مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

عَزْماً) [سورة طه ، الآية : ١١٥] وهي أصرح في عدم صحة نسبة العمد اليه ، فيكون نظير قصة ذي الشمالين مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) التي رواها الفريقان الدالة على نسيان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الصلاة المحمول على الإنساء ، لمصالح كثيرة.

الثالثة : قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) [سورة طه ، الآية : ١٢١].

والحق إن لنفس استعمال هذه العناوين موضوعية خاصة في آدم لمصالح كثيرة ، منها أن لا يخطر في قلب آدم الكبر ، لأنه خليفة الله تعالى ، وأنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وعلمه الأسماء ، وأسجد الملائكة له ، فيكون استعمال العناوين المتقدمة في الآيات المباركة من الله تعالى في آدم (عليه‌السلام) نحو إصلاح تربوي ومعنوي له ، لا أن يكون المراد الواقعي منها بقرينة سائر الآيات والروايات.

قوله تعالى : (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ). أي من النّعم التي شرحها الله عزوجل في قوله تعالى : (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) ، وتدل الآية المباركة على أنه لم يخرج عما أعده الله تعالى له من مقام خلافته ، وتعليم الأسماء ، وهذه قرينة أخرى على أن الصادر منهما لم يكن معصية. ثم إن الآية المباركة مترتبة على سابقتها ترتب المسبب على السبب.

قوله تعالى : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ). الهبوط : النزول من العلو إلى ما دونه ، والمراد به هنا النزول من المحل الذي لا عناء فيه إلى دار التعب والفناء ، والكدورة والشقاء ، ولا اختصاص لذلك بآدم (عليه‌السلام) وحواء ، بل هو جار في مطلق الإنسان ، وقد أثبت ذلك علماء الأخلاق والفلسفة والعرفان.

وربما يتوهم : أنّ الآية تدل على أنّ الخلق كان في السماء فنزل آدم (عليه‌السلام) منها إلى الأرض. ولكنه مردود بأنّ الهبوط أعم من ذلك فإن معناه النزول من محل مرتفع مطلقا كما في قوله تعالى : (يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ) [سورة هود ، الآية : ٤٨] ، وقوله تعالى : (اهْبِطُوا مِصْراً)

١٨١

[سورة البقرة ، الآية : ٦١]. وأما الأخبار فيأتي ما يتعلق بها عند نقلها.

والأمر بالهبوط هنا تكويني ، كما في قوله تعالى : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٦٩] ، وقوله تعالى : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) [سورة هود ، الآية : ٤٤] ، وقوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة النحل ، الآية : ٤٠] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

ويصح أن يكون تشريعيا لوجوب الهجرة عقلا وشرعا لإعلاء كلمة الله تعالى كما كان شأن جميع الأنبياء والرسل والأولياء ، فكما أنّ للهبوط دخلا في نظام التكوين تكون للهجرة دخل في نظام التشريع فهذا الأمر تكويني من جهة وتشريعي من جهة أخرى.

ومورد الخطاب إما آدم (عليه‌السلام) وإبليس ، وإتيان الإثنين بلفظ الجمع شائع ، ويشهد له قوله تعالى : (قالَ اهْبِطا مِنْها) [سورة طه ، الآية : ١٢٣] ، أو هما مع حواء ، أو الذرية ، وقد وردت بالنسبة إلى بعضها روايات ، ولا فائدة في البحث عن ذلك بعد تحقق المقصود وهو الهبوط بالنسبة إلى الجميع والمعاداة بينهم.

وهذه العداوة تكوينية اقتضائية حاصلة من التنافي والتباين بين الأنواع المختلفة ، والصفات المتغائرة ، وما الدنيا إلّا جمع المتخالفات وتفريق المجتمعات ، وهي دار الكون والفساد.

قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ). هذا بيان حكمة ارشاد آدم (عليه‌السلام) الى ترك الأكل ، وهناك حكم أخرى تأتي في الآيات المناسبة لها.

والمستفاد من هذه الآية المباركة أن الأرض هي الغاية من حياة الإنسان فقط فقد خلق آدم (عليه‌السلام) للأرض للتمتع بخيراتها والبقاء فيها إلى وقت محدود. وأنها دار الأضداد والعداوة والشقاء تكوينا ، لكونها دار الكون والفساد ، وهداية خلفاء الله تعالى وإغواء الشياطين.

١٨٢

كما أنّ هذه الآيات وغيرها مما ورد في قصة آدم (عليه‌السلام) تدل على أن هؤلاء الثلاثة كان يرى أحدهم الآخر قبل الهبوط قال تعالى : (إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) [سورة طه ، الآية : ١١٧] ، وقال تعالى : (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢١] ، وقال تعالى : (قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) [سورة طه ، الآية : ١٢٠] وغير ذلك من الآيات والروايات ، وأما بعد الهبوط فلا يراه إلّا بعض أنبياء الله تعالى وأوليائه.

قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ). التلقّي : القبول والأخذ بعد البيان والذكر. والمراد بالكلمات هنا كل ما يكون له أثر في رفع الحزازة الحاصلة من المخالفة ، فهي راجعة إلى إظهار توبته ، وندامته ، واستغفاره ، ويمكن تطبيقها على الدعوات التي ألهمها الله تعالى لآدم (عليه‌السلام) ، كقوله عزوجل : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٣] وغير ذلك مما يأتي في الروايات ، فإنه يكون من باب التطبيق أيضا.

قوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

التوب : هو الرجوع. فإذا وصف به الله تعالى يكون إما بمعنى إلهام التوبة إلى العبد وتوفيقه لها ، أو بمعنى رجوع الله وإقباله على العبد بعد مخالفته وعصيانه. وإذا وصف به العبد يكون بمعنى الندم عما فعل ، وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «كفى بالندم توبة» ولا يلزم أن تكون التوبة من الذنب ، بل تصح عن التوجه إلى غير الله تعالى ولو كان مباحا فإن «حسنات الأبرار سيئات المقربين».

وكل توبة من العبد تلازم أمورا ثلاثة : الأول ـ توفيق الله عبده للتوبة برجوعه تعالى عليه بعد العصيان ، قال تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [سورة التوبة ، الآية : ١١٨].

الثاني : توبة العبد وندمه عن المعصية.

الثالث : قبوله تعالى توبة العبد ، ويأتي تفصيل ذلك في الآيات المباركة المناسبة لها.

١٨٣

والتواب إما بمعنى قبول التوبة عن عباده كثيرا بحسب كثرة التائبين أو أنه عزوجل يقبل توبة العبد الواحد وإن صدر الذنب عنه متعددا ، أو يكون بمعنى كل منهما ، وجميع ذلك صحيح.

والجمع بين وصفي التواب والرحيم فيه إيماء إلى أنه تعالى يتفضل على التائب ، مضافا إلى العفو والمغفرة بالإحسان إليه.

وفي مثل هذه الآية المباركة دلالة واضحة على أن الله تعالى هو الذي يلهم عباده التوبة ويقبلها ، وأن بابها مفتوح من حين هبوط آدم (عليه‌السلام) إلى انقراض العالم ، بل التوبة من أهم ما انتفع به الإنسان من الهبوط إلى الأرض ، فإنه تعالى جعل من حكمته التوبة والعصيان قريني الإنسان كفرسي الرهان ، فهذه الآية المباركة في مقام بيان بعض حكم الهبوط وفي الآية التالية البعض الآخر.

قوله تعالى : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً). قد ذكر سبحانه وتعالى الهبوط مرتين :

الأولى ـ لبيان أصل الهبوط من الجنّة إلى دار الشقاء والعناء والعداء ، كما عرفت.

والثانية : لبيان الغاية من هذا الهبوط وهي ظهور سعادة السعداء ، وشقاوة الأشقياء فالآية تبين الغرض من الخلق ، وأنّه كان في الأرض ، والخطاب هنا ظاهر في الجميع أي : آدم (عليه‌السلام) وذريته.

ويمكن أن يقال : إنّ الهبوط الأول من حيث الجهات المادية الجسمانية أي الدنيوية. والهبوط الثاني من حيث الاستكمالات المعنوية في سلسلة الصعود إلى المقامات العالية الإنسانية ، ولذا ذكره تعالى بعد التوبة والرجوع إلى الله عزوجل ، وأنه الغاية القصوى من الهبوط ، وذكر قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). بعنوان مستقل لئلا يتوهم أحد أنه غاية الهبوط أيضا ، بل هو أمر اختياري حاصل لمن اختار ذلك بعمده واختياره.

١٨٤

قوله تعالى : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). جملة خبرية في مقام الإنشاء ، يعني أنّ من اتبع هدى الله تعالى ينبغي أن لا يخاف من غيره ، ولا يحزن لما فات عنه ، لأنّ متابعة العبد لهداية الله تعالى توجب انقطاعه اليه وهو يستلزم نفي الحزن والخوف عنه في الدارين ، ويشهد لذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٧٧] ، وكذا قوله تعالى : (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ٤٨] إلى غير ذلك من الآيات المباركة ، هذا من جهة المتابعة. وأما من جهة العبودية فيعرضه الحزن ، لأنه ما بين الخوف والرجاء ، كما في كثير من الروايات.

والمراد بالهداية في هذه الآية المباركة جميع الشرائع السماوية كل بحسب زمانه وعصره. والمراد من المتابعة هنا الالتزام بها عملا واعتقادا.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). مادة كفر في مطلق استعمالاتها تدل على الستر ـ كما تقدم ـ سواء أكان متعلقه أصل الإيمان أم الطاعة فيساوق الفسق من هذه الناحية ، أم عن الشكر فيساوق الكفران. والتكذيب خلاف التصديق ، وكل منهما أعم من القول والفعل. وآيات الله علاماته كتوحيده وعبادته ومعاده من حيث الثواب والعقاب فيثبت بتكذيب كل واحد منها كفر الجحود. وإنما ذكر تعالى الكفر الخاص أي التكذيب بعد العام أي مطلق الكفر ، لينبه على الجحود الذي هو موجب للخلود في النار.

ثم إنه يستفاد من مجموع الآيات الواردة في خلق آدم (عليه‌السلام) هنا ، وفي سورة الأعراف ، وسورة طه أن له مراحل عشرة ولا تخلو ذريته عنها أيضا.

الأولى : مرحلة ما قبل نفخ الروح وهي بمنزلة الجنين في سائر أفراد الإنسان.

الثانية : مرحلة نفخ الروح وهي بمنزلة تكريم المولود وهي حالة اعتناء

١٨٥

الله تعالى بآدم (عليه‌السلام) وتعظيمه وأمره بسجود الملائكة له.

الثالثة : مرحلة التربية ، وهي تعليم الله تعالى الأسماء كلها لآدم (عليه‌السلام) ، وهي بمنزلة تعليم الوالدين وتربيتهما للولد.

الرابعة : مرحلة بيان الفضل وهي مرحلة السجود لآدم (عليه‌السلام) وإظهار فضل المسجود له على الساجد ، وهذه المرحلة توجد في ذريته ، وهي حياة التفاضل والتفاخر.

الخامسة : مرحلة التمتع واللعب وهي مرحلة إسكان آدم (عليه‌السلام) الجنة.

السادسة : مرحلة تزاحم الأهواء ، والأفكار ، والآمال وهي مرحلة ارشاد آدم (عليه‌السلام) إلى ترك الأكل من الشجرة التي قلنا إنها بمنزلة الوجود المثالي للدنيا لئلا يقع في متاعبها ومشاقها ، وهي مرحلة التميز في أفراد الإنسان.

السابعة : مرحلة التمايل الجنسي وتوليد المثل ، وهي مرحلة ظهور السوأة (فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) [سورة طه ، الآية : ١٢١] ، وهي ظاهرة في أفراد الإنسان.

الثامنة : مرحلة العيش والبقاء الدائمي المستفاد من تعليق قوله تعالى : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) [سورة طه ، الآية : ١١٨] على ترك الأكل من الشجرة ، والعيش والبقاء غير الدائمي المستفاد من قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) [سورة البقرة ، الآية : ٣٦].

التاسعة : مرحلة التكليف والعمل إما في طريق الهداية والإيمان أو الكفر والخسران.

العاشرة : مرحلة النتائج إما الثواب ، أو العقاب.

هذه هي المراحل التي يمر بها الإنسان كما مرت على آدم (عليه‌السلام) أول خليقته ، ويمكن إرجاعها إلى ثلاث مراحل : مرحلة

١٨٦

الأجنة ، مرحلة الطفولة ، مرحلة الرشد والكمال ، وتنطوي في كل مرحلة سائر الحالات المتقدمة وتجري هذه المراحل في النوع البشري وأصول المجتمعات أيضا.

بحوث المقام

بحث روائي :

في الكافي والعلل عن أبي عبد الله (عليه‌السلام): «سألته عن جنة آدم؟ فقال : من جنات الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر ، ولو كانت من جنات الآخرة ما خرج منها أبدا».

أقول : لا يستفاد من هذه الرواية مكانها وإنما يستفاد انها كانت من جنات الدنيا ، ولا بد من التأمل في ذيل هذه الرواية : «ولو كانت من جنات الآخرة ما خرج منها أبدا» لأن جنات الآخرة لا يخرج أهلها منها بعد عملهم وعمرانهم لها ، وأما أن الحكم كذلك قبل العمل وقبل كل شيء ففيه بحث وتفصيل.

في تفسير القمي : «سئل الصادق (عليه‌السلام) عن جنّة آدم من جنات الدنيا أم من جنات الآخرة؟ فقال : كانت من جنات الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر ، ولو كانت من جنات الآخرة ما أخرج منها أبدا».

أقول : تقدم ما يتعلق بها في سابقها.

العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام): «(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) يعني : لا تأكلا منها».

أقول : قد مر أنه يمكن إرادة نفس القرب أيضا اهتماما بالنهي فيكون ذكر الأكل من باب ذكر النتيجة.

تفسير العسكري في قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ). شجرة العلم شجرة علم محمد وآل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذين آثرهم الله عزوجل به دون سائر خلقه ، فقال تعالى : لا تقربا هذه الشجرة ؛ شجرة العلم ، فإنها لمحمد وآله خاصة ، دون غيرهم ولا يتناول منها بأمر الله إلّا

١٨٧

هم ـ ثم قال (عليه‌السلام) ـ وكانت هذه الشجرة وجنسها تحمل البر ، والعنب ، والتين ، والعناب وسائر أنواع الثمار والفواكه والأطعمة. فلذلك اختلف الحاكمون لذكر الشجرة ، فقال بعضهم : هي برة ، وقال آخرون : هي عنبة ، وقال آخرون : هي تينة ، وقال آخرون : هي عنابة».

أقول : أما ذيل الحديث فيؤيد ما قلناه : من أن الشجرة كانت مثالا للدنيا وما فيها بحسب الوجود المثالي. وأما صدره فيمكن حمله على أن لبعض تلك الأشجار نحو أثر خاص لم يظهر ذلك إلّا لبعض أولياء الله تعالى ، كما يدل عليه ما ورد في بعض أخبار الطينات.

في العيون عن عبد السلام بن صالح الهروي : «قلت للرضا (عليه‌السلام) : يا ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ما كانت؟ فقد اختلف الناس فيها ، فمنهم من يروي أنها الحنطة ، ومنهم من يروي أنها العنب ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد؟ فقال (عليه‌السلام) : كل ذلك حق. قلت : فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟ فقال يا ابن الصلت : إنّ شجرة الجنّة تحمل أنواعا ، وكانت شجرة الحنطة وفيها عنب وليست كشجرة الدنيا».

أقول : لا ريب في أن تلك الجنّة ولو كانت من الدنيا لها خصوصية ليست تلك الخصوصية في جميع جنات الدنيا ، ومن جهة قلة التزاحم والتنافي في تلك الجنّة أو عدمهما ، فيصح أن تحمل شجرة منها أنواعا من الثمار ، فلا تنافي بين هذه الرواية وبين ما قلناه سابقا ، وقد دلت روايات أخرى متعددة على أنها شجرة الحنطة ، ولا تنافي ما تقدم.

في الكافي عن أبي الحسن (عليه‌السلام): «إن لله إرادتين ومشيتين : إرادة حتم وإرادة عزم ، ينهى وهو يشاء ، ويأمر وهو لا يشاء. أو ما رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلب مشيتهما مشية الله؟!! وأمر إبراهيم أن يذبح إسماعيل ولم يشأ أن يذبحه ولو شاء لما غلبت مشية إبراهيم مشية الله».

وفيه أيضا عن أبي عبد الله (عليه‌السلام): «أمر الله ولم يشأ وشاء ولم

١٨٨

يأمر. أمر إبليس أن يسجد لآدم وشاء أن لا يسجد ؛ ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل منها ولو لم يشأ لم يأكل».

أقول : بيان مثل هذه الأخبار يحتاج إلى شيء من الشرح والتفصيل موكول إلى محله. المعروف بين العلماء أن الإرادة إنما هي الشوق المؤكد الحاصل بعد التصور والتصديق ، وهذا في إرادة المخلوق واضح لا ريب فيه ؛ وحيث إن هذا المعنى في الذات الأقدس الربوبي يستلزم كون الذات محل الحوادث وهو ممتنع ، ولذا جعل الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) الإرادة بجميع مقدماتها من صفات الفعل لا الذات وصرحوا بأن المشية والإرادة محدثة ، وبذلك تنحل جميع الإشكالات الواردة على إرادته تعالى التي وقع الفلاسفة في اضطراب عظيم في الجواب عنها ، لأنهم ذهبوا إلى أن الإرادة في مرتبة ذاته الأقدس والاختلاف بين الصفات إنما يكون في المفهوم دون المصداق. ولعلنا نتعرض لمذهبهم والجواب عنه في الموضع المناسب.

وعن جمع من أكابر المحققين إرجاع الإرادة فيه عزوجل إلى الرضاء ، وابتهاج الذات بالذات ، وفصل القول في ذلك ، وهذا القول وإن كان حسنا ثبوتا ، ولكن لا ربط له بالإرادة ، ويحتاج إلى تكلف وعناية.

ثم إنّ الإرادة إما تكوينية أو تشريعية ، فإن تعلقت بفعل ذات المريد فهي تكوينية ، وإن تعلقت بفعل الغير وكانت كإيجاد الداعي لأن يفعل الغير ذلك الفعل بحيث لو لا هذا الداعي لا يفعله تكون تشريعية. فتكون إرادته تعالى بالنسبة إلى النظام الأتم الأكمل من الأولى ، وبالنسبة إلى إنزال الكتب وإرسال الرسل من الثانية ، هذا بحسب الظاهر ، وأما بحسب الواقع والحقيقة فالثانية ترجع إلى الأولى ، فإن من أحسن النظام وأتمه وأكمله في عالم التكوين إنزال الكتب وإرسال الرسل.

وأما قوله (عليه‌السلام): «أمر الله ولم يشأ» فالمراد بالأمر الأمر التشريعي الظاهري ، والمراد بمشية العدم المشية التكوينية الاقتضائية كما أن المراد بنهي آدم (عليه‌السلام) النهي الإرشادي الظاهري والمراد بمشية الأكل المشية التكوينية الاقتضائية ، وفي كل ذلك مصالح لا تعد ولا تحصى.

١٨٩

وعليه يحمل ما في الرواية الأخرى : «إن لله إرادتين ومشيئتين» وهذه الروايات صريحة في أن ما صدر من آدم (عليه‌السلام) لم تكن من المعصية ، كما عرفت. والمراد من قوله «ونهى آدم عن أكل الشجرة» أي القرب منها ، كما تقدم ، وسيأتي في بعض الروايات التصريح بذلك.

وفي العلل عن الباقر (عليه‌السلام): «والله لقد خلق الله آدم للدنيا ، وأسكنه الجنّة ليعصيه فيرده إلى ما خلقه».

أقول : وهذه الرواية نحو شرح وبيان لجميع الأخبار الواردة في المقام وهي دليل على ما قلناه مرارا : من أن آدم (عليه‌السلام) من الأرض وللأرض.

في إكمال الدين عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «إن الله عزوجل عهد إلى آدم أن لا يقرب الشجرة فلما بلغ الوقت الذي كان في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها ، وهو قول الله عزوجل : ولقد عهدنا إلى آدم فنسي ولم نجد له عزما».

أقول : يصح أن يراد بالنسيان الإنساء يعني : أنساه الله تعالى لتجري مقاديره الأزلية ، كما مر في حديث ذي الشمالين في صلاة نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

العياشي في تفسيره عن أحدهما (عليهما‌السلام) «وقد سئل كيف أخذ الله آدم بالنسيان»؟ فقال : «إنه لم ينس وكيف ينسى وهو يذكره ويقول له إبليس : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلّا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين».

أقول : هذا الحديث قرينة واضحة ـ لما تقدم من الأخبار ـ على أن المراد بالنسيان الإنساء.

في العيون عن علي بن محمد بن الجهم قال : «حضرت مجلس المأمون وعنده علي بن موسى (عليه‌السلام) فقال له المأمون : يا ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟

١٩٠

فقال : بلى. قال : فما معنى قول الله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)؟ قال : إن الله تعالى قال لآدم : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ). وأشار لهما إلى شجرة الحنطة فتكونا من الظالمين ، ولم يقل لهما : لا تأكلا من هذه الشجرة ، ولا مما كان من جنسها ، فلم يقربا تلك الشجرة ، ولم يأكلا منها ، وإنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما ، وقال : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة. وإنما نهاكما أن تقربا غيرها ، ولم ينهكما أن تأكلا منها إلّا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ، ولم يكن آدم وحواء شاهدين قبل ذلك من يحلف بالله كاذبا ، فدلاهما بغرور فأكلا منها ثقة بيمينه بالله ، وكان ذلك من آدم قبل النبوة ، ولم يكن ذلك بذنب كبير استحق به دخول النار ، وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي إليهم ، فلما اجتباه الله وجعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة ، قال الله عزوجل : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) ، وقال عزوجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ).

أقول : مثل هذه الروايات الواردة عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) خصوصا مولانا الرضا (عليه‌السلام) في الجواب عن الإشكالات التي أوردت على عصمة الأنبياء (صلوات الله عليهم) لا يختص بأن يجيب بها الإمام (عليه‌السلام) ، بل يمكن أن يجاب بكل وجه صحيح يجمع به بين الأدلة الدالة على العصمة ، ومثل هذه الآيات الموهمة للتنافي بينها وبين العصمة ، ولنا أن نجيب عن الإشكال في هذا المجال بكل ما يقبله الطبع السليم والذهن المستقيم. ولكن في رواية ابن الجهم جهات من البحث :

(الأولى) : في سند الحديث علي بن محمد بن الجهم وقد ضعفه كل من تعرض له فلا اعتبار بمثل هذا الحديث ، وسياق المتن يدل على أنه ليس من الإمام (عليه‌السلام) ، خصوصا من مثل مولانا الرضا (عليه‌السلام) ، بل هو من المفتعلات عليه.

(الثانية) : قوله : «وإنما أكلا من غيرها» مخالف لصريح الآية المباركة

١٩١

الدالة على أن الأكل كان من نفس الشجرة المنهي عنها ، كما تقدم.

(الثالثة) : قوله : «وكان ذلك قبل النبوة» مخالف لإجماع أهل البيت والإمامية من عصمة الأنبياء مطلقا ، كما سيأتي في البحث الكلامي فلا بد من طرح الحديث.

وعن أبي الصلت الهروي في الأمالي قال : «لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليه‌السلام) أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات من اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، والصابئين وسائر أهل المقالات ، فلم يقم أحد حتّى ألزم حجته كأنه ألقم حجرا ، فقام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له : يا ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أتقول بعصمة الأنبياء؟ قال : بلى. قال : فما تعمل بقول الله عزوجل : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) ـ إلى أن قال ـ فقال مولانا الرضا (عليه‌السلام) : ويحك يا علي اتق الله ، ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ، ولا تتأول كتاب الله عزوجل برأيك ، فإن الله عزوجل يقول : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ). أما قوله عزوجل في آدم : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) فإن الله عزوجل خلق آدم حجة في أرضه ، وخليفته في بلاده لم يخلقه للجنة ، وكانت المعصية من آدم في الجنّة لا في الأرض لتتم مقادير أمر الله عزوجل ، فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ).

أقول : وهذا الحديث شاهد لما قلنا في الحديث السابق وقوله : «فإن الله عزوجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفته في بلاده» ظاهر بل ناص في عدم صدور المعصية منه من حين نفخ الروح فيه كما تدل عليه نصوص مستفيضة أن أول ما خلقه الله عزوجل هو الحجة ، وآخر من يذهب من الدنيا هو الحجة.

وأما قوله : «وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض» تقدم ما يتعلق به من أنه ليس من النهي الموجب للمعصية الاصطلاحية وإنما هو ارشاد إلى عدم وقوعه في متاعب الدنيا ومشاقها ، كما مر.

١٩٢

علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام): «أن موسى سأل ربه أن يجمع بينه وبين آدم (عليه‌السلام) فجمع ، فقال له موسى (عليه‌السلام) : يا أبت ألم يخلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك الملائكة ، وأمرك ان لا تأكل من الشجرة ، فلم عصيته؟ فقال : يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي؟ قال : بثلاثين ألف سنة. فقال : هو ذاك. قال الصادق (عليه‌السلام) : فحج آدم موسى».

أقول : رواه الفريقان ، كما في كنز العمال عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومعنى الرواية احتج آدم على موسى وغلب عليه ، والمراد بوجدان خطيئة آدم قبل خلقه التقدير الاقتضائي لله تبارك وتعالى باختيار آدم (عليه‌السلام).

وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) وأنا حاضر : كم لبث آدم وزوجته في الجنّة حتّى أخرجهما منها خطيئتهما؟ فقال : إن الله تبارك وتعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة ، ثم برأ زوجته من أسفل أضلاعه ثم أسجد له ملائكته وأسكنه جنته من يومه ذلك ، فو الله ما استقر فيها إلّا ست ساعات من يومه ذلك حتّى عصى الله تعالى ، فأخرجهما الله منها بعد غروب الشمس وصيرا بفناء الجنّة حتّى أصبحا فبدت لهما سوآتهما وناداهما ربهما : (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ). فاستحى آدم فخضع وقال : ربنا ظلمنا أنفسنا واعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا ، قال الله لهما : اهبطا من سماواتي الى الأرض فإنه لا يجاورني في جنتي عاص ولا في سماواتي».

أقول : تقدم كيفية خلق حواء من ضلع آدم (عليه‌السلام) ، وقوله : «وصيرا بفناء الجنة» يستفاد من هذه الجملة أمران : الأول : تكرر الهبوط ـ كما في غيرها من الروايات ـ الأول إلى فناء الجنّة ، والثاني منها إلى الأرض.

الثاني : يمكن أن يستفاد منه أن الشيطان لم يدخل الجنّة بعد ترك السجود ، بل كان في فناء الجنّة فحصلت مكالمة بينه وبين آدم في هذا المكان.

١٩٣

روى الصدوق عن أبي جعفر عن آبائه عن علي (عليهم‌السلام) عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «إنما كان لبث آدم وحواء في الجنّة حتّى أخرجا منها سبع ساعات من أيام الدنيا حتّى أهبطهما الله من يومهما».

أقول : تقدم في الحديث السابق أن زمان الاستقرار في الجنّة كان ست ساعات ، ولا تنافي بينهما إذ الحصر ليس حقيقيا حتّى يحصل التنافي ، بل هو إضافي وتقريبي.

في تفسير العسكري : «كان إبليس بين لحيي الحية أدخلته الجنّة وكان آدم يظن أن الحية هي التي تخاطبه ولم يعلم أن إبليس قد اختفى بين لحييها ، فرد آدم على الحية أيتها الحية هذا من غرور إبليس ـ الحديث ـ».

أقول : وفي رواية أخرى الطاووس ، وكيف كان فقد ذكر الثعبان من حيوانات جنّة آدم في التوراة في قضية الهبوط ، ولعل هذا الحديث وأمثاله مع هذا التعبير مأخوذ منها. وقد ذكرنا سابقا أن إبليس كان يرى آدم ويتكلمان مشافهة فلا معنى للاختفاء والاستتار.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : «اهبطوا بعضكم لبعض عدو فهبط آدم على الصفا ، وإنما سميت الصفا ، لأن صفوة الله نزل عليها ونزلت حواء على المروة ، وإنما سميت المروة لأن المرأة نزلت عليها».

أقول : الروايات مختلفة في محل هبوط آدم وحواء ولا ريب ولا إشكال في أن بعد الهبوط الأول كانت منازل متعددة ، فيمكن الجمع بين تلك الروايات بجعل كل منزل مهبطا له فيكون الهبوط طوليا لا عرضيا.

وفي الإحتجاج : «في احتجاج علي (عليه‌السلام) مع الشامي حين سأله : عن أكرم واد على وجه الأرض؟ فقال : واد يقال له سرنديب سقط فيه آدم (عليه‌السلام) من السماء».

أقول : ظهر وجهه مما تقدم في الحديث السابق.

١٩٤

في الكافي عن أحدهما (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل («فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) قال : لا إله إلّا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوء وظلمت نفسي فاغفر لي وأنت خير الغافرين. لا إله إلّا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوء وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني وأنت خير الراحمين. لا إله إلّا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوء وظلمت نفسي فاغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم».

أقول : وفي مثل هذا المعنى روايات أخرى مستفيضة عن الخاصة والعامة ، وجميع ذلك من باب التطبيق للآية المباركة ، ولقوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها).

وروى الصدوق في قول الله عزوجل : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ). قال : «سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين».

أقول : ونحو ذلك أخبار أخرى كثيرة ، وتقدم أنه من باب التطبيق على كل ما يمكن أن يتقرب به إلى الله تعالى.

وعن ابن عباس في رواية سعيد بن جبير قال : «سألت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه. قال : سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت عليّ فتاب عليه».

وفي الدر المنثور عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه الى السماء فقال : أسألك بحق محمد إلّا غفرت لي ، فأوحى الله اليه ومن محمد؟ قال : تبارك اسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلّا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنه ليس أحد عندك أعظم قدرا ممن جعلت اسمه مع اسمك. فأوحى الله اليه : يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك».

أقول : ذيل الحديث منقول من الفريقين ، ومر في روايات كثيرة كما تقدم بعضها.

١٩٥

بحث كلامي :

أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء والرسل (عليهم‌السلام) من الكفر مطلقا ، ولكنهم اختلفوا في بعض الصغريات. وعمدة الأقوال ثلاثة :

الأول : القول بالعصمة مطلقا من جميع الذنوب ، وفي جميع الحالات وهذا هو مذهب الإمامية.

الثاني : القول بالعصمة من الكبائر مطلقا ، وأما الصغائر فإنها جائزة عليهم سهوا. وهذا هو مذهب المعتزلة.

الثالث : القول بالعصمة عن الكبائر عمدا ، ولكنها جائزة عليهم سهوا ، وهذا هو مذهب الأشاعرة. وهناك أقوال أخرى نادرة أجمع المسلمون على بطلانها.

ولم يستدل أصحاب هذين القولين بدليل يصح الاعتماد عليه إلّا ما ورد في القرآن الكريم مما يوهم ظاهره نسبة الظلم والمعصية إلى بعض الأنبياء (عليهم‌السلام) ، وسيأتي أنه ليس على ظاهره ولا بد من تأويله.

والرأي المناسب لمقام النبوة والرسالة هو القول بعصمتهم مطلقا ـ كما ذهب اليه الإمامية ـ من جميع الذنوب كبائرها وصغائرها ، عمدا وسهوا قبل البعثة وبعدها. وقبل أن نذكر الأدلة لا بد من بيان معنى العصمة على سبيل الإيجاز ، والتفصيل موكول الى محله.

العصمة : بمعنى المنع والإمساك يقال : عصم عن الشيء أي منعه وأمسكه. ومنه قوله تعالى حكاية عن ابن نوح : (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [سورة هود ، الآية : ٤٣] أي : يمنعني منه. والمعصوم هو الممنوع عن فعل المعصية بلا إلجاء واضطرار حتّى ينافي الإختيار ، وإلّا كان العادل أحسن من المعصوم وبعبارة أخرى : إنها عناية خاصة ، وتوفيق من الله تعالى لبعض عباده ، لعلمه الأزلي بصفاء طينتهم وجوهرهم من دون أن يكون ذلك من العلة التامة كسائر عناياته وتوفيقاته عزوجل بالنسبة إلى عباده ، فقد يوفق عبدا لصلاة الليل مثلا ، أو فعل

١٩٦

الخيرات ، وقضاء الحاجات أو الاتصاف بالأخلاق الفاضلة ونحو ذلك ، لا على وجه القهر والإلجاء والضرورة ، بل على نحو إيجاد الداعي إليها.

ثم إنهم استدلوا بأدلة كثيرة على عصمتهم مطلقا لا يخلو بعضها عن المناقشة ، أو رجوع بعضها إلى الآخر. وأحسن تلك الأدلة أمران :

(الأول) : أن حجية القول والفعل والتقرير ـ كما هو المفروض ـ تنافي ارتكاب المنهي عنه عند الله تعالى وعند العباد فيكون ذلك خلقا باطلا بالضرورة.

بيان ذلك : إن العبد إذا كان يرى نفسه حاضرا بين يدي المولى ويحس بشهوده ظاهرا وباطنا كيف تصدر عنه المعصية وهو في هذه الحالة في غيبة منه؟! ورسل الله تعالى يدركون بصفاء طينتهم أنّهم دائما في حضرة القدس يرون مظاهر جماله وجلاله وآثار حكمته ورحمته فلا يخطر في بالهم حالة أنهم في غيبة عن الله تعالى فيها. وهذا معنى ما ورد في أحاديثنا : «إن المعصوم مع القرآن والقرآن معه» فإن المراد بالمعية هي المعية الحضورية الالتفاتية العملية. كما أن المراد بالقرآن جميع الشرائع الإلهية بالنسبة إلى الأنبياء السابقين.

هذا مضافا إلى أن صدور المعصية يوجب تنفر الطباع منهم ، ويصغر شأنهم في أعين الناس ، ويسهل اعتراضهم عليهم مما ينافي حكمة بعث الأنبياء والرسل (عليهم‌السلام) ، بلا فرق بين صدور المعصية قبل البعثة أو بعدها ، كما هو المشاهد في من وصل إلى مرتبة من العدالة.

(الثاني) : الآيات القرآنية الدالة على طهرهم وقداستهم وتأييدهم بروح القدس ، واتصافهم بجميع الأخلاق الفاضلة مما يجعلهم القدوة الحسنة والمثل الأعلى لجميع الناس ، قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [سورة الأنعام ، الآية : ٩٠] ، وقال تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٧٢] ، وقال تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) [سورة الأنبياء ، الآية : ٩٠] إلى غير ذلك من

١٩٧

الآيات المباركة.

وبناء على ما تقدم لا بد من تأويل ما ورد في القرآن الكريم والسنة الشريفة مما يوهم ظاهره خلاف العصمة ، وسيأتي ذلك في مواضعه.

فقد ذكرنا أن ما ورد في آدم (عليه‌السلام) كقوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) لا يدل على صدور المعصية منه ، كما أن قوله تعالى : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) ظاهره الظلم على نفسه بوقوعه في مشقة الدنيا لا الدخول في النار.

وأما قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [سورة طه ، الآية : ١٢١] فإنه ليس المراد منه صدور العصيان والغواية منه (عليه‌السلام) ، بل إن لنفس استعمال هذه الألفاظ موضوعية خاصة ، فإن مقام آدم (عليه‌السلام) الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وعلّمه الأسماء وأسجد له الملائكة وأسكنه الجنّة ربما يوجب في نفسه بعض الخطرات المنافية لمقامه (عليه‌السلام) فعصمه الله تعالى بذلك ، وقد يوجب ذلك كله غلو ذريته فيه فيعبدونه فأذهب الله تعالى عنهم ذلك الغلو بما تقدم من الألفاظ.

وكذا قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [سورة طه ، الآية : ١١٥] ، فإن عهود الله تعالى ومواثيقه على الأنبياء والمرسلين على قسمين : عهد عام بالنسبة إلى جميع الأنبياء والمرسلين ، قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) [سورة آل عمران ، الآية : ٨١] ، وكذا قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٧]. وعهد خاص بكل نبي حسب الظروف والخصوصيات الزمانية والمكانية التي تحيط بذلك النبي ، والمائز بين القسمين هو القرائن وما يستفاد من السنّة المعتبرة الواردة في حالات الأنبياء (عليهم‌السلام).

والظاهر في المقام هو الثاني ، لأنّ ترك العزم بالنسبة إلى الميثاق العام لا يعقل ، فإنه خلف مع فرض النبوة. نعم هو معقول بالنسبة إلى العهود الخاصة

١٩٨

الظاهرة في الإرشاد ، كما في المقام.

بحث فلسفي

صريح الكتب السماوية وفي مقدمتها القرآن العظيم وجميع الفلاسفة الإلهيين من المسلمين وغيرهم على بديع صنع الله في الإنسان وأنه مخلوق حادث خلقه الله تعالى من الطين بهذه الهيئة المتميزة عن سائر المخلوقات استقلالا من دون أن يكون مرتقيا من مخلوق آخر ـ نباتا أو حيوانا ـ وتقتضي ذلك قاعدة «إمكان الأشرف» التي أسسها الفلاسفة في سلسلة الخليقة ، فإن أقرب الموجودات إليه تعالى وأشرفها لديه لا بد وأن يقع في سلسلة الفيوضات الإلهية الأول فالأول عند نزول الفيض منه عزوجل حتّى يصل المستفيض إلى أدنى مرتبة الحضيض ، إذ لا ريب في أنه تعالى كامل بذاته وصفاته وفعله فلا يتصور نقص في جهة من جهاته عزوجل.

وما يتوهم من النقص في الأفعال يرجع إلى أمرين :

أحدهما ـ عام للجميع ، وهو الإمكان ، والاحتياج ، فإنّ ما سواه ممكن محتاج إليه عزوجل.

والثاني : من خصوصيات أفراد الممكنات ، ومقتضى تمامية فعله تعالى أن يكون أول مخلوقاته أشرفها ثم بعد ذلك الأشرف فالأشرف في سلسلة الأنواع الكلية التي يكون نوعها منحصرا في الفرد حتّى يصل الخلق إلى الماديات التي هي منشأ التكثر والانتشار.

إن قلت : نعم قاعدة «إمكان الأشرف» متفق عليها بين الفلاسفة ـ المسلمين منهم واليونانيين ـ وتقتضيها جملة من الأدلة النقلية أيضا ولكنها مخالفة لظاهر الآية المباركة (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [سورة البقرة ، الآية : ٣١] ، وظاهر جميع الكتب السماوية من خلق الدنيا ـ والمسميات ـ في الجملة قبل خلق آدم (عليه‌السلام) كما عرفت في البحث الروائي السابق.

قلت : مورد القاعدة إنما هو فيما إذا كانت السلسلة واحدة ففي سلسلة

١٩٩

المجردات والروحانيين أول ما خلق الله العقل ، ثم الأشرف فالأشرف حتّى يصل إلى آدم (عليه‌السلام) ، وفي سلسلة الماديات والأعراض يكون الأشرف فالأشرف أشياء أخرى تقدم بعضها في تفسير سورة الحمد في قوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ). ويمكن أن تكون السلسلة الأخيرة متقدمة من بعض الجهات على بعض أفراد السلسلة الأولى ، إذ لا تنافي في ذلك.

وتوهم : أن أصل القاعدة إنما يتم بناء على لزوم السنخية بينه جل شأنه وبين خلقه ، وقد أبطلتها الشرائع المقدسة فلا موضوع لقاعدة «إمكان الأشرف» أصلا.

غير صحيح ، لأنه لا ربط للسنخية بهذه القاعدة أبدا لما أثبتناه في الفلسفة الإلهية من أنّ السنخية على فرض اعتبارها إنما هي في الفاعل الموجب لا في الفاعل المختار ، والأئمة الهداة (عليهم‌السلام) جعلوا إرادته تعالى عين فعله حتّى لا يلزم توهم هذه المحاذير.

فاحتمال تطور الإنسان عن ذي حياة آخر فاسد كما عرفت ، هذا كله في فعل الله عزوجل.

وأما فعل المخلوق أي سلسلة استكمال المفاض عليه ، يكون الأمر بالعكس فيتعلق الخلق بالداني أولا ثم يترقى إلى مرتبة الكمال لفرض أنه مستكمل بغيره مطلقا ، قال تعالى : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ١٤] وللبحث تتميم يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

ولكن ذكر بعض الفلاسفة الطبيعيين استنادا الى قانون العلية في الأمور الطبيعية ، وأنّ كل حادث طبيعي لا بد أن يستند إلى سبب طبيعي كذلك ، وقد تفرع عن هذا القانون الأصل المنسوب إلى داروين القائل بالنشوء والارتقاء والتكامل وبقاء الأصلح ، فقد ذكر أن الإنسان لم يصل إلى هذه المرحلة الفعلية من الكمال إلّا بانتقاله من المراتب الدانية ، وأنّ في مسيره هذا قد رأى من التحولات والتبدلات الكثيرة التي نتج منها القضاء على الفرد

٢٠٠