مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

استعملت تفيد الالتزام ، والثبات ، والعزيمة.

والمراد بالميثاق : ما يوثق به الشيء ، كالميقات لما يتحقق به الوقت. ويجوز أن يضاف الميثاق إلى الله تعالى ، إذ لا يتصور عهد أوثق مما عاهد به الله تعالى عباده ، كما يجوز أن يضاف إلى العباد وهم الذين قبلوا عهد الله تعالى ظاهرا ثم نقضوه ، فيكون المراد من بعد ما أوثقوه. ويصح الحمل على العموم الشامل لجميع ذلك.

والمعنى : إنّه لما وصف الضالين بالفسق أراد سبحانه وتعالى بيان حال هؤلاء الفاسقين الضالين فذكر لهم أوصافا ثلاثة : هي نقض العهد ، وقطع ما يجب أن يوصل ، والإفساد في الأرض. والمراد بالعهد ما عاهد تعالى به على أنبيائه من المعارف والشرايع الراجعة إلى تربية العباد ، وهو من أعظم العهود الموثقة من قبله تعالى بالحجج والبراهين.

ويصح ان يراد به الأعم من ذلك ومن العهد الفطري الموثق بالعقل الذي هو أعظم حجج الله تعالى ، فالمراد بنقض العهد عدم الوفاء به قولا ، أو عملا ، أو اعتقادا كما هو وجداني.

قوله تعالى : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ).

صلة كل شيء بحسبه. والمراد بالأمر الأعم من التكويني والتشريعي فصلة العقيدة بالله ورسله جعلها راسخة في النفس ، وصلة الأحكام الإلهية التكليفية العمل بها والمواظبة على إتيانها ، وصلة النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هو الاهتداء بهديه ، والعمل بما جاء به من ربه وصلة الرحم التآلف والتودد معه ، وكذلك صلة المؤمنين بعضهم مع بعض ، وصلة الأمور التكوينية معرفة منافعها ، ومضارها ، ونتائجها المترتبة عليها. وتشمل الآية الشريفة جميع ذلك ؛ والتفرقة ـ ولو في الجملة ـ نقض لعهد الله تعالى وميثاقه ، وقطع للصلة ، فمن أنكر الله أو صفاته فقد قطع ما أمر به أن يوصل ، ومن أنكر النبوة وما جاء به الأنبياء فقد قطع ما أمر به أن يوصل من هذه الجهة.

قوله تعالى : (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ). الفساد خلاف الصّلاح وهو

١٤١

أعم من الفردي والاجتماعي. ، وذكر الأرض قرينة للحمل على الأخير. والإفساد في الأرض هو إضلال الناس ، مثل الظلم ، والغيبة ، وسيأتي بيان ذلك في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ). نتيجة واضحة للمقدمات المذكورة ، فإن من اتصف بهذه الصفات فقد استحق الخزي في الدنيا ، وعذاب الآخرة ، وهذا هو الخسران المبين ، إذ لا معنى لنقض العهد ، أو قطع ما أمر الله به أن يوصل ، أو الفساد إلّا الخسران المبين.

بحث روائي :

عن ابن عباس : «لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين يعني (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) وقوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) قالوا «إنّ الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال فأنزل الله تعالى هذه الآية».

وفي رواية أخرى عنه أيضا : «إنّه لما ذكر الله تعالى آلهة المشركين فقال ؛ (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت ، قالوا : أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد أي شيء يصنع؟ وضحكت اليهود ، وقالوا : ما يشبه هذا كلام الله؟ فأنزل الله هذه الآية».

أقول : قد تقدم أن ذلك من باب التطبيق.

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩))

ذكر سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين حال الإنسان من مبدأ خلقه إلى ما يؤول اليه أمره ، وأنّ جميع ما في الأرض مخلوق لأجله ومعدّ له ليتمتع بما فيها ، وإنما قدم التوبيخ والملامة على التفضل والعناية لبيان أن كل ما يكون للإنسان من المراتب والأطوار إنما هو من تفضّله تعالى ، لا من اقتضاء

١٤٢

ذاته ، ثم عقب ذلك خلق السموات ليذكّرنا تمام قدرته وحكمته. وربط هاتين الآيتين بالآيات السابقة ظاهر.

التفسير

قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ). تعيير وتوبيخ ؛ يعني أنه لا ينبغي لكم أن تكفروا بالله والحال ان موتكم وحياتكم تحت قدرته وإرادته. وإنما ذكرهما ، لأنهما من الوجدانيات وإنكار خالقهما يرجع إلى إنكار الوجدان والجمع بين النقيضين.

قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ). ذكر المفسرون في الموت والحياة أقوالا :

منها : أن المراد بالموت هنا العدم السابق على الوجود أي : كنتم معدومين فأوجدكم ، وظاهر القرآن ينفي هذا الاحتمال.

ومنها : عدم الحياة عمّا من شأنه الحياة ، كالنطفة ، والعلقة ، والمضغة ، ونحوها من الأطوار التي تعرض على الإنسان في بدء خلقه حتّى يصير خلقا جديدا.

ومنها : أنّ المراد بها الموت الحكمي ، لا الحقيقي ، إذ الإنسان حين ولادته لا اسم له ، ولا شهرة له عند النّاس ثم يصير مشهورا عندهم ، ولم يأت كل منهم في ما ذكروه بدليل يدل عليه.

والأولى الحمل على الجميع ، فإن للحياة بمراتبها المختلفة من النباتية والحيوانية والإنسانية جامعا قريبا وهو الحركة والحس ، وللموت أيضا بمراتبه الكثيرة جامعا قريبا ، وهو الوقف والسكون ، والله تعالى هو القادر على إيجاد أصلهما وسائر جهاتهما وخصوصياتهما ، فإن الإنسان من بدء خلقه إلى نشوره ووقوفه بين يدي رب العالمين ، وفي جميع أطواره وحالاته ، بل جميع شؤونه وتبدلاته مورد علمه وقدرته وإرادته وهذا هو معنى الربوبية العظمى التي أشرنا إليها في قوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) [سورة الحمد ، الآية : ١] وإذا كان هذا شأنه معكم ، وكان لكم التفات إلى هذه الجهة ولو إجمالا كيف تكفرون

١٤٣

بالله ، فتكون هذه الآية الشريفة مثل قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٢].

قوله تعالى : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). أي يميتكم بقبض الأرواح حين انقضاء الآجال ، ثم يحييكم حياة ثانية ثم اليه ترجعون لأخذ جزاء أعمالكم ، هذا بحسب كليات الموت والحياة والرجوع إليه تعالى. وأما بحسب الخصوصيات ـ كالزمان الفاصل بينهما ـ فلا يعلمها إلّا الله تعالى.

والفرق بين الحياة الأولى والحياة الثانية بعد اتحاد المبدأ والمرجع فيهما ، وعدم الفرق بينهما من هذه الجهة : أن الحياة الأولى مؤقتة والثانية أبدية دائمية ، وأن التبدل في الصورة فالأعمال في الدنيا ـ خيرا كانت أو شرا ـ عرض قائم بالغير ، وفي الآخرة جوهر قائم بالذات فالعامل والعمل فيهما واحد ؛ والاختلاف إنما هو في صورة العمل. وأن الحياة الأخرى أكمل من الأولى للإنسان إن عمل صالحا في الدنيا وأدون إن كان شرا ، وسيأتي تتمة الكلام في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

وبعد أن بيّن سبحانه بعض آياته في الأنفس فتفضل على الإنسان بنعمة الإيجاد ، ثم بنعمة الموت ، ثم الحياة ، ثم الرجوع اليه ليصل كل واحد إلى ما أعده لنفسه من الأعمال ذكر سبحانه بعض نعمه في الآفاق.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً). بيان لما مر من قوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٤] ، لأن من لوازم جعل الأرض فراشا للإنسان أن يكون جميع ما في الفراش مهيئا للانتفاع به ، وكذا قوله تعالى : (سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) [سورة الحج ، الآية : ٦٥].

والخلق بمعنى التقدير المستقيم ، ويستعمل في الإبداع أيضا ، كقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [سورة الفرقان ، الآية : ٥٩] بقرينة قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة البقرة ، الآية : ١١٧] ؛ وفي إيجاد شيء من شيء كقوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) [سورة

١٤٤

النحل ، الآية : ٤] ، وكذا قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) [سورة العلق ، الآية : ٢] وجميع هذه الاستعمالات من المشترك المعنوي لوجود الجامع القريب فيها ، وهو التقدير المستقيم. والمراد بالخلق هنا التقدير أي : قدّر الله تعالى أن يكون ما في الأرض لأجل انتفاع الإنسان ، والتقدير مقدم عن الإيجاد وكل موجود مقدر ، وليس كل مقدر موجودا ، لجريان البداء في مرتبة التقدير والقضاء ، كما يأتي.

وخلق ما في الأرض إما لأجل الانتفاع به انتفاعا ماديا صحيحا بكل وجه يتصور ، أو عقليا كالنظر والاعتبار ، كما قال علي (عليه‌السلام): «خلق لكم ما في الأرض جميعا لتعتبروا به ، وتتوصلوا به الى رضوانه ، وتتوقوا به من عذاب نيرانه».

ثم إنه يستفاد من هذه الآية المباركة ، وغيرها من الآيات كثرة عناية الله تعالى بالإنسان ، وقد افتخر به على سائر خلقه كما في قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ١٤] ، بل جعله غاية خلق الموجودات ، وجعل الطبيعة مسخرة بين يديه ، وأفاض عليه من علومها وأسرارها لأن ينتفع بها ويستفيد من جميع ما يمكن الاستفادة منه.

قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ). مادة (س وي) تدل على المساواة والمعادلة ، وتختلف الخصوصيات باختلاف الاستعمالات ، فإذا عديت ب (على) أفادت معنى الاستيلاء عن عدل وحكمة ، كما في قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [سورة طه ، الآية : ٥] أي استيلاء علم وحكمة وتدبير وإتقان ، فيكون ما سواه من صنع الله الذي أتقن كل شيء ، وإذا عديت ب (إلى) اقتضى القصد والشروع ، والأخذ المشتمل على أتم أنحاء التدبير ، قال علي (عليه‌السلام): «أخذ في خلقها وإتقانها».

وقد استعملت هذه المادة بهيئاتها المختلفة في القرآن الكريم قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) [سورة الأعلى ، الآية : ٢] وقال تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [سورة ص ، الآية : ٧٢] والخلق أعم من التسوية.

١٤٥

والمعنى : أنه قصد خلق السماء ، وأراد ذلك بأتم أنحاء التدبير وأحسن جهات التنظيم فجعلهنّ سبع سموات متقنات ، وسيأتي بيان عدد السبع في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

وفي هذه الآية إشارة إلى أن خلق الأرض قبل خلق السماء. ولكن عرفت أن الخلق غير التسوية ، فإن في الأرض جهات كثيرة وفي السماء أيضا كذلك ، فكل منهما من الأمور الإضافية ويصير خلق تلك الجهات أيضا كذلك. وحينئذ لا منافاة بين ذلك ، وقوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [سورة النازعات ، الآية : ٢٧ ـ ٣١] ، فإن خلق السماء في هذه الآية المباركة مقدم من حيث الاستواء والإتمام. وخلق الأرض مؤخر من حيث فعلية نظمها ، وجري أنهارها ودحوها ونحو ذلك. وفي الآية السابقة أن خلق الأرض مقدم من حيث أصل التقدير فلا تضاد بينهما.

قوله تعالى : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). الشيء من ألفاظ العموم بل لا أعم منه. وعن بعض اللغويين إن لفظ عليم للمبالغة وليس لمجرد الوصف الثابت. وقد عدّي بلفظ (باء) ، مع أنه متعد بنفسه ، لقوله تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) [سورة الممتحنة ، الآية : ١٠] لإظهار الزيادة في العلم والمعلوم.

وفي القرآن آيات كثيرة دالة على إحاطته بما سواه علما وقدرة ومن سائر الجهات ولعل أبلغ هذه التعبيرات بالنسبة إلى المخاطبين قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) [سورة النساء ، الآية : ٣٣] ، إذ الشهود والعيان أخص عندهم من العلم وإن كان لا فرق بينهما بالنسبة إليه تعالى.

بحث فقهي :

استدل الفقهاء بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) لإثبات الإباحة المطلقة في جميع الأشياء إلّا ما دل دليل بالخصوص على تحريمه ، وتمسكوا بغيرها من الآيات المباركة أيضا على ما سيأتي ، وبالروايات ، بل والعقل ، وبينوا في علم الأصول ما يتعلق بذلك.

١٤٦

بحث روائي :

عن علي (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) ـ الآية ـ قال «هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا لتعتبروا به ، ولتتوصلوا به إلى رضوانه ، وتتوقوا به من عذاب نيرانه. ثم استوى إلى السماء أخذ في خلقها وإتقانها فسويهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم ، ولعلمه بكل شيء علم المصالح ، فخلق شرع ما في الأرض لمصالحكم يا بني آدم».

أقول : ما ورد في هذا الحديث في مقام بيان غاية الخلق وهو المنساق من جملة من الآيات القرآنية على ما تقدم.

وعن أبي جعفر (عليه‌السلام): «خلق الأرض قبل السماء».

أقول : تقدم إجمال بيانه ، ويأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠))

شروع في بيان قصة خلق آدم ، والغاية من خلقه وعصيانه ، وهبوطه إلى الأرض ، وقد تكررت هذه القصة في مواضع متعددة من القرآن الكريم ، بل وردت في جميع الكتب السماوية ، فتظهر أهميتها لما فيها من الحكم والأسرار ، واعتنائه تبارك وتعالى بالإنسان الذي يمتاز عن غيره من المخلوقات ، لأنه المستعد لبلوغ أقصى درجات الكمال ، ولذلك كان جديرا بالخلافة.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ). المراد بالقول هنا الإلقاء في النفس ، سواء أكان بسبب من الأسباب الظاهرية ، أم الخفية. وليس المراد من

١٤٧

القول المنسوب إليه تعالى في جميع القرآن هو المعنى المعروف أي : الحركات المعتمدة على مخارج الحروف ، وسيأتي شرح ذلك في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

والملائكة : قيل من ألك وهي الرسالة إما لأنّ جميعهم رسل الله إلى ما يرسلهم إليه من تدبير الأمور ، أو تغليبا لاسم عظمائهم وساداتهم ـ وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ـ عليهم ، ولا بأس به لفرض تسخير البقية تحت إرادة العظماء منهم بأمره تعالى.

ولا ريب في وجود الملائكة وقد تكرر ذكرهم في القرآن الكريم وسائر الكتب السماوية مع شيء من بيان أعمالهم وفي الروايات الواردة عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة الهداة (عليهم‌السلام) شرح لبعض خصائصهم وأحوالهم.

وقد استدل الحكماء والفلاسفة بأدلة عقلية على وجود الملائكة منها قاعدة «إمكان الأشرف» المذكورة في الكتب الفلسفية ، ويغنينا عن ذلك ظهورهم لأنبياء الله (عليهم‌السلام) لا سيما أولي العزم منهم ؛ وظهور جبرائيل في صورة دحية الكلبي مروي في كتب الفريقين.

وأما الخلاف في أنهم ذوات مجردة تظهر بأشكال مختلفة كما عليه الفلاسفة ، أو أجسام لطيفة كذلك كما عن غيرهم ، فلا ثمرة في ذلك والنزاع بينهم لفظي.

والملائكة مختلفون في الأشكال والهيئات ، وهم على طوائف متعددة مختلفة محدودة قال تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٢٠] ، وقال تعالى : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) [سورة الصافات ، الآية : ١٦٥] ويدل على ذلك بعض الروايات الواردة عن المعصومين وهم يتكاثرون بواسطة بعض الأعمال الصالحة الصادرة من العباد ، كما هو مذكور في كتب الأحاديث ، ومن قطرات النهر المكنون تحت العرش كما في بعض الروايات على ما يأتي.

ثم إنّه يستفاد من قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) أمران :

١٤٨

الأول : إنما وجه الخطاب إلى النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ليعلم الناس أنّ الغرض الأصلي من خلق آدم إنما هو سيد الأنبياء والرسالة التي جاء بها ، وذلك لأن العلة الغائية مقدمة في العلم وإن كانت متأخرة في الخارج ، كما ثبت بالأدلة العقلية ، ويدل عليه بعض الأدلة النقلية ، فأصل الدعوة هي دعوته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وإن تعددت الدعاة إليها وتفرقوا في سلسلة الزمان ، ويأتي شرح ذلك عند قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٨]. وفيه تسلية له (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بما رأى من الحوادث الواردة على أبيه آدم ، ليصبر على ما يراه من كيد المشركين.

الثاني : إنما قال سبحانه ذلك للملائكة ثم بينه للناس لجهات ؛ منها : إظهار فضل آدم للملائكة ، وتعريفه لهم ، وإعلامهم بمقامه بأن له الخلافة في الأرض.

ومنها : إظهار ما هو المكنون في نفوس الملائكة على أنفسهم ليعترفوا بذلك بالعجز والقصور.

ومنها : الإعلام بأن صنع هذا المخلوق الجديد كان بمباشرته عزوجل بلا مداخلة أحد غيره فيه.

ومنها : بيان أن ليس للإنسان معرفة حقائق الأشياء ، وأسرار الخليقة وحكمها ، فإن الملائكة مع رفعة شأنهم قد عجزوا عن ذلك.

ومنها : أن هذه المحاورة كانت تلطفا منه عزوجل وجبرا لما انكسر من نفوسهم حيث صنع الله الخليفة من الطين الذي هو دونهم بمراتب.

ومنها : إرشاد النّاس إلى المشاورة بينهم في أمورهم ، وأن المشاورة لا تنقص الفرد وإن عظم شأنه ، كما قال تعالى مخاطبا لنبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٥٩].

كما أنه أعلمنا بأنه قد رضي لخلقه أن يسألوه عما خفي عنهم.

قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً). الجعل هو الفعل

١٤٩

والإحداث. والخلافة هي النيابة عن الغير إما لقصوره ، أو زواله أو للتشريف والتشريع والإبلاغ ، وخلافة أنبياء الله تعالى وحججه من القسم الأخير ، وللعلماء في جعل الخلافة في الأرض قولان :

الأول : إنّ الله تعالى جعل آدم خليفة عن نوع آخر كان في الأرض ذهب الله تعالى بهم بعد أن أفسدوا ، وسفكوا الدماء ، واستدلوا بقوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) [سورة يونس ، الآية : ١٤] ومن سؤال الملائكة قياسا على ما مضى.

الثاني : إنّ الله جعل آدم خليفته في الأرض ، كما يشهد له قوله تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) [سورة ص ، الآية : ٢٦].

والحق أن يقال : إن المستخلف عنه في المقام الأعم مما ذكروه ، فإن الإنسان فيه جهتان : جهة البدن والجسم ، وجهة الروح ، وهو مزيج منهما فقد تعلق جعله تعالى بآدم من جهتين الجسمانية حيث باشر تعالى بنفسه في خلقه ، ونفخ فيه من روحه ، فيكون من هذه الجهة خليفة عن غيره تكوينا ، وأما الجهة المعنوية فقد تعلقت الإرادة الإلهية بجعله خليفة ، كما تعلقت بجعل داود خليفة في الأرض ، ويشهد لذلك ما استفاض عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام): «إن أول مخلوق على وجه الأرض هو الحجة ، وآخر من يموت هو الحجة» فتكون الخلافة لآدم (عليه‌السلام) من حيث نبوته ، وكونه حجة الله خلافة شخصية ، ومن حيث كونه آدم أبا البشر نوعية ، كما يدل عليه قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) إذ لكل طبقة لاحقة خلافة تكوينية بالنسبة إلى الطبقة السابقة في دار الكون والفساد ، فتكون الخلافتان متلازمتان.

قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ). المراد من الفساد المعنى الأعم الشامل للفساد الشخصي والنوعي ، ومن الأول ارتكاب المناهي الإلهية ، ومن الثاني النفاق.

وسفك الدماء : إراقتها بغير حق. والتسبيح التنزيه عن صفات الممكنات ، ومعنى نسبح بحمدك أي : ننزهك عن النقائص ، مقرونا بالثناء

١٥٠

عليك فاجتمع في هذا التعبير صفات الجلال والجمال ، والتقديس بمعنى التنزيه ـ كما عن جمع من اللغويين والمفسرين ـ والتطهير المعنوي عن النقائص ، وقد استعمل في القرآن كل منهما بالنسبة إليه تعالى قال جلّ شأنه : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) [سورة الحشر ، الآية : ٢٤].

ويمكن التفريق بينهما بجعل الأول بالنسبة إلى الذات الأقدس ، فهو تعالى منزه عن كل نقص ، والثاني بالنسبة إلى الفعل ، ففعله منزه عن كل نقص ، لكونه صادرا عن الحكمة البالغة. ويمكن أن يقال : إن معنى نقدس لك أي نطهر أرضك من الفساد والمعاصي.

والمعنى : أتستخلف في الأرض من هو على هذه الصفات من الإفساد وسفك الدماء ، ونحن المعصومون نسبح بحمدك ونقدس لك ، فالغاية المتوخاة من جعل الخليفة موجودة فينا دون غيرنا فزعموا أن التسبيح والتقديس فقط هو المقصد الأصلي من الخلق وليس فيهم سبب الفساد ، لأنهم متحدوا القوى وليست لهم قوى متخالفة.

ثم إنه يمكن أن يكون منشأ سؤال الملائكة هذا أحد أمور :

الأول : علمهم بأنّ الدار دار الكون والفساد والإنسان مركب من قوى متضادة متخالفة من الشهوة والغضب ، والقوة والضعف ، ونحو ذلك ، ومن كان هذا حاله وهو في دار الكون والفساد ، والمادة يلازمه سفك الدماء والإفساد ، فيكون قولهم من باب كشف الملزوم عن اللازم وهو صحيح.

الثاني : حصول ذلك من حمل المستقبل على الماضي الذين أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء ، فحصل لهم العلم بذلك من التجربة.

الثالث : أنّ حب النفس فطري في كل ذي حياة فحبهم لنفسهم أوقعهم في هذا القول ، ولكن هذا الوجه ينافي مقام عصمتهم.

الرابع : أنه بعد إخبارهم بأنه سيجعل في الأرض خليفة عجبوا كيف يمكن أن يكون المصنوع من التراب خليفة رب الأرباب ، مع أنّ الله تعالى أخبرهم أن في ذريته من يفسد ويسفك الدماء ، كما في بعض الأخبار ، وغفلوا

١٥١

عن الحكمة.

ومن ذلك يظهر أن سؤال الملائكة ليس من الاعتراض عليه تعالى بل كان من مجرد الاستفهام لما خطر في نفوسهم وكان همهم معرفة الحكمة والسر في استخلاف هذا المخلوق ، ولذا سكتوا حين أعلمهم بذلك فقال تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ). فأعلمهم بأنه لا نسبة بين العلم الحاصل من الأسباب الظاهرية مع العلم بحقائق الأشياء وأسرارها ، فإن في هذا المستخلف أسرارا لم تكن في غيره ، وكأنهم غفلوا عن أن الخير الكثير لا يمنعه الشر القليل ، فيكون قوله تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي : أعلم أن الشر القليل ـ لو فرض ـ لا يمنع عن الخير الكثير. نظير من يريد أن يصنع سفينة تجري في البحار وتنفع الناس ، فلا يهتم بالحوادث والآفات التي تجري عليها في عالم الكون والفساد.

وفي تقديم آية (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) على قصة آدم تفضل منه تعالى حيث أعد لبني آدم جميع ما في الأرض ، ثم خلقهم كما أعد الجنّة للمتقين قبل ورودهم لها.

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى ما يتعلق بخلق الخليفة في الأرض شرع في هذه الآيات بيان فضله لأنه ملازم لخلقه وحياته وإنما ابتدأ بالتعليم له لتلازم الحياة مع العلم كما سيأتي في البحث الدلالي.

التفسير

قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها). وردت هذه الهيئة من مادة العلم في موارد كثيرة من القرآن الكريم قال تعالى : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)

١٥٢

[سورة الكهف ، الآية : ٦٥] ، وقال جلّ شأنه : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) [سورة النساء ، الآية : ١١٣] ، وقال سبحانه وتعالى : (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥١] ، وقال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٢].

والمستفاد من الجميع هو إلقاء المعلم حقيقة ما يريده من العلم إلى الطرف بنحو الإلهام أو الإشراق ـ كما يحكى عن الفلاسفة الإشراقيين ـ دفعة واحدة أو بالتدريج ، بلا فرق في ذلك بين أن لا يكون سبب ظاهري ، أو كان ذلك ، كما في قوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) [سورة المائدة ، الآية : ٣١].

وظاهر الآية المباركة أن التعليم كان مباشريا من الله تعالى بلا واسطة ملك. وكيف لا يكون كذلك وقد اقتضت العناية الإلهية الاهتمام بأول خليقته والمصنوع بيمينه ـ وكلتا يديه يمين كما في الأحاديث ـ والنفخ فيه من روحه كل ذلك ينبئ عن السر العظيم والحكمة التامة في هذا الإنسان فميزه عن سائر خلقه بهذا المقام الخطير بأن علمه ما لم يعلم ، وجعل في نسله هذه القوة العلمية فكان في ذريته الأولياء الذين أشرقوا العالم بأنوار المعارف الإلهية وتفرع عن هذا الأصل جميع العلماء والعقلاء الذين سخروا العالم بعلمهم ودبروا البلاد بعقلهم.

ولم يكن هذا العلم مقتصرا على ألفاظ ومسميات خاصة وهو في هذا المقام العظيم والمنصب الرفيع فقد تعلم كل المعارف الإلهية وماله دخل في استكمال الإنسان في النشأتين ، كما أن التعليم شمل أسرار القضاء والقدر وخواص الأشياء ومنها خواص النبات وعرف موجبات الفرح والسرور وأسباب الحزن والكدر فإن آدم وسائر حجج الله سفراؤه في الأرض ولا بد وان يكون السفير مطلعا على دار سفارته ، ولعل منها ما حكاه الله تبارك وتعالى في قوله : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [سورة طه ، الآية : ١١٥] فأخبره تعالى بوقوع هذه الحادثة العجيبة منه لكثرة أهميتها في النشأة الدنيوية وسيأتي في البحث الروائي وغيره مزيد بيان.

١٥٣

ولفظ «آدم» سواء كان لفظا عربيا ـ من الأدمة بمعنى السمرة أو من أديم الأرض وهي ظاهرها ـ أو غير عربي ، سهل في النطق وذلك يكشف عن وجود الأنس بين ذريته ولعله لذلك سمي إنسانا لأن الانس من طبعه وفي جبلته أو لكونه وسطا بين الإفراط والتفريط كما أن السمرة وسط بين السواد المحض والبياض كذلك ، والظاهر أن اطلاق هذا الاسم عليه كان من الله تعالى من حين الخلقة لا حين نزوله الى الأرض فهو باسمه وجسمه وروحه مضاف إلى الله تعالى إضافة خاصة.

قوله تعالى : (الْأَسْماءَ كُلَّها). الأسماء جمع اسم وله معان :

الأول : اللفظ الخاص المعروف في مقابل الفعل والحرف مثل سماء ، وأرض ، وبحر ، ونهر الى غير ذلك مما هو في ازدياد على مر العصور ، فيكون التعليم من مجرد اللفظ فقط بلا توجه من المتعلم الى المعنى أبدا ، لا فعلا ولا بعد ذلك ، وهذا يعد من اللغو في المحاورات المتعارفة بين الناس ، فيكون قبيحا بالنسبة إليه تعالى وهو محال ، لاستحالة كل قبيح عليه عزوجل.

الثاني : الأسماء من حيث كونها آلة للتعرف على المسميات والمعاني فتتحقق الإفادة والاستفادة ، كما هو شأن تعلم اللغة التي بها امتاز الإنسان على سائر الخلق ، قال تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [سورة الرحمن ، الآية : ٢].

الثالث : المراد من الأسماء ذوات المسميات ، وحقائق الأشياء لوجود خاصية الاسم فيها ، لأن الاسم ما أنبأ عن المسمى ، وجميع تلك الحقائق تنبئ عن آيات الله وجلاله وجماله. أو للترابط الوثيق بين الدال والمدلول بحيث إذا أطلق أحدهما انتقل الذهن إلى الآخر ، كما تقدم.

والظاهر هو المعنى الأخير ، ويتحقق المعنى الثاني لا محالة ، فإنّ المناسب من تعليم الله تعالى آدم الأسماء من حيث كشفها عن حقائق المسميات وجواهرها ، وأعراضها ، ومجرداتها ، ومعرفة ذواتها وخواصها وصفاتها ، فكما أن آدم أبا البشر في مقام الأبوة والبنوة الإضافية صار أصلا لهم

١٥٤

في ما يتعلق بشئونهم الفردية والاجتماعية ومن أهم ذلك معرفة الحقائق وأسمائها ، ويشهد لذلك قوله تعالى : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) ، فإنه لو كان المراد هو مجرد الألفاظ فقط لما كان لهذا القول معنى إلّا بالتكلف.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون التعليم دفعيا وفي آن واحد ، أو كان بالتدريج على حسب مجرى الطبيعة التي هي مسخرة تحت إرادته تعالى. ولا بأس بالقول بكل منهما فيكون بالنسبة إلى البعض دفعيا وبالنسبة إلى البعض الآخر تدريجيا ، وفي جميع الحالات يكون التعليم منسوبا إليه عزوجل.

ثم إنه لا وجه لصرف الآية عن التعميم ، والقول بأن التعليم يختص بتلك الأسماء التي كانت مورد حاجة آدم في حياته ، وتعليم غيرها يكون من اللغو أو لزوم ما لا يلزم والله تعالى منزه عن ذلك ، إذ يرد على هذا القول بأن الآية ظاهرة في التعيمم ، مع أن الإحاطة العلمية خصوصا بمثل هذه الإحاطة العلمية الغيبية كمال للنفس وأي كمال أفضل منه بل يعد هذا من معجزات آدم (عليه‌السلام).

ويحتمل أن يكون المراد بعالم الأسماء عالم المثال الذي أثبته بعض الفلاسفة ، ويسمى بعالم الخيال المنفصل أيضا الذي فيه صور جميع الموجودات بأشكالها الخاصة وهيئاتها المختلفة المحدودة بحدودها المعينة كما في الصور الخيالية التي تكون بين التجرد المحض والمادية المحضة واستدلوا عليه بالأدلة العقلية ، وبما ورد عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) «أن في العرش صور جميع الموجودات» ، وقد ورد في شرح دعاء ـ يا من أظهر الجميل وستر القبيح ـ «أن العبد إذا فعل فعلا قبيحا ستر الله تلك الصورة بستار لئلا يطلع عليها الملائكة» والمراد بهؤلاء الملائكة بعض حملة العرش ، ويأتي للمقام شواهد عقلية ونقلية.

وعلى هذا يكون إتيان لفظ من يعقل في قوله تعالى : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) من باب ذكر الأهم لأنه المقصود الأصلي من خلق الجميع.

بل يمكن أن يقال : إنّ المقصود الأصلي من الأسماء إنما هو مقام

١٥٥

الخلافة الإلهية وأسماء الخلفاء ليكون آدم على بصيرة من أمره من أن الأرض أرضه ، والبشر نسله ، والخلفاء من ذريته ولا سيما سيدهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهذا مما لا ريب فيه فقد روى الفريقان عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» فهو (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مقدم على آدم علما وإن كان مؤخرا خارجا.

قوله تعالى : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ). العرض هو الإظهار على الغير لغرض فيه قال تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة الأحزاب ، الآية : ٧٢] ، وقال تعالى : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) [سورة الكهف ، الآية : ٤٨]. فإذا عدي بالهمزة يكون بمعنى الإدبار والتولي ، كقوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٩٩] وقوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [سورة السجدة ، الآية : ٣٠].

والمراد بالعرض على الملائكة توجيه نفوسهم ، والاطلاع على تلك الأشياء إما إلى أعيانها إن كانت موجودة أو أمثالها المحدثة بإرادة منه عزوجل إن لم توجد في الخارج.

وذكر خصوص من يعقل من باب التغليب أو الأفضل كما تقدم ، أو لأجل بيان أن المراد الأصلي إنما هو ذوو العقول ولا سيما الكاملين منهم ، أو لأجل أن جميع موجودات هذا العالم من جماده ونباته وحيوانه له عقل وشعور في عالم الغيب ، وإن خفي ذلك علينا ، ويشير إليه قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٤] ، وهذا العالم يسمى بعالم الروحانيين ، وعالم الأشباح والأظلة وبالملكوت الأسفل ، فيكون معنى عرضهم على الملائكة رفع بعض حجب الغيب عنهم ، وفي هذا العالم تكون خزائن الله التي يقول جلّ شأنه فيها : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [سورة الحجر ، الآية : ٢١].

وبالجملة : حجب الغيب كثيرة ، وتحت كل حجاب عالم من العوالم لا

١٥٦

يعلمها إلّا الله عزوجل. وعن جمع من الفلاسفة «أن كلما هناك حي ناطق ولجمال الله دواما عاشق».

قوله تعالى : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). الأمر للتعجيز ، وإظهار عجزهم على أنفسهم وعلى غيرهم ، فلا وجه لإشكال جمع من المفسرين من أن أمر العاجز عن الشيء قبيح فيكون محالا عليه تعالى ، لأن ذلك في ما إذا كان الداعي من الأمر هو الإيجاب وأما إذا كان الداعي شيئا آخر من تعجيز ونحوه فلا محذور وهو في القرآن كثير ، وتأتي الإشارة إليه.

والإنباء هو الإخبار يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه تارة ، وبواسطة الحرف أخرى ، كما عن جمع من اللغويين.

والمراد بالأسماء هنا نفس الألفاظ فقط وهو تعجيز شديد ، يعني أنكم إذا لم تقدروا على الإخبار عن مجرد اللفظ فأولى أن تكونوا عاجزين عن معرفة أسرار الأشياء وحقائقها (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن ما خطر في نفوسكم أنكم أفضل من آدم وما أظهرتموه من الدهشة في اختيار الخليفة من الإنسان. وليس ذلك من الحسد المبغوض بل هو من حب الكمال الذي هو من الفطريات لكل ذي إدراك ، ولم يسلم من ذلك حتّى أنبياء الله تعالى ، كما تشهد به قصة موسى (عليه‌السلام) مع الخضر ، وسيأتي تفصيلها في سورة الكهف.

ومن ذلك يعلم أن الحكمة في التعليم والعرض هي إظهار فضل آدم (عليه‌السلام) على الملائكة ، وأن الخلافة لا تكون إلّا لمن استجمعت فيه مراتب الاستعداد ولا يعلم بها أحد إلّا الله تعالى.

هذا كله إذا كان المراد بقول الملائكة الاستفهام الحقيقي ، وكان الاستعمال بداعي ذلك أيضا. وأما إذا كان الاستعمال بداعي التنفر والاشمئزاز من المفسدين وسفكة الدماء فهو صحيح ، ويصح انتسابه إلى جميع الملائكة حتّى عظمائهم ، وحملة العرش كما لا يخفى. فيكون قول الله تعالى ناظرا الى عدم إحاطتهم بمراتب الغيوب ، ومقدمة لأمرهم بالسجود لآدم لما ظهر لهم من

١٥٧

فضله بما أفاض الله تعالى عليه علم الأسماء ، وجعله خليفته في الأرض.

وأما ذكر «هؤلاء» بعنوان الإشارة إلى الحاضرين فيمكن أن يكون لبيان رفعة مقام المسميات بخصوص هذه الأسماء دون غيرها فكأنهم حاضرون في جميع العوالم ، وقد عبّر عن خصوص هذه المسميات جمع من الفلاسفة بأرباب الأنواع ، وجمع آخر بالمثل الأفلاطونية.

قوله تعالى : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا). كلمة «سبحانك» تقال في مقام التوبة كما في قوله تعالى : (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٨٧] ، وقوله تعالى : (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣].

وأما قوله تعالى : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) اعتراف منهم بالعجز والقصور ، وان علمهم لا يحيط بجميع المسميات وفيه ثناء على الله تعالى ، لأنهم أثبتوا العلم له عزوجل ونفوه عن غيره وأنه المفيض عليهم بالعلم على قدر القابليات والاستعدادات.

قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ). تأكيد منهم على حصر العلم بالنسبة إلى ذاته ، وللحكمة بالنسبة إلى فضله ومادة (ح ك م) في أية هيئة استعملت تفيد الإتقان والإحكام والإتمام. وأصل الحكمة منه تعالى معرفة الأشياء ، وإيجادها بالإحكام والإتقان الواقعي ، وهي منبعثة عن العلم بالحقائق. وإذا أطلقت بالنسبة إلى الإنسان ففي اصطلاح الفلاسفة : هي العلم بحقائق الأشياء على حسب الطاقة البشرية. وفي اصطلاح المفسرين : معرفة الأشياء وفعل الخير وقالوا منه قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) [سورة لقمان ، الآية : ١٢] ، ويأتي في قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٦٩] بعض الكلام.

وإذا أضيفت الى القرآن كقوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) [سورة القمر ، الآية : ٥] فانما يراد بها الاشتمال على الآيات والقوانين المحكمة. ويطلق الحكم على الحكمة أيضا ، كما نسب إلى النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «الصمت حكم وقليل فاعله».

١٥٨

ومن هذا الجواب يستفاد أنّ سؤالهم لم يكن من الخصومة والجدال بل كان سؤال مستفسر مستوضح ، ولذا رجعوا إلى ما كان قد غفلوا عنه ، وفوّضوا الأمر إليه تعالى بعد ما تبين لهم الحال.

وفي هذه الآية المباركة جملة من الآداب بين السائل والمجيب ففيها إيماء إلى أن الإنسان يجب أن لا يغفل عن كونه مخلوقا ناقصا مهما بلغ من الكمال ، وأن لا يأنف من الاعتراف بالجهل إذا كان لا يعلم ، وأن لا يكتم العلم إذا كان يعلم ، ويجب عليه أن يحفظ مقام معلمه في تواضع وأدب.

قوله تعالى : (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ). أي أعلمهم بالأسماء التي عجزوا عن علمها ، وإيكال تعليم الملائكة الى آدم (عليه‌السلام) يدل على أفضلية مرتبة الخلافة عنهم. وقد نادى الله سبحانه جملة من أنبيائه في القرآن العظيم بأسمائهم العلمي فقال تعالى : (يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) [سورة هود ، الآية : ٤٨] ، وقال تعالى : (يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) [سورة الصافات ، الآية : ١٠٥] ، وقال تعالى : (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ) [سورة القصص ، الآية : ٣١] ، وقال تعالى : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) [سورة المائدة ، الآية : ١١٦]. وأما سيد الأنبياء فلم يخاطبه عزوجل إلّا بأوصافه فقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) [سورة الأنفال ، الآية : ٦٤] أو (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) [سورة المائدة ، الآية : ٤١] و (طه) و (يس) فيكون له سبحانه وتعالى معه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أدب ، وللرسول معه عزوجل حالات خاصة.

قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ). يدل على أن استكمال الملائكة بالعلم إنما يكون بواسطة أنبياء الله وحججه ولا محذور فيه بل الأدلة العقلية والنقلية تؤيد ذلك.

ولعل من اسرار نزول الملائكة في ليلة القدر ـ أو مشايعتهم لبعض السور حين نزولها على النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ـ هو الاستفادة مما ينزل على النبي ، أو ولي الأمر ، وعلى هذا يكون بين الملائكة اختلاف في الفضل حسب كثرة حشرهم ومخالطتهم مع الأنبياء والحجج وقلته ، وللكلام

١٥٩

تتمة تأتي في المحل المناسب إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ). أي قلت لكم إني أعلم ما غاب من أنظاركم وعلومكم ، فاحتج عليهم بإثبات علم الغيب له تعالى ونفيه عنهم فلن أخلق خلقا عبثا. وإنما ذكر تعالى غيب السموات والأرض فقط ولم يذكر عالم الشهادة ، لشمول الأول له بالأولى ، مع أن جميع العوالم شهادة بالنسبة إليه تعالى ، والتقدم والتأخر بالنسبة إلى الزمان وهو محيط بالزمان والزمانيات.

ثم احتج عليهم بأنه عالم بما يبدون وما يكتمون ، لأنه ـ كما ذكرنا سابقا ـ أضمروا في نفوسهم أحقيتهم للخلافة ، لكونهم يعبدون ربهم ويقدسونه فلم يخلق خلقا أكرم عليه منا.

والظاهر ـ كما يدل عليه بعض الأخبار ويأتي في البحث الروائي نقلها ـ أنّ المراد هم جميع الملائكة ، ويحتمل أن يكون المراد هو خصوص الشيطان من جهة كونه داخلا في عموم الخطاب ، لأنه كان داخلا فيهم صورة فيكون من باب إطلاق الجمع وإرادة الفرد منه ، وهو صحيح واقع في القرآن الكريم والمحاورات.

بحوث المقام

بحث دلالي :

لا ريب في دلالة الآيات المباركة على فضل العلم ، وأنه الغرض الأقصى من خلق الإنسان وجعل الخليفة ، إذ لا معنى للخلافة الإلهية بل مطلقها إلّا علم الخليفة في ما يستخلف فيه وتدبيره الحاصل بالعلم أيضا ، فيكون العلم هو العلة الغائية لخلق الموجودات كلها ، كما أنه العلة لإيجادها ، ففي مثله تجتمع العلة الغائية والفاعلية.

كما يستفاد منها فضل الإنسان ، لأنه لا فضل إلّا بالعلم ، ولا علم يستعمل في دقائق الكون ، وأسرار التكوين ورموزها إلّا في الإنسان وقد سخر

١٦٠