كنز الفوائد - ج ٢

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي

كنز الفوائد - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي


المحقق: الشيخ عبدالله نعمه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

والوجه الثاني من التأويل أن يكون تعالى أراد المبالغة في وصف القوم الذين أهلكهم بصغر القدر وسقوط المنزلة لأن العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك قال كسفت لفقده الشمس وأظلم القمر وبكاه الليل والنهار والسماء والأرض.

يريدون بذلك المبالغة وعظم الأمر وشمول المصيبة قال جرير (١) يرثى عمر بن عبد العزيز :

الشمس طالعة ليست بكاسفة

تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

وفي انتصاب النجوم والقمر في هذا البيت ثلاثة وجوه :

أحدها أنه أراد أن الشمس طالعة وليست مع طلوعها كاسفة نجوم الليل والقمر لأن عظم الرزية قد سلبها ضوءها فلم يناف طلوعها ظهور الكواكب.

الوجه الثاني أن يكون انتصابها على معنى قوله لا أكلمك الأبد وطول المسند (١) وما جرى مجرى ذلك فكأنه أخبر بأن الشمس تبكيه ما طلعت النجوم وما ظهر القمر.

والوجه الثالث أن يكون نجوم الليل والقمر باكيين الشمس على هذا المفقود فبكهن أي غلبتهن بالبكاء كما يقال باكاني عند الله فبكيته وكاثرني فكثرته أي فضلت عليه وغلبته.

والوجه الثالث من التأويل أن يكون الله تعالى أراد بقوله (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) أهل السماء وأهل الأرض وحذف أهل كما قال عزوجل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) وكما قال (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) وإنما أراد أصحابها ويجري ذلك مجرى قولهم السخاء سخاء حاتم.

قال الشاعر :

__________________

(١) هو جرير بن عطية الخطفي ينتهي نسبه إلى نزار مات باليمامة عن نيف وثمانين سنة ، سنة ١٢١ ه وهو من أشهر الشعراء الإسلاميين وأرقهم ديباجة ، هاجى شعراء عصره وبخاصّة الفرزدق ، وكان أبو عمرو يشبه جريرا بالأعشى ، والفرزدق بزهير ، والأخطل بالنابغة.

(٢) المسند : الزمان.

٢٠١

قليل عيبه والعيب جم

ولكن الغنى رب غفور

يريد ولكن الغنى غنى رب غفور.

والوجه الرابع من التأويل أن يكون معنى الآية الإخبار عن أنه لا أحد أخذ بثأرهم ولا أحد انتصر لهم لأن العرب كانت لا تبكي على قتيل إلا بعد الأخذ بثأره فكني بهذا اللفظ عن فقد الانتصار والأخذ بالثأر على مذهب القوم الذين خوطبوا بالقرآن.

والوجه الخامس من التأويل أن يكون البكاء المذكور في الآية كناية عن المطر والسقيا لأن العرب تشبه المطر بالبكاء ويكون معنى الآية أن السماء لم تسق قبورهم ولم تجد بقطرها عليهم على مذهب العرب المعهود بينهم لأنهم كانوا يستسقون السحائب لقبور من فقدوه من أعزائهم يتعشبون الزهر والرياض لمواقع حفرهم قال النابغة :

فلا زال قبر بين تبنى وجاسم (١)

عليه من الوسمي طل ووابل

فينبت حوذانا (٢) وعوفا منورا

سأتبعه من خير ما قال قائل

وكانوا يجرون هذا الدعاء مجرى الاسترحام ومسألة الله تعالى لهم الرضوان والفعل إذا أضيف إلى السماء وإن كان لا تجوز إضافته إلى الأرض فقد يصح عطف الأرض على السماء بأن يقدر فعل يصح نسبته إليها والعرب تفعل مثل هذا قال الشاعر :

يا ليت زوجك قد غدا

متقلدا سيفا ورمحا

بعطف الرمح على السيف وإن كان التقلد لا يجوز فيه لكنه أراد حاملا رمحا ومثل هذا يقدر في الآية فيقال إنه تعالى أراد أن السماء لا تسقي قبورهم والأرض لم تعشب عليها وكل هذا كناية عن حرمانهم رحمة الله عزوجل.

__________________

(١) موضعان بالشام.

(٢) الحوذان والعوف نباتان لهما رائحة.

٢٠٢

وربما شبه الشعراء النبات بضحك الأرض كما شبهوا المطر ببكاء السماء وفي ذلك يقول أبو تمام حبيب بن أوس (١) :

إن السماء إذا لم تبك مقلتها

لم تضحك الأرض عن شيء من الخضر

والزهر لا تنجلي أبصاره أبدا

إلا إذا رمدت من كثرة المطر

ذكر مجلس

جرى في القياس مع رجل من فقهاء العامة اجتمعت معه بدار العلم في القاهرة.

سألني هذا الرجل بمحضر جماعة من أهل العلم فقال ما تقول في القياس وهل تستجيزه في مذهبك أم ترى أنه غير جائز؟؟

فقلت له القياس قياسان قياس في العقليات وقياس في السمعيات.

فأما القياس في العقليات فجائز صحيح وأما القياس في السمعيات فباطل مستحيل.

قال فهل يتفق حدهما أم يختلف؟

قلت الواجب أن يكون حدهما واحدا غير مختلف.

قال فما هو؟

قلت القياس هو إثبات حكم المقيس عليه في المقيس هذا هو الحد الشامل لكل قياس وله بعد هذا شرائط لا بد منها ولا يقاس شيء على شيء إلا بعلة تجتمع بينهما.

قال فإذا كان الحد شاملا للقياسين فلا فرق إذا بين القياس الذي أجزته والقياس الذي أحلته.

__________________

(١) ينتهي نسبه إلى طيئ وهو واحد عصره في ديباجة لفظه وفصاحة شعره وحسن أسلوبه ولد سنة ١٨٨ ه وتوفّي سنة ٢٧٢ ه له كتاب الحماسة الذي يدلّ على حسن اختياره وذوقه ، وله أيضا كتاب فحول الشعراء من جاهليين واسلاميين ومخضرمين ، وكتاب الاختيارات من شعر الشعراء وديوان شعره وهو مطبوع عدة طبعات.

٢٠٣

قلت بل بينهما فروق وإن شمل الحد.

قال وما هي؟

قلت منها أن علة القياس في العقليات موجبة ومؤثرة تأثير الإيجاب وليست علة القياس في السمعيات عند من يستعمله كذلك بل يقولون هي تابعة للدواعي والمصالح المتعلقة بالاختيار.

ومنها أن العلة في العقليات لا تكون إلا معلومة وهي عندهم في السمعيات مظنونة وغير معلومة.

ومنها أنها في العقليات لا تكون إلا شيئا واحدا وهي في السمعيات قد تكون مجموع أشياء فهذه بعض الفروق بين القياسين وإن شملهما حد واحد.

قال فما الذي يدل على أن القياس في السمعيات لا يجوز؟

قلت الدليل على ذلك أن الشريعة موضوعة على حسب مصالح العباد التي لا يعلمها إلا الله تعالى ولذلك اختلف حكمها في المتفق الصور واتفق في المختلف وورد الحظر لشيء والإباحة لمثله بل ورد الحكم في الأمر العظيم صغيرا وفي الصغير بالإضافة إليه عظيما واختلف كل الاختلاف الخارج عن مقتضى القياس.

وإذا كان هذا سبيل المشروعات علم أنه لا طريق إلى معرفة شيء من أحكامها إلا من قبل المطلع على السرائر العالم بمصالح العباد وأنه ليس للقائسين فيه مجال.

فقال أحد الحاضرين فمثل لنا بعض ما أشرت إليه من هذا الاختلاف المباين للقياس.

قلت هو عند الفقهاء أظهر من أن يحتاج إلى مثال ولكني أورد منه طرفا لموضع السؤال.

فمنه أن الله عزوجل أوجب الغسل من المني ولم يوجبه من البول والغائط وليس هو بأنجس منهما وأكثر العامة يروون أنه طاهر.

وألزم الحائض قضاء ما تركته من الصيام وأسقط عنها قضاء ما تركته

٢٠٤

من الصلاة وهي أوكد من الصيام.

وفرض في الزكاة أن يخرج من الأربعين شاة شاة ولم يفرض في الثمانين شاتين بل فرضها بعد كمال المائة والعشرين وهذا خارج عن القياس.

ونهانا عن التحريش بين بهيمتين وأباحنا إطلاق البهيمة على ما هو أضعف منها في الصيد.

وجعل للرجل أن يطأ من الإماء ما ملكته يمينه ولم يجعل للمرأة أن تمكن من نفسها من ملكته يمينها.

وأوجب الحد على رمي غيره بفجور وأسقطه عن من رمي بالكفر وهو أعظم من الفجور.

وأوجب قتل القاتل بشهادة رجلين وحظر جلد الزاني الذي يشهد بالزناء عليه إلا أن يشهد بذلك أربعة شهود وهذا كله خارج عن سنن القياس.

وقد ذكروا عن ربيعة بن عبد الرحمن (١) أنه قال سألت سعيد بن المسيب (٢) فقلت كم في إصبع المرأة؟

قال عشر من الإبل.

قلت كم في إصبعين؟

قال عشرون.

قلت كم في ثلاث؟

قال ثلاثون.

قلت كم في أربع؟

قال عشرون.

قلت حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها؟

فقال سعيد أعرابي أنت؟

قلت بل عالم مثبت أو جاهل متعلم.

__________________

(١) في فهرست ابن النديم صلى الله عليه وسلم ٢٨٥ ربيعة بن أبي عبد الرحمن ويعرف بربيعة الرأي ، من الموالي ويكنى أبا عثمان أخذ عن أبي حنيفة ، وكان بليغا وخطيبا ، توفي بالأنبار سنة ١٣٦ ه.

(٢) هو أبو محمّد سعيد بن المسيب بن حزن من التابعين جمع بين الحديث والفقه والنسك والتعبير. ولد سنة ١٣ وتوفّي سنة ٩٤ ه.

٢٠٥

قال هي السنة يا ابن أخ.

ونحو ذلك مما لو ذهبت إلى استقصائه لطال الخطاب وفيما أوردته كفاية لذوي الألباب.

قال السائل فإذا كان القياس عندك في الفروع العقلية صحيحا ولم يكن في الضرورات التي هي أصولها مستمرا ولا صحيحا فما تنكرون أن يكون كذلك الحكم في السمعيات فيكون القياس في فروعها المسكوت عنها صحيحا وإن لم يكن في أصول المنطوق بها مستمرا ولا صحيحا؟

فقلت أنكرت ذلك من قبل أن المتعبدات السمعية وضعت على خلاف القياس مما ذكرناه فوجب أن يكون ما تفرع عنها جاريا مجراها.

ولسنا نجد أصول المعقولات التي هي الضرورات موضوعة على خلاف القياس وإنما امتنع القياس فيها لأنها أصول لا أصول لها فوضح الفرق بينهما.

ومما يبين لك ذلك أيضا أنه قد كان من الجائز أن نتعبد بخلاف ما أتت فيه أصول الشرعيات وليس بجائز أن يتعبد بخلاف أصول العقليات التي هي الضرورات فلا طريق إلى الجمع بينهما.

قال فما تنكرون على من زعم أن الله تعالى فرق لنا بين الأصول في السمعيات وفروعها فنص لنا على الأصول وعرفنا بها وأمرنا بقياس الفروع عليها ضربا من التعبد والتكليف ليستحق عليه الأجر والثواب.

قلت هذا مما لا يصح أن يكلفه الله تعالى للعبادة لأن القياس لا بد فيه من استخراج علة يحمل عليها الفروع على الأصول ليماثل بينهما في الحكم والأحكام الشرعية لو كانت مما توجبه العلل لم يجز في المشروعات النسخ وفي جواز ذلك في العقل دلالة على أنها لا تثبت بالعلل.

وقد قدمنا القول بأن علل القائسين مظنونة والظنون غير موصلة إلى إثبات ما تعلق بمصالح الخلق ولا مؤدية إلى العلم بمراد الله تعالى من الحكم.

ولو فرضنا جواز تكليف العباد القياس في السمعيات لم يكن بد من

٢٠٦

ورود السمع بذلك في القرآن أو في صحيح الأخبار وفي خلو السمع من تعلق التكليف به دلالة على أن الله تعالى لم يكلفه خلقه.

قال فإنا نجد ذلك في آيات القرآن وصحيح الأخبار قال الله عزوجل (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) الحشر : ٢.

فأوجب الاعتبار وهو الاستدلال والقياس.

وقال

(فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) المائدة : ٩٥.

فأوجب بالمماثلة المقايسة.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل معاذا إلى اليمن قال له بما ذا تقضي قال بكتاب الله.

قال فإن لم تجد في كتاب الله؟

قال بسنة رسول الله.

قال إن لم تجد في سنة رسول الله؟

قال أجتهد رأيي.

فقال عليهم السلام الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه الله ورسوله.

وروي عن الحسن بن علي عليهم السلام انه سئل فقيل له بما ذا كان يحكم أمير المؤمنين عليهم السلام.

قال بكتاب الله فإن لم يجد فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجد رجم فأصاب.

. وهذا كله دليل على صحة القياس والأخذ بالاجتهاد والظن والرأي.

فقلت له أما قول الله عزوجل (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) فليس فيه حجة لك على موضع الخلاف لأنه تعالى ذكر أمر اليهود وجنايتهم على أنفسهم في تخريب بيوتهم (بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) ما يستدل به على حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله أمده بالتوفيق ونصره وخذل عدوه وأمر الناس باعتبار ذلك (لِيَزْدادُوا) بصيرة في الإيمان.

٢٠٧

وليس هذا بقياس في المشروعات ولا فيه أمر بالتعويل على الظنون في استنباط الأحكام.

وأما قوله سبحانه (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فليس فيه أن العدلين يحكمان في جزاء الصيد بالقياس وإنما تعبد الله سبحانه عباده بإنفاذ الحكم في الجزاء عند حكم العدلين بما علماه من نص الله تعالى.

ولو كان حكمهما قياسا لكانا إذا حكما في جزاء النعامة بالبدنة قد قاسا مع وجود النص بذلك فيجب أن يتأمل هذا.

وأما الخبران اللذان أوردتهما فهما من أخبار الآحاد التي لا يثبت بهما الأصول المعلومة في العبادات على أن رواة خبر معاذ مجهولون وهم في لفظه أيضا مختلفون.

ومنهم من روى أنه لما قال أجتهد رأيي قال له عليهم السلام لا أحب إلى أن أكتب إليك.

ولو سلمنا صيغة الخبر على ما ذكرت لاحتمل أن يكون معنى قوله أجتهد رأيي أني أجتهد حتى أجد حكم الله تعالى في الحادثة من الكتاب والسنة.

وأما ما رويته عن الحسن عليهم السلام من حكم أمير المؤمنين صلى الله عليه وسلم ففيه تصحيف ممن رواه والخبر المعروف أنه قال فإن لم يجد في السنة زجر فأصاب.

يعني بذلك القرعة بالسهام وهو مأخوذ من الزجر والفال.

والقرعة عندنا من الأحكام المنصوص عليها وليست بداخلة في باب القياس فقد تبين أنه لا حجة لك فيما أوردته من الآيات والأخبار.

فقال أحد الحاضرين إذا لم يثبت للقائسين نص في إيجاب القياس فكذلك ليس لمن نفاه نص في نفيه من قرآن ولا أخبار فقد تساويا في هذه الحال.

فقلت له قد قدمت من الدليل العقلي على فساد القياس في الشرعيات وما يستغني به متأمله عن إيراد ما سواه.

٢٠٨

ثم إن الأمر بخلاف ما ظننت وقد تناصرت الأدلة بحظر القياس من القرآن وثابت الأخبار قال الله عزوجل :

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) المائدة : ٤٤.

ولسنا نشك في أن الحكم بالقياس حكم بغير التنزيل قال الله عزوجل :

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) النحل : ١١٦.

ومستخرج الحكم في الحادثة بالقياس لا يصح له أن يضيفه إلى الله ولا إلى رسول الله ص.

وإذا لم يصح إضافته إليهما فإنما هو مضاف إلى القائس دون غيره وهو المحلل والمحرم في الشرع بقول من عنده وكذب وصفه بلسانه فقال سبحانه :

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) الإسراء : ٣٦.

ونحن نعلم أن القائس معول على الظن دون العلم والظن مناف للعلم ألا ترى أنهما لا يجتمعان في الشيء الواحد. وهذا من القرآن كاف في إفساد القياس.

وأما المروي في ذلك من الأخبار فمنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرمون الحلال ويحللون الحرام.

وقول أمير المؤمنين عليهم السلام :

إياكم والقياس في الأحكام فإنه أول من قاس إبليس.

وقال الصادق جعفر بن محمد عليهم السلام :

إياكم وتقحم المهالك باتباع الهوى والمقاييس قد جعل الله تعالى للقرآن أهلا أغناكم بهم عن جميع الخلائق لا علم إلا ما أمروا به قال الله تعالى :

٢٠٩

(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)

إيانا عنى.

وجميع أهل البيت عليهم السلام أفتوا بتحريم القياس.

وروي عن سلمان الفارسي رحمه‌الله أنه قال :

ما هلكت أمة حتى قاست في دينها.

وكان ابن مسعود يقول هلك القائسون

وفي هذا القدر من الأخبار غنى عن الإطالة والإكثار.

وقد روى هشام بن عروة عن أبيه قال :

إن أمر بني إسرائيل لم يزل معتدلا حتى نشأ فيهم أبناء سبايا الأمم فقالوا فيهم بالرأي فأضلوهم.

قال ابن عيينة

فما زال أمر الناس مستقيما حتى نشأ فيهم ربيعة الرأي بالمدينة وأبو حنيفة بالكوفة وعثمان البني بالبصرة وأفتوا الناس وفتنوهم فنظرنا فإذا هم أولاد سبايا الأمم.

فحار الخصم والحاضرون مما أوردت ولم يأت أحد منهم بحرف زائد على ما ذكرت والحمد لله.

ذكر مجلس

جرى لشيخنا المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضوان الله عليه مع بعض خصومه في قولهم :

إن كل مجتهد مصيب.

قال شيخنا المفيد رضي الله عنه :

كنت أقبلت في مجلس على جماعة من متفقهة العامة فقلت لهم إن أصلكم الذي تعتمدون عليه في تسويغ الاختلاف يحظر عليكم المناظرة ويمنعكم من

٢١٠

الفحص والمباحثة واجتماعكم على المناظرة يناقض أصولكم في الاجتهاد وتسويغ الاختلاف.

فإما أن تكونوا مع حكم أصولكم فيجب أن ترفعوا النظر فيما بينكم وتلزموا الصمت.

وإما أن تختاروا المناظرة وتؤثروها على المتاركة فيجب أن تهجروا القول بالاجتهاد وتتركوا مذاهبكم في الرأي وجواز الاختلاف ولا بد من ذلك ما أنصفتم وعرفتم طريق الاستدلال.

فقال أحد القوم لم زعمت أن الأمر كما وصفت ومن أين وجب ذلك؟

قال شيخنا رضي الله عنه فقلت له

على البيان عن ذلك والبرهان عليه حتى لا .. على أحد من العقلاء.

أليس من قولكم أن الله تعالى سوغ خلقه الاختلاف في الأحكام للتوسعة عليهم ودفع الحرج عنهم رحمة منه لهم ورفقا بهم وأنه لو ألزمهم الاتفاق في الأحكام وحظر عليهم الاختلاف لكان مضيقا عليهم معنتا لهم والله يتعالى عن ذلك حتى أكدتم هذا المقال بما رويتموه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال :

اختلاف أمتي رحمة.

. وحملتم معنى هذا الكلام منه على وفاق ما ذهبتم إليه في تسويغ الاختلاف قال بلى فما الذي يلزمنا على هذا المقال؟

قال شيخنا رحمه‌الله قلت له :

فخبرني الآن عن موضع المناظرة أليس إنما هو التماس الموافقة ودعاء الخصم بالحجة الواضحة إلى الانتقال إلى موضع الحجة وتتغير له عن الإقامة على ضد ما دل عليه البرهان؟

قال لا ليس هذا موضوع المناظرة وإنما موضوعها لإقامة الحجة والإبانة عن رجحان المقالة فقط.

قال الشيخ فقلت له :

وما الغرض في إقامة الحجة والبرهان على الرجحان وما الذي يجرانه إلى

٢١١

ذلك والمعنى الملتمس به أهو تبعيد الخصم من موضع الرجحان والتنفير له عن المقالة بإيضاح حجتها أم الدعوة إليها بذلك واللطف في الاجتذاب إليها به؟؟

فإن قلت إن الفرض للمحتج التبعيد عن قوله بإيضاح الحجة عليه والتنفير عنه بإقامة الدلالة على صوابه قلت قولا يرغب عنه كل عاقل ولا يحتاج معه لتهافته إلى كسره.

وإن قلت إن الموضح عن مذهبه بالبرهان داع إليه بذلك والدال عليه بالحجج البينات يجتذب بها إلى اعتقاده ضرب بهذا القول وهو الحق الذي لا شبهة فيه إلى ما أردناه من أن موضوع المناظرة إنما هو للموافقة ورفع الاختلاف والمنازعة.

وإذا كان ذلك كذلك فلو حصل الفرض في المناظرة وما أجرى بها عليه لارتفعت الرحمة وسقطت التوسعة وعدم الرفق من الله تعالى بعباده ووجب في صفة العنت والتضييق وذلك ضلال من قائله فلا بد على أصلكم في الاختلاف من تحريم النظر والحجاج وإلا فمتى صح ذلك وكان أولى من تركه فقد بطل قولكم في الاجتهاد وهذا ما لا شبهة فيه على عاقل.

فاعترض رجل آخر في ناحية المجلس فقال :

ليس الغرض في المناظرة الدعوة إلى الاتفاق وإنما الغرض فيها إقامة الغرض من الاجتهاد.

فقال له الشيخ رضي الله عنه :

هذا الكلام كلام صاحبك بعينه في معناه وأنتما جميعا حائدان عن التحقيق والصواب وذلك أنه لا بد في فرض الاجتهاد من غرض ولا بد لفعل النظر من معقول.

فإن كان الغرض في أداء الفرض بالاجتهاد البيان عن موضع الرجحان فهو الدعاء في المعقول إلى الوفاق والإيناس بالحجة إلى المقال.

وإن كان الغرض فيه التعمية والإلغاز فذلك محال لوجود المناظر

٢١٢

مجتهدا في البيان التحسين لمقاله بالترجيح له على قول خصمه في الصواب.

وإن كان معقول فعل النظر ومفهوم غرض صاحبه الذب عن نحلته والتنفير عن خلافها والتحسين لها والتقبيح لضدها والترجيح لها على غيرها وكنا نعلم ضرورة أن فاعل ذلك لا يفعله للتبعيد من قوله وإنما يفعله للتقريب منه والدعاء إليه فقد ثبت بما قلناه.

ولو كان الدال على قوله الموضح بالحجج عن صوابه المجتهد في تحسينه وتشييده غير قاصد بذلك إلى الدعاء إليه ولا مزيد للاتفاق عليه لكان المقبح للمذهب الكاشف عن عواره الموضح عن ضعفه ووهنه داعيا بذلك إلى اعتقاده ومرغبا به إلى المصير إليه.

ولو كان ذلك كذلك لكان إلزام الشيء مدحا له والمدح له ذما له والترغيب في الشيء ترهيبا عنه والترهيب عن الشيء ترغيبا فيه والأمر به نهيا عنه والنهي عنه أمرا به والتحذير منه إيناسا به وهذا ما لا يذهب إليه سليم.

فبطل ذلك ما توهموه ووضح ما ذكرناه في تناقض نحلتهم على ما بيناه والله نسأل التوفيق.

قال شيخنا رضي الله عنه :

ثم عدلت إلى صاحب المجلس فقلت له :

لو سلم هؤلاء من المناقضة التي ذكرناها ولن يسلموا أبدا من الله لما سلموا من الخلاف على الله فيما أمر به والرد للنص في كتابه والخروج عن مفهوم أحكامه بما ذهبوا إليه من حسن الاختلاف وجوازه في الأحكام قال الله عزوجل :

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) آل عمران : ١٠٥.

فنهى الله تعالى نهيا عاما ظاهرا وحذر منه وزجر عنه وتوعد على فعله بالعقاب وهذا مناف لجواز الاختلاف وقال سبحانه :

٢١٣

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) آل عمران : ١٠٣.

فنهى عن التفرق وأمر الكافة بالاجتماع وهذا يبطل قول مسوغ الاختلاف وقال سبحانه :

(وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) هود : ١١٨.

فاستثنى المرحومين من المختلفين ودل على أن المختلفين قد خرجوا بالاختلاف عن الرحمة لاختصاص من خرج عن صفتهم بالرحمة ولو لا ذلك لما كان لاستثناء المرحومين من المختلفين معنى يعقل وهذا بين لمن تأمله.

قال صاحب المجلس أرى هذا الكلام كله يتوجه على من قال إن كل مجتهد مصيب فما تقول فيمن قال إن الحق في واحد ولم يسوغ الاختلاف.

قال الشيخ رضي الله عنه فقلت له :

القائل بأن الحق في واحد وإن كان مصيبا فيما قال على هذا المعنى خاصة فإنه يلزمه المناقضة بقوله إن المخطئ للحق معفو عنه غير مؤاخذ بخطئه فيه واعتماده في ذلك على أنه لو أوخذ به للحقه العنت والتضييق فقد صار بهذا القول إلى معنى قول الأولين فيما عليهم من المناقضة ولزمهم من أجله ترك المباحثة والمكالمة وإن كان القائلون بإصابة المجتهدين الحق يزيدون عليه في المناقضة وتهافت المقالة بقول الواحد لخصمه قد أخطأت الحكم مع شهادته له بصوابه فيما فعله مما به أخطأ الحكم عنده فهو شاهد بصوابه وخطئه في الإصابة معترف له ومقر بأنه مصيب في خلافه مأجور على مباينته وهذه مقالة تدعو إلى ترك اعتقادها بنفسها وتكشف عن قبح باطنها بظاهرها وبالله التوفيق.

ذكروا أن هذا الكلام جرى في مجلس الشيخ أبي الفتح عبيد الله بن فارس (١) قبل أن يتولى الوزارة.

__________________

(١) ورد ذكره في كتاب : (تثبيت دلائل النبوّة) صلى الله عليه وسلم ٥٥٧ ـ ٥٥٨ للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني المتوفّى سنة ٤١٥ ه باسم : أبو الفتح بن فراس ، لا فارس وقال عنه : كان أبو الفتح بن فراس الكاتب وهو أحد الشيع ومن كبار الإماميّة ... إليه ترجع الشيع في الرواية ويعرض عليه شعراؤهم شعرهم مثل أبي الحسن الناشئ.

٢١٤

مسألة :

إن سأل سائل فقال ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

اختلاف أمتي رحمة.

الجواب :

قيل له المراد بذلك اختلاف الواردين من المدن المتفرقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقته وعلى وصيه القائم مقامه من بعده ليسألوا عن معالم دينهم ويستفتوا فيما لبس عليهم فذلك رحمة لهم إذ يعودون إلى قومهم فينذرونهم قال الله سبحانه :

(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) التوب ة : ١٢٢.

وليس المراد بذلك اختلاف الأمة في اعتقادها وتباينها في دينها وتضاد أقوالها وأفعالها.

ولو كان هذا الاختلاف لها رحمة لكان اتفاقها لو اتفقت سخطا عليها ونقمة.

وقد تضمن القرآن من الأمر بالاتفاق والائتلاف والنهي عن التباين والاختلاف ما فيه بيان شاف.

فصل من الاستدلال بهذه الآية على صحة الإمامة والعصمة

قال الله تعالى :

(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) التوبة : ١٢٢

__________________

(١) في النسخة جملة مشوشة وهي : (ولم يعودون إليه بنذورهم من قومهم) فصححناها بما ذكرنا انسجاما مع المعنى المقصود.

٢١٥

فحث سبحانه وتعالى على طلب العلم ورغب فيه وأوجب على من به نهضة أن يلتمسه ويسارع إليه وهذا لازم في وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده ولا يصح أن يتخصص به زمان دون غيره لأن التكليف قائم لازم والشرع شامل دائم.

وقد علمنا ومن خالفنا أن النافرين للتفقه في الدين أيام النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا وردوا عليه أرشدهم إلى الحق بعينه وهداهم إلى قول واحد من شرعه ودينه فرجعوا إلى قومهم متفقين وعلى شيء واحد مجتمعين لا يختلفون في تأويل آية ولا في حكم فريضة حلالهم واحد وحرامهم واحد ودينهم واحد فثبتت بهم الحجة وتتضح للمسترشدين المحجة وينال الطالب بغيته ويدرك المستفيد فائدته.

والناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مكلفون من شرعه بما كلفه من كان في وقته فوجب في عدل الله وحكمته وفضله ورحمته أن يزيح علل بريته ويقيم لهم في كل زمان عالما أمينا حافظا مأمونا لا تختلف أقواله ولا تتضاد أفعاله وتثق النفوس بكماله ومعرفته وتسكن إلى طهارته وعصمته ليكون النفير إليه والتعويل في الهداية عليه ولو لا ذلك لكان الله تعالى قد أمر بالنفير إلى المختلفين وسؤل المتباينين المتضادين والتعويل على المرجحين الظانين الذين يحار بينهم المستجير ويضل المسترشد ويشك الضعيف وهذا عنت في التكليف تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

سؤال في الغيبة يتعلق بما ذكرناه

إن قال قائل إذا كانت علل المكلفين في الشريعة لا تنزاح إلا بحافظ للأحكام ينصب لهم مميز بالعصمة والكمال منهم يقصده المسترشدون ويعول على قوله السائلون وكان الإمام عليهم السلام اليوم على قولكم غائبا لا يوصل إليه ومستترا عن الأمة لا يقدر عليه فعلل المكلفين إذن غير مزاحة في الشرع ،

__________________

(١) الأولى النفر لا النفير.

٢١٦

ووجود الحافظ لم يغن لكونه بحيث لا يقدر عليه الخلق فإلى من حينئذ يفزع الراغبون ومن يقصد الطالبون وعلى من يعول السائلون ومن الذي ينفر إليه المسترشدون؟؟؟

الجواب :

قلنا إن الله سبحانه قد أزاح علل المكلفين في هذا العصر كما أزاح علل الأمم السابقة من قبل الذين بعث فيهم أنبياءه فكذبوهم وأخافوهم وشردوهم وظفروا بكثير منهم فقتلوهم.

ولم يرسلهم الله تعالى إليهم إلا ليقيموا أحكامه بينهم وينفذ أوامره فيهم ويعلموا جاهلهم وينبهوا غافلهم ويجيبوا سائلهم وينفر إليهم الراغب ويقتبس منهم الطالب فحال بينهم وبين ذلك الظالمون ومنعهم مما بعثوا له الآفكون وقطعوهم عن الإبلاغ وحرموا أنفسهم الهداية منهم والإنذار فكانوا في قتلهم أنبياءهم كمن قصد إلى نفسه وأعمى بصره عن النظر إلى سبيل النجاة ووقر سمعه عن استماع ما فيه هداه ثم قال لا حجة لله علي ولا هداية منه وصلت إلي يقول الله عزوجل :

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) البلد : ٩.

على الناس ولو شاء لمنعهم من الضلال منع اضطرار ولأخرجهم بالجبر عن سنن التكليف والاختيار تعالى الله الحكيم فيما قضى الحليم عمن عصاه.

والذي اقتضاه العدل والحكمة في هذا الزمان من نصب الإمام للأنام فقد أزاح الله سبحانه العلة فيه وأوجده ودل عليه بحجة العقل الشاهدة في الجملة بأنه لا بد من إمام كامل معصوم في كل عصر وبحجج النصوص على التعيين المأثورة عن رسول الله رب العالمين وعن الأئمة من أهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين في التعريف بصاحب هذا الزمان عليهم السلام بنعته ونسبه اللذين يتميز بهما عن الأنام ولكن الظالمين سلكوا سنن من كان قبلهم في قصدهم لإهلاك هداتهم وحرصهم على إطفاء نور مصابيحهم فقصدوا قصده

٢١٧

فأخافوه وانطوت نياتهم على قتله متى وجدوه فأمره الله بالاستتار لما علمه من مباينة حاله لحال كل نبي وإمام أبدى شخصه فقتلهم الناس إذا كانت مصلحة الأمة بعد آبائه صلى الله عليه وسلم مقصورة على كونه إماما لهم وأن غيره لا يقوم مقامه في مصلحتهم وسقط عنهم فرض التصدي للسائلين لعدم الأمن والتمكن فكانت الحجة لله تعالى على الظالمين الذين وجدوا سبيل الهداية وأرشدوا إليها فمنعوا أنفسهم سلوكها وآثروا الضلالة عليها فكانوا كمن شد عينه عن النظر إلى مصالحه وسد سمعه عن استماع مناصحته ثم قال لو شاء الله لهداني قال الله سبحانه فيمن ماثلت أحواله لحاله :

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) فصلت : ١٧.

تعالى الله ذو الكلمة العليا والحجة المثلى.

ولسنا مع ذلك نقطع على أن الإمام عليهم السلام لا يعرفه أحد ولا يصل إليه بل قد يجوز أن يجتمع به طائفة من أوليائه تستر اجتماعها به وتخفيه.

فأما الذي يجب أن يفعله اليوم المسترشدون ويعول عليه المستفيدون فهو الرجوع إلى الفقهاء من شيعة الأئمة وسؤالهم في الحادثات عن الأحكام والأخذ بفتاويهم في الحلال والحرام فهم الوسائط بين الرعية وصاحب الزمان عليهم السلام والمستودعون أحكام شريعة الإسلام ولم يكن الله تعالى يبيح لحجته صلى الله عليه وسلم الاستتار إلا وقد أوجد للأمة من فقه آبائه عليهم السلام ما تنقطع به الأعذار وليس الرجوع إليهم كالرجوع إلى القائسين ولا التعويل عليهم بمماثل للتعويل على المستحسنين المفتين في الشريعة وبالظن والترجيح وإنما هو رجوع إلى ما استودعوه من النصوص المفيدة للعلم واليقين وتعويل على ما استحفظوه من الآثار المنقولة من فتاوى الصادقين التي فيها علم ما يلتمسه الطالبون وفيه ما يقتبسه السائلون ومن أخذ من هذا المعدن فقد أخذ من الإمام صلى الله عليه وسلم لأنها علومه وأقوال آبائه ص.

وكثيرا ما يقول لنا المخالفون عند سماعهم منا هذا الكلام :

٢١٨

إذا كنتم قد وجدتم السبيل إلى علم ما تحتاجونه من الفتاوي في الأحكام المحفوظة عن الأئمة المتقدمين عليهم السلام فقد استغنيتم بذلك عن إمام الزمان.

وهذا قول غير صحيح لأن هذه الآثار والنصوص في الأحكام موجودة مع من لا يستحيل منه الغلط والنسيان ومسموعة بنقل من يجوز عليه الترك والكتمان.

وإذا جاز ذلك عليهم لم يؤمن وقوعه منهم إلا بوجود معصوم يكون من ورائهم شاهد لأحوالهم عالم بأخبارهم إن غلطوا هداهم أو نسوا ذكرهم أو كتموا علم الحق منه دونهم.

وإمام الزمان عليهم السلام وإن كان مستترا عنهم بحيث لا يعرفون شخصه فهو موجود بينهم يشاهد أحوالهم ويعلم أخبارهم فلو انصرفوا عن النقل أو ضلوا عن الحق لما وسعته التقية ولأظهره الله سبحانه ومنع منه إلى أن يبين الحق وتثبت الحجة على الخلق.

ولو لزمنا القول بالاستغناء عن الإمام فيما وجدنا الطريق إلى علمه من غير جهته للزم مخالفينا القول بالاستغناء عن النبي صلى الله عليه وسلم في جميع ما أداه مما علم بالعقول قبل أدائه وفي إطلاق القول بذلك خروج عن الإسلام وأحكامه وقد ورد في جواب هذا السؤال ما فيه بلاغ للمسترشدين وهداية والحمد لله.

تأويل آية :

إن سأل سائل فقال ما عندكم في تأويل قول الله سبحانه :

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ). (١)

وظاهر هذه الآية يقتضي أنه لم يشأ أن يكون الناس أمة واحدة متفقين على الهدى والمعرفة.

__________________

(١) هود : ١١٨ وتجد الكلام على هذه الآية في الأمالي للمرتضى ج ١ صلى الله عليه وسلم ٧٠ ـ ٧٥.

٢١٩

وما معنى قوله (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) وظاهره يقتضي أنه خلقهم للاختلاف ولو كان عنى به الرحمة لقال ولتلك خلقهم لأن الرحمة مؤنثة ولفظة ذلك لا يكنى بها إلا عن مذكر.

وأما الرحمة فإنا لا نعرفها إلا رقة القلب والشفقة وهذا لا يجوز على الله سبحانه.

الجواب :

أما قوله تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) فإنما عنى به المشيئة التي يقارنها الإلجاء والاضطرار ولم يعن بها المشيئة التي تكون معها على حكم الاختيار.

ومراده سبحانه في الآية أن يخبرنا عن قدرته وأن الخلق لا يعصونه على سبيل الغلبة له وأنه قادر على إلجائهم وإكراههم على ما أراده منهم.

فأما لفظة ذلك في الآية فحملها على الرحمة أولى من حملها على الاختلاف لدليل العقل وشهادة اللفظ.

فأما دليل العقل فمن حيث علمنا أنه سبحانه كره الاختلاف في الدين ونهى عنه وتوعد عليه ولا يجوز أن يخلقهم لأمر يكرهه ويشاء منهم ما نهى عنه وحظره.

وأما شهادة اللفظ فلأن الرحمة أقرب إلى هذه الكناية من الاختلاف وحمل اللفظ على أقرب المذكورين إليها أولى في لسان العرب من حمله على الأبعد.

وأما قول السائل إن الرحمة مؤنثة ولفظة ذلك لا يكنى بها إلا مذكر ففاسد لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي وإذا كني بها بلفظ التذكير كانت الكناية على المعنى لأن معنى الرحمة هو الإنعام والتفضل وقد قال الله سبحانه :

(هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي).

ولم يقل هذه وإنما أراد هذا فضل من ربي.

٢٢٠