كنز الفوائد - ج ٢

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي

كنز الفوائد - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي


المحقق: الشيخ عبدالله نعمه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

قال الله تعالى (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ)

والتلبية هي جواب نداء إبراهيم عليهم السلام لما أذن في الناس بالحج.

وروي أن أمير المؤمنين عليهم السلام سئل عن الوقوف بالحل يعنى الوقوف بعرفات ولم لم يكن في الحرم فقال لأن الكعبة بيته والحرم داره فلما قصدوه وافدين وقفهم بالباب يتضرعون إليه.

قيل له فالمشعر الحرام لم صار في الحرم؟

قال لأنه لما أذن لهم في الدخول وقفهم بالباب الثاني فلما طال تضرعهم به أذن لهم بتقريب قربانهم فلما قضوا تفثهم وتطهروا من الذنوب التي كانت حجابا بينه وبينهم أذن لهم بالزيارة على الطهارة.

قيل له فلم حرم الله الصيام أيام التشريق؟(١)

قال لأن القوم زاروا الله تعالى وهم في ضيافته ولا يجوز لمضيف أن يصوم أضيافه.

قيل فالتعلق بأستار الكعبة لأي شيء هو

قال مثله مثل رجل له عبد جنى جناية وذنبا فهو متعلق بثوبه ويتضرع إليه ويخضع له أن يتجاوز له عن ذنبه.

. وروي أن الإشعار (٢) إنما هو لتحريم ظهر البدنة وأن تقليدها (٣) إنما هو ليعرفها صاحبها.

وقال في حد الحرم إن آدم لما أهبط من الجنة شكا إلى الله تعالى الوحشة فأنزل الله عليه ياقوتة حمراء فوضعها في موضع البيت وكان يطوف بها فكان يبلغ ضوءها موضع الأعلام يعني أطراف الحرم وحده.

وذكر في علة الطواف أن الله لما قال للملائكة (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ

__________________

(١) هي أيّام منى وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر بعد يوم النحر.

(٢) هو ما يجرح به الهدي في أذنه أو رقبته كعلامة عليه.

(٣) هو ما يقلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم به أنّه هدى فلا يتعرض له.

٨١

خَلِيفَةً) وقالت (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) وعلموا أنهم قد أذنبوا لاذوا بالعرش واستغفروا الله سبعة آلاف عام قال فبنى الله عزوجل لآدم عليهم السلام بيتا بحذاء العرش وأمره بالطواف حوله سبعة أشواط لكل ألف سنة طافتها الملائكة شوط واحد.

وروي في السعي بين الصفا والمروة أن إبراهيم عليهم السلام لما خلف إسماعيل وأمه بمكة ومضى عطش الصبي فخرجت أمه حتى قامت على الصفا وكان بينه وبين المروة شجر فقالت هل بالوادي من أنيس فلم يجبها أحد فمضت حتى انتهت إلى المروة فقالت هل بالوادي من أنيس فلم تجب ثم رجعت إلى الصفا ففعلت ذلك سبع مرات فجعل الله تعالى ذلك سنة من بعده.

وروي عن الصادق عليهم السلام أنه كان يقول ما من بقعة أحب إلى الله تعالى من المسعى لأنه يذل فيه كل جبار.

. وقال إن علة رمي الجمرات أن إبراهيم عليهم السلام تراءى له إبليس عندها فأمره جبرائيل برميه بسبع حصيات وأن يكبر مع كل حصاة ففعل وجرت بذلك السنة.

فهذا بعض ما ذكر في علل الحج قد أوردته مما رواه علي بن حاتم القزويني وجمعه.

واعلم أيدك الله أن هذه العلل المسطورة ليست بعلل موجبة وإنما منها ما هو على طريق التقريب كالتشبيه والتمثيل ومنها ما وقع في الابتداء فاقتضت المصلحة عند الله سبحانه أن يكون مستمرا جاريا فصار المبتدأ سببا لما بعده وكالعلة له.

ويدل على أنها ليست بعلل موجبة ما نعلمه من أنه قد كان يجوز نسخ هذه العبادة وورود الشرع بغيرها فلو كانت عن علة أوجبتها لم يكن يجوز نسخها بغيرها وهذا واضح والحمد لله ولي كل نعمة وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله وسلم تسليما.

٨٢

فصل من كلام أمير المؤمنين ع :

الفكرة مرآة صافية والاعتبار منذر ناصح من تفكر اعتبر ومن اعتبر اعتزل ومن اعتزل سلم العجب ممن خاف العقاب فلم يكف ورجا الث واب فلم يعمل الاعتبار يقود إلى الرشاد.

كل قول ليس لله فيه ذكر فلغو وكل صمت ليس فيه فكر فسهو وكل نظر ليس فيه اعتبار فلهو.

فصل :

حدثني القاضي أبو الحسن أسد بن إبراهيم السلمي الحراني قال أخبرني أبو حفص عمر بن علي العتكي قال حدثنا أحمد بن محمد بن هارون الحنبلي قال حدثنا أحمد بن حازم بن عروة قال حدثنا جعفر بن عون عن عمر بن موسى البربري عن أبيه عن عطية العوفي عن سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

لا يبغض عليا إلا فاسق أو منافق أو صاحب بدائع.

وأخبرني شيخنا المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضي الله عنه قال حدثنا أبو بكر محمد بن عمر الجعابي الحافظ قال حدثنا محمد بن سهل بن الحسن قال حدثنا أحمد بن عمر الدهقان قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا إسماعيل بن مسلم قال حدثنا الأعمش عن عدي بن ثابت عن زر بن حبيش قال رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام على المنبر وهو يقول والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إلي أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق (١)

وأخبرني شيخنا المفيد رضي الله عنه.

قال أخبرني أبو عبد الله محمد بن عمر المرزباني قال حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري قال

__________________ (١) رواه النسائي في خصائص أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلى الله عليه وسلم ٢٧. والسيوطي في تاريخ الخلفاء صلى الله عليه وسلم ١٧٠ رواه عن مسلم عن علي باختلاف يسير ، ورواه ابن المغازلي في مناقبه بعدة طرق صلى الله عليه وسلم ١٩٠ ـ ١٩٦ وهذا الحديث مرويّ بطرق عديدة ، حتى أن القاضي أبا بكر محمّد بن ـ

٨٣

حدثنا جعفر بن سليمان قال حدثنا النضر بن حميد عن أبي الجارود عن الحارث الهمداني قال رأيت عليا عليهم السلام جاء حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال :

قضي قضاء الله عزوجل على لسان النبي الأمي صلى الله عليه وسلم ألا لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى). (١)

دليل النص بخبر الغدير على إمامة أمير المؤمنين ع

اعلم أنه مما يدل على أنه المنصوص بالإمامة عليه ما نقله الخاص والعام من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من حجة الوداع نزل بغدير خم ولم يكن منزلا أمر مناديه فنادى في الناس بالاجتماع فلما اجتمعوا خطبهم ثم قررهم على ما جعله الله تعالى له عليهم من فرض طاعته وتصرفهم بين أمره ونهيه بقوله :

«ألست أولى بكم منكم بأنفسكم.»

فلما أجابوه بالاعتراف وأعلنوا بالإقرار رفع بيد أمير المؤمنين عليهم السلام وقال عاطفا على التقرير الذي تقدم به الكلام :

فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله (٢)

فجعل لأمير المؤمنين عليهم السلام من الولاء في أعناق الأمة مثل ما جعله الله له

__________________

ـ عمر الجعابي المتوفّى سنة ٣٨٥ ه ألف كتابا في طرق من روى هذا الحديث عن عليّ عليه السلام انظر :

سفينة البحار م ١ صلى الله عليه وسلم ١٥٧.

(١) المصدر نفسه دون قوله قضى قضاء إلخ ودون قوله وقد خاب من افترى.

(٢) حديث الغدير من المتواتر معنى وقد رواه أكثر من مائة صحابي ، وقد رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد في المسند ، والرازيّ في التفسير وأبو نعيم في الحلية والسيوطي في الدّر المنثور والخطيب البغداديّ في تاريخ بغداد والنسائي في الخصائص ، وهو مرويّ أيضا في كنز العمّال ومستدرك الصحيحين والإصابة وأسد الغابة والإمامة والسياسة ومشكل الآثار ، وفيض القدير ومجمع الزوائد والصواعق المحرقة : انظر : (فضائل الخمسة ج ١ صلى الله عليه وسلم ٣٤٩ ـ ٣٨٢) وفي الصواعق أنّه حديث صحيح لا مرية فيه. وقد رواه ابن المغازلي في المناقب بعدة طرق انظر:ص ١٦ ـ ٢٧.

٨٤

عليهم مما أخذ به إقرارهم لأن لفظة مولى يفيد ما تقدم من التقرير من ذكر الأولى فوجب أن يريد بالكلام الثاني ما قررهم عليه في الأول وأن يكون المعنى فيهما واحدا حسبما يقتضيه استعمال أهل اللغة وعرفهم في خطابهم.

وهذا يوجب أن يكون أمير المؤمنين عليهم السلام أولى بهم من أنفسهم ولا يكون أولى بهم إلا وطاعته فرض عليهم وأمره ونهيه نافذ فيهم وهذه رتبة الإمام في الأنام قد وجبت بالنص لأمير المؤمنين ع.

واعلم أيدك الله أنك تسأل في هذا الدليل عن أربعة مواضع :

أحدها أن يقال لك ما حجتك على صحة الخبر في نفسه فإنا نرى من يبطله.

وثانيها أن يقال لك ما الحجة على أن لفظة مولى يحتمل أولى وأنها أحد أقسامها؟

وثالثها إذا ثبت أنها أحد محتملاتها فما الحجة على أن المراد بها في الخبر الأولى دون ما سوى ذلك من أقسامها؟

ورابعها ما الحجة على أن الأولى هو الإمام ومن أين يستفاد ذلك في الكلام؟؟

الجواب عن السؤال الأول

أما الحجة على صحة خبر الغدير فما يطالب بها إلا متعنت لظهوره وانتشاره وحصول العلم لكل من سمع الأخبار به.

ولا فرق بين من قال ما الحجة على صحة خبر الغدير وهذه حاله وبين من قال ما الحجة على أن النبي صلى الله عليه وسلم حج حجة الوداع لأن ظهور الجميع وعموم العلم به بمنزلة واحدة.

وبعد فقد اختص هذا الخبر بما لم يشركه فيه سائر الأخبار فمن ذلك أن الشيعة نقلته وتواترت به.

وقد نقله أصحاب السير نقل المتواترين به يحمله خلف عن سلف وضمنه

٨٥

جميعهم الكتب بغير إسناد معين كما فعلوا في إيراد الوقائع الظاهرة والحوادث الكائنة التي لا يحتاج في العلم بها إلى سماع الأسانيد المتصلة.

ألا ترى إلى وقعة بدر وحنين وحرب الجمل وصفين كيف لا يفتقر في العلم بصحة شيء من ذلك إلى سماع أسناد ولا اعتبار أسماء الرجال لظهوره المغني وانتشاره الكافي ونقل الناس له قرنا بعد قرن بغير إسناد حتى عمت المعرفة به واشترك الكل في ذكره.

وقد جرى خبر يوم الغدير هذا المجرى واختلط في الذكر والنقل بما وصفنا فلا حجة في صحته أوضح من هذا.

ومن ذلك أنه قد ورد أيضا بالأسانيد المتصلة ورواه أصحاب الحديثين (١) من الخاصة والعامة من طرق في الروايات كثيرة فقد اجتمع فيه الحالان وحصل له البيان.

ومن ذلك أن كافة العلماء قد تلقوه بالقبول وتناولوه بالتسليم فمن شيعي يحتج به في صحة النص بالإمامة ومن ناصبي يتأوله ويجعله دليلا على فضيلة ومنزلة جليلة.

ولم نر للمخالفين قولا مجردا في إبطاله ولا وجدناهم قبل تأويله قد قدموا كلاما في دفعه وإنكاره.

فيكون ذلك جاريا مجرى تأويل أخباره المشتبهة ورواياتها بعد الإبانة عن بطلانها وفسادها بل ابتدءوا بتأويله ابتداء من لا يجد حيلة في دفعه وتوفره على تخريج الوجوه له لتوفر من قد لزمه الإقرار به.

وقد كان إنكاره أروح لهم لو قدروا عليه وجحده أسهل عليهم لو وجدوا سبيلا إليه.

__________________

(١) الأولى : أصحاب الحديث.

٨٦

فأما ما يحكى عن أبي داود السجستاني (١) من إنكاره له وعن الجاحظ (٢) من طعنه في كتاب العثمانية فيه فليس بقادح في الإجماع الحاصل على صحته لأن القول الشاذ لو أثر في الإجماع وكذلك الرأي المستحدث لو أبطل مقدم الاتفاق لم يصح الاحتجاج بالإجماع ولا يثبت التعويل على اتفاق.

على أن السجستاني قد تنصل من نفي الخبر.

فأما الجاحظ فطريقته المشتهرة في تصنيفاته المختلفة وأقواله المتضادة المتناقضة وتأليفاته القبيحة في اللعب والخلاعة وأنواع السخف والمجانة الذي لا يرتضيه لنفسه ذو عقل وديانة يمنع من الالتفات إلى ما يحكيه وتوجب التهمة له فيما ينفرد به ويأتيه.

وأما الخوارج الذين هم أعظم الناس عداوة لأمير المؤمنين عليهم السلام فليس يحكي عنهم صادق دفعا للخبر.

والظاهر من حالهم حملهم له على وجه من التفضيل ولم يزل القوم يقرون لأمير المؤمنين عليهم السلام بالفضائل ويسلمون له المناقب وقد كانوا أنصاره وبعض أعوانه.

وإنما دخلت الشبهة عليهم بعد الحكمين فزعموا أنه خرج عن جميع ما كان يستحقه من الفضائل بالتحكيم وقد قال شاعرهم :

كان علي قبل تحكيمه

جلدة بين العين والحاجب

ولو لم يكن الخبر كالشمس وضوحا لم يحتج به أمير المؤمنين عليهم السلام يوم الشورى حيث قال للقوم في ذلك المقام.

أنشدكم الله هل فيكم أحد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال من كنت مولاه فهذا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه غيري؟

__________________

(١) هو سليمان بن الأشعث بن إسحاق السجستانيّ أحد حفاظ أهل السنة صاحب كتاب السنن المشهور ، سكن البصرة وتوفي بها سنة (٢٧٥ ه).

(٢) أبو عثمان عمر وبن بحر بن محبوب الجاحظ الليثي البصري الأديب المعتزلي المعروف مات بالبصرة سنة (٢٥٥ ه) ، له مؤلّفات كثيرة منها : البيان والتبيين.

٨٧

فقالوا اللهم لا.

فأقر القوم به ولم ينكروه واعترفوا بصحته ولم يجحدوه.

فإن قال قائل فما باله لم يذكر في حال احتجاجه به تقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس على أنه أولى بهم منهم بأنفسهم ولم أقتصر على ما ذكر وهو لا ينفع في الاستدلال عندكم ما لم يثبت التقرير المتقدم وما جوابكم لمن قال إن المقدمة لم تصح وليس لها أصل وقد سمعنا هذا الخبر ورد في بعض الروايات وهو عار منها فما قولكم فيها؟

قيل له إن خلو مناشدة (١) أمير المؤمنين عليهم السلام من ذكر المقدمة لا يدل على نفيها أو الشك في صحتها لأنه قررهم من بعض الخبر على ما يقتضي الإقرار بجميعه اختصارا في كلامه وغنى بمعرفتهم بالحال عن إيراده على كماله (٢).

وهذه عادة الناس فيما يقرون به.

وقد قررهم في ذلك المقام بخبر الطائر (٢) فقال أفيكم رجل قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم ابعث إلي بأحب خلقك يأكل معي غيري.

ولم يذكر هذا الطائر وكذلك لما قررهم بقول النبي عليهم السلام فيه حيث ندبه لفتح خيبر وذكر لهم بعض الكلام دون جميعه اتكالا منه على ظهوره بينهم واشتهاره.

فأما المتواترون بالخبر فلم يوردوه إلا على كماله ولا سطروه في كتبهم إلا بالتقرير الذي في أوله.

__________________

(١) في النسخة : (إنشاء)

(٢) خبر مناشدة عليّ عليه السلام يوم الشورى رواه الطبريّ الإمامي في المسترشد صلى الله عليه وسلم ٥٧ ـ ٦٢. وتجده في المناقب لابن المغازلي صلى الله عليه وسلم ١١١ ـ ١١٨.

(٣) حديث الطائر المشوي رواه أنس بن مالك ، وهو أنّه كان عند النبيّ صلّى اللّه عليه وآله طير فقال : اللّهمّ ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطائر فجاء عليّ عليه السلام فأكل معه». ورواه الترمذي في الصحيح. وهو مرويّ في مستدرك الصحيحين وحلية الأولياء ، وتاريخ بغداد للخطيب وفي أسد الغابة وكنز العمّال ومجمع الزوائد انظر (فضائل الخمسة ج ٢ صلى الله عليه وسلم ١٨٩ ، ١٩٥).

وقد روى حديث الطائر ، ابن المغازلي في المناقب بطرق عديدة انظر : المناقب صلى الله عليه وسلم ١٥٦ ـ ١٧٥.

٨٨

وكذلك رواه معظم أصحاب الحديث الذاكرين الأسانيد وإن كان منهم آحاد قد أغفلوا ذكر المقدمة فيحتمل أن يكون ذلك تعويلا منهم على العلم بالخبر فذكروا بعضه لأنه عندهم مشتهر فإن الأصحاب كثيرا ما يقولون فلان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر كذا ويذكرون بعض لفظ الخبر اختصارا.

وفي الجملة فإن الآحاد المتفردين بنقل بعضه لا يعارض بهم المتواترين الناقلين لجمعيه على كماله.

الجواب عن السؤال الثاني :

وأما الحجة على أن لفظة مولى يحتمل أولى وأنها أحد أقسامها فليس يطالب بها أيضا منصف كان له أدنى الاطلاع في اللغة وبعض الاختلاط بأهلها لأن ذلك مستفيض بينهم غير مختلف فيه عندهم وجميعهم يطلقون القول فيمن كان أولى بشيء أنه مولاه.

وأنا أوضح لك أقسام مولى في اللسان لتعلمها على بيان.

اعلم أن لفظة مولى في اللغة تحتمل عشرة أقسام

أولها الأولى وهو الأصل الذي يرجع إليه جميع الأقسام قال الله تعالى :

(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). (١)

يريد سبحانه هي أولى بكم على ما جاء في التفسير وذكره أهل اللغة وقد فسره على هذا الوجه أبو عبيدة معمر بن المثنى (٢) في كتابه المعروف بالمجاز في القرآن ومنزلته في العلم بالعربية معروفة وقد استشهد على صحة تأويله ببيت لبيد.

__________________

(١) سورة الحديد : ١٥.

(٢) هو معمر بن المثنى التيمي من تيم قريش مولى لهم ولد سنة ١١٤ ه وتوفّي سنة ٢١٠ / ٢١١ / ٢٠٨ / ٢٠٩ ه قال أبو العباسيّ ثعلب كان أبو عبيدة يرى رأى الخوارج ، عالما بالأخبار والأدب له مؤلّفات عديدة ذكرها ابن النديم في الفهرست صلى الله عليه وسلم ٧٩ ـ ٨٠.

٨٩

قعدت كلا الفرخين تحسب أنه

مولى المخافة خلفها وأمامها (١)

يريد أولى بالمخافة ولم ينكر على أبي عبيدة أحد من أهل اللغة وثانيها مالك الرق قال الله سبحانه (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) النحل : ٧٥.

يريد مالكه وهذا القسم يغني عن الإطالة فيه

وثالثها المعتق.

ورابعها المعتق وذلك أيضا مشهور معلوم وخامسها ابن العم قال الشاعر :

مهلا بني عمنا مهلا موالينا

لا تنشروا بيننا ما كان مدفونا

وسادسها الناصر قال الله عزوجل :

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) سوةر محمد : ١١.

وسابعها المتولي لضمان الجريرة ومن يحوز الميراث قال الله عزوجل

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) النساء : ٣٣.

وقد أجمع المفسرون على أن المراد بالموالي هاهنا من كان أملك بالميراث وأولى بحيازته قال الأخطل (٢)

__________________

(١) هذا البيت من معلقة لبيد ، التي أولها.

عفت الديار محلها فمقامها

بمنىّ تأوّد غولها فركامها

(٢) هو أبو مالك غياث بن غوث التغلبي من شعراء الدولة الأموية البارزين كان نصرانيا ومات سنة (٩٢ ه).

٩٠

فأصبحت مولاها من الناس بعده

وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا (١)

وثامنها الحليف

وتاسعها الحار

وهذان القسمان أيضا معروفان.

وعاشرها الإمام السيد المطاع وسيأتي في الجواب عن السؤال الرابع إن شاء الله تعالى.

فقد اتضح لك بهذا البيان ما يحتمله لفظة مولى من الأقسام وأن أولى أحد محتملات معاني الكلام بل هي الأصل وإليها يرجع معنى كل قسم لأن مالك الرق لما كان أولى بتدبير عبده من كان لذلك مولاه والمعتق لما كان أولى بمعتقه في تحمله لجريرته وألصق به من غيره كان مولاه وابن العم لما كان أولى بالميراث ممن هو أبعد منه في نسبه وأولى أيضا من الأجنبي بنصرة ابن عمه كان مولى والناصر لما اختص بالنصرة وصار بها أولى كان لذلك مولى.

وإذا تأملت بقية الأقسام وجدتها جارية هذا المجرى وعائدة بمعناها إلي الأولى.

وهذا يشهد بفساد قول من زعم أنه متى أريد بمولى أولى كان ذلك مجازا وكيف يكون مجازا وكل قسم من أقسام مولى عائد إلي معنى الأولى وقد قال الفراء (٢) في كتابه معاني القرآن إن الولي والمولى في كلام العرب واحد.

__________________

(١) وقبل هذا البيت قوله :

فما وجدت فيها قريش لأمرها

أعف وأولى من أبيك وأمجدا

 وأورى زنادا ولو كان غيره

غداة اختلاف الناس أكدى وأصلدا

(٢) هو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد اللّه بن منظور الأسلمي الديلميّ الكوفيّ ؛ تلميذ الكسائي ، من أئمة العربية ، كانت له حظوة عند المأمون العباسيّ ، عهد إليه تعليم ولديه ، توفّي سنة ٢٠٧ ه تجد ترجمته في الكنى والألقاب ج ٣ صلى الله عليه وسلم ١٤ ـ ١٥ وفهرست ابن النديم صلى الله عليه وسلم ٩٩.

٩١

الجواب عن السؤال الثالث

فأما الحجة على أن المراد بلفظة مولى في خبر الغدير الأولى فهي أن من عادة أهل اللسان في خطابهم إذا أوردوا جملة مصرحة وعطفوا عليها بكلام محتمل لما تقدم به التصريح ولغيره فإنهم لا يريدون بالمحتمل إلا ما صرحوا به من الخطاب المتقدم.

مثال ذلك أن رجلا لو أقبل على جماعة فقال ألستم تعرفون عبدي فلانا الحبشي ثم وصف لهم أحد عبيده وميزه عنهم بنعت يخصه صرح به فإذا قالوا بلى قال لهم عاطفا على ما تقدم فاشهدوا أن عبدي حر لوجه الله عزوجل فإنه لا يجوز أن يريد بذلك إلا العبد الذي سماه وصرح بوصفه دون ما سواه.

ويجري هذا المجرى قوله فاشهدوا أن عبدي حر لوجه الله عزوجل ولو أراد غيره من عبيده لكان ملغزا غير مبين في كلامه.

وإذا كان الأمر كما وصفنا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل مجتهدا في البيان غير مقصر فيه من الإمكان وكان قد أتى في أول كلامه يوم الغدير بأمر صرح به وقرر أمته عليه وهو أنه أولى بهم من أنفسهم على المعنى الذي قال الله تعالى في كتابه :

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) الأحزاب : ٦.

ثم عطف على ذلك بعد ما ظهر من اعترافهم بقوله :

فمن كنت مولاه فعلي مولاه.

وكانت مولاه يحتمل ما صرح به في مقدمة كلامه ويحتمل غيره لم يجز أن يريد إلا ما صرح به في كلامه الذي قدم وأخذ إقرار أمته به دون سائر أقسام مولى وكان هذا قائما مقام قوله فمن كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه وحاشا لله أن لا يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أراد هذا بعينه.

٩٢

ووجه آخر

وهو أن قول النبي صلى الله عليه وسلم فمن كنت مولاه فعلي مولاه لا يخلو من حالين إما أن يكون أراد بمولى ما تقدم به التقرير من الأولى أو يكون أراد قسما غير ذلك من أحد محتملات مولى فإن أراد الأول فهو ما ذهبنا إليه واعتمدنا عليه.

وإن أراد وجها غير ما قدمه من أحد محتملات مولى فقد خاطب الناس بخطاب يحتمل خلاف مراده ولم يكشف لهم فيه عن قصده ولا في العقل دليل عليه يغني عن التصريح بمعنى ما نحال إليه وهذا لا يجيزه على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جاهل لا عقل له.

الجواب عن السؤال الرابع

وأما الحجة على أن لفظة أولى يفيد معنى الإمامة والرئاسة على الأمة فهو أنا نجد أهل اللغة لا يصفون بهذه اللفظة إلا من كان يملك تدبير ما وصف بأنه أولى به وتصريفه وينفذ فيه أمره ونهيه.

ألا تراهم يقولون إن السلطان أولى بإقامة الحدود من الرعية والمولى أولى بعبده والزوج أولى بامرأته وولد الميت أولى بميراثه من جميع أقاربه وقصدهم بذلك ما ذكرناه دون غيره.

وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله سبحانه (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أنه أولى بتدبيرهم والقيام بأمورهم من حيث وجبت طاعته عليهم.

وليس يشك أحد من العقلاء في أن من كان أولى بتدبير الخلق وأمرهم ونهيهم من كل أحد منهم فهو إمامهم المفترض طاعته عليهم.

ووجه أحسن

ومما يوضح أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يوجب لأمير المؤمنين عليهم السلام بذلك منزلة الرئاسة والإمامة والتقدم على الكافة فيما يقتضيه فرض الطاعة أنه قررهم بلفظ أولى على أمر يستحقه عليهم من معناها ويستوجبه من مقتضاها.

وقد ثبت أنه يستحق في كونه أولى بالخلق من أنفسهم أنه الرئيس عليهم

٩٣

والنافذ الأمر فيهم والذي طاعته مفترضة على جميعهم فوجب أن يستحق أمير المؤمنين عليهم السلام مثل ذلك بعينه لأنه جعل له مثل ما هو واجب له فكأنه قال من كنت أولى به من نفسه في كذا فعلي أولى به من نفسه فيه.

ووجه آخر

وهو أنا إذا اعتبرنا ما يحتمله لفظة مولى من الأقسام لم نر فيها ما يصح أن يكون من أراد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما اقتضاه الإمامة والرئاسة على الأنام.

وذلك أن أمير المؤمنين عليهم السلام لم يكن مالكا لرق كل من ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم رقه ولا معتقا لكل من أعتقه فيصح أن يكون أحد هذين القسمين المراد ولا يصح أن يريد المعتق لاستحالة هذا فيهما على كل حال.

ولا يجوز أن يريد ابن العم والناصر فيكون قد جمع الناس في ذلك المقام ويقول لهم من كنت ابن عمه فعلي ابن عمه أو من كنت ناصره فعلي ناصره لعلمهم ضرورة لذلك قبل ذلك المقام.

ومن ذا الذي لم يعلم أن المسلمين كلهم أنصار من نصره النبي صلى الله عليه وسلم فلا معنى لتخصيص أمير المؤمنين عليهم السلام بذلك دون غيره.

ولا يجوز أن يريد ضمان الجرائر واستحقاق الميراث للاتفاق على أن ذلك لم يكن واجبا في شيء من الأزمان.

وكذلك لا يجوز أن يريد الحليف لأن عليا عليهم السلام لم يكن حليفا لجميع حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولا يصح أيضا أن يريد من كنت جاره فعلي جاره لأن ذلك لا فائدة فيه وليس هو أيضا صحيحا في كل حال.

فإذا بطل أن يكون مراده صلى الله عليه وسلم شيئا من هذه الأقسام لم يبق إلا أن يكون قصده ما كان حاصلا له من تدبير الأنام وفرض الطاعة على الخاص والعام وهذه هي رتبة الإمام وفيما ذكرناه كفاية لذوي الأفهام.

٩٤

فصل وزيادة

فأما الذين ادعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قصد بما قاله في أمير المؤمنين عليهم السلام يوم الغدير أن يؤكد ولاءه في الدين ويجب نصرته على المسلمين وأن ذلك على معنى قوله سبحانه :

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) التوبة : ٧١

وأن الذي أوردناه من البيان على أن لفظة مولى يجب أن يطابق معنى ما تقدم من التقرير في الكلام وأنه لا يسوغ حملها على غير ما يقتضي الإمامة من الأقسام يدل على بطلان ما ادعوه في هذا الباب ولم يكن أمير المؤمنين عليهم السلام بخامل الذكر فيحتاج أن يقف في ذلك المقام ويؤكد ولاءه على الناس بل كان مشهورا وفضائله ومناقبه وظهور علو رتبته وجلالته قاطعا للعذر في العلم بحاله عند الخاص والعام.

على أن من ذهب في تأويل الخبر إلي معنى الولاء في الدين والنصرة فقوله داخل في قول من حمله على الإمامة والرئاسة لأن إمام العالمين تجب موالاته في الدين ويتعين نصرته على كافة المسلمين وليس من حمله على الموالاة في الدين والنصرة يدخل في قوله ما ذهبنا إليه من وجوب الإمامة فكان المصير إلي قولنا أولى(١).

وأما الذين غلطوا فقالوا إن السبب في ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الغدير إنما هو كلام جرى بين أمير المؤمنين وزيد بن حارثة فقال علي لزيد تقول هذا وأنا مولاك فقال له زيد لست مولاي إنما مولاي رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف يوم الغدير فقال من كنت مولاه فعلي مولاه إنكارا على زيد وإعلاما له أن عليا مولاه.

فإنهم فضحهم العلم بأن زيدا قتل مع جعفر بن أبي طالب في أرض

__________________

(١) وذلك لأن النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه والعموم في جانب من حمل الحديث على الولاء في الدين ، والخصوص في جانب من حمله على الإمامة ، وحمله على الثاني يشمل الأول لوجوب موالاة الإمام في الدين ونصرته ، دون ما إذا حمل على المعنى الأول فلا يشمل الإمامة.

٩٥

مؤتة من بلاد الشام قبل يوم غدير خم بمدة طويلة من الزمان وغدير خم إنما كان قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ثمانين يوما وما حملهم على هذه الدعوى إلا عدم معرفتهم بالسير والأخبار.

ولما رأت الناصبة غلطها في هذه الدعوى رجعت عنها وزعمت أن الكلام كان بين أمير المؤمنين عليهم السلام وبين أسامة بن زيد والذي قدمناه من الحجج يبطل ما زعموه ويكذبهم فيما ادعوه.

ويبطله أيضا ما نقله الفريقان من أن عمر بن الخطاب قام في يوم الغدير فقال بخ بخ لك يا أبا الحسن أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ثم مدح حسان بن ثابت في الحال بالشعر المتضمن رئاسته وإمامته على الأنام وتصويب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك :

ثم احتجاج أمير المؤمنين عليهم السلام به يوم الشورى فلو كان ما ادعاه المنتحلون حقا لم يكن لاحتجاجه عليهم به معنى وكان لهم أن يقولوا أي فضل لك بهذا علينا وإنما سببه كذا وكذا.

وقد احتج به أمير المؤمنين عليهم السلام دفعات واعتده في مناقبه الشراف وكتب يفتخر به في جملة افتخاره إلي معاوية بن أبي سفيان في قوله :

وأوجب لي الولاء معا عليكم

خليلي يوم دوح غدير خم

وهذا الأمر لا لبس فيه.

وأما الذين اعتمدوا على أن خبر الغدير لو كان موجبا للإمامة لأوجبها لأمير المؤمنين عليهم السلام في كل حال إذ لم يخصصها النبي صلى الله عليه وسلم بحال دون حال وقولهم إنه كان يجب أن يكون مستحقا لذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم جهلوا معنى الاستخلاف والعادة المعهودة في هذا الباب.

__________________

(١) بخ بخ اسم فعل بمعنى هنيئا ، رواه بلفظ بخ بخ الخطيب البغداديّ في تاريخ بغداد ج ٨ صلى الله عليه وسلم ٢٩٠ ، ورواه بلفظ هنيئا كل من الإمام أحمد في المسند ج ٤ صلى الله عليه وسلم ٢٨١. والرازيّ في التفسير الكبير في تفسير قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)وفيض القدير ج ٢ صلى الله عليه وسلم ٢١٧ انظر : (فضائل الخمسة ج ١ صلى الله عليه وسلم ٣٨٤ ـ ٣٨٧).

٩٦

وجوابنا أن نقول لهم قد أوضحنا الحجة على أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف عليا عليهم السلام في ذلك المقام والعادة جارية فيمن يستخلف أن يخصص له الاستحقاق في الحال والتصرف بعد الحال ألا ترون أن الإمام إذا نص على حال.

له يقوم بالأمر بعده أن الأمر يجري في استحقاقه وتصرفه على ما ذكرناه.

ولو قلنا إن أمير المؤمنين عليهم السلام يستحق بهذا النص التصرف والأمر والنهي في جميع الأوقات على العموم والاستيعاب إلا ما استثناه الدليل وقد استثنت الأدلة في زمان حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يجوز أن يكون فيه متصرف في الأمة غيره (١) ولا آمر ناه لهم سواه لكان هذا أيضا من صحيح الجواب.

فإن قال الخصم إذا جاز أن تخصصوا بذلك زمانا دون زمان فما أنكرتم أن يكون إنما يستحقها بعد عثمان؟

قلنا له إنا أنكرنا ذلك من قبل أن القائلين بأنه استحقها بعد عثمان مجمعون على أنها لم تحصل له في ذلك بيوم الغدير ولا بغيره من وجوه النص عليه وإنما حصلت له بالاختيار وكل من أوجب له الإمامة بالنص أوجبها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تراخ في الزمان والحمد لله.

حدثني القاضي أبو الحسن أسد بن إبراهيم السلمي الحراني رحمه‌الله قال أخبرني أبو حفص عمر بن علي العتكي قال حدثنا أحمد بن محمد بن هارون الحنبلي قال حدثنا حسين بن الحكم قال حدثنا حسن بن حسين قال حدثنا أبو داود الطهوي عن عبد الأعلى الثعلبي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال قام علي عليهم السلام خطيبا في الرحبة وهو يقول :

أنشد الله امرأ شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا يدي ورفعهما إلى السماء وهو يقول يا معشر المسلمين ألست أولى بكم من أنفسكم فلما قالوا بلى قال فمن كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من

__________________

(١) في النسخة : أمره.

٩٧

نصره واخذل من خذله إلا قام فشهد بها فقام بضعة عشر بدريا فشهدوا بها وكتم أقوام فدعا عليهم فمنهم من برص ومنهم من عمي ومنهم من نزلت به بلية في الدنيا فعرفوا بذلك حتى فارقوا الدنيا. (١)

ومما حفظ عن قيس بن سعد بن عبادة أنه كان يقول وهو (٢) بين يدي أمير المؤمنين صلى الله عليه وسلم بصفين ومعه الراية في قطعة له أولها

قلت لما بغى العدو علينا

حسبنا ربنا ونعم الوكيل

حسبنا ربنا الذي فتح البصرة

بالأمس والحديث يطول

وعلي إمامنا وإمام

لسوانا أتى به التنزيل

يوم قال النبي من كنت

مولاه فهذا مولاه خطب جليل

إنما قاله النبي على الأمة

حتم ما فيه قال وقيل (٣)

فصل من الوصايا والإقرارات المبهمة العويصة (٤)

إذا أوصى رجل بإخراج شيء من ماله ولم يسم كان الواجب إخراج السدس مما خلفه قال الله تبارك وتعالى :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا

__________________

(١) تجده مرويا في مسند أحمد ج ١ صلى الله عليه وسلم ١١٨ و ١١٩ و ٨٨ و ٨٤ وج ٥ صلى الله عليه وسلم ٣٠٧ و ٣٦٦ و ٤١٩ وج ٤ صلى الله عليه وسلم ٣٧٠ وفي حلية الأولياء (ج) ٥ صلى الله عليه وسلم ٢٦ وفي خصائص النسائي صلى الله عليه وسلم ٢٣ و ٢٦ وفي كنز العمّال ج ٦ صلى الله عليه وسلم ٣٩٧ و ٤٠٣ وفي الإصابة ج ١ قسم ١ صلى الله عليه وسلم ٣١٩ و ٢٩ و ١٦٩ و ١٨٢ و ١٥٦ وفي أسد الغابة ج ٥ صلى الله عليه وسلم ٢٧٦ وج ٣ صلى الله عليه وسلم ٣٠٧ وغيرها ، انظر : (فضائل الخمسة ج ١ ما بين صلى الله عليه وسلم ٣٤٩ وص ٣٨٣) مع اختلاف في بعض ألفاظه.

(٢) في النسخة (فهو).

(٣) انظر : الفصول المختارة ج ٢ صلى الله عليه وسلم ٧٩.

(٤) في النسخة : العريضة ، وهي تصحيف العويصة.

٩٨

الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) المؤمنون : ١٢ ـ ١٤

فخلق الله سبحانه الإنسان من ستة أشياء فالشيء واحد من ستة وهو السدس.

وإذا أوصى بإخراج جزء من ماله ولم يسم وجب إخراج سبع ماله قال الله تعالى :

(لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) الجزء : ٤٤

فالجزء واحد من سبعة وهو السبع.

وإذا أوصى بسهم من ماله ولم يسم فالواجب إخراج الثمن قال الله تعالى :

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) التوبة : ٩٠

وهم ثمانية أصناف لكل صنف منهم سهم من الصدقات فالسهم واحد من ثمانية وهو الثمن.

وإذا أوصى بإخراج مال كثير ولم يسم وجب أن تخرج من ماله ثمانون درهما قال الله تعالى :

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) وكانت ثمانين موطنا. وإذا قال كل عبد لي قديم في ملكي فهو حر لوجه الله تعالى فالواجب أن يعتق كل عبد في ملكه ستة أشهر فما زاد قال الله سبحانه :

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) س : ٣٩

وهو الذي مضى عليه ستة أشهر.

فإذا أوصى إلى رجل بدراهم فقال أعط زيدا نصفها وعمرا ثلثها وبكرا ربعها فالواجب أن يعطي زيدا وعمرا ما سماه لهما ويدفع ما بقي لبكر.

٩٩

وإذا قال عندي كذا دراهم ولم يبين فقد أقر بعشرة دراهم على ما يقتضيه اللسان. (١)

فإن قال كذا درهما فعشرون درهما.

فإن قال كذا كذا درهم فعشر عشر درهم.

فإن قال كذا كذا درهما فأحد عشر درهما.

فإن قال كذا وكذا درهما فأحد وعشرون درهما.

فإن قال كذا وكذا كذا درهما فمائة وأحد عشر درهما.

فإن كان عارفا بالعربية وقال له عندي مائة درهم غير ثلاثة دراهم بنصب غير فله سبعة وتسعون درهما لأنه استثنى من المائة ثلاثة.

فإن قال له عندي مائة غير ثلاثة برفع غير فهي مائة كاملة وإنما وصفها بأنها غير ثلاثة.

فإن قال له مائة غير ثلاثة غير درهم ونصب غير فيهما جميعا فقد أقر بثمانية وتسعين درهما لأنه استثنى من المائة ثلاثة فبقي سبعة وتسعون فلما استثنى مما استثناه درهما علم أن المستثنى من المائة درهمان فكان الذي اعترف به ثمانية وتسعون درهما.

فإن قال له عندي مائة غير ثلاثة غير درهم فنصب غير الأولة وخفض الثانية فقد أقر بسبعة وتسعين درهما لأنه لما نصب غير الأولة كان قد

__________________

(١) وتفهم الإقرارات التي ذكرت من ملاحظة أمور :

١ ـ رقم العدد المشار إليه بكذا ، فقد يكون مفردا كقولك له كذا ، وقد يكون مضافا إلى عدد آخر كقولك : له كذا كذا ، وقد يكون مركبا تركيبا مزجيا كقولك : له كذا كذا درهما ، وقد يكون معطوفا كقولك : له كذا وكذا درهما.

٢ ـ التمييز قد يكون مفردا منصوبا كقولك : له كذا كذا درهما ، وقد يكون مجرورا بالإضافة كقولك : له كذا درهم ، وقد يكون جمعا منصوبا كقولك : له كذا وكذا دراهم ، وقد يكون مجرورا نحو قولك : له كذا دراهم.

٣ ـ ويؤخذ من هذه الإقرارات بالقدر المتيقن وهو أقل عدد محتمل فإذا قيل : له كذا دراهم فالمتيقن منه ثلاثة دراهم : وهكذا.

١٠٠