر ، وكل ذلك من الحكمة العملية التي اهتم الفلاسفة ، وعلماء الأخلاق بشرحها ، فما ورد في السنة المقدسة من «أن الصبر مفتاح الفرج» مطابق للقاعدة العقلية ، لأنه دخول في الشيء من أحسن أبوابه.

وقد أشار نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى عظيم منزلته لما سئل عن الإيمان ، فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «هو الصبر» ، كما جعله جزء الإيمان ، فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «الإيمان نصفان فنصف صبر ، ونصف شكر» ، وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «ما أعطي أحد عطاء خيرا له وأوسع من

٢١٥

الصبر». وعن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام): «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فمن لا صبر له لا إيمان له».

والصبر من صفات الأنبياء والمرسلين الذين أمرنا بالاقتداء بفعلهم والاهتداء بهديهم ، قال تعالى مخاطبا للرسول الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) [سورة الأحقاف ، الآية : ٣٥] ، وقال جلّ شأنه : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) [سورة الأنعام ، الآية : ٣٤] ، وقال تعالى : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٨٥] ، وقال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) [سورة السجدة ، الآية : ٢٤] ، فكما أن الصبر من أهم مقومات حياتهم (عليهم‌السلام) فهو من أقوى محققات شؤونهم ، فما بعث الله تعالى نبيا ولا أرسل رسولا ، بل ولم يفض علما على عالم إلّا وكان الصبر أليفه حتّى صار النصر حليفه ، وقد تحمل من المشاق حتّى صار شهير الآفاق ، وذلك من سنة الله : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [سورة الفتح ، الآية : ٢٣].

وقد عدّ الصبر في السنّة المقدسة من جنود العقل وضده من جنود الجهل ، فهو من حيث كونه من جنود العقل له دخل في نظام التكوين ، ومن حيث إنه الإيمان ، أو جزء الإيمان له دخل في نظام التشريع فهو جامع للمنزلتين ، وحائز للدرجتين ، فله دخل في الأمور الطبيعية فإن مراتب استكمالها لا تتم إلّا بالتدرج وعدم العجلة ـ وإن لم يصح إطلاق الصبر بالمعنى المعهود عليها ـ ولذلك ترى أن بذور النباتات والأشجار لا تصل إلى مرتبة الكمال إلّا بالتدرج ، وقد ورد في الحديث : أن ذكر ستة أيام في خلق السموات والأرض إنما كان لتعليم العباد التأني والصبر ، وإلّا فهو قادر على خلقهنّ في أقل من ذلك.

فهو من أهم موجبات تحقق المقاصد والظفر بالمطلوب إن توفرت بقية الشرائط ، قال علي (عليه‌السلام): «لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به

٢١٦

الزمان» فليس للصابر إلّا أن يظفر بالمقصود ، أو بما أعدّه الله تعالى له من الأجر المحمود.

وتقدم في تعريف الصبر أنه : حبس النفس عن الهوى مع مراعاة تكليف المولى ، بل يمكن تعريفه بالمعنى العام ليشمل صبر الواجب والممكن ، وأنواعه وأقسامه ، بأن يقال : «هو تقدير الشيء بالنحو الأتم على ما يناسب النظام الأحسن نوعيا كان أو شخصيا» فيشمل صبر الواجب ، حيث أطلق الصبور عليه تعالى في الأسماء الحسنى على ما روي عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وما ورد في الحديث القدسي ، وفي الحديث : «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عزوجل» ، وفي دعاء المجير وغيره «يا صابر» ، فإنه يتفرع منه الحلم والعفو ، والرفق والمداراة كل ذلك متشعب عن الصبر المختلف باختلاف الخصوصيات والجهات ، فيختلف معناه كذلك فلا نحتاج إلى تفسير الصبر فيه تعالى بالمعنى العدمي ، أي عدم التعجيل في عقوبة العصاة ، كما عن جمع من المفسرين واللغويين.

والصبر في الإنسان قد يكون من طبيعته وجبلته فإننا نرى أن بعض الأفراد يصبر على ما يرد عليه من المكاره ويتحمل من المشاق ما لا يقدر غيره على تحملها. وقد يكون بالاكتساب والمصابرة ، وهذا أفضل من القسم الأول ، وهو موضوع منازل السائرين إلى الله تعالى في سيرهم وسلوكهم ، وأهم عمادهم في التخلية عن الرذائل والتحلية بالفضائل والتجلية بالتخلق بأخلاق الله تعالى ، وبقية الدرجات من الفناء والطمس ، والمحو ، والمحق وغيرها مما شرحه أهل الفلسفة العملية والعرفاء.

كما أن الصبر عن الشيء تارة يكون مع وجود المقتضي وفقد المانع خارجا ، وأخرى مع الميل النفساني وعدم المقتضي ، وثالثة مع الميل ووجود المانع ، وتختلف مراتب فضل الصبر باختلاف هذه المراتب.

وللصبر أنواع وأفراد كثيرة كلها من الفضائل ، ولكل فرد اسم خاص به ، وضد مختص به ، فيسمى الصبر في الحرب شجاعة وضده الجبن. وفي المصيبة الصبر ـ بقول مطلق ـ وضده الجزع ، وفي الحوادث المضجرة رحابة

٢١٧

الصدر وضده الضجر ، وفي الكلام كتمانا وضده الإذاعة والإفشاء ، وإن كان الصبر عن المفطرات سمي صوما وضده الإفطار ، وعن شهوة البطن والفرج سمي عفة وضده التهتك ، وإن كان في كظم الغيظ والغضب سمي حلما ويضاده التذمر ، وإن كان عن حطام الدنيا سمي زهدا وضده الحرص ، وفي المأكل والمشرب سمي قناعة وضده الشره ، وقد سمّى الله تعالى كل ذلك صبرا ، وأشار إليه سبحانه في قوله : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٧].

والصبر لا يتحقق إلّا مع عقد القلب عليه والعزيمة على الاستمرار عليه ، وإلّا فإن صرف وجود الشيء لا أثر له ، وإنما الأثر يترتب على البقاء وهو يحصل بالصبر والمصابرة والاستقامة على تحمل المكاره ولذلك كان الصبر من عزائم الأمور فقال تعالى : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [سورة لقمان ، الآية : ١٧] وعن علي (عليه‌السلام): «ألق عنك واردات الهموم بعزائم الصبر ، عوّد نفسك الصبر فنعم الخلق الصبر».

ثم إنّ الصبر تارة : يكون بتوفيق من الله وللتقرب اليه ، وفي مرضاته كصبر الأنبياء والمرسلين ولا سيما سيدهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وهذه أعلى درجات الصبر ، ويترتب عليه الثواب العظيم المعد للصابرين ، وأخرى : يكون بتوفيقه تعالى ، وليس لله تعالى. بل لأجل أغراض صحيحة أخرى ، وثالثة : لا يكون بتوفيقه أيضا وإن كان لأجل أغراض صحيحة أخرى والغفلة عنه عزوجل ، والثواب يتحقق في الجميع لأن الصبر بنفسه محبوب له تعالى.

وربما يكون اختلاف الثواب والجزاء عليه في القرآن الكريم لأجل اختلاف درجات الصبر ، فهو تعالى يخبر تارة : بأنه : (يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٤٦] ، ومحبته تعالى لشيء من أعلى المقامات وأجلها ، وأنه مع الصابرين ، فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [سورة الأنفال ، الآية : ٤٦] ، وأنه بشر الصابرين ، فقال تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)

٢١٨

[سورة البقرة ، الآية : ١٥٥]. وأنه خير لهم ، فقال تعالى : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) [سورة النحل ، الآية : ١٢٦].

وأخرى : يخبر بأن لهم الثواب الجزيل قال تعالى فيهم : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٧].

ويخبر ثالثة بمضاعفة الأجر لهم ، قال تعالى : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [سورة القصص ، الآية : ٥٤].

ورابعة : أنّ لهم الأجر بلا حساب ، قال تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [سورة الزمر ، الآية : ١٠] ، وعن الصادق (عليه‌السلام) قال : «سمعت أبا جعفر (عليه‌السلام) يقول : إني لأصبر من غلامي هذا ، ومن أهلي على ما هو أمر من الحنظل ، إنه من صبر نال بصبره درجة الصائم القائم ودرجة الشهيد الذي قد ضرب بسيفه قدام محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله)».

والصبر من الصفات ذات الإضافة ، فإذا لوحظ بالنسبة إليه تبارك وتعالى يكون محبوبه ومورد بشارته ، وإذا لوحظ بالنسبة إلى الصابر يكون من جهات كماله ومكرمة له ، وإذا لوحظ بالنسبة إلى الاجتماع يكون مورد التحبب والتودد والعناية. وهو في كل شيء بحسبه بشرط أن لا يصل إلى مرتبة يقبح الصبر فيها شرعا أو عرفا وعقلا ، وإلّا فلا يكون صبرا مرغوبا ، كالصبر على هتك العرض ، أو المال ، أو النفس وهو قادر على دفع المظالم. وعليه ينقسم الصبر حسب الأحكام التكليفية الخمسة.

وقد ورد في الشرع موارد يستحب التعجيل فيها ، فعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «خير الخير ما كان عاجله» وعنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «عجلوا بموتاكم إلى مضاجعهم» ، وفي نصوص كثيرة التعجيل في تزويج الأبكار بالكفؤ ؛ والتعجيل بإتيان الصّلاة في أول وقتها ، إلى غير ذلك من الموارد التي تستحب العجلة فيها.

ثم إنّ في الصبر عن الشهوات النفسانية فضلا كبيرا ، فعن الباقر

٢١٩

(عليه‌السلام): «الصبر صبران ، صبر على البلاء حسن جميل وأفضل الصبر الورع عن محارم الله» سواء أكان الصبر فيها مع تهيئة أسبابها ، أو مع إمكان التهيئة ، أو مع عدمهما معا ، والصبر عنها يدور مدار زوال حب النفس والهوى وترك متابعة الدنيا ، والأولان يرجعان في الحقيقة إلى ترك حب الدنيا ، بل يدور جميع مكارم الأخلاق مدار التجنب عنها ، ومذام الأخلاق مدار التقرب منها ، وقد تواتر عن نبينا الأعظم : «حب الدنيا رأس كل خطيئة» وعلامة تقوية الصبر وتضعيف حب الدنيا هي كثرة التفكر في الدنيا وفنائها وانها أقوى الحجب عن الوصول إلى المعنويات ، بل أصل الحجب الظلمانية عن المعارف الربوبية ، والأخلاق الإلهية.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨))

كرر سبحانه وتعالى تذكيرهم بالنّعم عليهم ، إتماما للحجة ، وإثباتا لاستحقاقهم الطعن واللوم ، فإنهم مع كثرة نعم الله تعالى عليهم بالغوا في الجحود بالإسلام وإنكار ما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقد اقترن في الآية السابقة الوعد بوفاء العهد لهم إن هم وفوا بعهده تعالى ، وفي هذه الآية قرنه سبحانه بالخوف عن عذاب الآخرة ، فجمع سبحانه بين الرجاء والخوف.

التفسير

قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ). تقدم معناه ، وهو تأكيد لما سبق وتمهيد لما يأتي ، ومثل هذه الآيات تدل على وجوب شكر المنعم ، وتحقق العصيان في كفران النعمة وكتمانها ، وخصوصية المورد لا توجب تخصيص الحكم العام ، فإن القرآن : «نزل على طريقة إياك أعني واسمعي يا جارة». كما قال علي (عليه‌السلام).

قوله تعالى : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ). ذكّرهم سبحانه بهذه

٢٢٠