كنز الفوائد - ج ٢

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي

كنز الفوائد - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي


المحقق: الشيخ عبدالله نعمه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

الحكم (٢) أنه كان يقول إن معبوده جسم على صفة الأجسام فكيف خالفتموه في ذلك بل كيف لم تتبرءوا منه وهو على هذا المقال؟

قلنا أما هشام بن الحكم (٢) رحمة الله عليه فقد اشتهر عنه الخبر بأنه كان ينصر التجسيم ويقول إن الله تعالى جسم لا كالأجسام ولم يصح عنه ما قرفوه به من القول بأنه مماثل لها.

ويدل على ذلك أنا رأينا خصومه يلزمونه على قوله بأن فاعل الأجسام جسم أن يكون طويلا عريضا عميقا فلو كان يرى أنه مماثل للأجسام لم يكن معنى لهذا الإلزام.

فأما مخالفتنا لهذا المقام فهو اتباع لما ثبت من الحق بواضح البرهان وانصراف عنه.

وأما موالاتنا هشاما رحمه‌الله فهي لما شاع عنه واستفاض منه من تركه للقول بالجسم الذي كان ينصره ورجوعه عنه وإقراره بخطئه وتوبته منه وذلك حين قصد الإمام أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام إلى المدينة فحجبه وقيل له إنه آلى أن لا يوصلك إليه ما دمت قائلا بالجسم فقال والله ما قلت به إلا لأني ظننت أنه وفاق لقول إمامي فأما إذا أنكره علي فإنني تائب إلى الله منه فأوصله الإمام عليهم السلام إليه ودعا له بخير.

وحفظ عن الصادق عليهم السلام أنه قال لهشام إن الله تعالى لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء وكلما وقع في الوهم فهو بخلافه. (٢)

وروي عنه أيضا أنه قال :

سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) لا يحد ولا يحس و (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ولا يحيط به شيء ولا هو جسم ولا صورة ولا بذي تخطيط ولا تحديد (٣)

__________________

(١) وضعنا كتابا خاصا باسم (هشام بن الحكم) أتينا فيه على حياة هشام وآرائه وأفكاره ، كما عرضنا له بالدراسة في كتابنا (فلاسفة الشيعة).

(٢) رواه المفيد في الإرشاد صلى الله عليه وسلم ٢٥٩.

(٣) رواه الصدوق في كتاب التوحيد صلى الله عليه وسلم ٨٥ باختلاف يسير.

٤١

أخبرني شيخي أبو عبد الله الحسين بن عبد الله الواسطي رحمه‌الله قال أخبرني أبو محمد التلعكبري عن أبي جعفر الكليني عن محمد بن الحسن عن سهل بن زياد عن حمزة بن محمد قال له كتبت إلى أبي الحسن عليهم السلام أسأله عن القول بالجسم والصورة؟

فكتب سبحان من (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) لا جسم ولا صورة؟ (١)

أنشدني عمار بن محمد الطبراني رحمه‌الله لزينبا الرأس عيني (٢)

إن كان جسما فما ينفك من عرض

أو جوهر فبذي الأقطار موجود

أو كان متصلا بالشيء فهو به

أو كان منفصلا فالكل محدود

لا تطلبن إلى التكييف من سبب

إن السبيل إلى التكييف مسدود

واستمسك الحبل حبل العقل تحظ به

فالعقل حبل إلى باريك ممدود

نسخة كتاب معاوية بن أبي سفيان إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع

أما بعد فإن الهوى يضل من اتبعه والحرص يتعب الطالب المحروم وأحمد العاقبتين ما هدى إلى سبيل الرشاد ومن العجب العجيب ذام ومادح وزاهد وراغب ومتوكل وحريص كلاما ضربته لك مثلا لتدبر حكمته بجميع الفهم ومباينة الهوى ومناصحة النفس فلعمري يا ابن أبي طالب لو لا

__________________

(١) المصدر السابق صلى الله عليه وسلم ٩١.

(٢) وزينيبا بن إسحاق الرسعني (الرأس عيني) الموصلي النصراني نقل له في الغدير ج ٣ من ٨ أربعة أبيات يعبّر فيها عن حبّه لأهل البيت (عليهم السلام) ونقلها له عن جماعة منهم البيهقيّ في المحاسن ج ١١ صلى الله عليه وسلم ١٠٦ والزمخشري في ربيع الأبرار. ومناقب آل أبي طالب ج ٣ صلى الله عليه وسلم ٢٧٥ وأولها :

عدي وتيم لا أحاول ذكرهم

بسوء ولكني محبّ لهاشم

٤٢

الرحم التي عطفتني عليك والسابقة التي سلفت لك لقد كان اختطفتك بعض عقبان أهل الشام فيصعد بك في الهواء ثم قذفك على دكادك شوامخ الأبصار فألفيت كسحيق الفهر على صن الصلابة لا يجد الذر فيك مرتعا ولقد عزمت عزمة من لا يعطفه رقة الإنذار إن لم تباين ما قربت به أملك وطال له طلبك ولأوردنك موردا تستمر الندامة إن فسخ لك في الحياة بل أظنك قبل ذلك من الهالكين وبئس الرأي رأي يورد أهله إلى المهالك ويمنيهم العطب إلى حين لات مناص وقد قذف بالحق على الباطل (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) ولله (الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) والمنة الظاهرة والسلام.

جواب أمير المؤمنين صلوات الله عليه وسلامه

من عبد الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان :

أما بعد فقد أتانا كتابك بتنويق المقال وضرب الأمثال وانتحال الأعمال تصف الحكمة ولست من أهلها وتذكر التقوى وأنت على ضدها قد اتبعت هواك فحاد بك عن طريق الحجة وألخج بك عن سواء السبيل فأنت تسحب أذيال لذات الفتن وتحيط في زهرة الدنيا كأنك لست توقن بأوبة البعث ولا برجعة المنقلب قد عقدت التاج ولبست الخز وافترشت الديباج سنة هرقلية وملكا فارسيا.

ثم لم يقنعك ذلك حتى يبلغني أنك تعقد الأمر من بعدك لغيرك فيهلك دونك فتحاسب دونه ولعمري لئن فعلت ذلك فما ورثت الضلالة عن كلالة وإنك لابن من كان يبغي على أهل الدين ويحسد المسلمين.

وذكرت رحما عطفتك علي فأقسم بالله الأعز الأجل أن لو نازعك هذا الأمر في حياتك من أنت تمهد له بعد وفاتك لقطعت حبله وأبنت أسبابه.

٤٣

وأما تهديدك لي بالمشارب العربية والموارد المهلكة فأنا عبد الله علي بن أبي طالب أبرز إلي صفحتك كلا ورب البيت ما أنت بأبي عذر عند القتال ولا عند مناطحة الأبطال وكأني بك لو شهدت الحرب وقد قامت على ساق وكشرت عن منظر كريه والأرواح تختطف اختطاف البازي زغب القطاة لصرت كالمولهة الحيرانة تضربها العبرة بالصدمة لا تعرف أعلى الوادي من أسفله فدع عنك ما لست أهله فإن وقع الحسام غير تشقيق الكلام فكم عسكر قد شهدته وقرن نازلته .. اصطكاك قريش بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أنت وأبوك وهو ... (١) تبع.

وأنت اليوم تهددني فأقسم بالله أن لو تبدي الأيام عن صفحتك لنشب فيك مخلب ليث هصور لا يفوته فريسة بالمراوغة كيف وأني لك بذلك وأنت قعيدة بنت البكر المخدرة يفزعها صوت الرعد وأنا علي بن أبي طالب الذي لا أهدد بالقتال ولا أخوف بالنزال فإن شئت يا معاوية فابرز والسلام.

. فلما وصل هذا الجواب إلى معاوية بن أبي سفيان جمع جماعة من أصحابه ومنهم عمرو بن العاص فقرأه عليهم فقال له عمرو قد أنصفك الرجل كم رجل أحسن في الله قد قتل بينكما أبرز إليه.

فقال له أبا عبد الله أخطأت استك الحفرة أنا أبرز إليه مع علمي أنه ما برز إليه أحد قط إلا وقتله لا والله ولكني سأبرزك إليه.

نسخة كتاب آخر

من معاوية بن أبي سفيان إلى أمير المؤمنين عليهم السلام.

أما بعد فإنا لو علمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض وإن كنا قد غلبنا على عقولنا فقد بقي لنا منها ما نرم به ما مضى ونصلح ما بقي.

__________________

(١) هنا كلمتان غير واضحتين.

٤٤

وقد كنت سألتك الشام على أن لا تلزمني لك طاعة فأبيت ذلك علي وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس فإنك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو ولا تخاف من الفناء إلا ما أخاف.

وقد والله رقت الأجناد وذهبت الرجال ونحن جميعا بنو عبد مناف ليس لبعضنا فضل على بعض يستذل به عز ولا يسترق به حر والسلام. (١)

جواب أمير المؤمنين ع

من عبد الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر أنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض وأنا وإياك نلتمس غاية لم نبلغها بعد.

وأما طلبك إلى الشام فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس.

وأما استواؤنا في الخوف والرجاء فلست بأمضى على الشك مني على اليقين ولا أهل الشام على الدنيا بأحرص من أهل العراق على الآخرة.

وأما قولك إنا بنو عبد مناف فكذلك نحن لكن ليس أمية كهاشم ولا حرب كعبد المطلب ولا أبو سفيان كأبي طالب ولا الطليق كالمهاجر ولا المبطل كالمحق وفي أيدينا فضل النبوة التي قتلنا بها العزيز وبعنا بها الحر والسلام (٢).

مسألة فقهية

وقائلة أوص الغداة فإنني

أرى الموت قد حطت لديك ركائبه

__________________

(١) تجد هذا الكتاب في المحاسن والمساوئ ج(١) صلى الله عليه وسلم ٨١ ـ ٨٢. ووقعة صفّين صلى الله عليه وسلم ٤٧٠ ـ ٤٧١.

(٢) تجد هذا الكتاب مرويا في الاخبار الطوال للدينوري ، والمحاسن والمساوئ للبيهقيّ ، والمروج الذهب للمسعودي. والإمامة والسيامة لابن قتيبة ، وكتاب صفّين لابن مزاحم وغيرها انظر : كتابنا : (مصادر نهج البلاغة صلى الله عليه وسلم ٢٣٣).

٤٥

فقلت وقد راع الفؤاد مقالها

وضاقت به خوف الحمام مذاهبه

لك الثمن إن حلت وفاتي فريضة

وسائر ما يبقى فصنوك صاحبه

جوابها

تفهم فإن الفهم أكرم ملبس

لمن شرفت أخلاقه ومذاهبه

حليلة هذا أمها زوجة ابنه

كذا لكم الألغاز جم عجائبه

فابن ابنه صنو لزوجته ومن

عزي بغريب العلم تعلو مراتبه

فميراثها ثمن وللصنو ما بقي

كذلك يقضي من توالت مناقبه

تفسير

هذا رجل تزوج وزوج ابنه من أمها فولدت أم امرأته من ابنه ابنا ثم مات ابن الرجل وليس له ممن يرثه إذا مات غير زوجته وأخيها من أمها الذي هو ابن أبيه الميت وقد تقدم ذكر هذه المسألة على غير هذا الباب في الجزء الأول.

مسألة أخرى منظومة

قد تقدم ذكرها نثرا

 بابن دعيت صنو أخي فعمي

يقول إذا رآني جاء عمي

ولا فينا بحمد الله أنثى

ولا ذكر تدرع ثوب إثم

ولا فينا مجوسي جهول

يحلل لابن أم وطء أم

فبين عن مسائلنا امتنانا

فأنت إمامنا في كل علم

الجواب

ألا يا سائلا أضحى يعمي

على المفراض خذ عني بفهم

٤٦

أخوك لأمك الصنو المداني

لأم أبيك زوج غير وهم

فابن أخيك منها غير شك

أخ لأبيك تدعوه لأم

فذاك إذا رآك يقول عمي

وأنت إذا أتاك تقول عمي

تفسير

هذان رجلان قال أحدهما للآخر يا عمي أنا عمك والسبب في ذلك هو الوجه الذي عملت عليه هذه الأبيات إن أخاه لأمه تزوج جدته أم أبيه فجاءت بابن فهو عم الابن لأمه والابن عمه لأمه.

وجواب ثان فيها

وهو أن رجلين تزوج كل واحد منهما أم الآخر فجاءت كل واحدة منهما بابن فكل واحد من الابنين عم الآخر

حديث

حدثني الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن شاذان القمي قال حدثنا الفقيه محمد بن علي بن بابويه رحمه‌الله قال أخبرني أبي قال حدثني سعد بن عبد الله قال حدثني أيوب بن نوح قال حدثني الرضا عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

خمسة لا تطفى نيرانهم ولا تموت أبدانهم رجل أشرك ورجل عق والديه ورجل سعى بأخيه إلى السلطان فقتله ورجل قتل نفسا بغير نفس ورجل أذنب وحمل ذنبه على الله عزوجل (١)

__________________

(١) هذا الحديث صحيح ورجال سنده كلهم موثوقون.

٤٧

منام (١) :

ذكر أن شيخنا المفيد رحمه‌الله أبا عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضي الله عنه رآه وأملاه على أصحابه بلغنا أن شيخنا المفيد رحمه‌الله قال رأيت في النوم كأني قد اجتزت في بعض الطرق فرأيت حلقة دائرة فيها ناس كثير فقلت ما هذا قيل لي هذه حلقة فيها رجل يقص فقلت من هو فقالوا عمر بن الخطاب فتقدمت ففرقت الناس ودخلت الحلقة فإذا برجل يتكلم على الناس بشيء لم أحصله فقطعت عليه فقلت أيها الشيخ أخبرني ما وجه الدلالة على ما يدعى من فضل صاحبك عتيق بن أبي قحافة من قول الله تعالى (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ).

فقال وجه الدلالة على فضل أبي بكر من هذه الآية في ستة مواضع.

أولها أن الله تعالى ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم وذكر أبا بكر معه فجعله ثانيه فقال (ثانِيَ اثْنَيْنِ) الثاني.

أنه وصفهما بالاجتماع في مكان واحد تأليفا بينهما فقال (إِذْ هُما فِي الْغارِ).

الثالث أنه أضافه إليه بذكر الصحبة ليجمع بينهما فيما يقتضي الرتبة فقال (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ).

الرابع أنه أخبر عن شفقة النبي عليه ورفقه به لموضعه عنده فقال (لا تَحْزَنْ).

الخامس إعلامه أنه أخبره أن الله تعالى معهما على حد سواء ناصرا لهما ودافعا عنهما فقال (إِنَّ اللهَ مَعَنا).

السادس أنه أخبر عن نزول السكينة على أبي بكر لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تفارقه السكينة قط فقال (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ).

__________________

(١) عرض المفيد لشطر منه في كتاب الإفصاح صلى الله عليه وسلم ١١٤ ـ ١١٨ وهذا الحجاج مأخوذ من هشام بن الحكم ، وأيضا في الفصول المختارة ج ١ صلى الله عليه وسلم ١٩ ـ ٢٤

٤٨

فهذه ستة مواضع تدل على فضل أبي بكر من آية الغار لا يمكنك ولا غيرك الظفر فيها.

قال المفيد رحمه‌الله فقلت له قد حررت كلامك واستقصيت البيان فيه وأتيت بما لا يقدر أحد من الخلق أن يزيد في الاحتجاج لصاحبك عليه غير أني بعون الله وتوفيقه سأجعل ما أتيت به كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.

أما قولك إن الله تعالى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وجعل أبا بكر ثانية فليس في ذلك فضيلة لأنه إخبار عن عدد ولعمري إنهما كانا اثنين ونحن نعلم ضرورة أن مؤمنا وكافرا اثنان كما نعلم أن مؤمنا ومؤمنا اثنان فليس لك في ذكر العدد طائل تعتمده.

وأما قولك إنه وصفهما بالاجتماع في المكان فإنه كالأول لأن المكان يجتمع فيه المؤمنون والكفار كما يجتمع العدد للمؤمنين والكفار وأيضا فإن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أشرف من الغار وقد جمع المؤمنين والمنافقين والكفار وفي ذلك قوله تعالى (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) المعارج : ١٩ ٢٠.

وأيضا فإن سفينة نوح عليهم السلام قد جمعت النبي والشيطان والبهيمة فبان لك أن الاجتماع في المكان لا يدل على ما ادعيت من الفضل فبطل فضلان. وأما قولك إنه أضافه إليه بذكر الصحبة فإنه أضعف من الفضلين الأولين لأن الصحبة أيضا تجمع المؤمن والكافر والدليل على ذلك قول الله عزوجل :

(قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) الكهف : ٣٧.

وأيضا فإن اسم الصحبة تكون من العاقل والبهيمة والدليل على ذلك من كلام العرب أنهم جعلوا الحمار صاحبا فقالوا :

٤٩

إن الحمار مع الحمار مطية

فإذا خلوت به فبئس الصاحب (١)

وقد سموا الجماد مع الحي أيضا صاحبا قال الشاعر :

زرت هندا وذاك بعد اجتناب

ومعي صاحب كتوم اللسان

يعني السيف فإذا كان اسم الصحبة يقع بين المؤمن والكافر وبين العاقل والبهيمة وبين الحيوان والجماد فلا حجة لصاحبك فيها.

وأما قولك إنه قال له (لا تَحْزَنْ) فإن ذلك وبال عليه ومنقصة له ودليل على خطئه لأن قوله (لا تَحْزَنْ) نهي وصورة النهي قول القائل لا تفعل فلا يخلو الحزن الواقع من أبي بكر من أن يكون طاعة أو معصية فإن كان طاعة فالنبي لا ينهى عن الطاعات بل يأمر بها ويدعو إليها وإن كان معصية فقد صح وقوعها فيه وتوجه النهي إليه عنها وشهدت الآيات به ولم يرد دليل على امتثاله للنهي وانزجاره. (٢)

وأما قولك إنه قال (إِنَّ اللهَ مَعَنا) فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمه أن الله معه خاصة وعبر عن نفسه بلفظ الجمع فقال (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

وقد قيل إن أبا بكر قال يا رسول الله إن حزني على أخيك علي بن أبي طالب ما كان منه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللهَ مَعَنا) أي معي ومع أخي علي بن أبي طالب.

وأما قولك إن السكينة نزلت على أبي بكر فإنه كفر لأن الذي نزلت

__________________

(١) قائل هذا البيت هو أميّة بن أبي الصلت.

(٢) أقول : ليس بالضرورة أن يكون حزنه طاعة أو معصية ، بل يجوز أن يكون مباحا ككثير من الانفعالات الشخصية ، كما أنّه لا ينحصر أن يكون في قوله لا تحزن للتحريم ، إذ يجوز هنا أن يكون للإرشاد أو للاشفاق الذي لا يستتبع معصية كما هو واضح.

٥٠

السكينة عليه هو الذي أيده الله تعالى بجنوده كذا يشهد ظاهر القرآن في قوله (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) التوبة : ٤٠.

فلو كان أبو بكر هو صاحب السكينة لكان هو صاحب الجنود وفي هذا إخراج النبي صلى الله عليه وسلم من النبوة.

على أن هذا الموضع لو كتمته على صاحبك لكان خيرا له لأن الله تعالى أنزل السكينة على النبي في موضعين وكان معه قوم مؤمنون فشركوه فيها فقال في أحدهما (أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) التوبة : ٢٦.

وقال في الموضع الآخر (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) الفتح : ٢٦.

ولما كان في الغار خصه وحده بالسكينة وقال (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) قال الشيخ المفيد رحمه‌الله فلم يحر عمر بن الخطاب جوابا وتفرق الناس واستيقظت.

فصل من السؤال يتعلق بهذا المقام

فإن قيل إذا كان ما تضمنه هذا المقام صحيحا عندكم في الاحتجاج وحزن أبي بكر معصية بدليل توجه النهي له عنه حسبما شهد به القرآن فقد نهى الله تعالى نبيه عليه وآله السلام عن مثل ذلك فقال (لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) النحل : ١٢٧

ونهى أم موسى عليهم السلام عن الحزن أيضا فقال (لا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) فهل كان ذلك لأن نبيه صلى الله عليه وسلم عصى في حزنه فنهاه وكذلك أم موسى عليهم السلام أم تقولون إن بين ما ذكرناه وبين حزن أبي بكر في الغار فرقا فاذكروه ليحصل به البيان.

الجواب

قيل له قد أجاب شيخنا المفيد رضي الله عنه عن هذه المسألة بما أوضح به

٥١

الفرق وأزاح العلة ونحن نورد مختصرا من القول فيها يكون فيه بيان وكفاية فنقول :

إن المعارضة بحزن النبي صلى الله عليه وسلم ساقطة لأنه عندنا معصوم من الزلات مأمون من جميع المعاصي والخطيئات فوجب أن يحمل قول الله تعالى (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) على أجمل الوجوه والأقسام وأحسن المعاني في الكلام من تخفيف الهم عنه وتسهيل صعوبة الأمر عليه رفقا به وإكراما وإجلالا وإعظاما له.

ولم يكن أبو بكر عندنا وعند خصومنا معصوما فيؤمن منه وقوع الخطأ وذلك أنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حوزته بحيث اختار الله تعالى ستر نبيه وحفظ مهجته.

هذا وقد كان عليهم السلام يخبر من أسلم على يده بأن الله سينصره على عدوه ومعانده وأنه وعده إعلاء كلمته وإظهار شريعته وهذا يوجب الثقة بالسلامة وعدم الحزن والمخافة.

ثم ما ظهر له من الآيات الموجبة لسكون النفس وإزالة المخافة من نسج العنكبوت على باب الغار وتبيض الطائر هناك في الحال وقول النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حزنه وكثرة هلعه وجزعه إن دخلوا من هاهنا وأشار إلى جانب الغار فانخرق وظهر له البحر وببعض هذا يأنس المستوحش وبنظره يطمئن الخائف فلم يسكن أبو بكر إلى شيء من ذلك وظهر منه الحزن والقلق ولا شبهة بعد هذا البيان تعترض في قبح حزنه.

وأما حزن أم موسى عليهم السلام فمفارق أيضا لحزنه لأن أحدا لا يشك في أن خوفها وحزنها إنما كان شفقة منها على ولدها لما أمرت بإلقائه في اليم ويجوز أن يكون لم تعلم في الحال بأنه سيسلم ويعود إليها على أفضل ما تؤمل فلحقها ما يلحق الوالدة على ولدها من الخوف والحزن لمفارقته فلما قال لها (لا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) اطمأنت عند ذلك وسكنت تصديقا للقول وثقة بالوعد.

٥٢

وأبو بكر قد سمع مثل ما سمعت ورأى أكثر مما رأت ولم يثق قلبه ولا سكنت نفسه فوضح الفرق بين حزنها وحزنه.

على أن ظاهر الآية تشهد بأن الله تعالى أمر أم موسى عليهم السلام أن تلقي ولدها في اليم وسكن قلبها عقيب الأمر في قوله سبحانه

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) القصص : ٧

فالخوف والحزن اللذان ورد ظاهر النهي عنهما يصح أن لا يكون وقعا منها لأن تسكين النفس بالسلامة إشارة بحسن العاقبة عقيب الأمر بالإلقاء يؤمن من وقوع الهم والحزن جميعا.

وأما حزن أبي بكر فقد وقع وأجمعت الأمة على أنه حزن وليس من فعل كمن لم يفعل فلا نقض بهما من كل وجه.

مبيت علي عليهم السلام في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة

اعلم أن الذي فدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وجاد دونه بمهجته وفعل ما لا يسمح أحد بفعله مما تعجبت منه ملائكة الله في سمائه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام.

وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تعاقد المشركون على مبايتته وأجمعوا على قتله أمره الله سبحانه بالخروج من ليلته لم ير أحدا أسرع إلى طاعته وأصبر على الشدائد في مرضاته من أمير المؤمنين عليهم السلام فدعاه إليه وأعلمه الخبر الذي وقف بالوحي عليه وأن القوم قد أجمعوا أمرهم على أن يهجموا عليه في حجرته ويقتلوه على فراشه وأن الله سبحانه أمره بالخروج إلى يثرب وقال له يا علي إذا صليت العشاء الآخرة فاضطجع على فراشي وتلف ببردتي ليظن المشركون إذا رأوك أني لم أخرج فلا يجدون في طلبي فأقامه مقاما مهولا وكلفه تكليفا عظيما لم يصبر على مثله إلا إسماعيل عليهم السلام لما قال له أبوه الخليل ص :

٥٣

(يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى).

وقول إسماعيل له (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) الصافات : ١٠٢

بل حال أمير المؤمنين عليهم السلام أعظم وتكليفه أشق وأصعب لأن إسماعيل أسلم لهلاك يناله بيد أبيه وأمير المؤمنين عليهم السلام أسلم لهلاك يناله بيد أعدائه فأجابه صلى الله عليهما إلى مراده وسارع إلى إيثاره بنفس طيبة ونية صادقة واضطجع على فراشه ولا يشك إلا أنه مقتول في ليلته قد فداه بنفسه وجاد دونه بمهجته وفي مبيته على الفراش أنزل الله تعالى على نبيه (١)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (البقرة : ٢٠٧.

فأين هذا من حزن أبي بكر وفرقه وخوفه وقلقه وتوجه النهي إليه وتعريه من السكينة التي خص الله سبحانه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أترى لو قيل له وهو على ما يدعي له من صحة العقيدة في الإسلام أتحب لو كنت البائت على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم والواقي له بنفسه والذي أنزل فيه (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) ولم تكن حزنت في الغار وتوجه إليك النهي من النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت السكينة عليه دونك لم يشرك فيها بينك وبينه أكان يقول لا حاجة بي إلى فضيلة الفراش أم يقول بودي ذلك.

ولسنا نشك أنه لو قيل لأمير المؤمنين عليهم السلام أتحب لو كنت بدلا من نومك على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وحصول فضيلته لك ونزول القرآن بمدحك بمكان

__________________

(١) وهو المروي عن السدي عن ابن عبّاس انظر : مجمع البيان م ١ صلى الله عليه وسلم ٣٠١.

وفي الجزء الثاني من دلائل الصدق للشيخ المظفر : إن الذين نقلوا نزول هذه الآية بعلي ، هم الرازيّ والثعلبي وصاحب ينابيع المودة وأبو السعادات في فضائل العترة الطاهرة ، والغزالي في الإحياء ، والحاكم في المستدرك ، وأحمد بن حنبل في المسند انظر : التفسير الكاشف م ١ صلى الله عليه وسلم ٣١١.

٥٤

أبي بكر في الغار وقد وقع الحزن منك وتوجه النهي إليك ونزلت السكينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم دونك وفاز بفضيلة المواساة بالنوم على الفراش غيرك لقال أعوذ بالله من ذلك والفرق بين الحالين مرئي للعميان. (١)

أحاديث

وقد روى الثقات عن الصادق جعفر بن محمد عليهم السلام أنه قال لما بات علي عليهم السلام على الفراش أوحى الله تعالى إلى ملكين من ملائكته لم يكن في الملائكة أشد ائتلافا ومؤاخاه منهما فقال إني مميت أحدكما فاختارا قال فتدافعا الموت بينهما وآثر كل واحد منهما البقاء فأوحى الله تعالى إليهما أين أنتما عن عبدي هذا الراضي بالموت البائت على فراش ابن عمه يقيه الردى بنفسه أما إني قد علمت من سريرته أن تلف نفسه أحب إليه من أن تؤخذ شعره من شعر ابن عمه انزلا إليه فاحفظاه واكلآه إلى الصبح فلم تزل عين المشركين تلحظه والملائكة الكرام تحفظه إلى أن كان وقت الصبح وهجم المشركون عليه للقتل فألقى الله تعالى في قلوبهم لما أراده من حياته أن يوقظوه من نومه فقالوا ننبهه ليرى أنا ظفرنا به قبل قتله فلما فعلوا ذلك وثب إليهم أمير المؤمنين عليهم السلام وفي يده سيفه فتولوا عنه هاربين فقال لهم أمير المؤمنين عليهم السلام دخلتم وأنا نائم فادخلوا وأنا منتبه فقالوا لا حاجة لنا فيك يا ابن أبي طالب. (٢)

فصل من روايات ابن شاذان رحمه‌الله

حدثنا الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان رضي الله عنه بمكة في المسجد الحرام.

__________________

(١) هذه الذي ذكره المؤلّف رحمه اللّه هنا أخذه من الطبريّ الإمامي في كتابه المسترشد صلى الله عليه وسلم ٥٢ ـ ٥٣.

(٢) هذا مرويّ باختصار في أسد الغابة ج ٤ صلى الله عليه وسلم ٢٥ انظر : فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٢ صلى الله عليه وسلم ٣١٠.

٥٥

قال حدثني محمد بن سعيد المعروف بالدهقان قال حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد قال حدثنا محمد بن منصور قال حدثنا أحمد بن عيسى العلوي قال حدثنا حسين بن علوان عن أبي خلد عن زيد بن علي عن أبيه عن جده الحسين بن علي عن أمير المؤمنين علي عليهم السلام.

قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بعض حجراته فاستأذنت عليه فأذن لي فلما دخلت قال لي.

يا علي أما علمت أن بيتي بيتك فما لك تستأذن علي فقلت يا رسول الله أحببت أن أفعل ذلك قال يا علي أحببت ما أحب الله وأخذت بآداب الله فقال يا علي أما علمت أنك أخي أما أنه أبى خالقي ورازقي في أن يكون لي سر دونك يا علي أنت وصيي من بعدي وأنت المظلوم المضطهد بعدي يا علي الثابت عليك كالمقيم معي ومفارقك مفارقي يا علي كذب من زعم أنه يحبني ويبغضك لأن الله تعالى خلقني وإياك من نور واحد.

وحدثنا الشيخ أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان قال حدثني أحمد بن محمد بن محمد رضي الله عنه قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا زياد بن المنذر قال حدثني سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء بعدي أفضل من علي بن أبي طالب وإنه إمام أمتي وأميرها وإنه لوصيي وخليفتي عليها من اقتدى به بعدي اهتدى ومن اهتدى بغيره ضل وغوى إني أنا النبي المصطفى ما أنطق بفضل علي بن أبي طالب عن الهوى (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) نزل به الروح المجتبى عن الذي (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى).

وحدثنا الشيخ أبو الحسن بن شاذان قال حدثنا محمد بن محمد بن مرة رحمه‌الله قال حدثنا الحسن بن علي العاصمي قال حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي قال حدثنا سور بن طريف

٥٦

عن الأصبغ قال سئل سلمان الفارسي رحمه‌الله عن علي بن أبي طالب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عليكم بعلي بن أبي طالب فإنه مولاكم فأحبوه وكبيركم فاتبعوه وعالمكم فأكرموه وقائدكم إلى الجنة فعزروه وإذا دعاكم فأجيبوه وإذا أمركم فأطيعوه وأحبوه لحبي وأكرموه لكرامتي ما قلت لكم في علي إلا ما أمرني به ربي.

مسألة :

سألني رجل من أهل الخلاف فقال إنا نراكم معشر الشيعة تكثرون القول بأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وتناظرون على ذلك وترددون هذا الكلام وإطلاق هذا اللفظ منكم يضاد مذهبكم ويناقض معتقدكم ولستم تعلمون أن التفضيل بين الشيئين لا يكون إلا وقد شمل الفضل لهما ثم زاد في الفضل أحدهما على صاحبه وأن ذلك لا يجوز مع تعري أحدهما من خلال الفضل على كل حال لم جهلتم ذلك من معنى الكلام فإن زعمتم أن لأبي بكر وعمر وعثمان قسطا من الفضل يشملهم به يصح به القول إن أمير المؤمنين عليهم السلام أفضلهم تركتم مذهبكم وخالفتم سلفكم وإن مضيتم على أصلكم ونفيتم عنهم جميع خلال الفضل على ما عهد من قولكم لم يصح القول بأن أمير المؤمنين عليهم السلام أفضل منهم.

الجواب :

فقلت له ليس في إطلاق أن القول بأن أمير المؤمنين عليهم السلام أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ما يوجب على قائله ما ذكرتم في السؤال.

والشيعة أعرف من خصومهم بمواقع الألفاظ ومعاني الكلام وذلك أن التفضيل وإن كان كما وصفت يكون بين الشيئين إذا اشتركا في الفضل وزاد أحدهما على الآخر فيه فقد يصح أيضا فيهما إذا اختص بالفضل أحدهما وعرى الآخر منه ويكون معنى قول القائل هذا أفضل من هذا أنه الفاضل دونه وأن الآخر لا فضل له وليس في هذا خروج عن لسان العرب ولا

٥٧

مخالفة لكلامها وكتاب الله تعالى يشهد به وإن أشعار المتقدمين يتضمنه قال الله جل اسمه :

(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) الفرقان : ٢٤.

يعني أنهم خير من أصحاب النار وقد علم أن أصحاب النار أصحاب شر ولا خير فيهم.

ووصف النار في آية أخرى فقال :

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) إلى قوله (وَادْعُوا ثُبُوراً) الفرقان : ١١ ـ ١٥ ، ثم قال :

(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً). الفرقان : ١٥.

فذكر سبحانه أن الجنة وما أعد فيها خير من النار.

ونحن نعلم أنه لا خير في النار.

وقال تعالى في آية أخرى :

(قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وقال (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) الروم : ٢٧.

والمعنى في ذلك هين لأن شيئا لا يكون أهون على الله من شيء فكذلك قولنا هذا أفضل يكون المراد به هذا الفاضل.

وليس بعد إيراد هذه الآيات لبس في السؤال يعترض العاقل وقد قال حسان بن ثابت في رجل هجا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين :

هجوت محمدا برا تقيا

وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفؤ

فشركما لخيركما فداء

وقد علمنا أنه لا شر في النبي عليهم السلام ولا خير فيمن هجاه.

٥٨

وقال غيره من الجاهلية :

خالي بنو أنس وخال سراتهم

أوس فأيهما أدق وألأم

يريد فأيهما الدقيق واللئيم وليس المعنى فيه أن الدقة واللؤم قد اشتملا عليهما ثم زاد أحدهما على صاحبه فيهما.

وعلى هذا المعنى فسر عثمان بن الجني (١) قول المتنبئ :

أعق خليليه الصفيين لائمه.

وأنهما لم يشتركا في العقوق ثم زاد أحدهما على الآخر صاحبه فيه مع كونهما خليلين صفيين.

وإنما المراد أن الذي يستحيل منهما عن الصفا فيصير عاقا لائمه. (٢)

والشواهد في ذلك كثيرة وفيما أوردته منها كفاية في إبطال ما ألزمت ودلالة على أن الشيعة في قولها إن أمير المؤمنين عليهم السلام أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان لم تناقض لها مذهبا ولا خالفت معتقدا وإن المراد بذلك أنه الفاضل دونهم والمختص بهذا الوصف عنهم فتأمل ذلك تجده صحيحا والحمد لله.

على أن من الشيعة من امتنع من إطلاق هذا المقال عند تحقيق الكلام ويقول في الجملة إنه عليهم السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الناس فسؤالك ساقط عنه إذ كان لا يلفظ بما ذكرته إلا على المجاز.

فلما سمع السائل الجواب اعترف بأنه الصواب ولم يزد حرفا في هذا الباب والحمد لله على خيرته من خلقه سيدنا محمد رسوله وآله الطيبين الطاهرين وسلامه وبركاته.

__________________

(١) أبو الفتح عثمان بن جني ولد ونشأ في الموصل وسكن وتوفي ببغداد عام (٣٩٢ ه) من أكابر علماء النحو والصرف والأدب وهو من أساتذة الشريفين الرضى والمرتضى وله مؤلّفات عديدة ومنها شرح ديوان المتنبي.

(٢) في العبارة قلق.

٥٩

فصل في الرؤيا في المنام (١)

وجدت لشيخنا المفيد رضي الله عنه في بعض كتبه أن الكلام في باب رؤيا المنامات عزيز وتهاون أهل النظر به شديد والبلية بذلك عظيمة وصدق القول فيه أصل جليل.

والرؤيا في المنام تكون من أربع جهات :

أحدها حديث النفس بالشيء والفكر فيه حتى يحصل كالمنطبع في النفس فيخيل إلى النائم ذلك بعينه وأشكاله ونتائجه وهذا معروف بالاعتبار.

الجهة الثانية من الطبائع وما يكون من قهر بعضها لبعض فيضطرب المزاج ويتخيل لصاحبه ما يلائم ذلك الطبع الغالب من مأكول ومشروب ومرئي وملبوس ومبهج ومزعج.

وقد نرى تأثير الطبع الغالب في اليقظة والشاهد حتى أن من غلب عليه الصفراء يصعب عليه الصعود إلى المكان العالي بما يتخيل له من وقوعه ويناله من الهلع والزمع (٢) ما لا ينال غيره.

ومن غلبت عليه السوداء يتخيل أنه قد صعد في الهواء وناجته الملائكة ويظن صحة ذلك حتى أنه ربما اعتقد في نفسه النبوة وأن الوحي يأتيه من السماء وما أشبه ذلك.

الجهة الثالثة ألطاف من الله عزوجل لبعض خلقه من تنبيه وتيسير وأعذار وإنذار فيلقى في روعة ما ينتج له تخيلات أمور تدعوه إلى الطاعة والشكر على النعمة وتزجره عن المعصية وتخوفه الآخرة ويحصل له بها مصلحة وزيادة فائدة وفكر يحدث له معرفة.

__________________

(١) تجد الكلام على المنامات مسهبا في الجزء الثاني صلى الله عليه وسلم ٣٩٢ ـ ٣٩٥ من كتاب الأمالي للشريف المرتضى.

(٢) هي جالة الدهش والخوف والارتباك.

٦٠