مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

وأما المعاد وخصوصيات الحشر والنشر فيغنيك مراجعة الآيات المباركة الواردة فيهما عن تفصيل البيان في ذلك.

وأما النبوءات السماوية فقد ذكرت فيه بجميع جوانبها من معجزاتهم وقصصهم وكيفية معاشرة أممهم معهم. إلى غير ذلك من المعارف التي تأتي الإشارة إليها ، ولا مجال للتعرض لجميعها في المقام.

إعجاز القرآن في تشريع الأحكام :

مما تحدّى به القرآن الكريم هو تشريعه للأحكام المدنية النظامية الفردية والاجتماعية التي لم تكن أفهام البشر تصل الى ما وصل إليه القرآن في ذلك وان طال عليه الزمن وتأتي أهمية هذه القوانين المجعولة وفاؤها لجميع حاجات الإنسان وشمولها لكل جوانب الحياة وعدم تغييرها وتبديلها.

والقول بأنّ حاجات الإنسان تختلف باختلاف الأعصار والأمصار فلا بد أن تكون القوانين المجعولة التشريعية تختلف وتتغير فلا موضوع للتحدي في ما يتغير ويتبدل. (مردود) : بأنّ التغير والتبدل ليس في الكليات وأصل القوانين ، كوجوب عبادة الله تعالى ، وحرمة أكل مال الغير ، ووجوب رد الأمانة ، وحرمة الخيانة وغير ذلك من أصول القوانين التشريعية التي ضبطها الفقهاء في الكتب الفقهية ، ولكن الجزئيات قد تختلف حسب اختلاف الحالات والخصوصيات وهو مما لا بد منه في جعل القوانين فأصل القوانين التشريعية المجعولة من الله تعالى يكون مثل القوانين المسلّمة العقلية كحسن الإحسان ، وقبح الظلم ونظائر ذلك مما لا يتغير ولا يتبدل.

إعجاز القرآن في العلوم :

يشتمل القرآن الكريم على كثير من العلوم التي تكون في طريق استكمال الإنسان ـ الفردية والنوعية ـ قال تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [سورة النحل ، الآية : ٨٩] ، وقال تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [سورة الأنعام الآية : ٥٩] فهو يحتوي من المعارف أجلاها وأرقاها ، ومن العلوم العملية أتقنها وأسناها ، ومن تشريع القوانين أرفعها وأدقها سواء أكان في

١٢١

العلوم الاجتماعية أم الاقتصادية والإنسانية ومطلق العلوم التكاملية. وكيف لا يكون كذلك فإن علم القرآن بجميع جهاته ينتهي إلى علمه تعالى وهو راجع الى ذاته الأقدس غير المتناهية من كل جهة ، فمن تصور القرآن بهذا النحو من التصور يجزي نفس تصوره عن التحدي بالنسبة إليه فهذا الموضوع من الموضوعات التي يكفي الالتفات في الجملة لمقام ثبوته عن إقامة الدليل على إثباته ، وسيأتي تفصيل المقال في مبحث علمه تعالى إن شاء الله تعالى.

إن قلت : إنّ جملة كثيرة من العلوم والاكتشافات العصرية مما لم يشر إليها في القرآن العظيم مع أنها من أهم مفاخر الإنسان (فإنّه يقال) : إن الذكر والإشارة أعم من أن يكون على نحو الكلية والإجمال أو الجزئية والتفصيل ، وجميع ذلك مما اكتشف مذكور في القرآن بنحو الكلية وإن لم يلتفت إليها إلّا بعد مدة وإن كان العلم بها مخزونا عند أهله. فيستفاد الحركة الجوهرية ـ التي اكتشفوها ـ من قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [سورة النمل ، الآية : ٨٨]. كما أنهم اكتشفوا التلقيح بالرياح ، ويستفاد ذلك من قوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [سورة الحجر ، الآية : ٢٢]. واكتشاف حركة الأرض من قوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) [سورة طه ، الآية : ٥٣] ووجود موجودات في السماء من قوله تعالى : (وَالسَّماءَ بِناءً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٢] إلى غير ذلك من العلوم مما لا يسع المقام ذكرها.

إعجاز القرآن في العلم بالغيب :

يحتوي القرآن الكريم على كثير من علوم الغيب فهو المخبر عما جرى على الأمم الماضية في عالم الفناء بأصدق بيان قال تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) [سورة يوسف ، الآية : ١٠٢] كما أخبر عن أمور لم تكن في عصر التنزيل وما يحدث في عالم الدنيا ، ويخبر أيضا عما يجري ويحدث في عالم البقاء ، لأنه من مظاهر علمه تعالى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات والأرض. فالقرآن من الغيب ، لأنه من الله عزوجل

١٢٢

العالم غيب السموات. وللغيب ، لأنه يدعو النّاس إلى الغيب. وفي الغيب ، لأن حقائقه غائبة عن الإدراكات وإن أحاطت بظواهرها عقولهم وسيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة أيضا إن شاء الله تعالى.

إعجاز القرآن ببلاغته وفصاحته :

قد ثبت أن العرب في عصر نزول القرآن ولا سيما في مهبط الوحي كانوا أفصح النّاس بحيث لا يدانيهم في ذلك قوم ولا يقربهم في هذه الخصلة رهط ، وكان ذلك من أهم مفاخرهم ، وأشرف مآثرهم وكانت محافلهم تعج بالخطباء والشعراء ، وتعقد الأسواق لذلك ، وقد ضبطت الكتب فروع كلماتهم ودقائق جملاتهم ومع ذلك لم ينقل إلينا إلّا شيء قليل ، وكل من تأمل في هذه اللغة ورأى فيها من الأسرار والدقائق وما عليها من الجمال والبهاء يعترف بالعجز والتحير ، وحينئذ لا بد وأن تكون هذه الصفة ـ أي صفة البلاغة والفصاحة ـ التي كانت شايعة في مهبط التنزيل أقصى هدف سيد الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في إعجاز ما ينزل من الله تعالى إذ لم يكن تحدي كل نبي إلّا بما تميز به قومه ، فنزل القرآن متحديا لهم ببلاغته وفصاحته وأمرهم بالإتيان بمثله أو بسورة من مثله فعجزوا عن ذلك واعترفوا بالقصور. وقد نقل أنهم لما سمعوا قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [سورة هود ، الآية : ٤٤] أخذتهم الدهشة والتحير وأمروا بإنزال ما علق على الكعبة المشرفة من القصايد والأشعار.

وربما يقال : إنّ البلاغة والفصاحة كالجمال والملاحة من الغرائز الطبيعية فهي خارجة في الجملة عن الإختيار فلا وجه للتحدي بما هو خارج عنه.

ولكنه فاسد أولا : بأنه يصح التحدي بالنسبة إلى من كانت الفصاحة والبلاغة من غريزته ، ومع ذلك إذا اعترف بالعجز كان بالنسبة إلى المطلوب أتم وأعظم. وثانيا : إنّها وإن كانت من الغرائز في الجملة ولكن للاختيار في أصلها وسائر جهاتها دخل بالوجدان كما هو واضح لا يحتاج الى البيان.

١٢٣

إعجاز القرآن بعدم الاختلاف فيه :

قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [سورة النساء ، الآية : ٨٢] وفي سياقه آيات كثيرة تدل على أنه محفوظ وانه في كتاب مكنون. لم يسلم كتاب من وجود الاختلاف فيه فربما يكون واضحا وقد يكون خفيا لا يدركه إلّا من كان له حظ من العلم إلّا أن القرآن الكريم سلم من وجود الاختلاف فيه والآيات الشريفة تشير إلى برهان قويم وهو أنه قد ثبت بالأدلة العقلية والنقلية أن الله تعالى واحد ذاتا وصفة وفعلا فالوحدة الحقة الحقيقية تامة بالنسبة إليه عزوجل ، وكلامه واحد من عند واحد لأن عالم المعنى والحقيقة لا تكثر فيه والتكثر إنما يكون في المضاف إليه دون المضاف ، بل لا تكثر في ذات الإضافة أيضا وقد يقرب ذلك بالتمثيل بالشمس في مرتبة الإشراق والإشعاع فيكون المستشرق متعددا لا الإشراق الفعلي الإضافي. فالاختلاف في عالم الحقيقة ـ ولا سيما الحقيقة الحقة الواقعية ـ خلف ، لفرض الوحدة في جميع جهاته ، وكلامه عزوجل من فعله وفعله واحد كوحدة ذاته ، إذ لا حول ولا قوة إلّا بالله العظيم كما اثبتوا ذلك بالبراهين العقلية.

هذا مضافا إلى أنّ كلامه نزل على الفطرة المستقيمة والفطرة واحدة ، فالقرآن واحد لا اختلاف فيه ، هذا بالنسبة إليه عزوجل. وأما بالنسبة إلى غيره فليس فيه إلّا مثار الكثرة ، ومنشأ التغير والاختلاف فيكون فرض الوحدة فيه خلفا.

ثم إنّه قد يعترض أحد بأنّ النسخ الواقع في القرآن ، وما أخذه جمع من متناقضات القرآن هو من الاختلاف فيه.

ولكن نجيب عنه : بأنّ النسخ ليس من الاختلاف بشيء بل هو من شؤون جعل القانون وحدوده ، لأنّ جعل القانون وتشريع الأحكام إنما يكون على طبق المصالح والمقتضيات وهي تختلف في نشأة الكون والفساد ، وليس النسخ إلّا هذا ، على ما يأتي تفصيله.

وأما أخذ المتناقضات فلأنّها إنّما كانت حسب وهم نفس الآخذين لها

١٢٤

وإدراكهم الناقص وليس من النقض الواقعي على القرآن ، كما هو واضح ، فإذا راجعنا ما ذكروه نرى أنّ ما يتخيلونه نقضا إما أن يكون بين عام وخاص ، أو مطلق ومقيد ، أو بين أمرين مختلفين زمانا أو مكانا وغير ذلك مما لا يعد من التناقض والاختلاف. هذا بعض ما يتعلق بالتحدي ولو أردنا بيان التمام لطال الكلام ، ويأتي جملة ما يتعلق به في الآيات المباركة المناسبة لها.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥))

من سنته تعالى أنه في كتابه الكريم يقرن بين الترهيب والترغيب فكلما يذكر شيئا من مظاهر غضبه يعقبه بشيء من موجبات رحمته ، إتماما للحجة ولئلا ييأس من رحمته أحد وكلما يذكر شيئا من جهات رحمته قفاه بشيء من موجبات غضبه لئلا يتكل على عمله أحد ، ولذا بعد أن ذكر الكفار والمنافقين ، وما أعد لهم من العقاب أردفه ببشارة المؤمنين وما وعد لهم من النعيم.

التفسير

قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). البشارة هي الإخبار بما يوجب ظهور آثار السرور في بشرة المخبر وقد تستعمل في الإخبار بالشر أيضا توبيخا وتعييرا كما في قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [سورة آل عمران ، الآية : ٢١]. وتقدم معنى الإيمان في أول هذه السورة.

والعمل الصالح من الواضحات عند الناس مفهوما ومصداقا وهو كل ما يحبه الله ويرتضيه ، وقد ذكر سبحانه جملة من مصاديقه في قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ

١٢٥

أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٧] ونحو ذلك من الآيات المباركة.

قوله تعالى : (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ). مادة (ج ن ن) تأتي بمعنى الستر. والجنات جمع جنّة وهي البستان الملتف بالأشجار التي فيها أنواع الفواكه والثمار المستترة بالأشجار والمراد بها في القرآن الكريم نعيم الآخرة من باب إطلاق الخاص على العام إما لكماله من جميع الجهات ، أو لعدم الاعتناء بالفاني مع التوجه إلى الباقي.

وما عن بعض اللغويين من أنّ البستان إذا كان فيه الكرم يسمى بالفردوس وإن كان فيه النخيل يسمى جنة. فإن أراد أنه مجرد اصطلاح طائفة خاصة في عصر مخصوص فلا بأس به. وإن أراد التخصيص في أصل المعنى والذات فلا دليل عليه ، مع أنه ورد في القرآن الكريم ما يخالفه قال تعالى : (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) [سورة الأنعام ، الآية : ٩٩] وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [سورة الكهف ، الآية : ١٠٧] والسياق في الجميع واحد.

ثم إنه ورد لفظ الجنّة والجنّات كثيرا في القرآن الكريم بأنحاء الاستعمالات المشعرة باعتنائه تعالى بها اعتناء بليغا ، ولا بد أن يكون كذلك ، لأنّها نعيم أبدي لا يزول وأنّها دار الأبرار والمتقين وهي عوض ما اشتراه الله تعالى من المؤمنين فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [سورة التوبة ، الآية : ١١١] وكلما كان المعوض أعلى وأغلى يكون للعوض المكانة العليا.

قوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ). تستعمل هذه الجملة في القرآن الكريم مع لفظ الجنات غالبا وتشتمل جميع الأقسام التي يمكن تصويرها في جريان الماء ونبوعه تحت أظلال الأشجار المطابق للأذواق الحسنة المتعارفة بين الناس التي يمتدحونها ويهتمون بها في تزيين جناتهم الدنيوية. وقد نظم ذلك الشعراء بوجوه من النظم في مدح تلك الجنان ، ولم يبين سبحانه خصوصيات الجريان تعميما لجميع مراتب الحسن والكمال.

١٢٦

قوله تعالى : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً). يحتمل أن يجعل الظرف الأخير في الآخرة : أي ، كلما انتفعوا من ثمارها قالوا هذا ما رزقنا قبل ذلك من ثمار الآخرة فإنها تكون بحيث كلما يقتطف منها ثمرة يعود مكانها مثلها.

ويحتمل أن يجعل الظرف في الدنيا فإنّ ثمار الدارين متحدتان اسما وجنسا ونوعا ، ولكنهما مختلفتان في اللطافة والذوق والالتذاذ ونحوها. ويحتمل أن يراد من الرزق الثاني هو نفس الأعمال الصالحة التي هي بمنزلة البذور لثمار الجنة فيكون المراد إن ثمار الجنة لنا من جزاء أعمالنا ، ومنه يظهر وجه قوله تعالى : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) لوجود التشابه بين ما ينتفعون به فعلا وبين جميع الاحتمالات التي تعرضنا لها في الجملة ، فالمراد بالتشابه المعنى الأعم الشامل ، ويشهد للتشابه في الجملة قول الصادق (عليه‌السلام): «كل ما في الدنيا فسماعه أعظم من عيانه وكل ما في الآخرة فعيانه أعظم من سماعه» حيث أثبت (عليه‌السلام) الاتحاد من جهة والاختلاف من أخرى ، ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) [سورة الزخرف ، الآية : ٧١] ، فإن من المشتهيات ما اشتهوه في الدنيا وتلذذوا به ، وكذا ظاهر كثير من الآيات التي تعد نعم الجنّة بالأسماء المستعملة المأنوسة.

وأما ما عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إنّ الله قال : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا اذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر»

وغيره مما في سياق ذلك. فلا ينفي ما ذكر في سائر الآيات والروايات ، لأنها نعم أخرى إما جسمانية ليس في الدنيا لها اسم ولا رسم ، أو من النعم المعنوية التي لا موضوع لها في الدنيا.

قوله تعالى : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ). الأزواج جمع زوج بمعنى القرين ، ويطلق على كل واحد من الذكر والأنثى ، وقد يطلق على الأخيرة الزوجة. والمعنى أن لهم أزواجا مطهرات غاية التطهير ، لأن حذف المتعلق يفيد العموم فهنّ مطهرات من جميع الأقذار الخلقية ـ كالحيض

١٢٧

والنفاس ـ والخلقية كالمكر ، وسائر مساوئ الأخلاق ومستكملات بكل المحامد الجسمانية والنفسانية ، وما ورد في بعض الأخبار أنهنّ مطهرات من الحيض والنفاس إنما هو بيان لبعض المصاديق.

قوله تعالى : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ). سيأتي معنى الخلود في قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [سورة هود ، الآية : ١٠٨].

بحث دلالي :

ذكر سبحانه في هذه الآية الارتزاق الفردي أولا ، ثم أوكل معرفة ذلك الرزق إلى نفس المنتفعين منه ثانيا في قوله تعالى : (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) ، ثم ذكر الأزواج والاجتماع الجنسي ثالثا وإنما أخره عن الرزق ، لتقدمه على الاجتماع الجنسي تكوينا. وحصر موارد الارتزاق في الثمرات رابعا لجريان نظام التكوين عليها في النشأتين. فهو سبحانه قد بين ؛ كما أن بقاء الإنسان في هذا العالم بالارتزاق كذلك له دخل في تلك النشأة أيضا ولكن لا يعلم أنه دخل بقائي ـ كما في هذا العالم ـ أو دخل تلذذي والبقاء مستند إلى شيء آخر.

إلّا أن يقال : إنّه لا وجه لاستناد البقاء في الآخرة إلى الارتزاق ، لأن الارتزاق من الثمرات في الدنيا إنما هو لأجل الحركة وتحلل قوى الإنسان ، وليس الأمر كذلك في الآخرة.

ولكن يمكن الجواب عنه : بأنه لا وجه لنفي الحركة عن أهل الجنّة والنار لأن بعض لوازم الجسم لا تتغير في جميع النشآت والمفروض ان المعاد جسماني ، كما يأتي وحينئذ يثبت التحلل لهم ، لأنه من لوازم الحركة. نعم ليس لهم فضلات الجسم كالعرق والبول ونحوهما. بل ليس كل تغذية تكون لأجل التحلل كتغذية الجنين في الرحم.

ثم إنّه تعالى ذكر الجنّات بلفظ الجمع ويحتمل فيه وجهان :

الأول : أن يكون لكل واحد منهم جنات.

١٢٨

الثاني : أن يكون لكل واحد منهم جنّة فيصير المجموع جنّات وسياق الآيات والعناية الإلهية تقتضي الأول ، ويأتي التفصيل إن شاء الله تعالى.

بحث روائي :

عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله عزوجل : (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) : «الأزواج المطهرة اللاتي لا يحضن ولا يحدثن».

أقول : تقدم أنه من باب التطبيق.

كما أن ما ورد عن ابن عباس أن قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) إلى آخر الآية المباركة ـ نزل في علي (عليه‌السلام) ، وحمزة ، وجعفر ، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ـ من باب التطبيق لا التخصيص ، كما تقدم منا مكررا.

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧))

بعد أن فرغ سبحانه وتعالى من ذكر بعض أحوال المؤمنين والكفار والمنافقين ، وبيان المثل للأخير ذكر تعالى وجه ضرب المثل لنفسه وبيان الحكمة في ضرب الأمثال ، وأكد ذلك اهتماما منه تعالى للأمثال لكونها أوقع في النفوس كما مر.

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها). الحياء : هو انقباض النفس عن الشيء وانزجارها عنه خوفا من اللوم ، ويلازمه ترك ذلك الشيء هذا في الإنسان.

١٢٩

وأما إذا أطلق عليه سبحانه فالمراد به نفس الغاية وهي الترك. فقوله تعالى : (لا يَسْتَحْيِي) أي لا يترك ولا يدع ـ وكذا الكلام في جميع الصّفات التي يلزم من إطلاقها عليه تبارك وتعالى النقص. فيكون استعماله في المعنى الحقيقي لكن بداعي الترك ، ولا محذور من جعل الاختلاف في الداعي ، لا في ذات المعنى المستعمل فيه اللفظ.

ويفترق الحياء عن الخجل بأن الثاني من عوارض الجسم الإنساني بخلاف الأول فإنه من صفات الروح ، ولذا عد الحياء من جنود العقل في جملة من الأخبار ، وهناك فروق أخرى مذكورة في علم الأخلاق.

والضرب : يستعمل في معان كثيرة. والمراد به هنا التوصيف والتبيين فضرب الأمثال : توصيفها وبيانها.

و «ما» للإبهام والتنكير ، وما فوق البعوضة هو ما دونها في الصغر والحقارة. ويقال : إن البعوضة أصغر الحيوانات وحياتها في جوعها فإذا شبعت ماتت ، ولكن قد أثبت العلم الحديث أصغر منها.

والمعنى : إنّ الله تعالى لا يترك ولا يرى من النقص ضرب المثل بالبعوضة فما فوقها ، وإنّما لا يستحي عن ذلك ، للأدلة العقلية الدالة على أنّ كلام الحكيم موافق للحكمة ، سواء أكان كلامه في الشيء الجليل العظيم أم الحقير اليسير أم في ما هو خارج عن عالم الممكنات وحيث إنّ القرآن نزل ليستفيد منه عامة النّاس فلا بد وأن يقترن بالأمثال جريا على طريقتهم لتأنس بها النفس ، وتتم بها الحجة عليهم. وقد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [سورة البقرة ، الآية ١٧].

قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ). هذا من باب ذكر العلة والمعلول مشعرا بالمدح والثناء ، لأن علة قولهم «إنه الحق من ربهم» إنما هو إيمانهم الذي معهم واعتقادهم بكلامه تعالى ، وأنه الحق من ربهم ولم يضرب الأمثال إلّا لحكم ومصالح فلا ينظرون إلى المثل والممثل به في الصغر والكبر والضعف والقوة بل ينظرون إلى الممثل (بالكسر) نظرة الحق والعظمة والجلال ، وأن كل مثال صغيرا أو كبيرا هو مثال الحق في الحكمة

١٣٠

والموعظة فلا يمكن أن يكون صغيرا أو حقيرا وإن كان الممثل به كذلك في بعض الجهات.

قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً). لأنّهم نظروا إلى نفس الممثل به ولا يلتفتون إلى عظمة الممثل [بالكسر] ولا إلى أهمية ما مثّل لأجله ، لجهلهم وعنادهم فأعرضوا عن الحجة كما هو الحال في اختيارهم أصل الكفر والضلال.

قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً). يصح أن تكون هذه الجملة مقولة من الكفار تعييرا وتوبيخا للمثال ، كما يصح أن يكون من قول الله عزوجل أجاب به عن سؤالهم ، وعلى أي تقدير فالسبب في هذا القول هم الكفار ، لأنهم بإنكارهم للإيمان وجهلهم للحقائق حصل لهم الريب بكل ما أنزل الله تعالى.

قوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ). الفسق بمعنى الخروج ، وتختلف مشتقاته باختلاف موارد استعمالاته ، وفسق الإنسان خروجه عن طاعة الله تعالى اعتقادا ، أو عملا ؛ لكبيرة أو صغيرة فهو يشمل الجميع بجامع الخروج عن الطاعة.

وعن بعض اللغويين أنه لم يستعمل الفاسق وصفا في كلام العرب إلّا في القرآن الكريم. وفيه بحث ، هذا بحسب اللغة. وأما في اصطلاح الكتاب والسنة فيستعمل الفاسق في مقابل العادل.

والمعنى : أنّ علة إضلالهم هي الخروج عن طاعة الله تعالى ؛ وصولا من مرتبة الاقتضاء الى مرتبة الفعلية بما يعرض على الإنسان فيظهر منه الغي والضلال أو الحق والسداد ، ومنه يظهر الوجه في التعبير بقوله تعالى : (يُضِلُ) ليبين أن ذلك أمر مركوز فيهم ، وراسخ في نفوسهم. ثم إنّ هذه الآية تشتمل على أمور :

الأول : إنما قدم سبحانه الضلالة على الهداية مع تقدم الثانية على الأولى بكل جهات التقدم ، لأن سببها متقدم ، وهو اقتضاء ذاتهم ، وكل من تقتضي ذاته شيئا يبادر به بين الأنام ، ويظهر أثره في الكلام فجيء بالأمثال

١٣١

لإخراجهم من ظلمات الضلال الى نور الهداية والإيمان.

الثاني : قد ذكر سبحانه لفظ الكثرة في الفريقين ، مشعرا بأنّ المهتدين كالضالين في الكثرة ، مع أنّ الطائفة الأولى هم الأقلون عددا. والوجه في ذلك أن القلة والكثرة إضافية فتصح الكثرة بالنسبة إلى ملاحظة شيء ، والقلة بالنسبة إلى شيء آخر ، فالمهتدون وإن قلوا عددا لكنهم أكثر نفعا وأجل فائدة.

الثالث : أثبتت الآية المباركة أنّ وراء الضلالة والهداية الاقتضائية في الذات هداية وضلالة تحدثان بحدوث ما يطرأ من الأسباب وتتجددان بذلك ، ولذا قالوا : إنّ الضلال والهداية يتجددان بتجدد الأسباب والزمان.

بحث كلامي :

هذه الآية الشريفة مفتتح آيات الكتاب العزيز في الجبر والتفويض فلا بد من البحث فيهما ليمكن إرجاع سائر المواطن اليه. فنقول ومن الله الاستعانة والاستمداد :

إنّ شبهة الجبر والتفويض لم تكن حادثة في الإسلام وإنّما هي قديمة بقدم الإنسان وترجع الى أوائل الخلقة ، كما يظهر من مخاصمة إبليس مع الله تعالى ، فكل من يعتقد بمبدإ غيبي مؤثر في العالم يمكن أن تتولد فيه هذه الشبهة ، وقد قال علي (عليه‌السلام): «عرفت الله بفسخ العزائم ونقض الهمم» وفسخ العزيمة إنّما وقع من عهد أبينا آدم (عليه‌السلام) فأصل الشبهة من ذلك الحين وإنما تطورت بمرور الزمن فدخلت آراء وشبهات أخرى وبلغت حدا بعيدا من البحث حتّى أفردت لها كتب ورسائل.

وكيف كان فالأفعال الاختيارية الصادرة من الإنسان يحتمل فيها وجوه :

الأول : أنّها صادرة بإرادة الله تعالى واختياره فقط وان العبد بمنزلة الآلة الجمادية وأن الإنسان وفعله مخلوقان لله تعالى وهذا هو الجبر.

الثاني : أنّها صادرة من العبد وباختياره فقط ، ولا دخل فيها لله تبارك وتعالى ، وهذا هو التفويض.

الثالث : الأمر بين الأمرين والمنزلة بين المنزلتين فيكون لكل واحد

١٣٢

منهما دخل بنحو الاقتضاء لا العلية التامة ، وهذا هو الحق الذي أسسه الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) ردا على المذهبين السابقين ، فإنّ الأول منهما خلاف الأدلة العقلية والنقلية بل الوجدان ، والثاني يلزم منه التعطيل ، كما ستعرف ذلك فيما سيأتي من التفصيل ، والبحث تارة يقع في الجبر والتفويض ، وأخرى في الأمر بين الأمرين :

الجبر :

مذاهب الجبر ثلاثة : منها : مذهب الأشاعرة ، وهو نفي الإرادة عن العبد مطلقا وانحصارها في الله تعالى ، وأن العبد بالنسبة إليه كالقلم في يد الكاتب فيكون نسبة الفعل إلى الله بالحقيقة والى العبد بالمجاز.

ومنها : ما ذهب اليه جمع من القول بوحدة الوجود ، بل الوحدة المطلقة فلا اثنينية بين الخالق والعبد حتّى تكون فيه الإرادة والإختيار ، وسيأتي بطلان القول بوحدة الوجود ، بل الوحدة المطلقة ، بل الالتزام بلوازمه يوجب الكفر.

ومنها : ما ذهب اليه بعض : من أن علم الله تعالى علة تامة لحصول معلوماته ، وفعل العبد معلوم له تعالى فلا أثر لاختيار العبد وارادته في فعله أصلا.

وقد استدل القائلون بأنّ الأفعال مخلوقة لله تعالى بالأدلة العقلية والنقلية ، أما الأدلة العقلية فاستدلوا بأمور :

الأول : أن فعل العبد مقدور لله تعالى ، لأنه من جملة الممكنات التي هي منه تعالى ، وحينئذ لو وقع بقدرة العبد وحده لزم تعطيل قدرته تعالى ، وإن وقع بقدرتهما معا لزم اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد.

والجواب : أن ليس كل مقدور له تعالى هو من فعله المباشري فمجرد كون فعل العبد مقدورا له تعالى لا يستلزم أن يكون من فعله أيضا.

الثاني : إن جميع ما سواه مورد إرادته تعالى الأزلية الأبدية وان إرادته عين ذاته وهي العلة التامة لتحقق المعلول فلا أثر لإرادة العبد في فعله.

والجواب : أن ذلك مبني على جعل الإرادة من صفات الذات ، لكن

١٣٣

الحق أنها من صفات الفعل فتكون حادثة بحدوثه ، بل إرادته عين فعله ، كما في الروايات. وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.

الثالث : أن العلم الإلهي متعلق بجميع ما سواه من الممكنات ومنها أفعال العباد سواء منها في الدنيا أم في الآخرة الذي لا انتهاء لأفعاله وعلمه سبب تام لحصول المعلوم.

والجواب : إن العلم من مقدمات حصول الإرادة المتقدمة على الفعل وليس سببا تاما لحصول المعلوم بوجه من الوجوه بل علمه تعالى تعلق بأفعال العباد من حيث أنها مختارة لا ان يتعلق العلم بأحد طرفي الاختيار فقط.

ثم إن أسباب الفعل هي : العلم ، والمشيئة ، والإرادة ، والقدرة والقضاء ، والإمضاء ونحوها. وهي جارية في كل فعل صادر من كل عالم قادر سواء أكان هو الله تعالى أم العبد. والفرق بين المشيئة والإرادة بالكلية والجزئية ، وكل ذلك من المقتضيات وليست من العلة التامة في شيء ، وهذه كلها في العبد تكون تارة التفاتية تفصيلية ، وأخرى على نحو الإجمال والارتكاز وهو الغالب ، وسيأتي تفصيل هذا في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

أما الأدلة النقلية فقد استدلوا بظواهر من الآيات المباركة تؤيد مذهبهم ، منها قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [سورة الصافات ، الآية : ٩٦] ، وقوله تعالى : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٤] ، وقوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [سورة الأنفال ، الآية : ١٧] وأمثال ذلك من الآيات.

ويناقش فيها بوجهين :

الأول : أنها معارضة بآيات أخرى أكثر عددا وأصرح دلالة على اختيار الإنسان في أفعاله كما ستعرف.

الثاني : أن سياق تلك الآيات والقرائن المحيطة بها تدل على أن المراد منها غير ما ذهبوا اليه فنفي الرمي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الآية السابقة ـ مثلا ـ إنما هو بالنسبة إلى الأثر الخارق للعادة ، لا بالنسبة إلى الفعل

١٣٤

المباشري الصادر منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وسيأتي في البحث الروائي ما يفيد المقام.

ومجمل القول في الجبر ومذاهبه أنه لم يصادم العقل والنقل فقط ، بل هو مستلزم لنفي الحسن والقبح العقلي المتفق عليهما بين العقلاء. كما أنه يلزم منه نفي الثواب والعقاب الثابتين في جميع الشرائع الإلهية بل يلزم منه تجويز الظلم والجور على الله تعالى إلى غير ذلك من المفاسد.

ولو لا ظهور بعض كلمات القوم في التعميم لأمكن حمل بعضها على ما لا دخل للاختيار فيه ـ كالعزة والذلة ، والغنى والفقر. ولأمكن حمل الجبر في قولهم على الجبر الاقتضائي ، يعني أنّ مقتضى الإرادة القاهرة الأزلية الإلهية أن لا تكون في البين إرادة غيرها ، ولكنه تبارك وتعالى جعل للإنسان بل لمطلق الحيوان إرادة في الجملة لمصالح كثيرة ، فالجبر الاقتضائي لا ينافي الإختيار الفعلي من العبد.

التفويض :

قد عرفت أن المراد من التفويض المنسوب الى المعتزلة هو كون الأفعال مختارة باختيار العباد بلا دخل لاختياره تعالى وأنها تنسب إلى العباد بالحقيقة وإلى الله تعالى بالمجاز وأنه لا تكون أفعال العباد مورد إرادة الله تعالى.

واستدلوا على ذلك بأنه إذا لم يكن الإنسان موجدا لأفعاله لا يصح تكليف العباد ولا المدح والذم ولبطل الثواب والعقاب ، وللزم منه الجبر ، مع أنه لا يصح أن تكون السيئات والأفعال القبيحة موردا لإرادته تعالى.

والجواب عن ذلك يظهر من بيان الأمر بين الأمرين.

وقد احتجوا ببعض الآيات الكريمة ، فإن قسما منها تدل على كون الإنسان هو الفاعل لأعماله كقوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ)

١٣٥

[سورة الطور ، الآية : ٢١]. وقسما منها تدل على أن المطيع يثاب على أعماله الحسنة والمسيء يعاقب بمعاصيه ، قال تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [سورة غافر ، الآية : ١٧] ، وقوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة الجاثية ، الآية : ٢٨] ، وقوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦٠]. وقسما منها تدل على أنه مختار في أفعاله قال تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [سورة الكهف ، الآية : ٢٩]. وقسما منها تدل على اعتراف الإنسان بصدور المعاصي منه في الآخرة ، قال تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٢٢] إلى غير ذلك من الآيات الدالة منطوقا أو مفهوما على أن الإنسان خالف لأفعاله وأنه المسؤول عنها.

والجواب عن ذلك أنّ أقصى ما يستفاد منها أن الإنسان هو الفاعل وعنه يصدر جميع أعماله وأما أنه ليس لإرادته تعالى وقدره وقضائه دخل فيها فلا يستفاد منها ، فهي من هذه الجهة معارضة بالآيات الدالة على أنها من الله عزوجل قال تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [سورة النساء ، الآية : ٧٨]. والآيات الدالة على طلب الاستعانة منه تعالى نحو قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [سورة الحمد ، الآية : ٤]. ولما ورد عن المعصومين (عليهم‌السلام) من قول : «لا حول ولا قوة إلّا بالله» ، فإن الجميع ظاهر في صحة نسبة أعمال العباد إلى الله تعالى ، إما بنحو القضاء كما في السيئات ، أو هو والرضاء معا. كما في الحسنات. وقضاؤه ورضاه ليسا من العلة التامة.

وبالجملة : إنّ الآيات والروايات لا يمكن أن يستفاد منها التفويض الكلي للعباد المقابل للجبر ، ويمكن حمل كلامهم على التفويض الاقتضائي بأن يقال : إنّ نهاية استغنائه تعالى عن خلقه يقتضي إيكال الإرادة إلى العباد

١٣٦

بعد بيان طريق الحق والباطل ، وإتمام الحجة عليهم ولكنه لم يفعل لمصالح كثيرة ، بل جعل إرادته مسيطرة على إرادة عباده لا على نحو يلزم منه الجبر ، وهذا هو ما يظهر من بيان الأمر بين الأمرين ، كما سيأتي.

الأمر بين الأمرين :

مما تفردت به الإمامية عن سائر الفرق القول بالأمر بين الأمرين والمنزلة بين المنزلتين فقد ورد عن الأئمة الهداة (سلام الله عليهم) أنه «لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين أمرين» وهو الحق المطابق للوجدان والبرهان.

والمراد ب (الأمر بين الأمرين) أن الله تبارك وتعالى أودع القدرة في عباده وبها بعد وجود الدواعي يصدر الفعل من الفاعل وينسب الفعل إليه مباشرة ، فهو غير مجبور ، لتعلق قدرته بطرفي الفعل معا. هذا هو المعنى المستفاد من الأخبار الواردة في (الأمر بين الأمرين) ، ولا بد من توضيح ذلك بشيء من التفصيل.

بيان ذلك : إنّ أفعال العباد منحصرة في ثلاثة أقسام : فهي إما من الحسنات ، أو من السيئات ، أو من المباحات. ولا ريب في أن الأمر بين الأمرين متقوم بالانتساب اليه تعالى ، والى العباد انتسابا يحكم بصحته العقلاء ، ومن رضائه تعالى بالحسنات وترغيبه إليها والتأكيد في إتيانها والثواب عليها أو العقاب على الترك في بعضها يصح الانتساب إليه تعالى ، ويسمى ذلك بالانتساب الاقتضائي لا يبلغ حد الإلجاء والاضطرار. ومن إذنه تعالى في المباحات وترخيصه لها صح انتسابه اليه تعالى اقتضاء كما هو الحال في الحسنات ، فتحقق بالنسبة إلى الحسنات والمباحات رضاؤه وقضاؤه تعالى إليها.

ومن خلقه تعالى للنفس الأمارة والشيطان صح نسبة السيئات اليه تعالى ، لا بمعنى رضائه بها وترغيبه إليها فيصح نسبة الخلق التسبيبي إليه تعالى في السيئات ، ويجري هذا الوجه في الحسنات والمباحات فإن هذه النسبة توجد في الجميع.

١٣٧

وأما نسبة الفعل إلى الفاعل فإنّ الله تعالى خلق الذات المختارة القادرة على السيئات مثلا مع نهيه تعالى وإظهار سخطه وتوعيده عليها وقد فعلها العبد بسوء اختياره ، فينسب إليه الفعل مباشرة كما أن منشأ النسبة إليه تعالى أنه خلق الذات القادرة المختارة مع إبلاغ النهي والتوعيد ، وقد علم بها وقضاها على نحو الاقتضاء لا قضاء الحتم ولا منقصة في هذا القسم من النسبة أبدا ، ولعل هذا أحد معاني قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [سورة النساء ، الآية : ٧٨].

وبعبارة أخرى : إنّ في الحسنات والمباحات تتعدد جهة الانتساب اليه تعالى من الرضاء والقضاء ، والاذن والترغيب ، أو خلق الذات القادرة المختارة ، وفي السيئات منحصرة بخصوص الأخيرة والقضاء الاقتضائي مع النهي والتوعيد ، كل ذلك موافق لقانون العقل والعدل. ومن ذلك يعلم أن الهداية والضلالة ، بل السعادة والشقاوة ليستا من ذاتيات العبد بحيث لا اختيار له فيها ، ولا من لوازم الذات كلزوم الزوجية للأربعة وإلّا لما كانت قابلة للتغيير والتبديل ، ولبطل التكليف والثواب والعقاب ونحو ذلك من المحاذير ، بل هي من قبيل الأعراض الخارجية القابلة للزوال والتغيير والتي للاختيار فيها دخل مع توفيق وهداية منه تبارك وتعالى.

ومما ذكرناه يجاب عن شبهات القوم ، ويرفع التعارض بين الآيات والروايات ، ولعلماء الإمامية في تفسير الأمر بين الأمرين وجوه أخرى فراجع ، وسيأتي في البحث الآتي مزيد بيان.

بحث روائي :

عن الباقر والصادق (عليهما‌السلام) قالا : «إن الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها. والله أعزّ من أن يريد أمرا فلا يكون».

وسئلا (عليهما‌السلام) «هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا : نعم أوسع مما بين السماء والأرض».

١٣٨

وعن الوشا قال : «سألت الرضا (عليه‌السلام) الله فوض الأمر إلى العباد؟ قال (عليه‌السلام) : الله اعزّ من ذلك. قلت : فجبرهم على المعاصي؟ قال : الله أعدل وأحكم من ذلك ، ثم قال (عليه‌السلام) قال الله تعالى : يا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيئاتك مني عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك».

أقول : هذه الجملة الأخيرة صريحة في ما ذكرناه آنفا.

وعن الصادق (عليه‌السلام) قال له رجل : «جعلت فداك أجبر الله تعالى العباد على المعاصي؟ قال (عليه‌السلام) : الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثم يعذبهم عليها. فقال له : جعلت فداك ففوض الله إلى العباد؟ قال (عليه‌السلام) : لو فوض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي. فقال له : جعلت فداك فبينهما منزلة؟ قال : نعم أوسع ما بين السماء والأرض».

أقول : (لم يحصرهم) أي لم يوقعهم في حصر التكليف فيكون نفس تصور التكليف بما هو ، وبيان الجزاء عليه كافيا في نفي الجبر والتفويض وإثبات الأمر بين الأمرين. وهذه عادتهم (عليهم‌السلام) في إثبات هذا المدعى بأدلة التكليف والجزاء.

وعن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) القائل في جواب من سأله عن التوحيد والعدل : «التوحيد أن لا تتوهمه ، والعدل أن لا تتهمه. فالقائل بأنه خالق للأفعال فقد اتهمه بالظلم ، والقائل بأنه يكلف العباد ما لا يطيقون فقد نسب اليه القبيح ، والقائل بأنه لا يقدر على أعمال عباده وان كل أعمالهم بإرادتهم ولا شأن له فيها قد اتهمه بالعجز».

أقول : الأول عبارة عن الجبر ، والثاني من لوازم التفويض وترتب اللازمين عليهما واضح.

وعن الرضا (عليه‌السلام): «ألا أعطيكم في ذلك أصلا لا تختلفون فيه ولا تخاصمون عليه أحدا إلّا كسرتموه؟ إن الله عزوجل لم يطع بالإكراه ، ولم يعص بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه فهو المالك لما ملكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتمر العباد بطاعته ، لم يكن عنها صادرا ، ولا منها

١٣٩

مانعا ، وإن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وان لم يحل وفعلوا فليس هو الذي أدخلهم فيه».

أقول : المراد أن إرادة الصرف عن مراد العبد من الله تعالى وهو محسوس لكل أحد ، فكم من مريد لشيء يصرف عن إرادته وكم غير مريد يصادفه ما يشتهيه وهذه هي المنزلة بين المنزلتين.

وعن الصادق (عليه‌السلام): «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين الأمرين»

أقول : تقدم ما يتعلق بكل واحد منها.

وعن الرضا (عليه‌السلام): «القائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك ، والمراد من الأمر بين الأمرين هو وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا ، وترك ما نهوا عنه ، والإرادة والمشية من الله تعالى في ذلك بالنسبة إلى الطاعات الأمر بها والرضا لها ، وبالنسبة إلى المعاصي النهي عنها ، والسخط لها والخذلان عليها ، وما من فعل يفعله العباد من خير ، أو شر إلّا ولله فيه قضاء ، والقضاء هو الحكم عليهم بما يستحقونه من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة».

أقول : أما أن القائل بالجبر كافر فلأنه نسب إلى الله تعالى الظلم ، ومع ذلك يعاقب العبد عليه. وأما أن القائل بالتفويض مشرك فلأنه أثبت إرادة مستقلة في مقابل ارادة الله تعالى. وأما ما ذكره (عليه‌السلام) في تفسير المنزلة بين المنزلتين فهو من باب المثال ، وإلّا فهو عام لجميع الأفعال.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) النقض : هو الفت والفك والفسخ ، ولا يستعمل غالبا إلّا فيما فيه القوة واستعداد البقاء ، قال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) [سورة النحل ، الآية : ٩٢] ، ويتعلق بالميثاق أيضا لأجل كونه محكما يعسر نقضه قال تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [سورة المائدة ، الآية : ١٣].

والعهد : حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال ، وهذه المادة في أية هيئة

١٤٠