مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

الكون بعلمه ولم يخلق الله تعالى العالم إلّا له ، كما يأتي ذلك في الآيات الكثيرة ؛ فمبدأ الخلق إنما هو من العلم وغايته للعلم وتدبيره إنما هو بالعلم ، فالجهل والجهلاء بمعزل عن مبدإ الخلق وغايته وتدبيره ويكون كالجزء الفاسد من العالم ، ويأتي شرح هذا العلم وتفصيله في الآيات المستقبلة إن شاء الله تعالى.

ومن هذه الآيات المباركة يستفاد فضل آدم (عليه‌السلام) على الملائكة ، لأن الله تعالى جعله معلما للملائكة وفضل المعلم على المتعلم واضح.

وتعليم الأسماء لآدم (عليه‌السلام) بمنزلة كتاب سماوي أنزله الله تعالى على آدم (عليه‌السلام) وبه تحدى الملائكة فأظهروا العجز والقصور ، كما جعل الكلام العربي معجزة لنبيّنا الأعظم محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، ويأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

ويمكن أن يستفاد من الآيات الشريفة أن هذه المحاورة إنما كانت بين الله تعالى وبين ملائكة الأرض الذين وكّلوا في شؤونها ، وكان قد خفي عليهم وجه الحكمة في خلق آدم (عليه‌السلام) دون غيرهم من ملائكة السماء وعظمائها كالكروبيين وحملة العرش ، وإن كان الإطلاق يقتضي ذلك إلّا أن الإعتبار يقتضي الأول ، كما سيأتي في البحث الروائي فإن المراجعة إنما كانت في الأرض ، لا في السماء وإنّ آدم (عليه‌السلام) خليفة الله خلق من الأرض ـ لأنه من طين ومن حمإ مسنون ـ وفي الأرض لأنه خليفة الله في الأرض وللأرض كما هو شأن جميع الأنبياء والرسل ، فلا وجه لتوهم كون الخلق في السماء إلّا قوله تعالى : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) وبعض الأخبار ، وسيأتي ما يتعلق بذلك.

بحث روائي :

في تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام): «ما علم الملائكة بقولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ لو لا أنهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء».

١٦١

أقول : يستفاد من هذه الأخبار أن علم الملائكة ليس من علم الغيب ، بل حاصل من المدارك الجزئية الخارجية ، وأما أن مداركهم الجزئية كعين مداركنا الجسمانية ففيه تفصيل يأتي بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

وفي التفسير عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها). ما هي؟ قال (عليه‌السلام) أسماء الأودية والنبات والشجر والجبال من الأرض».

وفيه عنه (عليه‌السلام) أيضا في قول الله عزوجل : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها). ما ذا علمه؟ قال : الأرضين والجبال ، والشعاب والأودية ، ثم نظر إلى بساط تحته. فقال : وهذا البساط مما علمه».

وفي التفسير أيضا عن داود بن سرحان قال : «كنت عند أبي عبد الله (عليه‌السلام) فدعا بالخوان فتغدينا ، ثم دعا بالطشت والدستشان (أي : محل غسل اليد) فقلت : جعلت فداك قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) الطست والدستشان منه؟ فقال (عليه‌السلام) الفجاج والأودية وأهوى بيده كذا وكذا».

وفي تفسير العسكري عن السجاد (عليه‌السلام): «علمه أسماء كل شيء».

أقول : الأمثلة التي ذكرها (عليه‌السلام) من باب المثال لما كان موجودا في زمان آدم (عليه‌السلام) ، لا الحصر.

وفي المعاني عن الصادق (عليه‌السلام): «ان الله عزوجل علّم آدم (عليه‌السلام) أسماء حججه (عليهم‌السلام) كلها ، ثم عرضهم وهم أرواح على الملائكة».

أقول : يظهر من هذا الحديث كجملة من الأحاديث المستفيضة أن الأرواح سابقة على الأجسام ؛ وفي الحديث المعروف بين الفريقين عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام». ومن ذهب الى أرباب الأنواع ، أو المثل الأفلاطونية فإن أراد بقوله مثل

١٦٢

ما ذكره (عليه‌السلام) في هذا الحديث فلا بأس به ، وان أراد به غير ذلك فلا بد في إثباته من الرجوع إلى أدلتهم المذكورة في الفلسفة الإلهية والتأمل فيها.

وفي تفسير العياشي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لما أن خلق الله آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له ، فقالت الملائكة في أنفسها : ما كنّا نظن أن الله خلق خلقا أكرم عليه منا فنحن جيرانه ونحن أقرب الخلق اليه. فقال الله : ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ، فيما أبدوا من أمر الجان ، وكتموا ما في أنفسهم فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش».

ومثله عن علي بن الحسين وزاد فيه «فلما عرفت الملائكة أنها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش ، وأنها كانت من عصابة من الملائكة ـ وهم الذين كانوا حول العرش لم يكن جميع الملائكة ـ الى أن قال (عليه‌السلام) : فهم يلوذون حول العرش الى يوم القيامة».

أقول : تقدم في البحث الدلالي ما يدل على ذلك.

وفي العلل عن الصادق (عليه‌السلام): «أنّه سئل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أخبرني عن آدم لم سمي آدم؟ قال : لأنه خلق من طين الأرض وأديمها».

أقول : تقدم ما يدل على ذلك.

ثم إنّ في المقام بحثين آخرين ـ أحدهما : بحث خلقة آدم (عليه‌السلام) وقد بينه تعالى في جميع الكتب السماوية خصوصا القرآن بيانا وافيا لهذا الخلق العجيب ، ثم شرحته السنّة المقدسة شرحا وافيا وطريق العلم به منحصر بهما ، لقصور ما سواهما مطلقا عن درك ذلك لأنه من الغيب المختص علمه به تعالى وإظهاره يكون بإخباره عزوجل.

ثانيهما : بحث الطينة والميثاق ، وتعرض له المفسرون والمحدثون من العامة والخاصة عند قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ

١٦٣

ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٢] والأخبار في ذلك كثيرة من الفريقين ، وهو أيضا من الغيب المختص به عزوجل ، ولا بد أن يكون العلم به من ناحيته تعالى بلا واسطة ، أو بواسطة أنبيائه وأوليائه تعالى ، وقد وردت الأخبار في ذلك عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة الهداة (عليهم‌السلام).

والطينة الواردة في السنّة الشريفة على قسمين :

الأول : ما كانت علة تامة منحصرة لكون مآلها إلى الجنّة بلا دخل للتكليف والإختيار فيها أصلا ، أو كون مآلها الى النار كذلك.

الثاني : ما كانت مقتضية لذلك مع دخل شرائط أخرى في كل منهما حتّى تصير إلى الجنّة أو النار. ولا بد من حمل جميع ما وردت في الطينة من الأخبار على القسم الثاني ، دون الأول ، لظواهر الكتاب ـ على ما يأتي ـ والسنّة ، وأدلة عقلية نشير إليها في محالها إن شاء الله تعالى.

بحث اجتماعي :

من أعظم ما أنعم الله تعالى على الإنسان نعمة البيان والنطق فقال عزوجل في مقام الامتنان عليه : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [سورة الرحمن ، الآية : ٢] فلو لا اللغة والبيان لم يتحقق للإنسان اجتماع ولاختل أساس التشريع ، وبالأخرة لم يقم له نظام الدنيا والآخرة ؛ فلا يمكن تحديد هذه النعمة بحد ، ويكفي في ذلك قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) [سورة الروم ، الآية : ٢٢] حيث جعل تعالى اختلاف الألسنة من الآيات.

والكلام في اللغة يكون من جهات متعددة ففيها التاريخية ، والأدبية والعلمية ، والاجتماعية وغير ذلك ، وقد وضع العلماء لكل واحدة من تلك الجهات كتبا كثيرة.

والذي يهمنا في المقام هو ما يستفاد من قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ

١٦٤

الْأَسْماءَ كُلَّها) في نشأة اللغة عند الإنسان بعد معلومية انتهائها إلى الله عزوجل ، فإنه المفيض عليهم هذه النعمة ـ كما في سائر نعمه عزوجل ـ بإلهام منه تعالى مباشرة ، أو بالتعليم.

والوجوه المحتملة كثيرة وقال بكل منها جمع وهي :

الأول : أنّها كانت من مجرد أصوات ذات دلالات وضعية فقط فتعدت عن تلك المرتبة بالتكرار حتّى وصلت إلى مرتبة الدلالة الاستعمالية فصارت ألفاظا خاصة كاشفة عن معان مخصوصة.

الثاني : أنّها كانت من ألفاظ ذات دلالات وضعية منشؤها الفطرة الإنسانية ، كالألفاظ التي يستعملها الصبي غير المميز ، أو تستعمل له فتعدت بكثرة الاستعمال عن تلك المرتبة إلى المرتبة الكاملة ، كما هو مقتضى السير التكاملي في كل شيء. ولا يخفى بعد هذين الوجهين عن الآية الكريمة ، مضافا إلى ما فيهما من التعسف.

الثالث : أنّها مركبة من الوجهين في بدو الأمر ؛ فحصل التكامل بما يحصل التكامل في سائر الأشياء. ويرد عليه ما أورد على الوجهين السابقين.

الرابع : أنّها حصلت أصولها بتعليم الله تعالى ، والبقية بنحو ما مر.

الخامس : أنّها حصلت جميعها بتعليم الله عزوجل لآدم فانتشرت في ذريته بحسب مقتضيات الأزمنة والأمكنة.

والوجه الأخير وإن كان يلائم المستفاد من الآية الكريمة ، وبعض الأخبار التي تقدم ذكرها في البحث الروائي. فإن الجمع المحلى باللام المفيد للعموم في «الأسماء» وتأكيده بلفظ «كل» الواقعين في الآية الكريمة يشملان جميع الأسماء الواقعة في سلسلة الزمان إلى انقراض العالم ، وفي جميع اللغات واللهجات ، وقد أحاط بها آدم (عليه‌السلام) إحاطة فعلية.

وهو وإن لم يكن من قدرة الله تعالى ببعيد ، ولكنه مشكل جدا وبعيد من الأذهان ، ولو كان الأمر كذلك لكانت معجزة آدم (عليه‌السلام) أجلى وأرفع من معجزات جميع الأنبياء.

١٦٥

فالحق أن يقال : إنّ المراد من الجمع والتأكيد الإضافي منهما أي ما كان في عصر خلق آدم (عليه‌السلام) ، وما كان مورد احتياجه في مدة حياته ثم بعد ذلك استحدثت لغات ولهجات وألفاظ بالجعل والوضع تخصيصا أو تخصصا ، وهذا هو الذي يمكن استفادته من مجموع الروايات بعد رد بعضها إلى بعض ، وهو قريب من الأذهان ، وبه يمكن الجمع بين بعض الوجوه المتقدمة.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤))

بعد أن جعل الله تعالى آدم (عليه‌السلام) خليفة له ، وبيّن فضله بما علّمه وجعله معلما لملائكته أمرهم بالسجود له ، وهذه فضيلة أخرى لآدم (عليه‌السلام).

التفسير

السجود هو التذلل والخضوع ، وفي الشريعة وضع الجبهة على الأرض خضوعا لله تعالى ، وبينه وبين المعنى اللغوي جامع قريب في التذلل. وهو تارة اختياري تعبدي على الوجه المعروف لدى المسلمين يوجب الثواب على الموافقة والعقاب على المخالفة ، كقوله تعالى : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) [سورة النجم ، الآية : ٦٢]. وأخرى : تسخيري تكويني. كسجود المخلوقات كما في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [سورة الرعد ، الآية : ١٥].

ومادة (بلس) سواء أكانت عربية أم معربة تدل على الحزن العارض من شدة اليأس ، ويلازمه اليأس من الروح والراحة. قال تعالى : (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ٤٤] ولعل حزن إبليس الدائم. ويأسه الأبدي حصل من قوله تعالى : (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) [سورة الحجر ، الآية : ٣٤] فإن الرجم واللعن الأبدي من منبع الجود والرحمة من المبغوضات لكل ذي شعور.

١٦٦

والإباء : شدة الامتناع ، إذ كل إباء امتناع ، دون العكس ، وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «كلكم في الجنّة إلّا من أبى».

والكبر والاستكبار والتكبر هو الإعجاب بالنفس ، وهو على قسمين : مذموم ـ كأن يظهر الشخص من نفسه ما ليس له ، ويكون من أقبح القبائح إذا كان على الله تعالى ـ وممدوح ـ وهو ما إذا جهد الشخص أن يصير كبيرا في ما أذن الله تعالى فيه ورضي به. وكلا القسمين وردا في القرآن.

فمن الأول قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٤٠] ، وقوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١٧٣] إلى غير ذلك من الآيات.

ومن الثاني مفهوم قوله تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٦] ، ومثله قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [سورة الأحقاف ، الآية : ٢٠] ، ويشهد له قوله تعالى : (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) [سورة الحشر ، الآية : ٢٣]. فالمراد منه أنه تعالى فوق ما سواه من كل جهة فيكون تكبره جلّ شأنه كعزته وجماله ، وحينئذ يكون من قبيل صيغ المبالغة أي : أنه تعالى في غاية الكبرياء والعظمة بحيث لا يدرك ذلك فيكون إطلاق المتكبر عليه وصفيا انطباقيا. ومن السنّة فكثيرة منها قولهم (عليهم‌السلام) : «إنّ الله أذن للمؤمن في كل شيء ولم يأذن له أن يذل نفسه» وغير ذلك من الروايات.

ثم إنّ سجود الملائكة لآدم (عليه‌السلام) يتصور على وجوه :

الأول : أن يكون السجود شكرا لله تعالى لهذه النعمة العظمى بعد أن عرفوا منزلة آدم (عليه‌السلام) فينطبق عليه التهنئة لآدم (عليه‌السلام) قهرا.

الثاني : أن يكون السجود الشكر لله تعالى مع قصد التهنئة تبعا لشكره تعالى.

الثالث : السجود لله محضا وجعل آدم (عليه‌السلام) قبلة ، كما نسجد

١٦٧

شكرا لله تعالى إلى القبلة.

الرابع : السجود الحقيقي لآدم في مقابل السجود لله تعالى.

الخامس : السجود لله تعالى فقط وجعل ذلك من الضميمة الخارجية الراجحة كالصّلاة في المسجد مثلا. هذه هي الاحتمالات الثبوتية.

وأما في مقام الإثبات فقد دل الدليل العقلي والنقلي على أن السجود غاية التذلل والخشوع ، ولا يكون إلّا لمن هو في غاية العظمة والجلال وبناء على هذا يتعين الوجه الأخير.

ويمكن أن يقال : إنه بعد أمره تعالى بالسجود لآدم (عليه‌السلام) يسقط جميع تلك الاحتمالات ، إلّا الوجه الرابع ، لظهور الآية المباركة فيه.

ولكن يجاب عنه بأن ظهور الآية في ذلك الوجه ممنوع بعد وجود تلك الاحتمالات ، خصوصا بعد ورود الرواية على أنه كان من سجدة الشكر لله تعالى.

ومن ذلك يظهر أنه لا وجه لما يقال من أنّ السجود عبادة ذاتية فلا يصلح إلّا لمن هو معبود بالذات.

فإنه يرد عليه أولا : أنه لا وجه لكونه عبادة ذاتية وإلّا لما أضر به الرياء ، لأن الذاتي لا يختلف ولا يتخلف ، مع اتفاق فقهاء المسلمين وظهور نصوصهم في أن كل عبادة أتي بها رياء تكون باطلة ، بل يأثم فاعلها وهو شامل للسجدة رياء. نعم لا ريب في أنه يغاير سائر العبادات في اعتبار قصد القربة شرطا زائدا على قصد أصل ذاتها ؛ وله نظائر كثيرة ـ كقراءة القرآن والدعاء ونحو ذلك ـ وقد أثبتنا ذلك في الفقه فيكون قصد الرياء مانعا عن تحقق العبادة ، لا أن يكون قصد القربة شرطا لتحققها ، لأن العمل بذاته مقتض لذل العبودية ما لم يكن مانع في البين.

وثانيا : بعد أن أذن الله تعالى وأمر بالسجود لا فرق بين كونه عبادة ذاتية أو قصدية ، لأن الذاتية ـ على فرضها ـ اقتضائية لا منطقية غير قابلة للتخلف ، هذا بحسب الاحتمال. وأما الروايات فهي مختلفة وسيأتي نقلها في

١٦٨

البحث الروائي.

هذا ويمكن أن نقول بأنّ سجود الملائكة لآدم (عليه‌السلام) يكون كاشفا عن تسخير الله تعالى أشرف مخلوقاته له وهم الملائكة الذين جعلهم الله تعالى حفظة للإنسان ، ووكّلهم في شؤون الأرض فيكون تسخير غيرهم لآدم (عليه‌السلام) بالأولى ، وسيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ). المراد بالملائكة هنا جميعهم لوجود القرينة على التعميم في قوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [سورة الحجر ، الآية : ٣٠] وهذه الآية كسابقتها تبين فضل آدم (عليه‌السلام) على غيره ، فإن السجود ـ سواء كان حقيقيا أو لم يكن كذلك ـ يستلزم أفضلية المسجود له من الساجد.

ثم إنّ للعلماء والمفسرين كلاما في حقيقة إبليس. فعن جمع إنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن اتصف ببعض صفات الملائكة واستدلوا بقوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [سورة الكهف ، الآية : ٥٠] وأنه تعالى بيّن حقيقته في ما حكاه الله تعالى عنه : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٢] وحينئذ يكون الاستثناء منقطعا.

وعن جمع آخرين أنه كان من الملائكة وتمسكوا بظاهر الآية فإنه كان مشمولا لأمره تعالى للملائكة بالسجود فيكون الاستثناء متصلا.

والصحيح أن يقال : إنه لا ريب في مباينة إبليس مع الملائكة وشموله للأمر لا يستدعي كونه منهم ، فإنه ذات خبيث مفسد لأحد لفساده دلّس على الملائكة الروحانيين حتّى ظنوا أنه منهم.

وقد اقتضت الحكمة الإلهية في خلقه لمصالح ليس في وسع البشر دركها ـ كما في سائر ما خلقها الله تعالى ـ ولعله منها أنه أحد طرفي الإختيار في الإنسان ، فإن الله يدعو إلى الجنّة والمغفرة وهو يدعو إلى النار والإنسان بينهما فإن شاء نبى دعوة الله وإن شاء لبى دعوة الشيطان ، وهذا هو الأمر بين الأمرين

١٦٩

الذي أسسه الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) في مقابل الجبر والتفويض ، كما تقدم.

ومنها : أنه بمنزلة الكلب الحاجب يمنع عن وصول غير الأهل الى الحرم الربوبي.

ومن ذلك يعرف أنّ كفر إبليس لم يكن حادثا بعد الامتناع عما أمره الله تعالى ، وتركه للسجود ، فإنّ ظاهر قوله تعالى : (كانَ مِنَ الْكافِرِينَ) والمستفاد من كيفية مخاطبته مع الله تعالى أنّه كان كافرا أظهر الإيمان للملائكة فاعتبروه منهم ، إذ كان مدة من عمره من المتعبدين الساجدين ، كما شرحه أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في بعض خطبه في نهج البلاغة.

وعليه هل يكون كفره كفر جحود ، أو كفر عصيان؟ ظاهر قوله تعالى : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٢] فإنه أعجب بنفسه وأظهر كبره ، وظاهر حلفه في قوله تعالى : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة ص ، الآية : ٨٢] أنّ كفره كفر عصيان ، لا جحود إلّا أن يقال : إنه لا اعتبار بقول من كان ذاته الكذب والخديعة ، وسيأتي في البحث الروائي ما يتعلق بذلك كله.

ثم إنّ الأمر بالسجود في هذه الآية المباركة مطلق ، وفي آية أخرى معلق على النفخ ، كما قال تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [سورة ص ، الآية : ٧٢] ، والمستفاد من مجموع الآيات والروايات أنه لا بد من حمل المطلق على المقيد ، كما هو الشأن في جميع المحاورات ، فلا يكون هنا أمران أحدهما قبل النفخ ، والآخر بعده ويأتي في البحث الروائي ما يناسب ذلك.

وهل كان سجودهم في السموات أو في الأرض؟ يظهر من قول علي (عليه‌السلام) أنه كان في الأرض فإنه قال : «أول بقعة عبد الله عليها ظهر الكوفة لما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم سجدوا على ظهر الكوفة» ، وذلك لا ينافي كون موضع الكعبة مطاف الملائكة من بدء خلقها ، لأنّ الكلام في خصوص السجود.

١٧٠

بحث روائي :

في قصص الأنبياء عن أبي بصير قال : «قلت لأبى عبد الله (عليه‌السلام) سجدت الملائكة ووضعوا جباههم على الأرض؟ قال : نعم تكرمة من الله تعالى».

أقول : هذا يختص بملائكة الأرض ، وأما ملائكة السماء وحملة العرش فلا يعلم كيفية سجودهم ، ولا يستفاد من هذا الحديث ذلك.

وفي تحف العقول عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «إنّ السجود من الملائكة لآدم إنّما كان ذلك طاعة لله ، ومحبة منهم لآدم».

أقول : تقدم وجه ذلك.

وفي الإحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم‌السلام): «إنّ يهوديا سأل أمير المؤمنين (عليه‌السلام) عن معجزات النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في مقابلة معجزات الأنبياء (عليهم‌السلام) فقال : هذا آدم أسجد الله له الملائكة فهل فعل بمحمد شيئا من هذا؟ فقال علي (عليه‌السلام) : لقد كان ذلك ، ولكن أسجد الله لآدم الملائكة ، فإن سجودهم لم يكن سجود طاعة أنّهم عبدوا آدم من دون الله عزوجل ، ولكن اعترافا لآدم بالفضيلة ، ورحمة من الله له».

أقول : هذه الرواية ظاهرة في أنّ السجود كان لله تعالى ، ومحبة لآدم (عليه‌السلام) كسابقه فقوله (عليه‌السلام): «أنّهم عبدوا آدم» مدخول النفي أي لم يكونوا كذلك.

العياشي عن جميل بن دراج قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن إبليس أكان من الملائكة ، أو كان يلي شيئا من أمر السماء؟ فقال (عليه‌السلام) : لم يكن من الملائكة وكانت الملائكة ترى أنه منها ، وكان الله يعلم أنه ليس منها ، ولم يكن يلي شيئا من أمر السماء ، ولا كرامة ، فأتيت الطيار فأخبرته بما سمعت فأنكر. وقال كيف لا يكون من الملائكة؟ والله يقول للملائكة : (اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ). فدخل عليه الطيار فسأله وأنا

١٧١

عنده فقال له : جعلت فداك قول الله عزوجل : يا أيّها الذين آمنوا في غير مكان في مخاطبة المؤمنين أيدخل في هذه المنافقون؟ فقال (عليه‌السلام): نعم يدخلون في هذه المنافقون والضلّال ، وكل من أقر بالدعوة الظاهرة».

أقول : تقدم ما يتعلق به ، وهذا الحديث شاهد للجمع بين ما يظهر منه أن إبليس كان من الملائكة ، وما يكون ظاهرا أنه ليس منهم.

وفيه أيضا عن جميل بن دراج عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «سألته عن إبليس أكان من الملائكة أو هل كان يلي شيئا من أمر السماء؟ قال (عليه‌السلام) : لم يكن من الملائكة ، ولم يكن يلي شيئا من أمر السماء ، وكان مع الملائكة وكانت الملائكة ترى أنه منها ، وكان الله يعلم أنّه ليس منها فلما أمر بالسجود كان منه الذي كان».

وفي تفسير القمي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في حديث «فقيل له : كيف وقع الأمر على إبليس ، وإنما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم؟ فقال (عليه‌السلام) : كان إبليس منهم بالولاء ، ولم يكن من جنس الملائكة ، وذلك أنّ الله خلق خلقا قبل آدم وكان إبليس فيهم حاكما في الأرض فعتوا وأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث الله الملائكة فقتلوهم وأسروا إبليس ورفعوه إلى السماء وكان مع الملائكة يعبد الله إلى أن خلق الله تبارك وتعالى آدم».

وفي الكافي سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام): «عن الكفر والشرك أيهما أقدم؟ فقال (عليه‌السلام) الكفر أقدم ، وذلك أن إبليس أول من كفر وكان كفره غير شرك ، لأنه لم يدع إلى عبادة غير الله ، وإنما دعا إلى ذلك بعد فأشرك».

وفيه أيضا عن موسى بن بكر الواسطي قال : «سألت أبا الحسن موسى (عليه‌السلام) عن الكفر والشرك أيهما أقدم؟ فقال (عليه‌السلام) : ما عهدي بك تخاصم الناس؟! قلت : أمرني هشام بن الحكم أن أسألك عن ذلك. فقال لي : الكفر أقدم وهو الجحود ، قال الله تعالى لإبليس : أبى واستكبر وكان من الكافرين».

أقول : تقدم ما يصلح لشرح ذلك ، والمراد من قوله : «وهو الجحود» لا بد

١٧٢

وأن يحمل على جحود الطاعة ، لا جحود أصل الذات.

وفيه أيضا عن أبي بصير قال أبو عبد الله (عليه‌السلام): «إن أول من كفر بالله حيث خلق الله آدم كفر إبليس حيث رد على الله أمره ـ الحديث ـ»

أقول : هذا شاهد لما قلناه آنفا.

القمي : «خلق الله آدم فبقي سنة مصورا ، وكان يمر به إبليس اللعين فيقول : لأمر مّا خلقت. فقال العالم (عليه‌السلام) : فقال إبليس : لئن أمرني الله بالسجود لهذا لعصيته ـ إلى ان قال ـ ثم قال الله تعالى للملائكة : (اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا) ، فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد».

أقول : هذا ظاهر في أمرين : أحدهما : أنه كان بانيا على معصية الله في هذا الموضوع.

الثاني : أنّ السجود لآدم (عليه‌السلام) كان كالمغروس في أذهانهم قبل خلقه في الجملة.

وعنه أيضا عن الصادق (عليه‌السلام): «الاستكبار هو أول معصية عصي الله بها. قال (عليه‌السلام) فقال إبليس : رب اعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، فقال جلّ جلاله : لا حاجة لي في عبادتك ؛ إنما عبادتي من حيث أريد لا من حيث تريد».

أقول : قد دلت الأدلة العقلية والنقلية على أن عبادة المعبود لا بد وأن تكون من حيث ما أراده المعبود دون ما يريده العابد ، فالعبادة : هي فعل ما عيّنه المعبود فقط. وأما ما يخترعه العابد من عند نفسه ، أو لا يعلم أنها مجعولة من قبل المعبود ، فمقتضى القاعدة العقلية ـ وهي قاعدة وجوب دفع الضرر ، خصوصا إذا كان عقابا ـ هو بطلان العبادة ، وعدم صحة نسبة العبادة المشكوكة اليه. فما ذكره إبليس في الحديث باطل من حيث حكم العقل أيضا كسائر خطواته.

في المعاني عن أبي الحسن الرضا (عليه‌السلام): «كان اسمه الحارث

١٧٣

سمي إبليس ، لأنه أبلس من رحمة الله».

أقول : تقدم ما يدل على ذلك.

في الكافي عن أبي الحسن (عليه‌السلام) في حديث : «إن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فزعه أمر فأنزل الله تعالى قرآنا يتأسى به ، وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلّا إبليس أبى ، ثم أوحى الله يا محمد إني أمرت فلم أطع فلا تجزع أنت أمرت فلم تطع».

أقول : هذا من الحكم في خلق إبليس ، وقد تقدم بعض ما يتعلق بذلك.

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))

بعد أن فرغ الله تبارك وتعالى عن بيان بعض الجهات النوعية لخلق الإنسان حيث جعل الخلافة الإلهية فيهم ، وعلّم الخليفة الأسماء كلها وجعله معلما لملائكته شرع عزوجل في بيان بعض الجهات الشخصية لآدم (عليه‌السلام) فأسكنه الجنّة إجلالا له وراحة وامتحنه ببعض التكاليف.

التفسير

قوله تعالى : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ). السكون : مقابل الحركة. وهو من الأمور الإضافية ، فتارة : سكون عن مطلق الحركة ولو في محل نفس الشيء ، فيقال : سكن الماء عن الجريان ، وسكنت النفس عن الحركة ، قال تعالى : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً)

١٧٤

[سورة الأنعام ، الآية : ٩٦]. وأخرى : في مقابل الحركة عن محل إلى آخر ، ومنه المسكن فإن الساكن له الحركة في مسكنه والتردد في حوائجه ، فيطلق على محله المسكن والإسكان ، وثالثة : يراد ترك حركات خاصة ، من التكبر ، والتجبر ، والترف ونحوها ، ومنه قول نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين» فذات المعنى في الجميع واحدة ، والاختلاف يحصل من أطوار الاستعمالات ، وقد استعملت في القرآن ويأتي نقلها إن شاء الله تعالى.

والمستفاد من هذه الآية وسائر الآيات المتضمنة لهذه القصة أن خلق زوجة آدم (عليه‌السلام) كان قبل دخول الجنّة فدخلاها معا إتماما للنعمة التي منها الأنس والاستيناس لا سيما في الجنّة التي أعدت للترفه بكل لذة.

ثم إنّ في المقام بحثين :

الأول قد فصل خلق آدم (عليه‌السلام) في الكتاب والسنة بما لا مزيد عليه وأوضح في الجملة أيضا بما لا يبقى معه محل للارتياب ولكن لم يرد في الكتاب العزيز ما يستفاد منه كيفية خلق زوجته حواء إلّا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [سورة النساء ، الآية : ١] ؛ وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) [سورة الأعراف ، الآية : ١٨٩]. ولعل السر في ذلك أن من أدب القرآن الستر في النساء ، مع أنه يكفي بيان خلق آدم عن ذلك.

وكيف كان فالآيات المتقدمة : مجملة لا يعلم المراد منها. نعم ورد في بعض الأخبار أنها خلقت من ضلع آدم (عليه‌السلام) ، وقد ورد في الحديث : «استوصوا بالنساء خيرا ، فإنهنّ خلقن من ضلع أعوج» ، وسيأتي نقل الأخبار في البحث الروائي.

والوجوه المتصورة في هذه الأخبار ثلاثة : الأول : قطع عضو من آدم (عليه‌السلام) وهو الضلع الأيسر بعد إتمام خلقته ، ونفخ الروح فيه ، وخلق زوجته من هذا العضو المقتطع.

١٧٥

الثاني : نفس الوجه السابق قبل نفخ الروح فيه ، فإنه بعد تمامية الهيئة والمادة قطع العضو وخلق منه زوجته. وهذان الوجهان بعيدان جدا ، وفيهما من القبح ما لا يخفى.

الثالث : أنه بعد خلق آدم (عليه‌السلام) من الطينة فضل منها شيء بحيث لو استعملت في آدم (عليه‌السلام) لكان استعمالها في ضلعه الأيسر ، فكان خلق زوجته من هذه الفضالة فالطينة واحدة فيهما والتبعية متحققة.

والوجه الأخير هو المتحصل مما وصل إلينا من الأخبار في تفسير الآيات الشريفة ، وهو الموافق للذوق السليم ، والعقل المستقيم. ويمكن أن يراد من قوله تعالى : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [سورة الأعراف ، الآية : ١٨٩] ذلك ولا ينافي ما اخترناه في الآيتين المتقدمتين ، لأن المستفاد مطلق المشابهة الجنسية بعد ملاحظة جميع الآيات ، فإن قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) [سورة الروم ، الآية : ٢١] قرينة لما ذكرناه وسيأتي في البحث الروائي ما ينفع في المقام.

البحث الثاني : في جنة آدم (عليه‌السلام) وقد اختلفت آراء العلماء والمفسرين فيها ، وعمدة الأقوال ثلاثة :

القول الأول : إنّها جنّة الخلد التي أعدها الله للمؤمنين في الآخرة واستدلوا بأنها ذكرت في الآيات السابقة ، وظواهر بعض الأخبار.

وهذا القول ممتنع ، لأنه من قبيل تقديم المعلول على العلة ، لأن نعيم الجنة ، وعذاب الجحيم إنما يحصلان بالعمل كما هو ظاهر الآيات والأحاديث ، بل إن الجنّة والنار قيعان محض وإنما تعمران بالأعمال كما في الحديث ، ولم يصدر من آدم (عليه‌السلام) وحواء عمل بعد حتّى تكون لهما جنة الآخرة. مع أن مجرد الإطلاق لا يكفي في الانطباق على جنة الخلد ما لم تكن قرينة على الخلاف إلّا إذا أرادوا من جنّة الخلد ما يأتي بيانه.

القول الثاني : إنّها من جنان البرزخ وادعي الكشف لإثباته بل عن

١٧٦

بعض من يدعيه أنه دخلها ولم يزل يدخلها.

وهذا باطل لما ثبت في محله من أن دعوى الكشف لا تستقيم إلّا بأمرين : الأول : كون من يدعيه كاملا من حيث العلم بالفلسفة الإلهية ، والعمل بالأحكام الشرعية. والثاني : ورود تقرير من الشرع لما كشف. وكل ذلك ممنوع في من يدعي الكشف في المقام. نعم لا ريب في وجود أصل عالم البرزخ بنصوص متواترة يأتي نقلها في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

القول الثالث : إنّها جنة من جنان الدنيا خلقها الله تعالى لإسكان آدم (عليه‌السلام) وحواء. وهذا هو المتعين بل منصوص عليه في الجملة كما يأتي في البحث الروائي.

وقد أيد هذا القول بأمور :

أحدها ـ أنها لو كانت جنة الخلد لما وقع فيها تكليف ، لأنها دار النعيم والراحة لا دار التكليف.

الثاني : أنّها لو كانت جنة الخلد لما خرج منها آدم (عليه‌السلام) وحواء لفرض أنها دار الخلد.

الثالث : أنّ الجنّة الموعود بها لا يدخلها إلّا المؤمنون المتقون فكيف يدخلها إبليس.

الرابع : أنّها لو كانت جنّة الخلد كيف يقول الشيطان لآدم (عليه‌السلام) : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [سورة طه ، الآية : ١٢٠] ، فإنّه ليس له أن يقول ذلك.

ولكن يمكن المناقشة في هذه الأمور بأن ذلك كله صحيح إذا كان المراد من جنّة الخلد هي التي أعدت للمتقين بعد الحشر والنشر والفراغ من الحساب. وأما قبل وقوع ذلك وكون المورد من مادة الجنّة فقط فلا دليل على امتناع ما ذكروه من عقل أو نقل ، فيكون نظير ما رواه الفريقان عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة» وقوله

١٧٧

(صلى‌الله‌عليه‌وآله): «منبري على ترعة من ترع الجنّة» ، مع أنه يحضر في تلك الروضة المقدسة البر والفاجر.

وكيف كان فالجنّة هي من جنان الدنيا أعدها الله تعالى لآدم (عليه‌السلام) وحواء إجلالا لهما ولاحتياجهما إلى الغذاء والراحة ، ويرشد الى ذلك ما ذكرناه سابقا من أن آدم (عليه‌السلام) خلق من الأرض وفي الأرض وللأرض ، وقد سخر الله تعالى له الأرض والسماء بعد تعليمه الأسماء كلها وجعله خليفة فيها. نعم وقع الكلام في محل هذه الجنّة ، ويأتي بعد ذلك بيانه إن شاء الله تعالى.

ويمكن أن يكون المراد من جنة الخلد ما ذكرناه ، ومن جنة البرزخ ما ذكره الفلاسفة : من أن لجميع الموجودات نحو وجود برزخي في مقابل سائر أنحاء وجوده قد يظهر ذلك لأهله ، كما يظهر جملة من الموجودات في عالم النوم للنائم.

قوله تعالى : (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما). الأكل معروف ، ويعبر عنه بمطلق الصرف والإنفاق أيضا كقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [سورة النساء ، الآية : ٢٩] ويمكن تأييد هذا ببعض الأخبار الواردة في المقام. والرغد : الطيب الواسع الهنيء ، ويمكن أن يكون قوله تعالى : (حَيْثُ شِئْتُما) تأكيدا لمعنى الرغد إذا لوحظ الرغد بالمعنى الأعم من السعة في المكان والزمان ، وسائر الخصوصيات والجهات ، فتدل على الإباحة المطلقة إلّا الشجرة الخاصة ؛ وأن ذلك هو معنى رغد العيش لغة ، فيستفاد منه التوسعة في جميع وسائل النعمة والراحة لهما.

قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ). القرب المنهي عنه في المقام كناية عن كثرة الاهتمام بترك المنهي عنه ، فكأنه تعالى نهى عن الاقتراب منه فضلا عن ارتكابه وهو كثير في القرآن الكريم والمحاورات الصحيحة قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٥١] ، وقال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) [سورة الإسراء ، الآية : ٣٢] ، وقال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) [سورة الإسراء ، الآية : ٣٤] فيكون محصل المعنى التأكيد

١٧٨

والمبالغة في ترك الأكل من الشجرة ، ويشهد لذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٢].

ويمكن أن يكون النهي عن نفس القرب موضوعية خاصة ، لأن من يقترب إلى المبغوض يوشك أن يقع فيه كما قال علي (عليه‌السلام) «المعاصي حمى الله ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيها».

ولم يبين سبحانه الشجرة التي نهى آدم (عليه‌السلام) عنها ، وقد اختلفت الروايات في تعيينها ، وتفاوتت أقوال المفسرين فيها بين الإفراط والتفريط ، فعن بعض أنها شجرة الكافور ، وعن آخر أنها السنبلة ، وعن ثالث أن البحث عنها لغو لا فائدة فيه. فإن كان مستند هذه الأقوال الروايات الواردة في المقام فهي قاصرة سندا ، ولم يحرز كونها لبيان الواقع ، وإن كان غيرها فلم يعلم حجيته.

نعم ، في بعض الأخبار أنّها من شجرة الخلد ، وهو مخالف لما في أخبار أخرى تدل على أنّ الجنّة من جنات الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر ـ كما سيأتي ـ وتقدم شرح ذلك.

ويمكن أن يقال : إنّها كانت مثالا لحقيقة الدنيا ، فإنّها تظهر لأنبياء الله تعالى وأوليائه بأشكال مختلفة ، فتارة : في صورة الامرأة كما ظهرت لنبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في ليلة المعراج وظهرت لعلي (عليه‌السلام) ، وأخرى : ظهرت لآدم (عليه‌السلام) وحواء في صورة الشجرة وقد نهى الله عن قربها ، ويشهد لذلك قوله تعالى : (فَتَشْقى) [سورة طه ، الآية : ١١٧] أي تقع في تعب الدنيا ، كما أن التأمل في مجموع الآيات والروايات الواصلة إلينا في قصة آدم (عليه‌السلام) تدل على أن النهي عن الدنو إلى الدنيا والاقتراب منها لذلك لا سيما لمن اتصف بالخلافة الإلهية ، وسيأتي في البحث الروائي تتمة الكلام.

وكيف كان فإن النهي كان لمصالح كثيرة منها : الإشارة إلى أن الإنسان لم يخلق للبقاء في تلك الجنة ، بل خلق للأرض ، وفي الأرض ومنها ، كما عرفت ، فلا بد وأن تقع هذه المخالفة وكم كانت لها فوائد وآثار لآدم

١٧٩

(عليه‌السلام) وذريته فلولاها لما حظي بمقام الاصطفاء ولما ظهرت آثار حكمته البالغة في خلق الإنسان وغير ذلك من الحكم والمصالح.

قوله تعالى : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ). الظلم هو عدم النور وللظلمة مراتب كثيرة فهي تتحقق بإتيان الكبيرة ، أو الصغيرة ، أو ترك الأولى وربما تتحقق في الغفلة عن الله تعالى. والمراد به في المقام الظلم على النفس ، لأن ارتكاب ما لا يرتضيه المعبود ولو على نحو التنزه بالنسبة إلى بعض لا يناسب العبودية المحضة ، فيستفاد من ذلك أن النهي كان من مجرد الإرشاد إلى ما يترتب على ارتكابه من آثار ، كما هي مذكورة في قوله تعالى : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) [سورة طه ، ١١٨].

فيكون المعنى إنك إن خرجت منها تمنع نفسك من الكرامة والنعيم ، وتلقى هذه المصاعب وهي عبارة أخرى عن الشقاء والتعب الملازم لدار الدنيا ، كما قاله تعالى في آية أخرى ، فلا يكون الارتكاب موجبا لترتب العقاب الأخروي.

قوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها). مادة (ز ل ل) تدل على الاسترسال في الشيء بلا تعمد وقصد ولو كان بسبب الترغيب من الغير مكرا وخديعة ، كما في المقام ، فإن الشيطان حملهما على الأكل من الشجرة بما وسوس لهما في قوله : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [سورة طه ، الآية : ١٢٠] ، وقوله : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٠] وقسمه لهما : (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢١].

ثم إن الآيات الواردة في المقام ثلاث :

الأولى : هذه الآية وهي لا تدل على وقوع مكروه منهما عن عمد واختيار حتّى يبحث عن أنه كبيرة أو صغيرة ، أو من مجرد ترك الأولى. فهي إرشاد محض إلى ترتب أثر الارتكاب عليه ترتب اللازم على الملزوم. وأما أن هذا اللازم مكروه له تعالى أو غيره فلا يستفاد ذلك منها.

الثانية : قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ

١٨٠