كنز الفوائد - ج ٢

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي

كنز الفوائد - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي


المحقق: الشيخ عبدالله نعمه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

ذلك فإنه يقع على كل اسم من هذه الأسماء على أنواع في الصور والهيئات وهو موضوع في الأصل لمعنى يعم جميع ما في معناه.

ومن الألفاظ المشتركة ضرب آخر وهو قولهم عين ووقوع هذه اللفظة على جارحة البصر وعلى الماء والذهب وجيد الأشياء وصاحب الخير وميل الميزان وغير ذلك فهذه اللفظة بمجردها غير مبنية لشيء مما عددناه وإنما هي بعض المسمى وتمامه وجود الإضافة أو ما يقوم مقامها من الصفة المخصوصة.

وإذا ورد اللفظ وكان مخصوصا بدليل فهو على العموم فيما بقي تحته مما عدا المخصوص ويقال إنه عام على المجاز لأنه منقول عما بني له من الاستيعاب إلى ما دونه من المخصوص.

وحقيقة المجاز هي وضع اللفظ على غير ما بني له في اللسان فلذلك قلنا إنه مجاز.

وإذا ورد لفظان عامان كل منهما يرفع حكم صاحبه ولم يعرف المتقدم منهما من المتأخر فيقال إن أحدهما منسوخ والآخر ناسخ وجب فيها الوقف ولم يجز القضاء بأحدهما على الآخر إلا أن يحضر دليل.

وذلك كقوله سبحانه :

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) البقرة : ٢٤٠.

وهذا عموم في جميع الأزواج المختلفات بعد الوفاة.

وقوله (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (٢) البقرة : ٢٣٤.

وهذا أيضا عام وحكمهما متنافيان فلو لا أن العلم قد أحاط بتقديم إحداهما فوجب القضاء بالمتأخرة الثانية منهما لكان الصواب هو الوقف دون الحكم بشيء منهما.

وكذلك إذا ورد حكمان في قضية واحدة أحدهما خاص والآخر عام ولم

٢١

يعرف المتقدم من المتأخر منهما ولم يمكن الجمع بينهما وجب التوقف فيهما

مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

لا نكاح إلا بولي

والرواية عنه من قوله :

ليس للولي مع البنت أمر

وهذا يخص الأول وفي الإمكان أن يقضى عليه في الأول في كل واحد منهما يجوز أن يكون الناسخ للآخر فيعدلنا عنهما جميعا لعدم الدلالة على القاضي منهما وصرنا إلى ظاهر قوله عزوجل :

(فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) النساء : ٣

وقوله (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) في إباحة النكاح بغير اشتراط ولي على الإطلاق.

الخاص والعام

وإذا ورد لفظ في حكم وكان معه لفظ خاص في ذلك الحكم بعينه وجب القضاء بالخاص وهذا مثل الأول ومثاله قول الله عزوجل :

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) المؤمنون : ٥ و ٦.

وهذا عام في ارتفاع اللوم على وطء الأزواج على كل حال والخصوص قوله سبحانه

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) البقرة : ٢٢٢.

فلو قضينا بعموم الآية ارتفع حكم آية المحيض بأسره وإذا قضينا بما في الثانية من الخصوص لم يرتفع حكم الأولى العام من كل الوجوه فوجب القضاء بآية التخصيص منهما ليصح العمل على ما بيناه بهما.

٢٢

وإذا سبق التخصيص اللفظ العام أو ورد مقارنا له فلا يجوز القول بأنه ناسخ لحكمه لأن العموم لم يثبت فيستقر له حكم وإنما خرج إلى الوجود مخصوصا فأوجبه في حكم الخصوص.

والنسخ إنما هو رفع موجود لو ترك لأوجب حكما في المستقبل.

والذي يخص اللفظ العام لا يخرج منه شيئا دخل تحته وإنما يدل الدليل على أن التجوز لم يرد من معنى ما بني له الاسم وإنما أراد غيره وقصد إلى وضعه على ما بني له في الأصل.

وليس يخص العموم إلا دليل العقل والقرآن والسنة الثابتة.

فأما القياس والرأي فإنهما عندنا في الشريعة ساقطان لا يثمران علما ولا يخصان عاما ولا يعمان خاصا ولا يدلان على حقيقة.

ولا يجوز تخصيص العام بخبر الواحد لأنه لا يوجب علما ولا عملا وإنما يخصه من الأخبار ما قطع العذر لصحته عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أحد الأئمة ع.

وليس يصح في النظر دعوى العموم بذكر الفعل وإنما يصح ذلك في الكلام المبني والصور منه المخصوصة فمن تعلق بعموم الفعل فقد خالف العقول وذلك أنه إذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم لم يجب الحكم بذلك على أنه أحرم بكل نوع من أنواع الحج من إفراد وقران وتمتع وإنما يصح الإحرام بنوع منها واحد.

وإذا ثبت عنه عليهم السلام أنه قال لا ينكح المحرم وجب عموم حظر النكاح على جميع المحرمين مع اختلافهم فيما أحرموا به من إفراد وقران وتمتع أو عمرة منقولة.

وفحوى الخطاب هو ما فهم منه المعنى وإن لم يكن نصا صريحا فيه بمعقول عادة أهل اللسان في ذلك كقوله عزوجل

(فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) الإسراء : ٢٣.

فقد فهم من هذه الجملة ما تضمنته نصا صريحا وما دل عليه بعرف أهل

٢٣

اللسان من الزجر عن الاستخفاف بالوالدين الزائد على قول القائل لهما أف وما تعاظم عن انتهارهما من القول وما أشبه ذلك من الفعل وإن لم يكن النص تضمن ذلك على التفصيل والتصريح.

وكقولهم لأمر يخص لا تبخس فلانا من حقه حبة واحدة وما يدل ذلك عليه بحسب العرف بينهم والعادة من النهي عن جميع البخس الزائد على الحبة والأمثلة في ذلك كثيرة.

فأما دليل الخطاب فهو أن الحكم إذا علق ببعض صفات المسمى في الذكر دل ذلك على أن ما خالفه في الصفة مما هو داخل تحت الاسم بخلاف ذلك الحكم إلا أن يقوم دليل على وفاقه فيه كقول النبي صلى الله عليه وسلم :

في سائمة الإبل زكاة

فتخصيصه السائمة بالزكاة دليل على أن العاملة ليس فيها زكاة.

ويجوز تأخير بيان المراد من القول إذا كان في ذلك لطف للعباد وليس ذلك من المحال.

وقد أمر الله قوم موسى أن يذبحوا بقرة وكان مراده أن تكون على صفة مخصوصة ولم يقع البيان مع قوله (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) بل تأخر عن ذلك وانكشف لهم عند السؤال بحسب ما اقتضاه لهم الصلاح وليس ينافي تأخير البيان القول بأن الأمر على الفور والبدار وذلك أن تأخير البيان عن الأمر الموقت أو قرينة من برهان هو غير الأمر المطلق العري من القرائن الذي ظن أنه يقتضي الفور والبدار ولا يجوز تأخير بيان العموم لأن العموم موجب بمجرده الاستيعاب فمتى أطلقه الحكيم ومراده التخصيص ولم يبين ذلك فقد أتى بألغاز وليس هذا كتأخير بيان المجمل من الكلام وبينها فرق.

أسماء النكرة

والأسماء النكرة موضوعة في أصل اللغة للجنس دون التعيين فإذا ورد

٢٤

الأمر بفعل يتعلق بنكرة وجب إيقاعه على ما يستحق بمعناه سمة الجنس سوى ما زاد عليه.

فمن ذلك ما يفيد أقل ما يدخل تحت الجنس كقول القائل لغيره تصدق بدرهم فامتثال هذا الأمر أن يتصدق بدرهم كائنا ما كان من الدراهم.

وليس النهي بالنكرة كالأمر بها لأن الأمر هاهنا يقتضي التخصيص والنهي يقتضي العموم.

ولو قال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه لا تدخرن درهما ولا دينارا لاقتضى ذلك أن لا يدخر منهما عينا.

ولو قال له تصدق بدرهم ودينار لأفاد ذلك أن يتصدق بهما ولا يلزمه أن يتجاوزهما.

وليس القول بأن الأمر بالنكرة يقتضي أن يفعل أي واحد كان من الجنسين بمفسد ما تقدم من القول في تأخير البيان عن قوم موسى عليهم السلام لما أمروا بذبح بقرة بلفظ التنكير لأن حالهم يقتضي أن مع الأمر لهم بذبحها قد كانت لهم قرينة اقتضت التوقف والسؤال في سؤالهم ذلك على ذلك.

ولو تعرى الأمر من القرينة لكان مجرد وروده بالتنكير يقتضي الامتثال في أي واحد من الجنسين.

ومن هذا الباب أن يرد الأمر بلفظ التثنية والتنكير كقوله أعط فلانا درهمين فالواجب الامتثال في أي درهمين كانا على معنى ما تقدم من القول.

ومنه أن يرد الأمر بلفظ الجمع المنكر كقوله تصدق بدراهم فليس يفيد ذلك أكثر من أقل العموم وهو ثلاث ما لم يقع التبيين.

في العموم وصيغه

واعلم أن العموم على ثلاثة أضرب فضرب هو أصل الجمع المفيد لاثنين فما زاد وذلك لا يكون إلا فيما اختصت عبارة الاثنين به في العدد فهو عموم من حيث الجمع.

٢٥

والضرب الثاني ما عبر عنه بلفظ الجمع المنكر كقولك دراهم ودنانير فذلك لا يصح في أقل من ثلاثة.

والضرب الثالث ما حصل فيه علامة الاستيعاب من التعريف بالألف واللام وبمن الموضوعة للشرط والجزاء فمتى قال لعبده عظم العلماء فقد وجب عليه تعظيم جميعهم وإذا قال من دخل داري أكرمته وجب عليه إكرام جميع الداخلين داره.

والأسماء الظاهرة ما استغنت في حقائقها عن مقدمة لها.

والكنية ما لم يصح الابتداء بها وحكم الكناية العموم والخصوص حكم ما تقدمها.

والعطف والاستثناء إذا أعقب جملا فهو راجع إلى جميعها إلا أن يكون هناك دليل يقصرها على شيء منها.

وما ورد عن الله سبحانه وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الأئمة الراشدين عليهم السلام من بعده على سبب أو كان جوابا عن سؤال فإنه يكون محكوما له بصورة لفظه دون القصر له على السبب المخرج له عن حكم ظاهره. (١)

وليس وروده على الأسباب بمناف لحمله على حقيقته في الخطاب في عقل أو عرف ولا لسان.

وإنما يجب صرفه عن ظاهره لقيام دلالة تمنع من ذلك من التضاد.

في الحقيقة والمجاز

والحقائق والمجازات إنما هي في الألفاظ والعبارات دون المعاني المطلوبات.

والحقيقة من الكلام ما يطابق المعنى الموضوع له في أصل اللسان.

__________________

(١) هذا ما يعبر عنه في المصطلح الأصولي اليوم بقاعدة (المورد لا يخصص الوارد).

٢٦

والمجاز منه ما عبر به من غير معناه في الأصل تشبيها واستعارة لغرض من الأغراض وعلى وجه الإيجاز والاختصار.

ووصف الكلام بالظاهر وتعلق الحكم به إنما يقصد به إلى الحقيقة منه.

والحكم بالاستعارة فيه إنما يراد به المجاز.

وكذلك القول في التأويل والباطن إنما يقصد به إلى العبارة عن مجاز القول واستعارته حسبما ذكرناه.

والحكم على الكلام بأنه حقيقة أو مجاز لا يجوز إلا بدليل يوجب اليقين ولا يسلك فيه طريق الظنون.

والعلم بذلك من وجهين أحدهما الإجماع من أهل اللسان والآخر الدليل المثمر للبيان.

فأما إطلاق بعض أهل اللغة أو بعض أهل الإسلام ممن ليس بحجة في المقال والفعال فإنه لا يعتمد في إثبات حقيقة الكلام.

فمتى التبس اللفظ فلم يقم دليل على حقيقة فيه أو مجاز وجب الوقف لعدم البرهان.

وليس بمصيب من ادعى أن جميع القرآن على المجاز وظاهر اللغة يكذبه ودلائل العقول والعادات تشهد بأن جمهوره على حقيقة كلام أهل اللسان.

ولا بمصيب أيضا من زعم أنه لا يدخله المجاز وقد خصمه في ذلك قوله سبحانه

(فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) الكهف : ٧٧.

وغيره من الآيات والواجب أن يقال إن منه حقيقة ومنه مجاز.

الحظر والإباحة :

فأما القول في الحظر والإباحة فهو أن العقول لا مجال لها في العلم بإباحة ما

٢٧

يجوز ورود السمع فيها بإباحته ولا بحظر ما يجوز وروده فيها بحظره ولكن العقل لم ينفك قط من السمع بإباحته وحظره.

ولو ألزم (١) الله تعالى العقلاء حالا واحدة من سمع لكان قد اضطرهم إلى موافقة ما يقبح في عقولهم من استباحة ما لا سبيل لهم إلى العلم بإباحته من حظره وإلجائهم إلى الحيرة التي لا تليق بحكمته.

القياس والرأي :

وليس عندنا للقياس والرأي مجال في استخراج الأحكام الشرعية ولا يعرف من جهتها شيء من الصواب ومن اعتمدهما في المشروعات فهو على الضلال.

النسخ :

والعقول تجوز نسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة والكتاب بالسنة والسنة بالكتاب غير أن السمع ورد بأن الله تعالى لا ينسخ كلامه بغير كلامه بقوله

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) البقرة : ١٠٦.

فعلمنا أنه لا ينسخ الكتاب بالسنة وأجزنا ما سوى ذلك.

الخبر

والحجة في الأخبار ما أوجبه العلم من جهة النظر فيها بصحة مخبرها ونفي الشك فيه والارتياب.

__________________

(١) في النسخة : (ولو احكى) فوضعنا مكانها (ألزم) لأنّها أكثر انسجاما مع المراد.

٢٨

وكل خبر لا يوصل بالاعتبار إلى صحة مخبره فليس بحجة في الدين ولا يلزم به عمل على حال.

والأخبار التي يجب العلم بالنظر فيها على ضربين

أحدهما التواتر المستحيل وروده بالكذب من غير تواطؤ على ذلك أو ما يقوم مقامه في الاتفاق.

والثاني خبر واحد يقترن إليه ما يقوم مقام المتواتر في البرهان على صحة مخبره وارتفاع الباطل منه والفساد.

والتواتر الذي وصفناه هو ما جاءت به الجماعات البالغة في الكثرة والانتشار إلى حد قد منعت العادة من اجتماعهم على الكذب بالاتفاق كما يتفق الاثنان أن يتواردا بالإرجاف وهذا حد يعرفه كل من عرف العادات.

وقد يجوز أن ترد جماعة دون من ذكرناه في العدد بخبر يعرف من شاهدهم بروايتهم ومخارج كلامهم وما يبدو في ظاهر وجوههم ويبين من تصورهم أنهم لم يتواطئوا ليتعذر التعارف بينهم والتشاور فيكون العلم بما ذكرناه من حالهم دليلا على صدقهم ورافعا للإشكال في خبرهم وإن لم يكونوا في الكثرة على ما قدمناه.

فأما خبر الواحد القاطع للعذر فهو الذي يقترن إليه دليل يفضي بالناظر فيه إلى العلم بصحة مخبره وربما كان الدليل حجة من عقل وربما كان شاهدا من عرف وربما كان إجماعا بغير خلف فمتى خلا خبر واحد من دلالة يقطع بها على صحة خبره فإنه كما قدمناه ليس بحجة ولا موجب علما ولا عملا على كل وجه.

الإجماع :

وليس في إجماع الأمة حجة من حيث كان إجماعا ولكن من حيث كان

٢٩

فيها الإمام المعصوم فإذا ثبت أنها كلها على قول فلا شبهة في أن ذلك القول قول المعصوم إذ لو لم يكن كذلك كان الخبر عنها بأنها مجمعة باطلا فلا تصح الحجة بإجماعها لهذا الوجه.

الاستصحاب :

والحكم باستصحاب الحال واجب لأن حكم الحال ثبت باليقين وما ثبت فلن يجوز الانتقال عنه إلا بواضح الدليل.

اختلاف الأخبار :

والأخبار إذا اختلفت في الألفاظ فلن يصح حمل جميعها على الحقيقة من الكلام إذا أريد الجمع بينهما على الوفاق وإنما يصح حمل بعضها على الحقيقة وبعضها على المجاز حتى لا يقدح ذلك في إسقاط بعضها على الحقيقة وبعضها على المجاز فلا بد من صحة أحد البعضين وفساد الآخر أو فساد الجميع.

اللهم إلا أن يكون الاختلاف فيها يدل على النسخ الذي لا يكون إلا في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم دون أخبار الأئمة عليهم السلام فإنهم ليس لهم تبديل شيء من العبارات ولا نسخ.

وقد أثبت لك أيدك الله جمل ما سألت في إثباته وأوردته مجردا من حججه ودلالته ليكون تذكره لك بالمعتقد كما ذكرت ولم أتعد فيه مضمون كتاب شيخنا المفيد رحمه‌الله حسبما طلبت والحمد لله على أهل الجود والإفضال وصلاته على سيدنا محمد رسوله المنقذ بهدايته من الضلال وعلى آله الطاهرين أولي الرفعة والجلال.

٣٠

فصل من عيون الحكم ونكت من جواهر الكلام

من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم :

استرشدوا العقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا.

قوام المرء عقله ولا دين لمن لا عقل له.

سيد الأعمال في الدارين العقل.

لكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله فبقدر عقله تكون عبادته لربه.

اغد عالما أو متعلما أو مستمعا أو محدثا ولا تكن الخامس فتهلك.

نضر الله امرأ سمع منا حديثا فأداه كما سمع فرب مبلغ أوعى من سامع.

العلم أكثر من أن يحصى فخذ من كل شيء أحسنه.

إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته فإن كان خيرا فاسرع إليه وإن كان شرا فانته عنه.

صل من قطعك وأحسن إلى من أساء إليك وقل الحق ولو على نفسك.

اعتبروا فقد خلت المثلات فيمن كان قبلكم.

كن لليتيم كالأب الرحيم.

واعلم أنك تزرع كل ما تحصد.

اذكر الله عند همك إذا هممت وعند لسانك إذا حكمت وعند يدك إذا قسمت.

ومن كلام أمير المؤمنين عليهم السلام :

عليكم بالدرايات لا بالروايات همة السفهاء الرواية وهمة العلماء الدراية.

٣١

تزاوروا وتذاكروا الحديث إلا تفعلوا يدرس.

أشد الناس بلاء وأعظمهم عناء من بلي بلسان مطلق وقلب مطبق فهو لا يحمد إن سكت ولا يحسن إن نطق.

إياكم وسقطات الاسترسال فإنها لا تستقال.

تعز عن الشيء إذا منعته لقلته ما صحبك إذا أعطيته.

من لم يعرف لوم ظفر الأيام لم يحترس من سطوات الدهر ولم يتحفظ من فلتات الزلل ولم يتعاظمه ذنب وإن عظم.

وسئل عن الحرص ما هو فقال

هو طلب القليل بإضاعة الكثير.

وقال العاقل يستريح في وحدته إلى عقله والجاهل يتوحش من نفسه لأن صديق كل إنسان عقله وعدوه جهله.

العقول ذخائر والأعمال كنوز النفوس أشكال فما تشاكل منها اتفق والناس إلى أشكالهم أميل.

ومن كلام الحسين عليهم السلام :

قوله يوما لابن عباس

يا ابن عباس لا تكلمن فيما لا يعنيك فإنني أخاف عليك فيه الوزر ولا تكلمن فيما يعنيك حتى ترى للكلام موضعا فرب متكلم قد تكلم بالحق فعيب ولا تمارين حليما ولا سفيها فإن الحليم يقليك والسفيه يرديك ولا تقولن في أخيك المؤمن إذا توارى عنك إلا مثل ما تحب أن يقول فيك إذا تواريت عنه.

واعمل عمل رجل يعلم أنه مأخوذ بالإجرام مجزي بالإحسان والسلام.

وبلغه عليهم السلام كلام نافع بن جير في معاوية قوله إنه كان يسكته الحلم وينطقه العلم فقال عليهم السلام :

بل كان ينطقه البطر ويسكته الحصر.

٣٢

كلام الإمام الصادق ع :

وعن الصادق جعفر بن محمد عليهم السلام قوله :

الملوك حكام الناس والعلماء حكام على الملوك.

وقوله :

أحسنوا النظر فيما لا يسعكم جهله وانصحوا لأنفسكم وجاهدوا في طلب ما لا عذر لكم في جهله فإن لدين الله أركانا لا ينفع من جهلها شدة اجتهاده في طلب ظاهر عبادته ولا يضر من عرفها فدان به حسن اقتصار ولا سبيل لأحد إلى ذلك إلا بعون من الله عزوجل (١).

وقوله :

ما كل من نوى شيئا قدر عليه ولا كل من قدر على شيء وفق له ولا كل من وفق له أصابه فإذا اجتمعت النية والقدرة والتوفيق والإصابة فهنالك تمت السعادة. (٢)

وقوله في الحث على التوبة :

تأخير التوبة اغترار وطول التسويف حيرة والاعتلال على الله هلكة والإصرار على الذنب أمن به لمكر الله (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٣) الأعراف : ٩٩.

من كلام غير الأئمة عليهم السلام :

ومما ورد عن غير الأئمة عليهم السلام قول بعض علماء العرب :

العقل أمير والعلم نصير والحلم وزير.

__________________

(١) رواه المفيد في الإرشاد صلى الله عليه وسلم ١٦٠.

(٢) رواه في المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

٣٣

وقول بعض حكماء الهند :

العقل حاكم أمين والعلم له قرين والحلم له خدين.

وقول بعض حكماء الفرس :

العقل ملك الجوارح والعلم له أخ صالح والحلم له أليف ناصح.

وقول بعض حكماء الروم :

العقل مدبر آمر والعلم له معاضد ناصر والحلم منجد مؤازر.

في كتاب كليلة ودمنة :

من غلب عقله هواه نال مناه وأعطي رضاه.

وفي كتاب بلوهر الهندي :

من اشتد في الدنيا زهده استراح وطلع سعده.

وفي كتاب السير وسيف البدى كذا :

من عرف نفسه لم يحقر جنسه.

في كتاب الرحمة لهرمس :

القناعة أمنع عز والاستعانة بالله أحصن حرز.

وفي كتاب الأساس لبطليموس :

العقل الأصل وقوام الأشياء بالفضل والعدل.

في كتاب الجواهر :

التواضع شرف وقد استوجب الصفح من تاب واعترف.

في كتاب التجنيس لأرسطاطاليس :

الطبع أغلب والعادة أدرب.

في كتاب اللطف لأفلاطون :

نقل الطبع عسير الانتزاع.

٣٤

في كتاب الأقسام لصبرة الفلكي :

العمر قصير وفي الدهر لأهله تبصير.

كتاب الإختيار لأبقراط :

التجارب إيضاح وفيها إفادة وصلاح.

كتاب الإبانة لعمرو بن بحر :

من خشع ارتفع وعرف بما دنا منا سمع.

كتاب المعارف للكندي :

إدراك السداد بالجد والاجتهاد.

وروى الصولي عن بعضهم أنه قال :

لو لا العقول المضيئة وخلائقها الرضية لما كان التفاضل بين الحيوان ولما فرق بين البهيمة والإنسان.

وقال إقلمون من عدم التدبير يكون التدمير.

وقال آخر من لم يقدم الامتحان قبل الثقة والثقة قبل الأنس أثمرت مودته ندما.

قال بزرجمهر إذا أنجز رجل وعده من معروفه أحرز مع فضيلة الجود شرف الصدق.

وقال بطليموس من قبل عطيتك فقد أعانك على البر والكرم.

قال أبقراط إذا أمكنك الرجل من أن تضع معروفك عنده فيده عندك مثل يدك عنده وإذا أصابه من هم نزل به أو خوف تدفعه عنه فلم تبذل دمك دونه فقد قصرت بحسبك عنده ولو أن أهل البخل لم يدخل عليهم إلا سوء ظنهم بالله لكان ذلك عظيما.

قال كسرى أنوشروان :

الملك بالدين يبقى والدين بالملك يقوى شدة الغضب تغير المنطق وتقطع مادة الحجة.

٣٥

وقال أرسطاطاليس :

من اتخذ الصمت جنة وقي من شر ما تأتي به الألسن.

وقال الكلام مملوك ما لم ينطق به صاحبه فإذا نطق به صاحبه خرج عن ملكه.

وقال أفليمون غنيمة السكوت أكبر من غنيمة الكلام وندامة الكلام أكبر من ندامة السكوت.

وقال دوفس الصمت أنفع من الكلام في أكثر المواضع والكلام أنفع من الصمت في أقل المواضع.

وقال أفلاطون ضبط اللسان ملك وإطلاقه في غير موضعه هلك.

وقال من علم أن كلامه يتصفح عليه فليتصفحه على نفسه قبل أن يتصفحه عليه غيره.

وقال آخر البطنة تذهب بالفطنة وكثرة الصمت مفسدة المنطق.

وقال آخر إذا علمت فلا تفكر في كثرة من دونك من الجهال ولكن اذكر من فوقك من العلماء.

أبو حنيفة مع الإمام الصادق :

فصل ذكروا أن أبا حنيفة أكل طعاما مع الإمام الصادق جعفر بن محمد عليهم السلام فلما رفع الصادق عليهم السلام يده من أكله قال (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) اللهم هذا منك ومن رسولك صلى الله عليه وسلم.

فقال أبو حنيفة يا أبا عبد الله أجعلت مع الله شريكا؟

فقال له ويلك فإن الله تعالى يقول في كتابه :

(وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) التوبة : ٥٩.

ويقول في موضع آخر :

٣٦

(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) النساء : ٥٩

فقال أبو حنيفة والله لكأني ما قرأتهما قط من كتاب الله ولا سمعتهما إلا في هذا الوقت فقال أبو عبد الله عليهم السلام بلى قد قرأتهما وسمعتهما ولكن الله تعالى أنزل فيك وفي أشباهك (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) وقال (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)

حديث الإمام الصادق

أخبرني الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن الحسين بن شاذان القمي رضي الله عنه قال أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه عن محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن جعفر بن البختري قال سمعت أبا عبد الله عليهم السلام يقول بلية الناس عظيمة إن دعوناهم لم يجيبونا وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا

فصل : من الاستدلال على أن الله تعالى ليس بجسم

اعلم أن الخلاف في هذه المسألة بيننا وبين المجسمة على قسمين أحدهما في المعنى والآخر في اللفظ.

فأما الكلام في المعنى فهو يختص بالذين يزعمون أنه جسم على صفات الأجسام ويشابهها في بعض الصفات.

٣٧

وأما الكلام في اللفظ فهو يختص بالذين يقولون إنه جسم لا كالأجسام ولا يشابهها بصفة من الصفات.

فأما الذي يدل على بطلان مقال الذين يزعمون أنه جسم لا كالأجسام فهو أن الأجسام قد ثبت حدوثها فلو كان صانعها تعالى جسما أو مثلها لوجب أن يكون محدثا ويبين ذلك أن حقيقة الجسم هي أن يكون طويلا عريضا عميقا فلو كان صانع الأجسام جسما لكانت هذه حقيقته لأن الحقيقة لا تختلف وسوي فيها الشاهد والغائب وحقيقة الجسم موجبة الأبعاد ومعطية فيها المساحة والنهايات وأنه مجتمع من أبعاض مختص ببعض الجهات وذلك شاهد فيه بحلول الأعراض لأن المجتمع لا غناء به عن الاجتماع والكائن من جهة دون غيرها لا يعرى من الأكوان فهذه كلها دلائل الحدوث.

فلو كان صانع الأجسام على هذه الصفات أو على بعضها لكان محدثا ولو جاز كونه عليها وهو قديم لكانت الأجسام كلها قديمة وفي ثبوت الأدلة على حدوث الأجسام وقدم محدثها دلالة واضحة على أنه ليس بجسم سبحانه وتعالى.

دليل ثان :

وشيء آخر وهو أن صانع الأجسام واحد في الحقيقة حسبما شهدت به الأدلة فلو كان جسما لخرج عن كونه واحدا لأن الجسم مجتمع من أبعاض وأجزاء.

دليل ثالث :

وشيء آخر وهو أنه لو كان جسما لوجب كونه قادرا بقدرة لبطلان كون الجسم قادرا لنفسه ولو كان كذلك لاستحال حدوث الأجسام منه إذ لا يصح من القادر بقدرة أن يفعل الجسم في محل قدرته متداولا في غيره مسببا أو متولدا.

٣٨

دليل رابع :

وهو أنه لو كان جسما في الحقيقة صح منه فعل الأجسام لصح من كل جسم حي قادر أن يفعل الأجسام فلما علمنا يقينا استحالة فعل الأجسام للأجسام علمنا أن فاعل الأجسام ليس بجسم على كل حال فقد بان لك بطلان مقال الذين يزعمون أن الله تعالى جسم على صفة الأجسام وحقيقتها.

وكما علمت أنه لا يجوز أن يشبهها في جميع الصفات فكذلك تعلم أنه لا يجوز مشابهته لها في بعضها لأن كل صفة من صفات الأجسام المختصة بها دالة على حدوثها فلو أشبهها في شيء منها دل ذلك الشيء على أنه محدث مثلها.

وبمثل هذا يعلم أيضا أنه ليس بجوهر لأن الجوهر متحيز في جهة غير عار من الأعراض الدالة على حدوثه. (١)

فأما قولهم إنا لم نر فاعلا للأجسام غير جسم فلما كان الله تعالى فاعلا وجب أن يكون جسما فقول فاسد لأن الفاعل لم يكن فاعلا لكونه جسما ولا كل صفة رأينا الفاعل في الشاهد عليها يجب أن يكون الفاعل في الغائب على نظيرها.

ألا ترى أنا لم نر في الشاهد فاعلا إلا مؤلفا لحما ودما ناقصا محتاجا ولا يصح أن يكون الفاعل في الغائب هكذا.

والاستدلال بالشاهد على الغائب إنما هو بالحقائق دون ما سواها.

وليس حقيقة الفاعل أن يكون جسما ولو كان كذلك لكان كل جسم فاعلا وكل فاعل جسما.

كما أن الحركة لما كان حقيقتها أن تكون زوالا كان كل زوال حركة وكل حركة زوالا فهذا هو الأصل الثابت الذي يجب أن يتماثل فيه الشاهد والغائب فيجب أن يتأمله ويعتمد عليه فالفائدة فيه كثيرة.

__________________

(١) في النسخة (متحيز به) ، ولا يظهر ما يعود الضمير عليه ، وفي النسخة : أيضا (غير عارض الأعراض) وفيها أيضا : (حدثه).

٣٩

وأما الذي يدل على بطلان مقال الذين يدعون أن الله تعالى جسم لا كالأجسام فهو أن حقيقة الجسم قد ذكرناها فمتى قال القائل إنه جسم أوجب الحقيقة بعينها فإن قال لا كالأجسام نفى ما أوجب فكان ناقض.

فإن قالوا هذا لازم لكم في قولكم إنه شيء لا كالأشياء؟

قيل لهم ليس الأمر كما ذكرتم لأن قولنا شيء يستفاد منه الإثبات والمثبتات مختلفات من أجسام وجواهر وأعراض فإذا قلنا شيء لا كالأشياء أثبتنا معلوما مخبرا عنه ونفينا المماثلة بينه وبين سائر المثبتات ولم ننف حقيقة الشيء التي هي الإثبات وقول الله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) يدل على ما ذكرنا.

وقولنا جسم لا كالأجسام أثبتنا جسما ثم نفيناه وهذا هو التناقض الذي ذكرناه.

واعلم أن التسمية إنما يحسن إجراؤها على المسمى متى ثبت له معناها فإن لم يثبت ذلك لم يصح إجراؤها إلا على جهة التغليب وبطل أن يصح فيه معنى الجسم على التحقيق وفسد قول من زعم أنه جسم ولم يصح أن يسميه بهذا الاسم.

وليس لأحد أن يسمي الله عزوجل بما لم يسم به نفسه ولم يثبت ذلك على جواز تسميته به (١).

فأما من زعم أنه جسم لأنه قائم بنفسه وأن هذا حد الجسم عنده وحقيقته فغير مصيب في قوله واللغة تشهد بخطئه وذلك أنا وجدنا أهل اللسان يقولون هذا أجسم من هذا إذا زاد عليه في طوله وعرضه وعمقه فلو لا أن حقيقة الجسم عندهم هي أن يكون طويلا عريضا عميقا لم يكن الأمر كما ذكرناه.

فإن قال القائل أليس قد اشتهر عن أحد متكلميكم وهو هشام بن

__________________

(١) إذ يظهر الاتّفاق على أن أسماء اللّه تعالى توقيفية ، فلا يصحّ إطلاق اسم عليه إذا لم يرد فيه نص.

٤٠