كنز الفوائد - ج ٢

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي

كنز الفوائد - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي


المحقق: الشيخ عبدالله نعمه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

والجهة الرابعة أسباب من الشيطان ووسوسة يفعلها للإنسان ويذكره بها أمورا تحزنه وأسبابا تغمه وتطمعه فيها لا يناله أو يدعوه إلى ارتكاب محظور يكون فيه عطبه أو تخيل شبهة في دينه يكون فيها هلاكه وذلك مختص بمن عدم التوفيق لعصيانه وكثرة تفريطه في طاعات الله سبحانه.

ولن ينجو من باطل المنامات وأحلامها إلا الأنبياء والأئمة عليهم السلام ومن رسخ في العلم من الصالحين.

وقد كان شيخي رضي الله عنه (١) قال لي إن كل من كثر علمه واتسع فهمه قلت مناماته فإن رأى مع ذلك مناما وكان جسمه من العوارض سليما فلا يكون منامه إلا حقا يريد بسلامة الجسم عدم الأمراض المهيجة وغلبة بعضها على ما تقدم به البيان.

والسكران أيضا لا يصح له منام وكذلك الممتلئ من الطعام لأنه كالسكران ولذلك قيل إن المنامات قلما تصح في ليالي شهر رمضان.

فأما منامات الأنبياء صلى الله عليه وسلم فلا تكون إلا صادقة وهي وحي في الحقيقة.

ومنامات الأئمة عليهم السلام جارية مجرى الوحي وإن لم تسم وحيا ولا تكون قط إلا حقا وصدقا وإذا صح منام المؤمن لأنه من قبل الله تعالى كما ذكرناه.

وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :

رؤيا المؤمن جزء من سبعة وسبعين جزءا من النبوة.

وروي عن علي عليهم السلام قال :

رؤيا المؤمن تجري مجرى كلام تكلم به الرب عنده.

فأما وسوسة شياطين الجن فقد ورد السمع بذكرها قال الله تعالى :

(مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) الناس : ٤ ـ ٦.

__________________

(١) يريد به على الظاهر الشيخ المفيد رحمه اللّه.

٦١

وقال :

(وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) الأنعام : ١٢١.

وقال :

(شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) الأنعام : ١١٢.

فأما كيفية وسوسة الجني للإنسي فهو أن الجن أجسام رقاق لطاف فيصح أن يتوصل أحدهم برقة جسمه ولطافته إلى سمع الإنسان ونهايته فيوقر فيه كلاما يلبس عليه إذا سمعه ويشبه عليه بخواطره لأنه لا يرد عليه ورود المحسوسات من ظاهر جوارحه ويصح أن يفعل هذا بالنائم واليقظان جميعا وليس هو في العقل مستحيلا.

وروى جابر بن عبد الله أنه قال :

بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذ قام إليه رجل فقال يا رسول الله إني رأيت كان رأسي قد قطع وهو يتدحرج وأنا أتبعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لا تحدث بلعب الشيطان بك.

ثم قال إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدثن به أحدا.

. وأما رؤية الإنسان للنبي صلى الله عليه وسلم أو لأحد الأئمة عليهم السلام في المنام فإن ذلك عندي على ثلاثة أقسام قسم أقطع على صحته وقسم أقطع على بطلانه وقسم أجوز فيه الصحة والبطلان فلا أقطع فيه على حال.

فأما الذي أقطع على صحته فهو كل منام رأى فيه النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد الأئمة عليهم السلام وهو فاعل لطاعة أو آمر بها وناه عن معصية أو مبين لقبحها وقائل بالحق أو داع إليه أو زاجر عن باطل أو ذام لما هو عليه.

وأما الذي أقطع على بطلانه فهو كل ما كان على ضد ذلك لعلمنا أن النبي والإمام عليهم السلام صاحبا حق وصاحب الحق بعيد عن الباطل.

وأما الذي أجوز فيه الصحة والبطلان فهو المنام الذي يرى فيه النبي أو

٦٢

الإمام عليهم السلام وليس هو آمرا ولا ناهيا ولا على حال يختص بالديانات مثل أن يراه راكبا أو ماشيا أو جالسا ونحو ذلك.

فأما الخبر الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله :

من رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتشبه بي.(١)

فإنه إذا كان المراد به المنام يحمل على التخصيص دون أن يكون في حال ويكون المراد به القسم الأول من الثلاثة الأقسام لأن الشيطان لا يتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الحق والطاعات.

وأما ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله :

من رآني نائما فكأنما رآني يقظان

فإنه يحتمل أحد وجهين :

أحدهما أن يكون المراد به رؤية المنام ويكون خاصا كالخبر الأول على القسم الذي قدمناه.

والثاني أن يكون أراد به رؤية اليقظة دون المنام ويكون قوله نائما حالا للنبي صلى الله عليه وسلم وليست حالا لمن رآه فكأنه قال من رآني وأنا نائم فكأنما رآني وأنا منتبه.

والفائدة في هذا المقام أن يعلمهم بأنه يدرك في الحالتين إدراكا واحدا فيمنعهم ذلك إذا حضروا عنده وهو نائم أن يفيضوا فيما لا يحسن ذكره بحضرته وهو منتبه.

وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه غفا ثم قام يصلي من غير تجديد الوضوء فسئل عن ذلك فقال إني لست كأحدكم تنام عيني ولا ينام قلبي.

__________________

(١) ورد هذا الحديث في البخاري «من رآني في المنام فقد رآني» ، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي ، وفي كتاب التعبير : فإن الشيطان لا يتخيل بي» وفي صحيح مسلم في كتاب الرؤيا : من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ، أو لكأنّما رآني في اليقظة ، لا يتمثل الشيطان بي» انظر : (فضائل الخمسة ج ١ صلى الله عليه وسلم ٥٢).

٦٣

وجميع هذه الروايات أخبار آحاد فإن سلمت فعلى هذا المنهاج.

وقد كان شيخي رحمه‌الله يقول إذا جاز من بشر أن يدعي في اليقظة أنه إله كفرعون ومن جرى مجراه مع قلة حيلة البشر وزوال اللبس في اليقظة فما المانع من أن يدعي إبليس عند النائم بوسوسته له أنه نبي مع تمكن إبليس بما لا يتمكن منه البشر وكثرة اللبس المعترض في المنام.

ومما يوضح لك أن من المنامات التي يتخيل للإنسان أنه قد رأى فيها رسول الله والأئمة صلى الله عليه وسلم منها ما هو حق ومنها ما هو باطل.

إنك ترى الشيعي يقول رأيت في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام يأمرني بالاقتداء به دون غيره ويعلمني أنه خليفته من بعده.

ثم ترى الناصبي يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وهو يأمرني بمحبتهم وينهاني عن بغضهم ويعلمني أنهم أصحابه في الدنيا والآخرة وأنهم معه في الجنة ونحو ذلك.

فتعلم لا محالة أن أحد المنامين حق والآخر باطل فأولى الأشياء أن يكون الحق منهما ما ثبت بالدليل في اليقظة على صحة ما تضمنه.

والباطل ما أوضحت الحجة عن فساده وبطلانه.

وليس يمكن للشيعي أن يقول للناصبي إنك كذبت في قولك رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يقدر أن يقول له مثل هذا بعينه.

وقد شاهدنا ناصبيا تشيع وأخبرنا في حال تشيعه بأنه يرى منامات بالضد مما كان يراه في حال نصبه.

فبان بذلك أن أحد المنامين باطل وأنه من نتيجة حديث النفس أو من وسوسة إبليس ونحو ذلك وأن المنام الصحيح هو لطف من الله تعالى بعيدة على المعنى المتقدم وصفه.

وقولنا في المنام الصحيح إن الإنسان إذا رأى في نومه النبي صلى الله عليه وسلم إنما معناه

٦٤

أنه كان قد رآه وليس المراد به التحقيق في اتصال شعاع بصره بجسد النبي وأي بصر يدرك به حال نومه؟

وإنما هي معان تصورت في نفسه تخيل له فيها أمر لطف الله تعالى له به قام مقام العلم.

وليس هذا بمناف للخبر الذي روي من قوله من رآني فقد رآني. لأن معناه فكأنما رآني.

وليس بغلط في هذا المكان إلا عند من ليس له من عقله اعتبار.

تأويل آية (١)

إن سأل سائل عن قول الله عزوجل :

(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) النبأ : ٩

فقال إذا كان السبات هو النوم فكأنه قال وجعلنا نومكم نوما فما الفائدة في هذا؟

الجواب

قلنا في هذه الآية وجوه :

منها أن السبات أحد أقسام النوم وهو النوم الممتد الطويل ولهذا يقال فيمن كثر نومه إنه مسبوت وبه سبات ولا يقال في كل نائم.

والوجه في الامتنان علينا بأن جعل نومنا ممتدا طويلا ظاهر.

وهو لما لنا في ذلك من المنفعة بالراحة لأن التهويم والنوم الغرار لا يكسبنا شيئا من الراحة بل يصحبهما في الأكثر الانزعاج والقلق والهموم التي هي تقلل النوم ورخاء البال وفراغ القلب يكون معهما كثرته وامتداده.

ومنها أن يكون المراد بذلك أنا جعلنا نومكم سباتا ليس موتا لأن النائم قد يفقد من علومه وقصوده وأحواله فيسمى بالسبت للفراغ الذي كان فيه ولأن الله تعالى أمر بني إسرائيل بالاستراحة من الأعمال.

__________________

(١) انظر الكلام على هذه الآية في أمالي الشريف المرتضى ج ١ صلى الله عليه وسلم ٣٣٧ ـ ٣٤٣.

٦٥

وقد قيل إن أصل السبات التمدد ويقال سبتت المرأة شعرها إذا حلته من العقص.

ومنها أن يكون المراد بالسبت القطع فيكون نومنا قطعا لأعمالنا ومتصرفاتنا وهو راجع إلى معنى الراحة.

فصل :

مما روي عن لقمان من حكمته ووصيته لابنه

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) فإنما مثلها في دين الله كمثل عمد فسطاط فإن العمود إذا استقام نفعت الأطناب والأوتاد والظلال وإن لم يستقم لم ينفع وتد ولا طنب ولا ظلال.

أي بني صاحب العلماء وجالسهم وزرهم في بيوتهم لعلك أن تشبههم فتكون منهم.

اعلم يا بني إني ذقت الصبر وأنواع المر فلم أر أمر من الفقر فإن افتقرت يوما فاجعل فقرك بينك وبين الله ولا تحدث الناس بفقرك فتهون عليهم ثم سل في الناس هل من أحد دعا الله فلم يجبه أو سأله فلم يعطه.

يا بني ثق بالله عزوجل ثم سل في الناس هل من أحد وثق بالله فلم ينجه.

يا بني توكل على الله ثم سل في الناس من ذا الذي توكل على الله فلم يكفه.

يا بني أحسن الظن بالله ثم سل في الناس من ذا الذي أحسن الظن بالله فلم يكن عند حسن ظنه.

به يا بني من يرد رضوان الله يسخط نفسه كثيرا ومن لا يسخط نفسه لا يرض ربه ومن لا يكتم غيظه يشمت عدوه.

يا بني تعلم الحكمة تشرف فإن الحكمة تدل على الدين وتشرف العبد على الحر وترفع المسكين على الغني وتقدم الصغير على الكبير وتجلس المسكين مجالس الملوك وتزيد الشريف شرفا والسيد سوددا والغني مجدا.

٦٦

وكيف يتهيأ له أمر دينه ومعيشته بغير حكمة ولن يهيئ الله عزوجل أمر الدنيا والآخرة إلا بالحكمة ومثل الحكمة بغير طاعة مثل الجسد بلا نفس أو مثل الصعيد بلا ماء ولا صلاح للجسد بلا نفس ولا للصعيد بغير ماء ولا للحكمة بغير طاعة.

أحاديث عن أبي ذر الغفاري

أخبرني الشريف أبو منصور أحمد بن حمزة الحسيني العريضي بالرملة وأبو العباس أحمد بني إسماعيل بن عنان بحلب وأبو المرجى محمد بن علي بن طالب البلدي بالقاهرة رحمهم‌الله قالوا جميعا أخبرنا أبو المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني الكوفي قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمار الثقفي قال حدثنا محمد بن علي بن خلف العطار قال حدثنا موسى بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال حدثنا عبد المهيمن بن عباس الأنصاري الساعدي عن أبيه العباس بن سهل عن أبيه سهل بن سعيد قال بينا أبو ذر قاعد مع جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت يومئذ فيهم إذ طلع علينا علي بن أبي طالب عليهم السلام فرماه أبو ذر بنظره ثم أقبل على القوم يوجهه فقال من لكم برجل محبته تساقط الذنوب عن محبيه كما يساقط الريح العاصف الهشيم من الورق عن الشجر سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول ذلك له.

قالوا من هو يا أبا ذر قال هو الرجل المقبل إليكم ابن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم يحتاج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إليه ولا يحتاج إليهم.

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

علي باب علمي ومبين لأمتي ما أرسلت به من بعدي حبه إيمان وبغضه نفاق والنظر إليه برأفة ومودة عبادة.

وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيكم يقول :

٦٧

مثل أهل بيتي في أمتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن رغب عنها هلك :

ومثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله كان آمنا مؤمنا ومن تركه كفر.

ثم إن عليا عليهم السلام جاء فوقف فسلم ثم قال يا أبا ذر من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه وآخرته ومن أحسن فيما بينه وبين الله كفاه الله الذي بينه وبين عباده ومن أحسن سريرته أحسن الله علانيته.

إن لقمان الحكيم قال لابنه وهو يعظه يا بني من الذي ابتغى الله عزوجل فلم يجده ومن ذا الذي لجأ إلى الله فلم يدافع عنه أمن ذا الذي توكل على الله فلم يكفه.

ثم مضى يعني عليا عليهم السلام فقال أبو ذر رحمه‌الله والذي نفس أبي ذر بيده ما من أمة ائتمت أو قال اتبعت رجلا وفيهم من هو أعلم بالله ودينه منه إلا ذهب أمرهم سفالا.

مسائل في المواريث

مسألة إخوان لأب وأم ورث أحدهما المال كله ولم يرث الآخر شيئا وليس بينهما خلاف في ملة :

الجواب

كان الميت ابن أحدهما فورثه الأب خاصة دون أخيه الذي هو عم الميت.

مسألة أخرى

إخوان لأب وأم ورثا ميراثا كان لأحدهما ثلاثة أرباع المال وللآخر الربع؟

جواب : الموروث امرأة تركت ابني عمها أحدهما زوجها فورث منها النصف بحق زوجته وورث مع أخيه نصف الباقي وهو الربع من جميع المال.

٦٨

مسألة أخرى.

رجل وابنه ورثا مالا فكان بينهما نصفان بالسوية؟

جواب هذا تزوج بابنة عمه فماتت وخلفته وأباه الذي هو عمها فكان بحق الزوجية النصف ولعمها الذي هو أبو زوجها النصف الباقي.

قضية مستطرفة لأمير المؤمنين عليهم السلام لم يسبقه إليها أحد من الناس

روي أن رجلين جلسا للغداء فأخرج أحدهما خمسة أرغفة وأخرج الآخر ثلاثة أرغفة فعبر بهما في الحال رجل ثالث فعزما عليه فنزل فأكل معهما حتى استوفوا جميع ذلك فلما أراد الانصراف دفع إليهما فضة وقال هذه لكما عوض ما أكلت من طعامكما فوزناها فصادفاها ثمانية دراهم فقال صاحب الخمسة الأرغفة لي منها خمسة ولك ثلاثة بحساب ما كان لنا وقال الآخر بل هي مقسومة نصفين بيننا وتشاحا فارتفعا إلى شريح القاضي في أيام أمير المؤمنين عليهم السلام فعرفاه أمرهما فحار في قضيتهما ولم يدر ما يحكم به بينهما فحملهما إلى أمير المؤمنين عليهم السلام فقصا عليه قصتهما فاستطرف أمرهما وقال إن هذا أمر فيه دناءة والخصومة فيه غير جميلة فعليكما بالصلح فهو أجمل بكما فقال صاحب الثلاثة أرغفة لست أرضى إلا بمر الحق وواجب الحكم.

فقال أمير المؤمنين عليهم السلام فإذا أبيت الصلح ولم ترد إلا القضاء فلك درهم واحد ولرفيقك سبعة دراهم.

فقال وقد عجب هو وجميع من حضر يا أمير المؤمنين بين لي وجه ذلك لأكون على بصيرة من أمري.

فقال أنا أعلمك ألم يكن جميع ما لكما ثمانية أرغفة أكل كل واحد منكما بحساب الثلث رغيفين وثلثين؟

قال بلى قال فقد حصل لكل واحد منكم ثمانية أثلاث فصاحب الخمسة

٦٩

الأرغفة له خمسة عشر ثلثا أكل منها ثمانية بقي له سبعة وأنت لك ثلاثة أرغفة وهي تسعة أثلاث أكلت منها ثمانية بقي لك ثلث واحد فلصاحبك سبعة دراهم ولك درهم واحد فانصرفا على بينة من أمرهما. (١)

شبهات للملاحدة

مسألة للملحدة

قال الملحدون :

إذا كان الله جوادا رحيما ولم يخلق خلقه إلا لنفعهم وليس له حاجة إلى عذابهم فهلا خلقهم كلهم في الجنة وابتدأهم بالنعمة وخلدهم في دائم اللذة وأراحهم من الدنيا ومشاقها وصعوبة التكليف فيها.

جواب.

يقال لهم إن الجود والرحمة لا يكونان فيما يخرج عن الحكمة وربنا سبحانه لم يخلق خلقه إلا لنفعهم والمنفعة بنيل النعيم يكون على قسمين تفضل واستحقاق.

ومنزلة الاستحقاق أعلى وأجل وأشرف من منزلة التفضل.

فلو ابتدأ الله تعالى خلقه في جنات النعيم لكان قد اقتصر بهم على منزلة التفضل التي هي أدون المنزلتين وفي ذلك أنه قد حرم الاستحقاق من علم من حاله أنه إن كلفه أطاع فاستحق الثواب وأقطعه الأصلح له واقتصر به على نعيم غيره أفضل منه وذلك لا يقع من عالم حكيم جواد غير بخيل فوجب في الحكمة خلقهم في الدنيا وعمومهم بالتكليف الذي فيه التعرض للأمر

__________________

(١) روي ذلك في الصواعق المحرقة صلى الله عليه وسلم ١٧٩ ، وفي مناقب آل أبي طالب ج ١ صلى الله عليه وسلم ٣٢٩ مختصرا وفي الاستيعاب ج ٢ صلى الله عليه وسلم ٤٦٢ في كنز العمّال للهندي ج ٣ صلى الله عليه وسلم ١٨٠ وفي الرياض النصرة ج ٢ صلى الله عليه وسلم ١٩٩ (انظر فضائل الخمسة ج ٢ صلى الله عليه وسلم ٢٦٧ ـ ٢٦٨) ورواه البهائي العاملي في كتاب الأربعين صلى الله عليه وسلم ١٢٦ ـ ١٢٧ وهو الحديث الثامن والعشرون.

٧٠

الجليل ليستحق الطائعون ما سبق لهم في المعلوم وليس نفع المخالفة بعد التبيين والتعريف وإزاحة العلة في التكليف إلا عن جان على نفسه غير ناظر في عاقبة أمره.

وجواب ثان

ويقال لهم لو خلق الله تعالى خلقه في الجنة لم يخل أمرهم من حالين إما أن يبيحهم الجهل به وكفر نعمته فليس بحكيم من أباح ذلك.

وإما أن يأمرهم بمعرفته وشكر نعمته والحكمة توجب ذلك فلا بد عند الأمر بالشيء من النهي عن ضده ثم لا بد من ترغيب فيما يأمر ووعد جميل على فعله وترهيب فيما نهى عنه ووعيد على فعله.

وإذا وجب الأمر والنهي والترغيب والترهيب والوعد والوعيد فقد حصلت حالهم كحالهم في الدنيا ووجب أن يكون للوعيد إنجاز فينتقلوا إلى دار الجزاء فقد انتهى الأمر إلى ما فعله سبحانه به مما لا يقتضي الحكمة غيره.

فإن قالوا أليس الطائعون لا بد من مصيرهم إلى الجنة فألا كانت حالهم في الابتداء كحالهم في الثواب والجزاء من حصول المعرفة والشكر؟

قلنا لهم بين الوقتين فرق وذلك أنهم إذا صاروا إلى الجنة بعد كونهم في الدنيا فقد تقدم لهم الأمر والنهي وذاقوا البؤس والآلام وعرفوا قدر النعمة وشاهدوا وقوع العقاب والثواب بأهلها فكان ذلك يقوم لهم في الترغيب في المعرفة والشكر والانزجار عن تركهما مقام الأمر والنهي والوعد والوعيد.

ولو ابتدأهم في الجنة لم يكونوا أمروا ولا نهوا ولا وعدوا ولا توعدوا ولا فعل بهم ما يقوم مقام ذلك فكان بمنزلة من أبيح له الجهل والكفر تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ولا يجوز أن يخلق فيهم المعرفة به ابتداء لأن الغائب لا يعرف بالضرورة إلا أن يحضر.

٧١

كما أن الحاضر لا يعلم بالاستدلال إلا أن يغيب.

ولو جاز أن يخلقهم فيعرفون الغائب لجاز أن يقدرهم على ذلك وهذا محال.

ولا يجوز أيضا أن يخلق الشكر فيهم لأنه لو خلقه لهم لم يكونوا هم الشاكرين بل يكون هو الشاكر نفسه لأن الشاكر من فعل الشكر لا من فعل فيه كما أن الظالم من فعل الظلم لا من فعل فيه.

مسألة أخرى للملاحدة

قال الملحدون.

كيف يجوز من الحكيم الرحيم أن يخلق خلقا ثم يكلفهم وهو يعلم أنهم يعصون فيصيرون إلى العذاب الأليم ويبقون فيه مخلدين وهو لو لم يخلقهم لم يكن ذلك أو خلقهم ولم يكلفهم لم يقع الكفر منهم.

الجواب :

قيل لو وجب أن يكون الخلق والتبليغ قبيحا ولا حكمة لأن ذلك لو لم يكن ما استحق أحد العذاب والخلود في النار لكان لا شيء أوضع ولا أضر من العقل لأن الإنسان متى لم يكن عاقلا لم يلحقه لوم في شيء يكون منه ولم يلزمه عقاب ولا أدب على زلل يصدر عنه ومتى كان عاقلا لحقه ذلك أجمع ومستحقه.

والأمم كلها ملحدها وموحدها مجمعة على اعتقاد شرف العقل وفضيلته وعلو منزلته وسقوط ضده ونقصه.

فإن قالوا إن العقل ليس يدعو إلى شيء مما يوجب اللوم ولا يحمل عليه ولا يدخل فيه بل هو ناه عن ذلك زاجر عنه ولو شاء المكلف لم يكفر بل أطاع فاستحق بطاعته الخلود في نعيم الجنان كما استحق غيره ممن أطاع.

وبعد ففي التكليف تعريض لأجل منازل النعيم وهي منزلة الاستحقاق وفيه فعل ما تقتضيه الحكمة والصلاح.

٧٢

وشيء آخر وهو أن التعريض لنيل الثواب الدائم والأمر بمعرفة المنعم وشكره وترك الجور والظلم والسفه حسن من العقل كما أن التعريض للعطب والأمر بالجور والسفه قبيح فاسد في العقل.

فلو كانت معصية المأمور ومصيره لسوء اختياره إلى استحقاق العذاب وعلم العالم بما يصير إليه من العطب والهلاك بقلب التعريض للخير والأمر بالحسن فيجعله قبيحا فاسدا لكان طاعة المأمور ومصيره بحسن اختياره إلى استحقاق المدح من العقلاء وعلم الأمر بما يصير إليه المأمور من السلامة واستحقاق المدح يقلب التعريض للعطب والأمر به فيجعله حسنا وهذا لا يقوله أحد.

ولو كان الأمر بالخير والتمكين منه والدعاء إليه والتيسير له والإعذار والإنذار لا يكون تعريضا للخير إلا إذا علم أن المأمور يقبل فيسلم لكان الأمر بالفساد والشر والدعاء إليه والحث عليه لا يكون تعريضا للمكروه والعطب والضرر إلا إذا علم أن المأمور يقبل فيعطب.

فلما كان هذا عند جمهور أهل العلم والعقل إساءة وإضرارا وتعريضا للمكروه سواء علم أن المأمور يقبل فيعطب أو يخالف فيسلم كان الأول تعريضا للخير وإحسانا إلى العبد سواء علم من حاله أنه يقبل فيسلم أو يخالف فيعطب.

وهذا باب يجب أن يتأيد فيه المتأمل ويكرر فيه الاطلاع فإنه يعلم الحق فيه إن لم يكن معه هوى يضل عنه والحمد لله.

فصل

في ذكر سؤال ورد إلي من الساحل وجوابي عنه في صحة العبادة بالحج.

(بسم الله الرحمن الرحيم)

الحمد لله الهادي إلى الرشاد العالم بمصالح العباد ذي الحكمة البالغة والنعمة السابغة وصلواته على من أزاح به العلل وأوضح منار السبل سيد

٧٣

الأولين والآخرين محمد خاتم النبيين وعلى آله الأئمة الطاهرين.

سألت أيدك الله عن الحج ومناسكه وصحة الأمر به وأسباب ذلك وعلله ورغبت في اختصار جواب يكشف لك حقيقة الصواب تعول عليه في الاعتقاد وتحسم به مواد الفساد وتعده للخصوم عند السؤال وتدفع به تعجب أهل الكفر والضلال.

وقد أوردت من ذلك ما اقتضاه الإمكان لضيق الزمان وترادف الأشغال وهو مقنع لمن تدبره وفهم فحواه إن شاء الله.

اعلم أن اختلاف العبادات مبني على المعلوم عند الله تعالى من مصالح العباد وليس للمكلفين طريق للعلم بتفاصيل هذه المصالح ولا فرض الله سبحانه عليهم ذلك ولو فرضه لنصب لهم دليلا على العلم فالذي يجب اعتقاده هو أن المكلف الآمر عدل حكيم لا يقع منه الخلل ولا يكلف العبث ولا يرسل إلى خلقه من يجوز منه الكذب والأمر باللعب.

فإذا ثبت هذا الأصل لزم امتثال أوامر الحكيم الواردة على يد الصادق الأمين والاعتقاد أن إيراده منها إنما هو طاعته في العمل بها وأنه لم يأمر بها دون غيرها إلا لعلمه بمصالح خلقه فيها وتعريضه لهم بتكليفها إلى منزلة الاستحقاق ونفاستها ليثبت من أطاعه فيها بالنعيم الدائم عليها.

وليس جهل العبد بمعرفة هذه المصالح على تفاصيلها مفسدا لما عمله من حكمة الأمر بها وصدق المؤدي عنه لها.

كما أنه ليس عدم علمنا بعلل تباين الناس في أفعالهم وأسباب اختلاف ما مع الصناع من آلاتهم موجبا علينا القطع على لعبهم وعبثهم واعتقاد جهلهم ونقصهم.

فهذا أصل الكلام فيما خار الله تعالى وأمر وعليه المدار في الحجاج والنظر ومن أتقنه استعان به في مسائل أخر.

وقد سأل أحد الملاحدة مولانا جعفر بن محمد الصادق صلى الله عليه وسلم عن الطواف بالبيت الحرام فأجابه بما نقله عنه الخاص والعام.

٧٤

أخبرني به الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن الشاذان القمي رضي الله عنه عن خال أمه أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه رحمه‌الله عن محمد بن يعقوب الكليني عن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن العباس بن عمران الفقيمي.

أن ابن أبي العوجاء (١) وابن طالوت الأعمى وابن المقفع في نفر من الزنادقة كانوا مجتمعين بالموسم في المسجد الحرام وأبو عبد الله جعفر بن محمد عليهم السلام فيه إذ ذاك يفتي الناس ويفسر لهم القرآن ويجيب عن المسائل بالحجج والبينات.

فقال القوم لابن أبي العوجاء هل لك في تغليط هذا الجالس وسؤاله عما يفضحه عند هؤلاء المحيطين به فقد ترى فتنة الناس به وهو علامة زمانه؟

فقال ابن أبي العوجاء نعم ثم تقدم ففرق الناس ثم قال يا أبا عبد الله إن المجالس أمانات ولا بد لكل من به سعال أن يسعل فتأذن في السؤال؟

فقال أبو عبد الله عليهم السلام سل إن شئت.

فقال ابن أبي العوجاء إلى كم تدوسون هذا البيدر وتلوذون بهذا الحجر وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر وتهرولون هرولة البعير إذا

__________________

(١) هو عبد الكريم بن أبي العوجاء أحد الزنادقة في أواسط القرن الثاني للهجرة كان من تلامذة الحسن البصري فانحرف عن التوحيد فقيل له تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة؟ فقال : إن صاحبي كان مخلطا يقول طورا بالجبر وطور بالقدر فما أعلمه اعتقد مذهبا دام عليه ، قتله أبو جعفر محمّد بن سليمان عامل المنصور على الكوفة ، وقد جرت بينه وبين الإمام الصادق (عليهم السلام) احتجاجات كثيرة انظر : ترجمته في الكنى والألقاب ج ١ صلى الله عليه وسلم ١٩٦ ـ ١٩٨.

(٢) هو عبد اللّه بن داذويه المقفع كان مجوسيا فأسلم على يد عيسى بن علي عم المنصور العباسيّ ، من بلغاء الدنيا المشهورين ، تخرج في البلاغة على خطب الإمام عليّ عليه السلام لذلك كان يقول : شربت من الخطب ريا ولم أضبطها رويا ، ففاضت ثمّ فاضت ، فلا هي نظاما ، وليس غيرها كلاما. رمي بالزندقة فقتل سنة ١٤٢ ه. قتله سفيان بن معاوية المهلبي أمير البصرة بأمر المنصور لكتاب كتبه.

٧٥

نفر من فكر في هذا وقدر علم أنه فعل غير حكيم ولا ذي نظر فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك أسه ونظامه.

فقال له الصادق عليهم السلام إن من أضله الله وأعمى قلبه استوخم الحق فلن يستعذبه وصار الشيطان وليه وحزبه يورده مناهل الهلكة.

وهذا بيت استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه فحثهم على تعظيمه وزيارته وجعله قبلة للمصلين فهو شعبة من رضوانه وطريق تؤدي إلى غفرانه منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال خلقه قبل دحو الأرض بألفي عام فأحق من أطيع فيما أمر وأنتهي عما زجر الله عزوجل المنشئ للأرواح والصور.

فقال ابن أبي العوجاء ذكرت أبا عبد الله فأحلت على غائب.

فقال الصادق صلى الله عليه وسلم كيف يكون يا ويلك غائبا من هو مع خلقه شاهد وإليهم أقرب (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) يسمع كلامهم ويعلم أسرارهم لا يخلو منه مكان ولا يشغل به مكان ولا يكون من مكان أقرب من مكان يشهد له بذلك آثاره ويدل عليه أفعاله والذي بعثه بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة محمد عليهم السلام جاءنا بهذه العبادة فإن شككت في شيء من أمره فاسأل عنه أوضحه لك.

قال فأبلس ابن أبي العوجاء ولم يدر ما يقول فانصرف من بين يديه فقال لأصحابه سألتكم أن تلتمسوا خمرة فألقيتموني على جمرة فقالوا له اسكت فو الله لقد فضحتنا بحيرتك وانقطاعك وما رأينا أحقر منك اليوم في مجلسه.

فقال إلي تقولون هذا إنه ابن من حلق رءوس من ترون وأومى بيده إلى أهل الموسم. (١)

__________________

(١) تجد هذا الخبر في كتاب التوحيد للصدوق القمّيّ صلى الله عليه وسلم ٢٥٧ ـ ٢٥٩ مع بعض الزيادات واختلاف يسير في بعض الألفاظ ، وقد رواه القمّيّ عن الدقاق عن أبي القاسم حمزة بن القاسم العلوي عن محمّد بن إسماعيل عن أبي سليمان داود بن عبد اللّه عن عمر بن محمّد عن عيسى بن يونس.

٧٦

وفي هذا الخبر كفاية لمن تدبره وغنى في هذه المسألة لمن تصوره.

واعلم أنه لا فرق في العقول بين أن ترد العبادة بصلاة فيها ركوع وسجود وقيام وقعود وبين أن ترد بطواف وسعي وهرولة أو شيء ونحو ذلك من أسباب الخشوع وأفعال الخضوع.

ولا فرق أيضا بين ورودها باغتسال وصيام وبين ورودها بحلق الرأس والإحرام.

بل لا فرق بين المشي إلى مواضع العبادة والسجود على التكرار وبين السعي بين الصفا والمروة ورمي الحجار.

كل ذلك على حد واحد في التجويز وطريق مستمر في إمكان ما يرد به التكليف.

ولسنا نجد أهل ملة ولا ذوي نحلة إلا ولهم عبادات من هذا الجنس وإن اختلفت في الوصف.

وبعد فقد نرى العدو الشديد في بعض الأحيان يكون من التعظيم والإجلال وذاك أن ذا المنزلة الكبيرة والرتبة الجليلة إذا رآه من دونه توجه إليه مسرعا وعدا إليه مهرولا لائذا به مقبلا ليده فيكون فيما فعله قد عظمه وفضله.

وسواء سعيت إلى من تريد تعظيمه فتذللت بين يديه وخضعت له أو سعيت إلى حيث أمرك فتذللت به وخضعت عنده لا يختلف ذلك في أحكام العقول ولا يتعجب منه وينكره إلا من فقد التحصيل وألف ترك التمييز.

على أن منكر هذه العبادة والمتعجب منها إذا لم يقر بعبادة غيرها يجانسها لا يقدر على إنكار ما نشاهده من العقلاء في بعض الأحيان من الأفعال المضاهية لأفعال المجان (١) وهم فيها مصيبون وللمصلحة قاصدون مثل رجل حصيف لبيب حكيم لا يحسن منه العدو الشديد رأى طفلا يكاد

__________________

(١) لعله يريد به المجانين أو أصحاب المجون.

٧٧

يهوي إلى بئر أملا في وجه لتخليصه وهرول غاية قدرته لإنقاذه فحسن ذلك منه وإن لم تجر به عادته وكان شكورا عليه لصواب غرضه فيه.

ورجل دخل الماء في أذنه فاجتهد في إخراجه بأن وقف على إحدى رجليه وأمال رأسه إلى ناحيتها وقفز عدة دفعات عليها ليخرج الماء من أذنه ويأمن ما يخشاه من ضرره فلا ينقصه ذلك من فضله ولا يزيله عن رتبته وعقله بل يكون فيما فعله حكيما وبدفع المضرة عنه عليما.

وكالقاضي الذي دخلت ذبابة في ثوبه وحصلت بينه وبين جسمه وهو بين شهوده وفي مجلس قضائه وحكمه فأضجرته بأذيتها وأقلقته بثقلها وأخذ يتحرك لها أنواع الحركة ويتلوى منها إلى كل جهة ويكثر من توقفه واضطرابه ويطيل تطلعه في ثيابه والناس يشاهدون أفعاله ولا يعرفون فلما دام أمرها وطال لبثها حسن منه النهوض عن مجلسه والخلو لإزالتها بنفسه فالجاهل من سارع إلى سوء الظن به وقدم على استنقاصه في فعله والعاقل الذي يعلم أن أمرا قد دهمه وشيئا ألجأه إلى ما ظهر منه واضطره ونحو هذا من الأفعال العجيبة والأحوال الطريفة الذي يتفق لذوي العقول السليمة والآراء الصحيحة فيقع منهم أكثر مما ذكرت وفوق ما وصفت ويكون الواجب تصويبهم فيه وإن لم يعلم الأسباب الداعية لهم فيه.

قصة وقعت مع المؤلف

ولقد اضطررت يوما إلى الحضور مع قوم من المتصوفين فلما ضمنا المجلس أخذوا فيما جرت به عادتهم من الغناء والرقص فاعتزلتهم إلى إحدى الجهات وانضاف إلي رجل من أهل الفضل والديانات فتحادثنا ذم الصوفية على ما يصنعون وفساد أغراضهم فيما يتأولون وقبح ما يفعلون من الحركة والقيام وما يدخلون على أنفسهم في الرقص من الآلام فكان الرجل لقولي مصوبا وللقوم في فعلهم مخطئا ولم نزل كذلك إلى أن غنى مغني القوم هذه الأبيات :

وما أم مكحول المدامع ترتعي

ترى الأنس وحشا وهي تأنس بالوحش

٧٨

غدت فارتعت ثم أثنت لرضاعه

فلم تلف شيئا من قوائمه الخمش

فطافت بذاك القاع ولهى فصادفت

سباع الفلا ينهشنه أيما نهش

بأوجع مني يوم ظلت أنامل

تودعني بالدر من شبك النقش

فلما سمع صاحبي نهض مسرعا مبادرا ففعل من القفز والرقص والبكاء واللطم ما يزيد على ما فعله من قبله ممن كان يخطئه ويستجهله وأخذ يستعيد من الشعر ما لا يحسن استعادته ولا جرت عادتهم بالطرب مثله وهو قوله :

فطافت بذاك القاع ولهى فصادفت

سباع الفلا ينهشنه أيما نهش

ويفعل بنفسه ما حكيت ولا يسأل من غير هذا البيت حتى بلغ من نفسه المجهود ووقع كالمغشي عليه من الموت.

فحيرني ما رأيت من حاله وأخذت أفكر في أفعاله المضادة لما سمعت من أقواله.

فلما أفاق من غشيته لم أملك صبرا دون سؤاله عن أمره وسبب ما صنعه بنفسه مع تجهيله من قبل لفاعله وعن وجه استعادته من الشعر ما لم تجر عادتهم باستعادة مثله؟

فقال لي لست أجهل ما ذكرت ولي عذر واضح فيما صنعت أعلمك أن أبي كان كاتبا وكان بي برا وعلي شفيقا فسخط السلطان عليه فقتله فخرجت إلى الصحراء لشدة ما لحقني من الحزن عليه فوجدته ملقى والكلاب ينهشون لحمه فلما سمعت المغني يقول :

فكانت بذاك القاع ولهى فصادفت

سباع الفلا ينهشنه أيما نهش

٧٩

ذكرت ما لحق أبي وتصور شخصه بين عيني وتجدد حزنه علي ففعلت الذي رأيت بنفسي.

فندمت على سوء ظني به وتغممت عما لحقه واتعظت بقصته وعلمت أن الله تعالى لطف لي بمشاهدة هذه الحال والوقوف عليهم لتكون لي دلالة على الصواب في هذه المسألة وأشباهها وأنه محرم على كل عاقل لبيب أن يعجل بتجهيل من ثبت عنده عقله وبان له فضله إذا ظهر منه فعل لم يعرف فيه سببه ولا علم مراده منه وغرضه.

وورود مثل هذه الأمور من العقلاء كثير وهي حجة على من أظهر التعجب مما ورد به الشرع من التكليف وجعل عدم علمه بأسباب ذلك دلالة على تعقله الضعيف.

على أن الأخبار قد نقلت عن الأئمة عليهم السلام بذكر أسباب لهذه العبادات تسمى عللا على المجاز والاتساع (١) وجمع في ذلك علي بن حاتم القزويني (٢) رحمه‌الله كتابا سماه كتاب العلل وأنا أذكر طرفا مما رواه في الحج ومناسكه وأسبابه وعلله.

قال إن الحج هو الوفادة إلى الله عزوجل وفيه منافع كثيرة للدنيا والآخرة من الرغبة إلى الله تعالى والرهبة منه والتوبة إليه من معاصيه وطلب الثواب على تحمل المشاق فيما يرضيه ومنفعة أهل الشرق والغرب ومن في البر والبحر من تاجر وجالب ومشتر وبائع ونحو ذلك من الفوائد.

__________________

(١) قائل هذا البيت هو أميّة بن أبي الصلت.

(٢) أقول : ليس بالضرورة أن يكون حزنه طاعة أو معصية ، بل يجوز أن يكون مباحا ككثير من الانفعالات الشخصية ، كما أنّه لا ينحصر أن يكون في قوله لا تحزن للتحريم ، إذ يجوز هنا أن يكون للإرشاد أو للاشفاق الذي لا يستتبع معصية كما هو واضح.

٨٠