كنز الفوائد - ج ٢

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي

كنز الفوائد - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي


المحقق: الشيخ عبدالله نعمه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

استثنى من المائة ثلاثة فلما خفض غير الثانية وكان قد وصف الثلاثة بأنها غير درهم فالاستثناء على حاله والمال سبعة وتسعون درهما.

وكذلك لو قال له عندي مائة غير ثلاثة غير درهم بنصب غير الأولة ورفع غير الثانية فإن له عنده سبعة وتسعون درهما لأنه استثنى من المائة ثلاثة لما نصب غيرا ثم وصف المائة بأنها غير درهم لما رفع غير الأخرى.

فإن هو أدخل الواو في الكلام عاطفا بها كان استثناء معطوفا على استثناء والجميع يسقط من الأصل المذكور كقوله له عندي مائة غير خمسة وغير سبعة فالخمسة والسبعة يسقطان من المائة فيكون له عنده ثمانية وثمانون درهما فافهم ذلك.

مسألة

ذكرها شيخنا المفيد رضي الله عنه في كتاب الأشراف رجل اجتمع عليه عشرون غسلا فرض وسنة ومستحب أجزأه عن جميعها غسل واحد.

جواب

هذا رجل احتلم وأجنب نفسه بإنزال الماء وجامع في الفرج وغسل ميتا ومس آخر بعد برده بالموت قبل تغسيله ودخل المدينة لزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد زيارة الأئمة عليهم السلام هناك وأدرك فجر العيد وكان يوم جمعة وأراد قضاء غسل عرفة وعزم على صلاة الحاجة وأراد أن يقضي صلاة الكسوف وكان عليه في يوم بعينه صلاة ركعتين بغسل وأراد التوبة من كبيرة على ما جاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد صلاة الاستخارة وحضرت صلاة الاستسقاء ونظر إلى مصلوب وقتل وزغة وقصد إلى المباهلة وأهرق عليه ماء غالب النجاسة.

فصل في ذكر هيئة العالم.

اعلم أن الأرض على هيئة الكرة والهواء يحيط بها من كل جهة والأفلاك تحيط بالجميع إحاطة استدارة وهي طبقات بعضها يحيط ببعض فمنها سبعة تختص بالنيرين والكواكب الخمسة التي تسمى المتحيرة والسيارة.

١٠١

فالنيران هما الشمس والقمر.

والخمسة هي زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد.

ولكل واحد منها فلك يختص به من هذه السبعة.

ففلك زحل أعلاها.

وفلك القمر أقربها من الأرض وأدناها.

وفلك الشمس في وسطها.

وتحت فلك زحل فيما بينه وبين فلك الشمس فلكان فلك المشتري ثم فلك المريخ.

وفوق القمر فيما بينه وبين الشمس فلكان فلك عطارد ثم فلك الزهرة.

ويحيط بهذه الأفلاك السبعة فلك الكواكب الثابتة وهي جميع ما يرى في السماء غير ما ذكرنا.

ثم الفلك المحيط الأعظم المحرك جميع هذه الأفلاك.

ثم السماوات السبع يحيط بالأفلاك وهي مساكن الأملاك ومن رفعه الله تعالى إلى سمائه من أنبيائه وحججه عليهم السلام وللجميع نهاية والكل على شكل الكرة ومركزها الأرض ومركز الأرض نقطة في وسطها جميع أجزاء الأرض معتمدة عليها وهي مركز العالم كلها في الحقيقة.

ومن نهاية الأجسام الذي هو محيط الكرة إلى مركز الأرض متساو من كل جهة.

وقد قيل إن العامر من الأرض هو ربع الكرة والناس مستقرون على هذا الربع من كل جهة وإن كان بعضهم منخفضا عن بعض بالإضافة فكل منهم الأرض تحته والسماء فوقه وهو يرى أرضه التي هو عليها هي المستقيمة في الاعتدال دون غيرها.

وكل ما فارق السماء من أي جهة كان منها وذهب إلى الأرض فهو نازل إليها وكل ما فارق الأرض من أي جهة كان ذهب إلى السماء فهو صاعد إليها ولذلك لا تتحرك الأرض إلى إحدى الجهات لأنها كيف ما تحركت

١٠٢

تكون صاعدة إلى السماء والأرض كالخردلة أو أصغر بالإضافة إلى عظم سعة الفلك.

والأفلاك لها حركات مختلفة لكن محركها مع ذلك الفلك المحيط بها حركة واحدة يدور بها حول المركز في اليوم والليلة دورة واحدة.

والإنسان في أي موضع كان من الأرض يرى نصف الفلك وقيل إنه يرى أكثر من النصف وهذا يبين أنه لا تأثير لقدر الأرض.

وإذا طلعت الشمس بضيائها على جهة من الأرض كان ذلك نهارا لتلك الجهة وإذا غربت من جهة من الأرض.

كان الليل في تلك الجهة وهو ظل الأرض. وليس النهار عاما ولا الليل أيضا عاما وهي تطلع على قوم قبل قوم.

وتغرب عن قوم قبل قوم والجهة التي تطلع الشمس والكواكب منها هي المشرق وريحها يقال له الصبا والجهة التي تغرب منها هي المغرب ويقال لريحها الدبور (١).

وإذا توجه القائم إلى جهة المشرق كانت الجهة التي عن يمينه الجنوب وريحها تسمى باسمها والجهة التي عن شماله الشمال تسمى باسمها.

وكل ريح أتت بين جهتين فهي نكباء (٣) وتسمى أيضا النعامى (٣).

والمسكون من الأرض هو المائل إلى جهة الشمال والربع الذي إلى جهة الجنوب غير مسكون ويقال إنه ليس به حيوان ومنه يأتي النيل ولذلك لا يصل أحد إلى مبتدئه.

وبقية الأرض قد غطاها الماء المالح وهو البحر الأعظم الذي أطرافه يقال لها بحر المحيط ومن هذا البحر خليجان داخلان إلى الربع العامر

__________________

(١) لأنّها تهب من مغرب الشمس ومكان إدبارها ، وهي تقابل الصبا.

(٢) وجمعها نكب.

(٣) في كفاية المتحفظ أنّها الريح اليمانية ، وهي ريح الجنوب.

١٠٣

يتقاربان فنهاية أحدهما الفرماءان (١) ونهاية الآخر القلزم وبينهما من المسافة قدر.

فصل من الكلام في أن الله تعالى لا يجوز أن يكون له مكان

اعلم أيدك الله أن المكان عندنا هو ما أحاط بالمتمكن فلما كان الله تعالى لا يجوز عليه ذلك لأنه يقتضي حصره وتناهيه علم أنه لا يجوز أن يكون في مكان.

ومن خالفنا في حد المكان قال إنه ما تمكن عليه وتصرف فيه وهذا لا يجوز أيضا على الله تعالى لأن المتمكن معتمد ومماس أيضا لمكانه والاعتماد والمماسة من صفات المحدثين والله تعالى قديم فعلم أنه لا يكون في مكان.

وذو المكان أيضا قد حصل له حيز فصار في جهة دون جهة ولا يكون كذلك إلا جسم أو بعض جسم وقد ثبت أن الله تعالى ليس بجسم ولا بعض جسم فعلم بطلان المكان.

ثم إنه لو كان له مكان لم يخل مكانه من حالين إما أن يكون قديما أو محدثا.

ولا يصح أن يكون قديما لمشاركته لله تعالى في القدم وقد ثبت أنه لا قديم إلا هو وحده.

ولو كان المكان محدثا لكان الله سبحانه قبل إحداثه لا يخلو من قسمين إما أن يكون محتاجا إلى المكان أو مستغنيا عنه.

ولا يجوز أن يكون لم يزل محتاجا إليه لما في ذلك من صفة النقص الذي لا يكون للقديم.

وإن كان غنيا عنه قبل وجوده فلا يجوز أن يحتاج إليه بعد ذلك لأن حاجته تخرجه عن قدمه وتشابه بينه وبين خلقه فوجب نفي المكان عنه.

__________________

(١) هكذا في النسخة.

١٠٤

فإن قيل أليس من قولكم إن الله تعالى بكل مكان؟

قلنا بلى ومعنى ذلك أنه عالم بكل مكان وبما فيه حافظ له وهذا معروف في اللغة يقول القائل لصاحبه إني معك حيث كنت وإني لا أغيب عنك ويريد لا أجهل ما تعمله ولا يخفى علي شيء منه ويقال إن الرجل في صلاته وفي بناء داره وليس المراد أنه متمكن أو حال فيها وإنما يريدون أنه يفعلها ويدبرها.

فإن قيل أوليس في القرآن أن له عرشا وكرسيا؟

قلنا هو كذلك والعرش المذكور في القرآن على وجهين أحدهما قوله سبحانه (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (١).

وقد قال أهل العلم في ذلك إن العرش هنا هو الملك واستواؤه عليه هو استيلاؤه عليه بالقدرة والسلطان.

واستشهدوا في ذلك بشواهد منها قول الشاعر في ذكر العرش وأنه الملك

إذا ما بنو مروان ثلث عروشهم

وأودوا كما أودت أياد وحمير (٢)

ومنها قول الآخر في ذكر الاستواء وأنه الاستيلاء

إذا ما علونا واستوينا عليهم

تركناهم مرعى لنسر وكاسر

يريد بذلك الاستيلاء والقدرة عليهم والتمكن لهم بالقهر لهم.

والآخر تفسير قوله سبحانه :

(وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) الحاقة : ١٧.

فقد قال العلماء في ذلك إن هذا العرش بنية خلقها الله تعالى في سمائه وأمر الملائكة بحملها لا ليكون عليها تعالى الله عن ذلك ولكن لما رآه من الصلاح في تعبدهم بحملها وتعظيمها كما أنه سبحانه تعبد بني آدم بتعظيم الكعبة في الطواف حولها وقال إنها بيته لا ليسكنها تعالى الله عن ذلك.

__________________

(١) سورة طه : ٥

(٢) أياد وحمير قبيلتان من قبائل اليمن.

١٠٥

فأما الكرسي فالذي نذهب إليه فيه أنه العلم روي ذلك عن العالم الإمام الصادق جعفر بن محمد عليهم السلام قال

(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (١) يعني علمه (٢).

وقد روي أيضا في التفسير من طريق العامة عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم.

ومعنى الكلام دال عليه وأول الآية تقتضيه لأن الله تعالى أخبر عن علمه فقال (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) البقرة : ٢٥٥.

فوصل ذكر الكرسي بذكر العلم على طريق الوصف له والإبانة عنه فكان كقوله في موضع آخر (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) (٣).

فإن قيل ما معنى رفعكم أيديكم نحو السماء في الدعاء وما معنى قوله سبحانه (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) فاطر : ١٠.

قلنا الجواب عن ذلك أنا إنما رفعنا أيدينا نسترزق من السماء لقوله تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) الذاريات : ٢٢.

وإنما جاز أن يقال إن الأعمال تصعد إلى الله تعالى لأن الملائكة الكرام حفظة الأعمال مسكنهم السماء.

وأيضا لأن السماء أشرف في الخلقة من الأرض فلذلك تعرض الأعمال فيها على الله سبحانه وبالتوجه إليها دعي الله تعالى وكل ذلك اتساع في الكلام وليس فيه ما يوجب أن يكون الله سبحانه على الحقيقة في السماء.

ونحن نرى المسلمين يقولون للحجاج هؤلاء زوار الله وإنما هن زوار بيت الله.

فإن قيل فكيف هو؟

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٥٥.

(٢) انظر : توحيد الصدوق صلى الله عليه وسلم ٣٤٠.

(٣) فاطر : ٧

١٠٦

فالجواب أن كيف استفهام عن حال والله لا تناله الأحوال والذي ساق إليه الدليل هو العلم بوجوده سبحانه وأنه لا شبيه له.

جاء في الحديث أن أمير المؤمنين صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا سبح الله تعالى ومجده :

سبحانه من إذا تناهت العقول في وصفه كانت حائرة عن درك السبيل إليه وتبارك من إذا غرقت الفطن في تكييفه لم يكن لها طريق إليه غير الدلالة عليه.

فصل

في ذكر العلم وأهله ووصف شرفه وفضله والحث عليه والأدب فيه.

قال الله عزوجل

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) فاطر : ٢٨.

وقال سبحانه :

(هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)الزمر : ٩.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.

وقال العلم علمان علم في القلب فذلك العلم النافع وعلم في اللسان فذلك حجة على العباد.

وقال العلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان.

وقال :

أربع تلزم كل ذي حجى من أمتي.

قيل وما هن يا رسول الله؟

فقال استماع العلم وحفظه والعمل به ونشره.

وقال :

العلم خزائن ومفتاحها السؤال فاسألوا يرحمكم الله فإنه يؤجر فيه أربعة السائل والمجيب والمستمع والمحب لهم.

١٠٧

وقال من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.

وقال إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا

.

وقال من أراد في العلم رشدا فلم يزدد في الدنيا زهدا لم يزدد من الله إلا بعدا.

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام :

تعلموا العلم فإن تعليمه حسنة وطلبه عبادة والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة لأنه علم الحلال والحرام وسبل منازل الجنة والأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والزينة عند الأخلاء يرفع الله به أقواما فيجعلهم للخير قادة وأئمة تقتص آثارهم ويقتدى بفعالهم وينتهى إلى رأيهم ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم ويستغفر لهم كل رطب ويابس لأن العلم حياة القلوب ومصابيح الأبصار من الظلم وقوة الأبدان من الضعف ويبلغ بالعباد منازل الأخيار والدرجات العلى وبه توصل الأرحام ويعرف الحلال من الحرام وهو إمام العمل والعمل تابع له يلهمه الله أنفس السعداء ويحرمه الأشقياء. (١)

وقال :

الكلمة من الحكمة يسمع بها الرجل فيقول أو يعمل بها خير من عبادة سنة.

وقال :

تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم ولا تكونوا جبابرة العلماء.

وقال :

شكر العالم على علمه أن يبذله لمن يستحقه.

وقال :

لا راحة في العيش إلا لعالم ناطق أو مستمع واع.

__________________

(١) تجده في البحار ج ١ صلى الله عليه وسلم ١٦٦ كما رواه في صلى الله عليه وسلم ١٧١ عن أمالي الطوسيّ بسنده عن عليّ عليه السلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بزيادة واختلاف يسير. رواه عن أمالي الصدوق بسنده المنتهي إلى ابن نباتة.

١٠٨

وقال :

اغد عالما أو متعلما ولا تكن الثالث فتعطب

وقال :

إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضي بما يصنع.

وقال :

لو أن حملة العلم حملوه بحقه لأحبهم الله وملائكته وأهل طاعته من خلقه ولكنهم حملوه لطلب الدنيا فمقتهم الله وهانوا على الناس.

وقال :

العلوم أربعة الفقه للأديان والطب للأبدان والنحو للسان والنجوم لمعرفة الأزمان.

وقال الباقر عليه السلام :

عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد.

وقال :

من أفتى الناس بغير علم ولا هدى لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه.

وقال الصادق عليهم السلام :

تفقهوا في دين الله ولا تكونوا أعرابا فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزك له عملا.

وقال :

العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا تزيده سرعة السير إلا بعدا.

وقيل لبعض الحكماء أيحسن بالشيخ التعلم؟

فقال إن كان الجهالة تقبح منه فإن التعلم يحسن منه.

وقيل له متى يحسن له التعلم؟

فقال ما حسنت به الحياة.

وقيل لبزرجمهر العلم أفضل أم المال؟

١٠٩

فقال العلم قيل له فما بالنا نرى العلماء على أبواب الأغنياء ولا نكاد نرى الأغنياء على أبواب العلماء؟

فقال ذلك لمعرفة العلماء منفعة المال وجهل الأغنياء بفضل العلم.

لبعضهم :

العلم زين وتشريف لصاحبه

فاطلب هديت فنون العلم والأدبا

لا خير فيمن له أصل بلا أدب

حتى يكون على ما زانه حربا

كم من حسيب أخي عي وطمطمة

فدم لدى القوم معروف إذا انتسبا

وخامل مقرف الآباء ذي أدب

نال المعالي به والمال والنشبا

المقرف الذي تكون أمه كريمة وأبوه غير كريم.

يا طالب العلم نعم الشيء تطلبه

لا تعدلن به ورقا ولا ذهبا

فالعلم ذكر وكنز لا يعادله

نعم القرين إذا ما عاقلا صحبا

قال الزجاجي(١) :

الهجين الذي يكون أبوه كريما وأمه غير كريمة

والقلنفس الذي يكون أبوه وأمه غير كريمين.

وقد تقدم ذكر المقرف.

وحدثوا عن ابن جريح (٢) أنه قال :

خرجت في السحر فإذا ورقة تضربها الرياح فأخذتها فلما أضاء الصبح نظرت إليها فإذا فيها.

كن معسرا إن شئت أو موسرا

لا بد في الدنيا من الهم

وكلما زادك من نعمة

زاد الذي زادك في الغم

إني رأيت الناس في دهرنا

لا يطلبون العلم للعلم

إلا مباراة لأصحابه

وعدة للظلم والغشم

__________________

(١) هو أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الصيمري الأصل ، البغداديّ الاشتغال الشاميّ المسكن والخاتمة ، أخذ عن أبي إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل الزجاج النحوي حتّى برع في النحو يقال له الزجاجي نسبة إلى أستاذه الزجاج له مؤلّفات توفي بطبرية سنة ٣٣٩ ه.

(٢) لم أعثر له على ترجمة.

١١٠

قال ابن جريح فو الله لقد منعتني هذه الأبيات من أشياء كثيرة ـ.

مسألة

إن سأل سائل فقال ما وجه التكرار في سورة الكافرون وإعادة النفي فيها في جملة بعد جملة وقد كان يغني ذلك مرة واحدة؟؟

الجواب

قد أجاب الناس عن هذه المسألة بعدة أجوبة

ونحن نورد منها أحسنها وأكثرها فائدة.

وأحسنها ما تضمن المعاني المختلفة حتى يكون المستفاد من النفي في الجملة الأولى غير المستفاد من النفي في الجملة الثانية.

وبهذا يبطل التكرار ويبقى للسائل بقية في السؤال.

فأعرب ما يجاب به فيها أن لفظة أعبد تصلح في الكلام لشيئين مختلفين :

أحدهما أن يكون بمعنى أذل وأخضع وأخشع وهذا من العبادة وهو مستعمل معهود لا يفتقر فيه إلى دليل.

وثانيهما أن يكون أعبد بمعنى أجحد وهو من العبود الذي هو الجحود وأهل اللغة يعرفون ذلك يقول القائل عبدني فلان حقي يريد جحدني حقي قال الشاعر :

فلو سألت قريشا من يؤممهم

ما ميلوا ذاك عن قومي ولا عبدوا

يعني ولا جحدوا.

وعلى هذا المعنى ما روي عن أحد الأئمة صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى :

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) الزخرف : ٨١.

__________________

(١) نجد الكلام على ذلك في كتاب الأمالي للمرتضى ج(١) صلى الله عليه وسلم ١٢٠ ـ ١٢٣.

١١١

وأن معناه فأنا أول الجاحدين وذلك أن الدليل قد اتضح على أن من كان له ولد لا يكون إلا محدثا والمحدث لا يكون إلها.

فقول الله عزوجل في الجملة الأولى (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) إنما معناه لا أذل ولا أخضع لأصنامكم التي تفعلون هذا لها ولا أنتم فاعلوه أيضا لإلهي الذي أنا فاعله له.

وقوله جل اسمه في الجملة الثانية (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) إنما معناه ولا أنا جاحد لله تعالى الذي جحدتموه ولا أنتم جاحدون للأصنام التي أنا جاحدها.

فقد تضمنت الجملتان فائدتين مختلفتين وبان انتظام الكلام بغير تكرار.

جواب آخر :

وهو أن يكون المراد بلفظة أعبد في الجملة الأولى الزمان الحاضر فكأنه قال لا أعبد الآن ما تعبدون ولا أنتم عابدون الآن ما أعبد.

ويكون المراد بها في الجملة الثانية الزمان المستقبل فكأنه قال ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد.

فلفظة أعبد على هذا الجواب وإن كانت في الجملتين بمعنى واحد وهو العبادة فقد اختلفت بما يراد بها من الزمان المختلف ولا شك في أن لفظة أفعل تصلح للزمانين الحاضر والمستقبل وفي هذين الجوابين غنى وكفاية والحمد لله.

واعلم أنه يجب أن يكون السؤال على هذا مختصا بخطاب من المعلوم من حاله أنه لا يؤمن.

وقد ذكر أنها نزلت في أبي جهل والمستهزءين وهم العاص بن وائل والوليد بن المغيرة والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث وعدي بن قيس ولم يؤمن منهم أحد.

١١٢

فإن قال فما معنى قوله في السورة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) وظاهر هذا الكلام يقتضي إباحتهم المقام على أديانهم؟؟

قلنا إن ظاهر الكلام وإن كان ظاهر الإباحة فإن المراد به الوعيد والمبالغة في الزجر والتهديد كما قال تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) وقال (أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً).

وقد قيل إن المعنى فيه لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني فحذف الجزاء من اللفظ لدلالة الكلام عليه.

وقيل إن الجزاء نفسه يسمى دينا قال الشاعر :

إذا ما لقونا لقيناهم

ودناهم مثلما يقرضونا

أراد جزيناهم فيكون المعنى في قوله (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) أي لكم جزاؤكم ولي جزائي.

مسألة

فإن قال السائل فما وجه التكرار في سورة الرحمن وإعادته مع كل آية (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

الجواب :

قلنا إنما حسن هذا التكرار للتقرير بالنعم المختلفة وتعديدها نعمة بعد نعمة أنعم بها قرر عليها ووبخ على التكذيب بها كما يقول الرجل لغيره ألم أحسن إليك بأن خولتك المال ألم أحسن إليك بأن أمنتك من المكاره ألم أحسن إليك بأن فعلت كذا وكذا فيحسن منه التكرار لاختلاف ما قرر به وهذا كثير في الكلام مستعمل بين الناس.

وهذا الجواب عن وجه التكرار في سورة المرسلات في قوله (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).

فإن قيل إذا كان الذي حسن التكرار في سورة الرحمن ما عدده من الآلاء فقد عدد في جملة ذلك ما ليس بنعمة وهو قوله (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ

١١٣

مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) وقوله تعالى (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) فكيف يحسن أن يقول بعد هذا (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟؟

قلنا الوجه في ذلك أن فعل العقاب وإن لم يكن نعمة فذكره ووصفه والإنذار به من أكبر النعم لأن في ذلك زجرا عما يستحق به العقاب وبعثا على ما يستوجب به الثواب.

وإنما أشار تعالى بقوله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) بعد ذكر جهنم والعذاب فيها إلى إنعامه بذكر وصفها والإنذار بها والتخويف منها ولا شك في أن هذا في النعم التي يجب الاعتراف بها والشكر عليها ... (١)

كتاب البرهان على صحة طول عمر الإمام صاحب الزمان

ومما عملته كتاب البرهان على صحة طول عمر الإمام صاحب الزمان عليه وعلى آبائه أفضل السلام وبيان جواز تطاول الأعمار

(بسم الله الرحمن الرحيم)

الحمد لله على ما هدى وصلاته على من اصطفى سيدنا محمد ورسوله المجتبى وآله أئمة الهدى.

ذكرت يا أخي أيدك الله أنك رأيت جماعة من المخالفين يعتمدون في إنكار وجود صاحب الزمان صلى الله عليه وسلم على ما يقتضيه تاريخ مولده من تطاول عمره على القدر المعهود ويقولون إذا كان مولده عندكم في سنة خمس وخمسين ومائتين فله إلى سنتنا هذه وهي سنة سبع وعشرين وأربعمائة ـ مائتان واثنتان وسبعون سنة.

__________________

(١) نجد الكلام على ذلك في كتاب الأمالي للمرتضى ج(١) صلى الله عليه وسلم ١٢٠ ـ ١٢٣.

١١٤

ولسنا نرى الأعمار تتناهى إلى أكثر من مائة وعشرين سنة بل لا نرى أحدا يلحق عمره هذا القدر اليوم.

ويزعمون أن هذه الزيادة على المائة والعشرين دلالة على بطلان ما نذهب إليه.

وسألت في إيراد كلام عليهم يوهي عمدتهم ويبطل شبهتهم ويكون أصلا في يدك يتمسك به المستند إليك.

وأنا مجيبك إلى ما سألت وأبلغك منها ما طلبت بعون الله وحسن توفيقه اعلم أولا أنه إذا وجبت الإمامة ووضحت الأدلة على اختصاصها بأئمتنا الاثني عشر عليهم السلام دون جميع الأمة فلا منصرف عن القول بطول عمر إمامنا وصاحب زماننا صلى الله عليه وسلم لأن الزمان لا يخلو من إمام وقد مضى آباء صاحب الزمان بلا خلاف ولم يبق من يستحق الإمامة سواه.

فإن لم يكن عمره ممتدا من وقت أبيه إلى أن يظهره الله سبحانه حصل الزمان خاليا من إمام وهذا دليل مبني على ما قدمناه.

وبعد ذلك فإنه لا يصلح أن يكلمك في طول عمره من لا يقر بشريعته.

فأما من أقر بها وأنكر تراخي الأعمار وطولها فإن القرآن يخصمه بما تضمنه من الخبر عن طول عمر نوح عليهم السلام قال الله تعالى

(فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) العنكبوت : ١٤

ولا طريق إلى الانصراف عن ظاهر القرآن إلا ببرهان.

وقد أجمع المسلمون على بقاء الخضر عليهم السلام من قبل زمان موسى عليهم السلام إلى الآن وأن حياته متصلة إلى آخر الزمان وما أجمع عليه المسلمون فلا سبيل إلى دفعه بحال من الأحوال.

فإن قال الخصم هذان نبيان ويجوز أن يكون طول أعمارهما معجزا لهما وكرامة يميزان بها عن الأنام ولا يصح أن يكون هذا العجز والإكرام إلا للأنبياء عليهم السلام.

١١٥

فقل له يفسد هذا عليك بما استقر عليه الاتفاق من بقاء إبليس اللعين من عهد آدم عليهم السلام وقبل ذاك إلى الآن وأنه سيبقى إلى الوقت المعلوم كما نطق به القرآن وليس ذلك معجزا له ولا على سبيل الإكرام.

وإذا اشترك الولي والعدو في طول العمر علم أن السبب في ذلك غير ما ذكرت وأنه لمصلحة لا يعلمها إلا الله تعالى دون العباد.

فإن أنكر الخصم إبليس وبقاءه خرج عن ظاهر الشريعة ودفع إجماع الأمة وإن تأول ذلك طولب على صحة تأويله بالحجة.

ولو سلمت له طول العمر معجزا للمعمر وإكراما ولم يذكر له إبليس وطول عمره على ممر الأزمان كان لك أن تقول إن حكم الإمام عندنا كحكم النبي في الاحتجاج وجواز ظهور العجز والإكرام بما يتميز به عن الأنام فليس بمنكر أن يطيل الله تعالى عمره على سبيل المعجز والإكرام.

واعلم أيدك الله أن المخالفين لك في جواز امتداد الأعمار ممن يقر بالإسلام لا يكلمونك إلا بكلام مستعاد.

فمنهم من ينطق بلسان الفلاسفة فيقول إن طول العمر من المستحيل في العقول الذي لم يثبت على جوازه دليل.

ومنهم من ينطق بلسان المنجمين فيقول إن الكواكب لا تعطي أحدا من العمر أكثر من مائة وعشرين سنة ولهم هذيان طويل.

ومنهم من ينطق بلسان الأطباء وأصحاب الطبائع فيقول إن العمر الطبيعي هو مائة وعشرون سنة فإذا انتهى الحي إليها فقد بلغ غاية ما يمكن فيه صحة الطباع وسلامتها وليس بعد بلوغ غاية السلامة إلا ضدها.

وليس على يد أحد منهم إلا الدعوى ولا يستند إلا إلى العصبية والهوى فإذا عضهم الحجاج رجعوا أجمعين إلى الشاهد المعتاد فقالوا إنا لم نر أحدا تجاوز في العمر إلى هذا القدر ولا طريق لنا إلى إثبات ما لم نر.

وهذا الذي جرت به العادة والعادة أصح دلالة.

وجميعهم خارجون عن حكم الملة مخالفون لما اتفقت عليه الأمة ولما سلف

١١٦

أيضا من الشرائع المتقدمة لأن أهل الملل كلها متفقون على جواز امتداد الأعمار وطولها وقد تضمنت التوراة من الإخبار بذلك ما ليس بينهم فيه منازع.

وفيها أن آدم عليهم السلام عاش تسعمائة وثلاثين سنة.

وعاش شيث تسعمائة واثنتي عشرة سنة.

وعاش أنوش تسعمائة وخمسا وستين سنة.

وعاش قينان تسعمائة سنة وعشر سنين.

وعاش مهلائيل ثمانمائة وخمسا وتسعين سنة.

وعاش برد تسعمائة واثنتين وستين سنة.

وعاش أخنوخ وهو إدريس تسعمائة وخمسا وستين سنة.

وعاش متوشلح تسعمائة وتسعا وستين سنة.

وعاش ملك سبعمائة وسبعا وستين سنة.

وعاش نوح تسعمائة وخمسين سنة.

وعاش سام ستمائة سنة.

وعاش أرفخشاد أربعمائة وثماني وتسعين سنة.

وعاش شالخ أربعمائة وثلاثا وتسعين سنة.

وعاش غابر ثمانمائة وسبعين سنة.

وعاش فالخ مائتين وتسعا وتسعين سنة.

وعاش أرغو مائتين وستين سنة.

وعاش باحور مائة وستا وأربعين سنة.

وعاش تارخ مائتين وثمانين سنة.

وعاش إبراهيم مائة وخمسا وسبعين سنة.

وعاش إسماعيل مائة وسبعا وثلاثين سنة.

وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة.

فهذا ما تضمنته التوراة مما ليس بين اليهود والنصارى اختلاف.

وقد تضمنت نظيره شريعة الإسلام ولم نجد أحدا من علماء المسلمين يخالفه

١١٧

أو يعتقد فيه البطلان بل أجمعوا من جواز طول الأعمار على ما ذكرناه.

والمستدل يعلم جواز ذلك في العقل إذا أنعم الاستدلال والأخبار قد تناصرت في قوم عمروا في قريب الزمان سوف أذكر جماعة منهم ليتأكد البيان وليس المنازعة لنا بعد ذلك من ذي بصيرة وعرفان.

فإن قال قائل إن الأعمار قد كانت يتطاول في سالف الدهر ثم تناقضت عصرا بعد عصر حتى انتهت إلى ما نراه مما لا يجوز اليوم سواه.

قيل له إن العاقل يعلم أن الزمان لا تأثير له في الأعمار وأن زيادتها ونقصانها من فعل قادر مختار يغيرها في الأوقات بحسب مما يراه من الصلاح.

ولسنا ننكر أن الله سبحانه قد أجرى اليوم بأقدار متقاربة في الأعمار يخالف ما كان في متقدم الزمان غير أن هذا لا يحيل طول عمر بعض الناس إذا كان ذلك ممكنا من القادر المعطي للأعمار.

وقد ذكرنا أن الأخبار قد أتت بذكر المعمرين كانوا في قريب الزمان فلا طريق إلى دفع ما ذكرناه مع هذا الإيضاح.

وأما الذين استعاروا كلام الفلاسفة من المخالفين لنا في هذه المسألة وقولهم في العمر من المستحيل في العقول فإنهم لم يعولوا في العلم بذلك على ضرورة يشاركهم العقلاء فيها وإذا عدموا الضرورة فلا بد من حجة عقلية يطالبون بإيرادها ولا حجة معهم ينطقون بها ولا عمدة لهم أكثر من الهوى والرجوع إلى ما يشاهد ويرى والهوى مضلة والإنكار لما لم يشاهد مزلة وليس من موحد ولا ملحد إلا وهو يثبت ما لا يرى ويقر بما لم يشاهد.

فالموحد يقر بالله والملائكة وطول أعمارها ولم نر شيئا منها .. (١).

والملحدة قد تقر بوجود جواهر بسيطة لا تجوز عليها الرؤية وتدعي أيضا وجود عقل .. (٢)لم ترهما ولا رأت .. (٣) فضلا عنها.

__________________

(١ و ٢ و ٣) في هذه الفراغات كلمات غير واضحة.

١١٨

وكل فرقة تدعي وجود أشياء لم تر فمن زعم أنه لا يثبت إلا ما شاهد ورأى فقد أفسد على نفسه من مذهبه.

وهؤلاء في العمر ولا يدرون ما هو والعمر هو اتصال كون الحي المحدود حيا فهذا الاتصال إنما يكون بدوام الحياة والحياة فعل الله تعالى فليس يستحيل منه إدامتها وكل ما جاز أن يفعله الله تعالى من طول العمر فإنه يجوز أن يفعل مثله في دوام الصحة والقوة وعدم الضعف والهرم.

وأما الذين استعاروا كلام المنجمين من المنازعين لنا في جواز طول العمر فإنهم يعتمدون الظنون دون اليقين.

والعقلاء يعلمون أن أصول المنجمين في الأحكام لا يثبت بالنظر والدليل وبينهم من التحارب فيها والاختلاف ما لا يخفى على المتأمل.

إني وجدت في كتاب أحد علمائهم وهو الكتاب المعروف بابا لابن هبلى (١) في حكاية ذكرها عن معلمهم المقدم وأستاذهم المفضل الذي يعولون عليه في الأحكام ويستندون إلى كلامه وما يدعيه وهو المعروف بما شاء الله (٢) أنا موردها ففيها أكبر حجة عليهم في هذه المسألة التي خالفونا فيها.

قال ما شاء الله :

الباب الأعظم من الهيلاج الذي يدل على العمر الكثير فإنه يكون المولود

__________________

(١) هو على الظاهر تحريف عن ابن هبتني أو هبنتة ، وهو منجم نصراني عاش في بغداد وألف كتابا في التنجيم أسماه المغني بعد سنة ٣٣٠ ه ـ ٩٤١ م ، وكان الجزء الثاني منه لا يزال محفوظا في مكتبة مونيخ ، وذكره حاجي خليفة في كشف الظنون مع اسم ابن هبنتة محرفا انظر (دائرة المعارف اللبنانية. ج ٧ صلى الله عليه وسلم ١١٧).

(٢) هو منجم يهودي واسمه ميشى بن أبرى ، كان في زمن المنصور وعاش إلى أيّام المأمون ، وكان أوحد أهل زمانه في الاخبار بأمور الحدثان وله سهم قوي في سهم الغيب ، لقيه سفيان الثوري فقال له : أنت تخاف زحل وأنا أخاف ربّ زحل ، وأنت ترجوا المشتري وأنا أرجو ربّ المشتري ، وأنت تغدو بالاستشارة وأنا أغدو بالاستخارة فكم بيننا ، فقال له ما شاء اللّه : كثير ما بيننا ، حالك أرجى وأمرك أنجح وأحجى. له عدة مؤلّفات انظر (اخبار الحكماء صلى الله عليه وسلم ٢١٤).

١١٩

في مثلثة إلى مثلثة وطالعه ثبوت أحد الكوكبين العلويين زحل والمشتري وصاحب الطالع الكذخذاه فإن كان المولود ليليا والهيلاج القمر فإن كان فوق الشمس في برج أنثى وإن كان نهاريا فيكون الشمس في برج ذكر فإنه حينئذ يدل على بقاء المولود بإذن الله تعالى حتى يتحول القران عن مثلثة إلى أخرى وذلك مائتان وأربعون سنة.

فأما في الزمن الأول فإن مثل هذه الدلالة كانت تدل على بقائه حتى يعود القران إلى مكانه وذلك بعد تسعمائة وخمسين سنة والله أعلم.

فما يقولون في كلام عالمهم ما شاء الله وقد أوضح بتخصيصه في الدلالة الزمن الأول بتسعمائة وخمسين سنة أن مراده بالمائتين والأربعين من هذا الزمان وهو شاهد لنا على هؤلاء المعاندين المنكرين للحق الواضح البرهان.

وأما الذين اعتمدوا بكلام الأطباء وأصحاب الطبائع من قولهم إن غاية العمر في الطبيعة مائة وعشرون سنة فإنهم لم يعتمدوا على حجة ولا تشبثوا بشبهة وليس في أيديهم أكثر من دعواهم تبين لك بطلان مقالتهم إن الطبائع أعراض والأعراض لا يصح منها في الحقيقة أفعال وإنما يفعل القادر المختار والطبائع أيضا فعل الله تعالى وهو الذي ارتكبها في الإنسان فكما جاز منه أن يجعلها كلها صحيحة معتدلة مدة من الزمان فهو قادر على أن يجعلها كذلك أضعاف تلك المدة فيطول عمر الإنسان وليس يستحيل ذلك في عقل ذي بصيرة وعرفان.

وأما المعتمدون في ذلك على العادات فإنه لا حجة في أيديهم من قبل أن العادات قد تختلف باختلاف الأوقات وباختلاف الناس أيضا والأصقاع.

وقد سمعت من جماعة من الناس أن بلاد السند من البلاد التي تطول فيها الأعمار.

ورأيت بالرملة في جمادى الآخرة من سنة اثنتي عشرة وأربعمائة شريفا من أهل السند يعرف بأبي القاسم عيسى بن علي العمري من ولد عمر بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام وسألته عن ذلك فقال لي هو صحيح.

١٢٠