مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

يَتَذَكَّرُونَ) [سورة ابراهيم ، الآية : ٢٥] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة والوجه في ذلك معلوم لأن ذكر المثل يجلي المعاني المعقولة الخفية ويؤثر في النفوس المأنوسة بالمحسوسات ، والنّاس إلى ما ارتكز في غرائزهم أميل وإلى ما يكون دائرا في ما بينهم أرغب وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم» وعلى هذا ضرب الله تعالى مثلا للمنافقين أولا بمن استوقد نارا.

وثانيا : بمثل آخر لحال المنافقين فشبه تعالى الإسلام بالمطر لأنه يحيي الأرض بعد موتها والإسلام يحيي القلوب ، وجعل تعالى شبهات المنافقين وأباطيلهم كالظلمات ، وشبه ما في الدين من الوعد والوعيد بالرعد والبرق وما يصيبهم من أهل الإسلام بالصواعق ، وهم في غلو واضطراب وخوف من النّاس : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [سورة المنافقون ، الآية : ٤] ، فهذا المثل يشرح حال المنافقين ويبين سوء أعمالهم وفساد أسرارهم فقد أتتهم الحكمة من السماء وفتح الله عليهم أبواب علومه فاعترضوا ذلك بالشبه والآراء الفاسدة (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) [سورة الجاثية ، الآية : ١٧] فحصل بعد هذا العلم الإلهي ظلمات وحيرة في أنفسهم باتباع الشهوات فصاروا في حيرة من أمرهم مترددين هالكين.

التفسير

قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ). المراد باستيقاد النّار هو إيقادها للاهتداء بنورها أو الاستضاءة به كما كان يفعل ذلك في قديم الزمان.

قوله تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ). المراد به الأعم من النور الظاهري الذي كان من إيقاد النار ، والنور المعنوي الذي هو الإسلام كما قال تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [سورة الزمر ، الآية : ٢٢] فإنّ المنافق لتماديه في الغي والضلالة ومزاولته للأعمال الشريرة حصلت له طبيعة ثانية أوجبت إطفاء نور الفطرة والاعراض عن الإيمان

١٠١

فأوكله الله الى نفسه وذهب بنوره ويدل على ذلك قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) [سورة الحديد ، الآية : ١٣] ولهذا النور مقام عظيم سيأتي البحث عنه في الآيات المناسبة له.

قوله تعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ). أي صيرهم في الظلمات لا يبصرون شيئا ، ويستفاد من حذف المتعلق وسياق الآية الشريفة أنّ الله تعالى اذهب جميع مراتب النور عنهم في الدنيا والآخرة بل سلب جميع الكمالات الإنسانية فلا يرجى منهم خير.

وإنما قال تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) ولم يقل اذهب الله نورهم لفرض انهم باختيارهم اختاروا الظلمة والعمى فنسب تبارك وتعالى إذهاب النور إلى نفسه لأن الجميع منتسب إليه تعالى بواسطة الأسباب الحاصلة باختيارهم.

قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ). أي : لا يرجعون عن الضّلالة الى الهداية لأنه طبع على حواسهم وختم على قلوبهم (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٩] والمراد من هذا المثل أن المنافقين لم يشعروا بما يفعلون فهم بمنزلة الأعمى الأصم الأبكم لأنهم تمادوا في الغي والضلالة.

قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ). الصيب اسم من أسماء المطر ، ويمكن أن يراد به السحاب لأنه يصيب الفضاء. والرعد هو صوت السحاب ، والبرق هو الضوء اللامع في السحاب. والصاعقة هي النّار العظيمة النازلة من السماء فتصعق ما تنزل به.

ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية الشريفة أربعة من كائنات الجو وهي : الصيّب ، والرعد ، والبرق ، والصاعقة وتقدم معانيها. وأما حقيقتها

١٠٢

وأسباب حدوثها فقد اختلف فيها فنسب الفريقان إلى نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أسبابا لها ذكروها في الكتب الموضوعة لنقل أحاديثه (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وذكر قدماء الفلاسفة الطبيعيين لها أسبابا خاصة مذكورة في الكتب الفلسفية ، وأما علماء الطبيعيات في العصر الحديث فقد ذكروا أمورا تغاير ما ذكره القدماء ، ويظهر من بعض الآيات والأحاديث ـ على ما سيأتي في محله ـ أنّ لها حياة وشعورا وإدراكا خاصة.

والظاهر أنّ ذلك لم يكن من الاختلاف في الحقيقة وإن قصرت عبارات بعض ، فإنّ لكل شيء من موجودات هذا العالم أسبابا ومعدات ومقتضيات وشروطا قد أدرك العقل بعضها ولم يدرك الآخر بعد ، وأنبياء الله تعالى وأولياؤه حيث إنّهم يرون أنّ جميع الحوادث تستند اليه عزوجل والملائكة المدبرين لأمره ينسبون ذلك اليه تعالى وهو الحق الذي لا محيص عنه ، وأما غيرهم فلا يدركون إلّا ما وصل اليه فكرهم مع أنه يمكن أن تكون في الواقع أسبابا أخرى غفلوا عنها وتشبه ذلك حالة المريض الذي اختلفت أنظار النّاس في مرضه فالعالم الروحاني يرى أنّ مرضه نشأ من ناحية دعاء المظلوم الذي ظلمه هذا الشخص مثلا ، والطبيب يقول إنّ مرضه من التهاب بعض أعضاء جسمه مثلا ، والنفساني يرى كدورة نفسه هي السبب ، وأهل المريض يرون أنه كان محموما فشرب الخل مثلا. ولما عاده وليّ من أولياء الله قال : إنّ ممرضك هو يشفيك كما قال تعالى : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [سورة الشعراء ، الآية : ٨٠] والجميع صادقون في أقوالهم وآرائهم فإن كل واحد ذكر مقتضيا من مقتضيات المرض وسببا من أسبابه لا أن يذكر العلة التامة ، وبهذا يمكن أن يجمع بين آراء العلماء في العلوم. وربما ننتفع به في غير المقام كما سيأتي.

وحيث إنّ المنافقين من الخائنين والخوف مسلط على الخائن مطلقا فتكون هذه الجملة : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) توبيخا آخر لهم بالملازمة فهم يخافون من موتهم بالصاعقة والرعد ، فيجعلون أصابعهم في

١٠٣

آذانهم ليتحفظوا بذلك بكل ما أمكنهم من أنحاء التحفظ بزعمهم منها.

وللصاعقة والرعد والبرق مراتب فيمكن أن يكون بعض مراتبها موجبا للموت بحسب قرب الوصول إلى الأجزاء الرئيسية من البدن.

قوله تعالى : (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ). الإحاطة هي الإحداق بالشيء والمراد الإحاطة من جميع الجهات علما وقدرة وعذابا في الدنيا وعقابا في الآخرة ومن حيث الاستدلال والبراهين ومن حيث الدنيا وجميع العوالم بل هو محيط بما سواه بكل معنى الإحاطة ، كما أن المعنى عام في جميع العصور من عصر التنزيل إلى يوم القيامة ولجميع أصناف الكفر وأفراده ، وفيه دلالة واضحة على أنه بعد احاطته تعالى بهم ليس وراء الكفر والنفاق إلّا الخزي والضلال والهلاك ومع ذلك يمهلهم.

وإحاطته تعالى بما سواه تارة : إحاطة وجودية ، وأخرى : علمية ، وثالثة : فعلية ، فمن الأول قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) [سورة النساء ، الآية : ١٢٦].

ومفهوم الإحاطة والمحاط متقوم بالاثنينية لغة وعقلا. فتوهم وحدة الوجود من مثل هذه التعبيرات في الآيات المباركة ـ كما زعم جمع من الفلاسفة والعرفاء ـ باطل ، فضلا عن وحدة الوجود والموجود كما زعم جمع من خواص العرفاء والفلاسفة ، وسيأتي تفصيل هذه المذاهب وفسادها في محالها إن شاء الله تعالى.

ومن الثاني قوله تعالى : (أَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) [سورة الطّلاق ، الآية : ١٢] وقوله تعالى : (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [سورة سبأ ، الآية : ٣] وهذا القسمان من إحاطته يعمان جميع ما سواه من أنحاء الممكنات.

وأما إحاطته الفعلية كقوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٥٤] فإن كان المراد بالفعل الخلق والتقدير فهي تعم

١٠٤

جميع ما سواه أيضا. وان كان المراد بها رضاه وسخطه فالأول للمؤمنين والأخير للكافرين والمنافقين ، ومآلهما واحد لأن علمه الأقدس عين ذاته المقدسة على تفصيل يأتي في مباحث العلم إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ). الخطف : هو الأخذ والإذهاب بسرعة. والمراد أن القرآن والآيات البينة والحجج القيمة تشتمل على أدلة قويمة وبراهين قاطعة فيظهر لهم الحق ويلمع في نفوسهم نور الإيمان كالبرق الخاطف يخطف قلوبهم فيزمعون على اتباعه ولكن الشبهات والآراء الفاسدة تعترضهم فيكونون على حيرة من أمرهم.

قوله تعالى : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ). لأنّ القرآن والشريعة يشتملان على بيان المصالح النوعية والترغيب إلى الخيرات والتأكيد في دفع المضار وأمثال ذلك وهذا هو الذي يضيء لهم فيمشون فيه.

قوله تعالى : (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا). القيام كناية عن التحير ، لأن القرآن وأحكام الدين تزجرهم عن ما يخالف مشتهياتهم النفسانية فيظلم عليهم فيتحيرون في أمرهم.

والآية الشريفة باختصارها تبين أن في الدين ما يصلح للنّاس دنياهم وارشاد لهم إلى أن فيه زجرا لهم عما يفسد حالهم ، فلا تختص هذه الآيات بالمنافقين بل تشمل كل مشكل في الأمور الشرعية النوعية.

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ). أي لو شاء الله لجعلهم غير مدركين لشيء. وإنما خص عزوجل السمع والبصر بالذكر ، لأن غالب الإدراكات في نوع النّاس إنما ترجع إليهما ، كما في قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨]. ويمكن أن يراد بالسمع والبصر الظاهران فيكون تتمة للمثل نفسه وبالآية الأخرى عدم الإدراك بقرينة قوله تعالى : (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧١].

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). لا يعجز عن شيء لأن كل شيء حادث وكل حادث فهو مخلوق ومعلول له تعالى فله التوحيد في المعبودية وفي الذات وفي الفعل ، وقد تقدم ما يتعلق بالأول في سورة الفاتحة

١٠٥

وأشرنا إلى الثاني في ما سبق وسيأتي القول في الثالث إن شاء الله تعالى.

بحث روائي :

عن الرضا (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) فقال : إنّ الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه ، ولكنه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلالة فمنعهم المعاونة واللطف وخلّى بينهم وبين اختيارهم.

أقول : لا بد وأن يرجع الترك ـ المنفي عن الله سبحانه وتعالى المستلزم لعدم القدرة الذي هو المحال بالنسبة إليه تعالى لفرض عموم قدرته ـ الى فعله سبحانه وتعالى كما ارجعه (عليه‌السلام) الى ذلك وهو التخلية بينهم وبين فعلهم والإمهال لهم في أعمالهم وعدم تعجيل العقاب عليهم ، فيكون كالصبر المنسوب إليه تعالى فإنّه أيضا يرجع إلى عدم تعجيل العقاب لا الصبر الاصطلاحي عندنا.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢))

بعد أن ذكر سبحانه في ما تقدم أصناف خلقه وهم المؤمنون المهتدون الفائزون ، والكافرون الذين اختاروا الكفر فطبع بذلك على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، والمنافقون الذين هم الأخسرون اعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا. فكما أن الدنيا مجمعهم بالوجود الجمعي والتدريجي في سلسلة الزمان كذلك الآخرة مجمعهم بالوجود الجمعي في الزمان والمكان. دعا سبحانه وتعالى في هذه الآيات النّاس إلى التوحيد والعبادة حتّى تستعد نفوسهم إلى التقوى. ثم عدد جلائل نعمه في السماء والأرض ليرغّبهم إلى التفكر ونبذ الأنداد فلا يستعينوا بغيره عزّ

١٠٦

وجل ، كل ذلك في عبارات يتدفق منها الحنان والعطوفة ، وقد أظهر اهتمامه بهم بقوله تعالى : (خَلَقَكُمْ) ثم ذكر خلق السابقين ليعرف أن الجميع خلقه وهو الخالق والمستحق للعبادة دون غيره وإنما كان الخلق السابق كالمقدمة لخلق المسلمين ثم بين الغاية القصوى للخلق وهي التقوى ثم عدد بعض النّعم النوعية التي تكون من خصائص الربوبية.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ). تقدم في سورة الفاتحة معنى العبادة والرب ، وفي هذه الآية أمر سبحانه النّاس بالعبادة وهي الغاية لخلق الإنس والجن كما قال سبحانه وتعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [سورة الذاريات ، الآية : ٥٦] وقد ورد عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام): «خلقهم ليأمرهم بالعبادة» ولم يبعث الله الرسل إلّا لدعوة أقوامهم إلى العبادة قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [سورة النحل ، الآية : ٣٦].

وإنما اختار من أسمائه المقدسة لفظ (الرب) لاشتمال الربوبية المطلقة على جميع الكمالات الإلهية ، وفيه إشعار بالحنان والرأفة بخلقه. وإنما أمر بالعبادة لأنها تقتضي الإعتقاد بالتوحيد الذاتي أيضا.

قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). ذكر تعالى خلق الذين من قبلهم لأنهم كانوا يفتخرون بآبائهم بل بعضهم يعبدونهم فقال تعالى : إنهم مخلوقون له كما أنتم مخلوقون له فنفى تعالى جهة الشرك بهذه الكلمة كما بين غاية العبادة وهي التقوى.

قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً). الفراش والبساط والمهاد لها جامع واحد وهو سهولة الأرض للانتفاع بها بكل معنى يتصور الانتفاع وإنما تفترق هذه الألفاظ بخصوصيات خاصة تأتي الإشارة إليها في محالها. والتعبير بالفراش كما في هذه الآية الشريفة ، والمهاد. كما في قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) [سورة النبأ ، الآية : ٦] ، والبساط

١٠٧

كما في قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) [سورة نوح ، الآية : ١٩] دلالة على أنها خلقت كذلك لأجل ملاءمتها لطباع النّاس وألفتهم بها كما يألفون إلى الفراش والبساط والمهاد.

والسماء تطلق على كل ما علا وأظل وعلى مجموع ما فوقنا وللعلو درجات ومراتب ولذا يتصور فيها الجمع وقد ورد في القرآن لفظ «السموات» كثيرا لأن جهات البعد كثيرة جدا ولا سيما بناء على أن البعد غير متناه. والبناء وضع شيء على شيء مع التماسك بينهما.

والمراد به أنه تعالى جعل السماء سقفا متماسكا لئلا تقع على الأرض ويدل عليه قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٣٢] ويمكن أن يراد بالبناء العمران في مقابل الخراب وليس المراد بالعمران والخراب ما ندركه بأبصارنا الظاهرية فقط بل لها معان أخرى لا يحيط بها إلّا الله تعالى ، وقد روى الفريقان عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «أطت السماء وحق لها أن تئط فإن ما بها موضع شبر إلّا وملك واضع جبهته عليه عظمة لله تعالى» ، وقد ورد التأكيد عن أئمة الدين في رد من زعم أنها خراب لا عمران فيها وعلى هذا يصح ترتيب نزول الماء من السماء سواء كان البناء بمعنى السقف أو بمعنى العمران كما لا يخفى على أهله.

وقد خلق السماء بأحسن نظام وأجمل صورة وجعل فيها أجراما غير متناهية متماسكة من غير أن يصطدم بعضها ببعض وقد كشف العلم الحديث لهذا السقف آثارا وفوائد كل ذلك يدل على تمام قدرته وعنايته تبارك وتعالى.

وإنما قدم سبحانه وتعالى الأرض لأنها من أنفع الكرات وأعظمها فائدة للإنسان ولأن فيها قيام حياة النبات والحيوان والإنسان ، والذي زاد في فضلها انها مهبط وحي السماء ومحل نشوء الأنبياء ومعبد الأولياء ومسجد أهل الإيمان ومحل تكميل نفوس العقلاء بل لم يخلق سبحانه وتعالى في العالم خلقا أجل نفعا وأعظم فائدة من هذه الكرة الأرضية ولذا كان اهتمامه تعالى بها أكثر واعتناؤه أشد من أي كرة أخرى فإنه سبحانه أعلم بأسرارها ورموزها

١٠٨

وكنوزها. وما يتوهم من أن الأرض كما أنها مجمع المنافع فيها شرور أيضا من أهمها انها محل إضلال الشياطين واغوائهم. غير صحيح بما ثبت في علم الفلسفة من أن الشر القليل لا يمنع عن الخير الكثير الموجود فيها ولم يذكر الأرض بلفظ الجمع في القرآن العظيم وان وردت جمعا في الدعوات المأثورة المعتبرة وقد ذكر السماء مفردا وجمعا في القرآن. نعم ورد في قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [سورة الطلاق ، الآية : ١٢] ، ويأتي ما يتعلق بذلك.

ولكن ثبت في الفلسفة القديمة بالبراهين القويمة أن جميع الكرات من النوع المنحصر في الفرد بلا فرق بين الأرض وغيرها ولو فرض تعدد فإنما هو بحسب النوع لا بحسب الأفراد الداخلة تحت نوع واحد ؛ وعلى هذا فإفراد لفظ الأرض في القرآن كإفراد لفظي الشمس والقمر يكون بحسب الدليل ، وسيأتي تتمة البحث وأما إفراد السماء وجمعها فقد تقدم بعض الكلام فيه.

قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ). الماء معروف وهو منشأ الحياة في كل ذي روح سواء كان إنسانيا أو حيوانيا أو نباتيا كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٣٠] والماء أصل حدوثه يكون في العالم العلوي وفي الأرض أمكنة مجعولة إلهية لإبقاء هذه النعمة الكبرى تسهيلا على المنتفعين به فأصل الحدوث من السماء والعلة المبقية في الأرض ، وسيأتي مزيد بيان لهذا البحث في الآيات المناسبة.

ولا ريب في تقوّم الإنسان بل كل حيوان برزق مخصوص ، والرزق متقوم بالثمرات وهي ما يحصل من النبات وكل نبات متقوم بالماء وهو من السماء وبالأخرة يرجع الرزق اليه تبارك وتعالى وقد أشار سبحانه وتعالى الى ذلك بقوله : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) [سورة الذاريات ، الآية : ٢٢].

وقد ذكر سبحانه في هذه الآيات من أصول نعمه نعمة الإيجاد والخلق

١٠٩

لنا ولأسلافنا ونعمة العيش والحياة ونعمة الغذاء ، فعرفنا ذاته المقدسة بآثار رحمته وعظيم نعمه وسعة فضله وغاية قدرته وعظمته.

قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تفريع وتوبيخ للمخاطب العاقل في صورة النهي ، يعني أنه مع علمكم بألطافه تعالى وعناياته عليكم كيف تجعلون له شريكا ومثلا. والند هو المثل والكفؤ والشريك. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه لا ندّ له لكونهم معترفين بأن الله خالقهم ورازقهم والمنعم عليهم والمدبر لأمورهم فلا يقول خلاف علمكم وعقيدتكم. ويجري معنى الآية في كل من يقول بأنّ مجاري الطبيعة مسخرة تحت إرادته تعالى ومع ذلك يعتقد بخلاف ذلك فلا يختص بزمان دون زمان.

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤))

بعد أن ذكر سبحانه أقسام الناس بالنسبة إلى الإيمان والكفر كما تقدم. أمر سبحانه الناس بعبادته لعلهم يصلون إلى الغاية المرجوّة لهم وهي التقوى والتي تستكمل نفوسهم بها لأنه المنعم عليهم بأنواع نعمه. وبما كان له من الربوبية العظمى في خلقه شرع في إثبات النبوة لعبده وبيان ما أنزله عليه وإزالة الشك بأن ما جاء به محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان من عند نفسه فتحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله. فالآية من أدلة اثبات النبوة ويصح جعلها من أدلة اثبات اعجاز القرآن كما يصح جعلها لهما معا لمكان تلازمهما في جميع مراحل الوجود.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ). يعني إذا حصل لكم الشك في أمر القرآن وزعمتم أنه من كلام البشر فأتوا بسورة من مثله ، وقد ذكر سبحانه وتعالى المنزل عليه بأحسن لفظ تشريفي يتدفق منه الحنان والعطوفة.

١١٠

فالسياق سياق العناية بالنسبة إلى كل من المنزل والمنزل عليه وهما متلازمان في جميع مراحل الوجود ، فيسقط بذلك ما أطاله جمع من المفسرين في مرجع ضمير «مثله» وانه يرجع الى العبد أو الى القرآن المعبر عنه بقوله (مِمَّا أَنْزَلْنا) وذلك لأن مقام النبوة التي هي من أجل المقامات الممكنة في البشر إنما يتحقق بنزول القرآن عليه ونزول القرآن لا يكون إلّا بالنسبة إليه فالحقيقة واحدة والفرق اعتباري. نعم لما كان للكتاب الاستقلال المحض وليست النبوة إلّا الدعوة اليه فتكون نسبة الداعي إلى المدعو اليه نسبة اللفظ إلى المعنى ولا أثر في اللفظ بدون المعنى فلا بد وأن يرجع الضمير إلى القرآن ، ويشهد لذلك ما ورد في سائر آيات التحدي قال تعالى : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) [سورة الطور ، الآية : ٣٤] ، وقال جلّ شأنه (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [سورة يونس ، الآية : ٣٨] ، وقال تعالى : (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٨٨].

وقد ثبت في العلوم الأدبية أن الجملة الشرطية تجتمع مع إمكان الشرط وتحققه خارجا بل ومع امتناعه فعلا أيضا ، ولا إشكال في تحقق الريب بالنسبة إلى بعضهم وإمكانه بالنسبة إلى بعضهم الآخر فيصح استعمال الجملة على أي تقدير.

ولفظ (كان) في نظائر المقام منسلخ عن الزمان بل أثبتنا في محله عدم دلالة الفعل على الزمان أصلا وإنما الزمان مستفاد من السياق إن لم تكن قرينة على الخلاف والريب : هو الشك كما تقدم في أول السورة.

وكلمة (من) للتبيين لكثرة وضوح المطلب وأنّ شأن هذا القرآن مما لا يرتاب فيه وأن معارضة الناس هنا معه كمعارضة سحرة فرعون مع عصا موسى ومعارضة نمرود مع إبراهيم الخليل وأنه لا معنى معقول لمعارضة المقهور تحت الطبيعة مع من هو قاهر عليها ، فالتحديات القرآنية انما وقعت لإتمام الحجة على المعاندين لا أن تكون تحديا حقيقيا واقعيا ، ومنه يظهر أن جميع ما ذكروه في التحدي في الكتب الكلامية والتفاسير بالنسبة إلى المعجزات

١١١

وخوارق العادة غير صحيح إلّا بالنسبة إلى إتمام الحجة.

والسورة هي بعض الشيء وطائفة منه قلّ أو كثر ، والتحدي بها يقتضي التحدي بأقصر سورة في القرآن ، بل إذا كان ال (ب) للتبعيض يشمل الآية الواحدة أيضا.

ثم إنه ورد التحدي بالقرآن في ثلاثة مواضع غير هذا الموضع : قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٨٨].

وثانيها قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة هود ، الآية : ١٣]. وثالثها قوله جل شأنه : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [سورة يونس ، الآية : ٣٨]. نعم. ذكر تعالى الحديث أيضا فقال سبحانه : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) [سورة الطور ، الآية : ٣٤] ولكن المراد هو القرآن فيرجع الى القسم الأول.

ولعل الوجه في اختلاف التحدي بالقرآن تارة بمثله ، وأخرى بعشر سور من مثله ، وثالثة بسورة من مثله اختلاف أشخاصهم فبعض ادعى الإتيان بالمثل ، وبعض ادعى الإتيان بعشر سور مثله ، وبعضهم ادعى الإتيان بسورة مثله ، أو لأجل اختلاف الأزمنة ففي أوائل البعثة اتفقوا على الإتيان بالمثل وبعد ظهور العجز في الجملة ادعوا الإتيان بعشر سور مثله وبعد استقرار العجز تحدوا بإتيان سورة من مثله.

وما يقال : من أنّ المتحدي (بالكسر) هو الله تعالى في جميع معجزات الأنبياء خصوصا معجزة خاتم الأنبياء المعجزة الدائمة الأبدية ، أو أنّه النبي من قبل الله تعالى فيرجع إليه سبحانه أيضا والمتحدّى به في المقام إما هو القرآن أو النبي الصادر منه المعجزة والمتحدى منه هو عامة الخلق ولا بد من السنخية في الجملة بين المتحدي (بالكسر) والمتحدى منه فالملك الجليل العاقل لا يتحدى مع سواد الناس في شيء ، وكذا لا بد منها بين المتحدي (بالكسر) والمتحدى به فمن كانت لديه جوهرة نفيسة منحصرة بالفرد في العالم كله ليس

١١٢

له أن يتحدى في ذلك من في عرض النّاس فلا موضوع للتحدي الذي أطيل القول فيه من المتكلمين وتبعهم جمع من المفسرين.

مردود أولا : بأنّ أصل التحدي إنّما هو لإتمام الحجة على الأمة لئلا يكون للناس على الله حجة ، وكل ما تحققت هذه الجهة يصح التحدي ومع عدمه فلا موضوع له. وثانيا : بأنه لطف وعناية منه جل شأنه مع الخلق ومما شاة معهم وإظهار لضعفهم مما يتوهمون لذلك.

قوله تعالى : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). الدعاء : النداء والاستعانة. والشهداء : جمع شهيد وهو من يعتد بحضوره ممن له اعتبار في القول أو الحل والعقد ، وبعبارة أخرى أهل الخبرة بالشيء. وما دون الله أي ما سوى الله. والمراد أنه إذا كنتم صادقين في دعواكم فأتوا بسورة من هذا القرآن ولو كان بمعونة ما سوى الله فإذا عجزوا عن ذلك يكون ذلك حجة قاطعة على ثبوت أصل الدعوى وهي كون القرآن معجزة إلهية أنزله لإتمام الحجة عليهم.

قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا). بيان لثبوت عجزهم وعدم استطاعتهم لما يدعونه ، والجملة الأولى إشارة لإيكال الموضوع الى اختيارهم ، والثانية اخبار واقعي عن الواقع المحقق في علم الله وما هو المتحقق في نظام الطبيعة من عدم ارتباط المحدود المقيد بها بمن هو قاهر عليها إلّا بإرادته تعالى فالنفي الأبدي إنما هو لأجل أن المدعو به يستلزم الخلف وهو محال ذاتي.

قوله تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ). الوقود (بفتح الواو) ما توقد به النار. والنّاس هم الكافرون والعصاة. والحجارة هي حجر الكبريت أو سائر المعادن الحجرية التي تستعمل للوقود بل يمكن أن يراد بها نفس النّاس الكفرة بعضهم بالنسبة إلى بعضهم وهو ما يقتضيه قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٩٨] فيصير الموقود والوقود شيئا واحدا فكل من ازداد طغيانه وتبعه قوم يكون حجارة بالنسبة إلى تابعيه مع وجود الحياة في المتبوع أيضا.

١١٣

ثم إنه في المقام بحثان :

الأول : إنّ التكليف بالشيء يدور مدار القدرة عقلا وشرعا فلا يصح التكليف بغير المقدور كذلك وفي هذه الآية المباركة أخبر سبحانه بقوله تعالى : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) أنه من التكليف بغير المقدور الذي هو باطل. والجواب عن ذلك بأن التكليف إن كان للامتحان ـ كما عرفت ـ أو إتماما للحجة عليهم وأخذا بإنكارهم للنبوة والمعجزة يصح ولو مع العلم بعدم إمكان الامتثال.

الثاني : إنّ العقاب مترتب على مخالفة الله عزوجل وفي المقام لم تتحقق منهم مخالفة حتّى يتعلق بهم العقاب. والجواب يظهر من الجواب السابق فإذا تمت الحجة عليهم بالنبوة وإعجاز القرآن لا بد لهم من التصديق والاعتقاد بهما وحينئذ الريب والشك الحاصل باختيارهم مخالفة توجب استحقاق العقاب.

قوله تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ). ذكر الله تعالى إعداد النّار أو العذاب للكافرين في جملة من الآيات وإعداد الجنة للمتقين كذلك قال سبحانه : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣١] كما قال جل شأنه : (سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣٣] إلى غير ذلك من الآيات ، فيستفاد من الآية أمور :

الأول : أن أصل خلق النّار كان لأجل الكافرين فإذا أطلق في القرآن أنّ النار للفاسقين أو المجرمين لا بد من حملهم على الكافرين بقرينة (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) أو أن نارهم غير ما أعدت للكافرين بحسب المرتبة والدرجة.

الثاني : إنها أعدت فيستفاد من لفظ الإعداد سبق الوجود إذ لا يطلق هذا اللفظ على المقارنة الوجودية أو التأخير الوجودي إلّا بالعناية.

الثالث : سنخ هذه الآيات نحو بشارة للمؤمنين بأن النّار لم تعد لهم ـ كما يدل عليها بعض الأخبار على ما يأتي ـ وان دخلوها لبعض معاصيهم

١١٤

وبينهما فرق واضح. وفي المقام جزاء لإنكارهم للمعجزة الأبدية التي هي القرآن باختيارهم يدخلون النّار التي أعدت لهم.

ثم إنّ الإعداد من الأمور الإضافية وله مراتب متفاوتة كثيرة يقول القائل : أعددت هذه الحنطة لطعامي مثلا أو هذا القماش للباسي أو هذه الأرض لمسكني إلى غير ذلك من الأمثلة ومقتضى ما ورد من الآيات المباركة والأخبار المستفيضة من الطرفين ـ على ما يأتي في محله ـ أنّ الإعداد حاصل من الأعمال والأفعال ، كقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «الدنيا مزرعة الآخرة» لا أنّ الله تعالى أعد ذلك بذاته الأقدس أولا وبالذات بلا فرق بين درجات المتقين ودركات الكافرين والمنافقين فترجع موجبات الإعداد الى نفس الطائفتين فالمعد (بالكسر) إنما هو نفس المكلف والإعداد يحصل من عمله ، وسيأتي في الآيات المناسبة تفصيل الكلام إن شاء الله تعالى.

وحيث إنّ هذه الآية مفتتح آيات التحدي إلى المعجزة لا بد وان نشير إليها في الجملة.

حقيقة الإعجاز :

الأفعال الاختيارية الصادرة عن الإنسان على أقسام :

(الأول) : أن لا يستند إلى سبب وهو محال ، لما ثبت بالأدلة العقلية من أنّ حدوث الفعل الاختياري بلا سبب فاعلي محال.

(الثاني) : أن يستند إلى سبب من الأسباب الطبيعية الشايعة وهذا القسم معلوم لكل أحد.

(الثالث) : أن يكون سببه من الأسباب الطبيعية النادرة بحيث لو أمكن الاجتهاد في تحصيلها لظفر بها بلا دخالة خصوصية شخص فيها بل كل من تعلّم الأسباب وأحاط بها أمكن صدور تلك الأفعال منه جريا لقانون السببية والمسببية الجاري في جميع الممكنات. وجميع الأفعال النادرة ، والفنون العجيبة ، بل السحر والشعبذة ونحوهما من هذا القبيل. نعم يختص السحر ونحوه بأنّ لإيحاء بعض النفوس الشريرة دخلا في تحققه في الجملة على ما

١١٥

يأتي تفصيله في قوله تعالى : (إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢١].

(الرابع) : أن يكون سببه من الأسباب الغيبية الإلهية فكما أن نظم طبيعي العالم بمجرداته وأعراضه وجميع مادياته لا بد وأن يكون مورد إرادته المطلقة وتحت قيّوميته التامة كذلك تكون تلك الإفاضات المفاضة على الحيوانات ـ التي لا تحصى أنواعها فضلا عن أفرادها ـ بجلب منافعها ودفع مضارها وتوليد المثل ، بل صدور بعض الأفعال الجميلة كما قال تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) [سورة النحل ، الآية : ٦٨] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على ذلك ، وكذا في النباتات من إيحاء جلب المنفعة ودفع المضرة وإيجاد المثل. والإعجاز بنفسه أيضا يكون من هذا القسم فهو من فعله تعالى في أفراد خاصة من الإنسان إقامة للحجة على الجميع وارتباطا لعالم الشهادة بعالم الغيب ، فكما أنّ الله تعالى إذا أراد شيئا يقول له : (كُنْ فَيَكُونُ) بلا سبب في البين أصلا إلّا الإرادة التامة المقدسة ، جعل سبحانه لأنبيائه المعجزات ولأوليائه خوارق العادات بهذا المعنى لمصالح كثيرة.

والفرق بين ما أراده لنفسه وما جعله لغيره من جهات :

الأولى : أنّ الأول لنفسه من نفسه ، والثاني من غيره لغيره.

الثانية : أنّ الأول غير محدود بحد خاص أبدا ، والثاني محدود بخصوص الحد المفاض إليه فقط.

الثالثة : الأول واجب نظامي صدر عن الواجب بالذات ، والثاني واجب نظامي صدر عن الممكن بالذات فعلا وذاتا. وحينئذ يكون قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [سورة الأنفال ، الآية : ١٧] لا يختص بخصوص الرمي فقط بل هو جار في جميع معجزات الأنبياء وخوارق عادات الأولياء لأنّ إبراز المعجزة وخارق العادة على أيديهم له دخل في نظام التكوين ، كما أنّ التشريع كذلك بل هو غاية نظام التكوين.

١١٦

وربما يتوهم من أن ما ذكر صحيح لا إشكال فيه ولكنه مخالف للقاعدة التي تسالموا عليها في الفلسفة من أنه لا بد وأن تكون علة الطبيعي طبيعية ، والمعجزة وخارق العادة في عالم الطبيعة ومنها ، فلا بد وأن تحصل بالعلة الطبيعية. ولهذا التجأ بعض المفسرين إلى القول بأن علتها طبيعية لكن لا يعرفها إلّا من جرت على يده.

نقول : إنّ أصل القاعدة موردها العلل الطبيعية لا الفاعل المختار الذي هو محيط بكل شيء ويفعل ما يشاء ، مع أن جعل المعجزة وخارق العادة من عالم الطبيعة ممنوع بل هما من عالم آخر تظهران في ظلمات الأرض ، ولم يقم دليل على أن كل ما يظهر في عالم الطبيعة ـ من العالم الآخر ـ لا بد أن يكون من الطبيعة ، بل الدليل على خلافه كما يأتي إن شاء الله تعالى.

وليس ما ذكرناه في معنى المعجزة مبنيا على الحلول ولا على وحدة الوجود والموجود ، لما سيأتي من إثبات بطلان ذلك كله إن شاء الله تعالى ، بل المعجزة وخارق العادة من إيجاد الله تعالى القدرة الخلّاقية ـ في الجملة ـ في من شاء من عباده لمصالح كثيرة تقتضي ذلك. ولا فرق بين المعجزة وخارق العادة من هذه الجهة إلّا أنّ الأولى لا بد وأن تقترن بالتحدي أي : الدعوة إلى المبارزة والمنازعة في الإتيان بمثلها في الناس ، بخلاف الثاني فإنّه قد يصدر عن عبد خمول في فلاة من الأرض لا يعرف ولا يعرفه أحد كالخضر.

فحقيقة الإعجاز قدرة النفس الإنسانية على إيجاد ما يخرق به الطبيعة والعادة والتصرف في هذا العالم بما هو خارج عنه كل ذلك بإقدار من الله تعالى عليه لمصالح متعددة تقتضيها الظروف. هذه خلاصة ما ينبغي أن يقال في المعجزة ، وللقوم فيها تفاصيل في كتب الكلام والتفسير.

التحدي ومعناه :

التحدي هو نداء الناس جميعا إما للإتيان بمثل ما يدعيه المدعي أو الاعتراف بالعجز والقصور فتثبت أصل الدعوى لا محالة باعتراف الخصم ، وهو من أحسن الطرق لإثبات المطلوب وإقامة الحجة عليه. وهو

١١٧

شايع في المحاورات والمخاصمات العرفية من قديم الأعصار خصوصا في الجاهلية ، وتشهد لذلك معلقاتهم على باب الكعبة فإنها كانت للتحدي لإظهار ما يفتخرون به في الفصاحة والبلاغة فجاء القرآن وأبطل ذلك وأتم الحجة عليهم بما كان شايعا لديهم.

فمعنى التحدي دعوة الخصم إلى الإتيان بما أتى به المدعي وبعد ثبوت عجزه باعترافه ثبتت دعوى المدعي لا محالة. فما نسب إلى بعض من أن الله تعالى أعجزهم عن ذلك وصرفهم عن التأمل حوله. مردود : بما عرفت سابقا ولا ريب في عجز ما سواه تعالى عن الإتيان بالقرآن وإنما جيء بالجمل الشرطية لإظهار العجز والتوبيخ وإتمام الحجة وغير ذلك من الدواعي.

إعجاز القرآن :

وجوه إعجاز القرآن كثيرة ومتعددة بل هو من جميع الجهات لأن قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [سورة الاسراء ، الآية : ٨٨] خطاب عام لجميع أفراد الإنس والجن بما فيهم من العلماء وارباب علوم شتى وفنون كثيرة فلا بد وان يعم الجميع بما هم كاملون ومخترعون فيه. وبعبارة أخرى : أن دعوة المبارزة والتحدي بالإتيان بالمثل دعوة إلى العقل الإمكاني من حيث هو كذلك وقد ثبت عجزه عن الإتيان بمثله.

وأما الإشكال بأنه لا وجه للتحدي بهذا التعميم ، ثم لا وجه للتحدي من كل شيء. فهو مردود : بأن في القرآن آيات كثيرة دالة على كماله من جميع الجهات قال تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [سورة النحل ، الآية : ٨٩] ، وقال تعالى : (لا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [سورة الأنعام ، الآية : ٥٩] ، ثم قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) [سورة سبأ ، الآية : ٢٨] فلا بد وأن يكون التحدي عاما من جميع الجهات ومن كل جهة يشمل المتحدى به على الدعوة من تلك الجهة وإلّا لما تمت الحجة كما هو معلوم ، فكل شيء فيه جهة حسن وكمال للفرد أو المجتمع في الدنيا أو النشآت الأخرى يكون القرآن معجزة فيه من حيث بيانه والاستكمال

١١٨

فيه ، فهو معجزة للفصيح والبليغ في فصاحته وبلاغته ، وللعالم في علمه ، وللفلسفي في فلسفته إلى غير ذلك ، فإذا كانت وجوه الإعجاز كثيرة فنحن نشير إلى المهم منها على سبيل الاختصار إن شاء الله تعالى.

حياة القرآن :

ليس المراد من الحياة في القرآن هي الحياة المعروفة في الحيوان ـ التي هي عبارة عن الحركة الإرادية التي تكون في معرض الزوال والفناء ـ بل المراد منها هي الحياة الحقيقية الواقعية لأن قوام حياة الفرد والمجتمع إنما هو بالكمالات المعنوية الحاصلة لهما والقرآن هو الذي يفيد الكمال الفردي والاجتماعي سواء أكان في هذا العالم أم في عالم آخر.

وبعبارة أخرى : هو الكمال للكل بكل معنى الكمال وهذا هو معنى الحياة التي وردت في قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢٢] ، وقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [سورة النحل ، الآية : ٩٧] ، وقوله تعالى : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) [سورة الأنفال ، الآية : ٢٤] ، وقال جل شأنه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [سورة الشورى ، الآية : ٥٢] فإذا كان القرآن روحا بذاته وكان من عالم الأمر يكون منشأ حياة الغير لا محالة ، كما سيأتي تفصيل ذلك.

والحياة لها أقسام : حياة العقول المجردة على ما أثبتها جمع من الفلاسفة ، حياة الملائكة ـ كما هي المنساق من الكتاب والسنة وسائر الأدلة على ما يأتي تفصيلها ـ على أنواعهم التي لا يحيط بها إلّا الله تعالى منها سادات الملائكة ـ مثل جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ـ ومنها حملة العرش الكروبيون ، ومنها روح القدس الذي يظهر من الأخبار أنه غير جبرائيل. وحياة القرآن المقدس أفضل ، لأن جميع ما تقدم له حياة من جهة وللقرآن حياة من جميع الجهات ، ويأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء الله تعالى.

١١٩

إعجاز القرآن في المعارف الإلهية :

يشتمل القرآن على كثير من العقائد الدينية والعلوم الإلهية والمعارف الربوبية فهو السابق في جميع هذه العلوم وقد شهد بذلك جميع الأئمة الهداة الذين هم أحد الثقلين وجميع علماء المسلمين بل وغيرهم فقد تحدى الناس في التوحيد الفعلي قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [سورة فصلت ، الآية : ٥٣] ، وقال تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة إبراهيم ، الآية : ١٠] ، وقال جل شأنه : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [سورة الحشر ، الآية : ٥٩] ، وقال تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [سورة الزمر ، الآية : ٦٢] إلى غير ذلك من الآيات المباركة التي يستدل بها من المجعول لإثبات الجاعل ، وليس في البراهين التي أقامها الفلاسفة أظهر وأبين وأتم من هذا البرهان المسمى عندهم ب (البرهان اللمّي) أي العلم من المعلول بالعلة فهو معجزة في إثبات التوحيد الفعلي.

كما أنه معجزة في التوحيد الذاتي الذي هو من أهم مقاصد الفلاسفة وقد كتبوا في ذلك كتبا ، وصنفوا رسائل ولم يأتوا في ذلك شيئا جديدا وما ذكروه إنما أخذوه من القرآن الكريم ، قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [سورة الأنبياء ، الآية : ٢٢] ، وقال تعالى : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) [سورة الحج ، الآية : ٢١] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

وأما توحيد صفاته فقد تعرض الفلاسفة والعرفاء له أيضا وجميعهم اقتبسوا من نور هذا الكتاب العظيم قال تعالى : (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [سورة يوسف ، الآية : ٣٠] بناء على ما ثبت في محله من أن الذات ذات جامع لجميع صفات الكمال فنفي الهوية عما سواه إثبات لحصر جميع صفات الكمال بالنسبة إليه ، وسيأتي البحث عنه في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

١٢٠