كنز الفوائد - ج ١

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي

كنز الفوائد - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي


المحقق: الشيخ عبدالله نعمه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩١
الجزء ١ الجزء ٢

يصح أن يتعلق بأفعال العباد من ذلك وما لا يتعلق ونجيب عن الخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك بما يلائم الحق.

أما القضاء فعلى أقسام

منها ما يكون بمعنى الإعلام كقول الله تعالى :

(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) أي أعلمناه وقوله سبحانه

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) الإسراء : ٤

أي أعلمناهم بذلك ويكون القضاء أيضا بمعنى الحكم والإلزام كقوله جل اسمه

(وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) الإسراء : ٢٣.

أي حكم بذلك في التكليف على خلقه وألزمهم به.

فأما القدر فيكون بمعنى الكتاب والإخبار كما قال جل وعلا :

(إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ). الحجر : ٦٠.

يعني كتبنا وأخبرنا ويكون القدر أيضا بمعنى التبيين لمقادير الأشياء وتفاصيلها والإعلام باختلاف أحوالها.

ويكون القدر ترك الأشياء في التدبير على نظام ووضعها في الحكمة مواضعها من غير زيادة ولا نقصان كما قال تعالى :

(وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) فصلت : ١٠

فأما أفعال العباد فيصح أن نقول فيها إن الله تعالى قضى بالطاعة منها على معنى أنه حكم بها وألزمها عباده وأوجبها وهذا إلزام أمر وليس بإلجاء ولا جبر.

ونقول أيضا إنه سبحانه قدر أفعال العباد بمعنى بين لهم مقاديرها من حسنها وقبحها ومباحها وحظرها وفرضها ونفلها.

٣٦١

فأما القول بأنه قضاها على معنى أنه خلقها فغير صحيح لأنه لو خلق الطاعة والمعصية لسقط اللوم عن العاصي بموجب العدل ولم يكن معنى لإثابة الطائع في حجة ولا عقل.

ويقول في أفعال الله إنها كلها بقدره يريد أنها لا تفاوت فيها ولا خلل وأنها بموجب الحكمة ملتئمة وعلى نسق الصواب منتظمة.

فأما الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله حكاية عن الله سبحانه :

من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي فليتخذ ربا سوائي. (١)

فهو واضح المعنى للعاقل وهذا القضاء من الله تعالى هو مما يبتلى به العبد من أعلاله وأسقامه وعوارضه وآلامه وفقره بعد الغنى وما يمتحنه من فقد الأعزاء والأقرباء كل ذلك من قضاء الله الذي يجب الرضا به والصبر عليه وهو مما يفعله الله سبحانه بعبده للحكمة التي تقتضيه وما يعلمه الله عزوجل من الصلاح الذي لعبده فيه.

وكيف يقضي الله على العبد بالمعصية وهي من الباطل الذي يعاقب عليه وقد قال الله عز من قائل (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) غافر : ٢٠

وكذلك أقول في الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إيجابه الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره فالخير من القضاء والقدر هو ما مالت إليه الطباع والتذت به الحواس والشر بالضد من ذلك على ما تقدم به البيان.

وسمي أيضا شرا لما على النفس في تحمله من المشاق وهو مما أجمع المسلمون عليه من الرضا بقضاء الله والتسليم لقدره.

ولو كان الظلم والغضب والكفر بالله عزوجل من قضاء الله وقدره لوجب الرضا به وترك إنكاره فلما رأينا العقلاء ينكرونه ولا يرضونه ويعيبون على من رضي به ويذمونه علمنا أنه ليس من قضاء الله سبحانه.

_________________

(١) رواه الصدوق في كتاب التوحيد صلى الله عليه وآله وسلم ٣٧٩ على تغيير في بعض ألفاظه.

٣٦٢

أخبرني شيخنا المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضي الله عنه إجازة قال حدثنا محمد بن عمر الحافظ إملاء قال حدثنا أبو القاسم إسحاق بن جعفر العلوي قال حدثني أبي جعفر بن محمد بن علي عن سليمان بن محمد القرشي عن إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه عن جده عليهم السلام قال :

دخل رجل من أهل العراق على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه وآله وسلم فقال :

أخبرنا عن خروجنا إلى أهل الشام أبقضاء الله وقدره؟

فقال له أمير المؤمنين عليهم السلام :

يا شيخ فو الله ما علوتم تلعة ولا هبطتم واديا إلا بقضاء من الله وقدره.

فقال الشيخ عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين.

فقال مهلا يا شيخ لعلك تظن قضاء حتما وقدرا لازما؟

لو كان ذلك به لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر وسقط معنى الوعيد ولم يكن على مسيء لائمة ولا لمحسن محمدة ولكان المحسن أولى بالملاءمة من المذنب والمذنب أولى بالإحسان من المحسن تلك مقالة عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وقدرية هذه الأمة ومجوسها.

يا شيخ إن الله كلف تخييرا ونهى تحذيرا وأعطى بالقليل كثيرا ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) صلى الله عليه وآله وسلم : ٢٧

وجاء في الحديث رواية أخرى إن الرجل قال له فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين؟

فقال عليهم السلام الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية والتمكين من فعل الحسنة وترك السيئة والمعونة على القربة إليه والخذلان لمن عصاه والوعد والوعيد والترغيب والترهيب كل ذلك قضاء الله في أفعالنا وقدره لأعمالنا فأما غير ذلك فلا تظنه فإن الظن محبط للأعمال.

٣٦٣

فقال الرجل فرجت عني يا أمير المؤمنين وأنشأ يقول

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

يوم النجاة من الرحمن غفرانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا

جزاك ربك عنا فيه إحسانا

فليس معذرة في فعل فاحشة

قد كنت راكبها فسقا وعصيانا

لا لا ولا قائلا ناهيه أوقعه

فيها عبدت إذا يا قوم شيطانا

ولا أحب ولا شاء الفسوق ولا

قتل الولي له ظلما وعدوانا (١)

الحجاج يسأل عن القضاء والقدر

وذكر أن الحجاج بن يوسف الثقفي كتب إلى الحسن البصري (٢) وإلى واصل بن عطا (٣) ء وعمرو بن عبيد (٤) وعامر الشعبي (٥) فقال لهم أخبروني بقولكم في القضاء والقدر فكتب إليه الحسن البصري :

ما أعرف فيه إلا ما قاله علي بن أبي طالب عليهم السلام فإنه قال :

يا ابن آدم أزعمت أن الذي نهاك دهاك وإنما دهاك أسفلك وأعلاك وربك بريء من ذاك.

وكتب إليه واصل بن عطاء :

_________________

(١) تجد هذا الحديث مرويا في توحيد الصدوق صلى الله عليه وآله وسلم ٣٨٨ = ٣٨٩ وانظر : أمالي المرتضى ج ١ صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٥١ ، والفصول المختارة ج ١ صلى الله عليه وآله وسلم ٤٠ = ٤٢ بزيادة أربعة أبيات.

(٢) هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار مولى زيد بن ثابت ، وأمه خيرة مولاة أم المؤمنين أم سلمة زوج النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ، كان معدودا في الزهاد ، ومتّهما بالانحراف عن عليّ عليه السلام ، وكان كاتبا لوالي خراسان ربيعة بن زياد في زمن معاوية ، وولي القضاء على البصرة في زمن عمر بن عبد العزيز ، ثمّ استقال من تلك الوظائف ، مجندا نفسه لخدمة الأمويين ، حتى لقبوه بسيد التابعين ، نظرا لسعة معلومات ، وتظاهرة بالتقشف والورع ، ولكونه من محاسيب السلطة الأموية.

عاش ٨٩ سنة ومات سنة ١١٠ ه ، وعلى هذا تكون ولادته سنة ٢١ ه.

(٣) هو أبو حذيفة واصل بن عطاء الغزال (٨٠ = ١ ٣١ ه) من شيوخ المعتزلة وأعلامها البارزين ، بل هو المؤسس لمذهب الاعتزال ، وله آراء معروفة مذكورة في كتب الفرق.

(٤) أبو عثمان عمرو بن عبيد (٨٠ = ١ ٤٤ ه) من أئمة الاعتزال ودعاتهم ، وافق واصل بن عطاء في كثير من أصول المعتزلة.

(٥) أبو عمرو عامر بن شراحيل الكوفيّ ينسب إلى شعب ، بطن من همدان ، من التابعين ، كان فقيها شاعرا ، وكان قاضيا على الكوفة ، مات بالكوفة (سنة ١ ٠٤ ه).

٣٦٤

ما أعرف فيه إلا ما قاله علي بن أبي طالب عليهم السلام فإنه قال :

ما تحمد الله عليه فإنه منه وما تستغفر الله عنه فهو منك.

وكتب إليه عمرو بن عبيد :

ما أعرف فيه إلا ما قاله علي بن أبي طالب فإنه قال :

«إن كان الرزق في الأصل محتوما فالوازر في القصاص مظلوم»

وكتب إليه عامر الشعبي :

ما أعرف فيه إلا ما قاله علي بن أبي طالب عليهم السلام

«من وسع عليك الطريق لم يأخذ عليك المضيق»

فلما قرأ الحجاج أجوبتهم قال قاتلهم الله لقد أخذوها من غير صافية. (١)

وجاء في الحديث أن الحسن بن أبي الحسن البصري كتب إلى الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام :

من الحسن البصري إلى الحسن بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أما بعد فإنكم معاشر بني هاشم الفلك الجارية في اللجج الغامرة ومصابيح الدجى وأعلام الهدى والأئمة القادة الذين من اتبعهم نجا والسفينة التي يئول إليها المؤمنون وينجو فيها المتمسكون قد كثر يا ابن رسول الله عندنا الكلام في القدر واختلافنا في الاستطاعة فتعلمنا ما نرى عليه رأيك ورأي آبائك فإنكم (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) من علم الله علمتم وهو الشاهد عليكم وأنتم شهداء على الناس والسلام.

فأجابه الحسن بن علي صلى الله عليه وآله وسلم :

من الحسن بن علي إلى الحسن البصري.

أما بعد فقد انتهى إلي كتابك عند حيرتك وحيرة من زعمت من أمتنا وكيف ترجعون إلينا وأنتم بالقول دون العمل.

_________________

(١) من البعيد أن يكون الحجاج هو الذي وجه السؤال إلى مثل عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ، اللذين ولدا عام ٨٠ ه ، مع العلم أن الحجاج مات سنة ٩٥ ه ، حتى لو فرض أن سؤال الحجاج لهما كان في نفس السنة التي مات فيها ، حين يكون عمر كل من عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء خمسة عشر عاما ، وبخاصّة أنهما لم يبرزا بعد وهما في هذه السن المبكرة في المجال الفكري والعلمي ، ومن هنا فالمرجح أن يكون السائل شخصية أخرى غير الحجاج.

٣٦٥

واعلم أنه لو لا ما تناهي إلي من حيرتك وحيرة الأمة قبلك لأمسكت عن الجواب ولكني الناصح وابن الناصح.

الأمين والذي أنا عليه أنه من لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد كفر ومن حمل المعاصي على الله عزوجل فقد فجر إن الله لا يطاع بإكراه ولا يعصى بغلبة ولم يهمل العباد سدى من المملكة ولكنه عزوجل المالك لما ملكهم والقادر على ما عليه أقدرهم فإن ائتمروا بالطاعة لم يكن الله عزوجل لهم صادا ولا عنها مانعا وإن ائتمروا بالمعصية فشاء سبحانه أن يمن عليهم فيحول بينهم وبينها فعل وإن لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها إجبارا ولا ألزمهم بها إكراها بل احتجاجه جل ذكره عليهم أن عرفهم وجعل لهم السبيل إلى فعل ما دعاهم إليه وترك ما نهاهم عنه ولله الحجة البالغة والسلام. (١)

أبو حنيفة مع الإمام موسى بن جعفر

وروى محمد بن سنان عن داود بن كثير الرقي أن أبا حنيفة قال لابن أبي ليلى مر بنا إلى موسى بن جعفر عليهم السلام لنسأله عن أفاعيل العباد وذلك في حياة جعفر الصادق عليهم السلام وموسى يومئذ غلام فلما صار إليه سلما عليه ثم قالا له أخبرنا عن أفاعيل العباد ممن هي.

فقال لهما إن كانت أفاعيل العباد من الله دون خلقه فالله أعلى وأعز وأعدل من أن يعذب عبيده على فعل نفسه وإن كانت من خلقه فالله أعلى وأعز من أن يعذب عبيده على فعل قد شاركهم فيه وإن كانت أفاعيل العباد من العباد فإن عذب فبعدله وإن غفر فهو (أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) ثم أنشأ يقول :

لم تخل أفعالنا اللاتي نذم بها

إحدى ثلاث معان حين نأتيها

إما تفرد بارينا بصنعتها

فيسقط الذم عنا حين ننشيها

أو كان يشركنا فيها فيلحقه

ما سوف يلحقنا من لائم فيها

أو لم يكن لإلهي في جنانيها

ذنب فما الذنب إلا ذنب جانيها (١)

_________________

(١) تجد هذه المراسلة في تحف العقول للحراني صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٦٢ مع بعض الاختلاف والزيادة.

(٢) روى ذلك الحرّانيّ في كتاب تحف العقول صلى الله عليه وآله وسلم ٣٠٨ مختلفا عن رواية المؤلّف ودون ذكر =

٣٦٦

كلام الصادق لزرارة

ومما حفظ عن الصادق عليهم السلام في ذلك قوله لزرارة بن أعين :

يا زرارة إني أعطيك جملة في القضاء والقدر قال له زرارة نعم جعلت فداك قال :

إذا كان يوم القيامة وجمع الله الخلائق سألهم عما عهد إليهم ولم يسألهم عما قضى عليهم. (١)

فصل من كلام أمير المؤمنين وآدابه وحكمه عليهم السلام (٢)

لا رأي لمن انفرد برأيه ما عطب من استشار من شاور ذوي الألباب دل على الصواب.

النصح لمن قبله

رأي الشيخ أحب إلي من حيلة الشاب.

رب واثق خجل

اللجاجة تسلب الرأي.

الطمأنينة قبل الحزم.

التدبير قبل العمل يؤمنك الندم.

من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ

من تحرى القصد خفت عليه المؤن

من كابد الأمور عطب

لو لا التجارب عميت المذاهب

في التجارب علم مستأنف

في التواني والعجز أنتجت الهلكة

_________________

= الأبيات. ورواه الشريف المرتضى في الأمالي م ١ صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٥٢ وذكر أن مضمون الخبر قد نظمه بعضهم.

(١) هذا الحديث رواه الصدوق في التوحيد صلى الله عليه وآله وسلم ٣٧٤.

(٢) أكثر هذه الحكم موجودة في نهج البلاغة.

٣٦٧

احذر العاقل إذا أغضبته والكريم إذا هنته والنذل إذا أكرمته والجاهل إذا صاحبته.

من كف عنك شره فاصنع به ما سره

من أمنت من أذيته فارغب في أخوته

فصل من الكلام في الغيبة وسببها

إن قال قائل ما السبب الموجب لغيبة صاحب الزمان عليه وعلى آبائه أفضل السلام.

قيل له لا يسأل عن هذا السؤال إلا من قد أعطى صحة وجود الإمام وسلم ما ذكره من غيبته من الأنام لأن النظر في سبب الغيبة فرع عن كونها فلا يجوز أن يسأل عن سببها من يقول إنها لم تكن وكذلك الغيبة نفسها فرع عن صحة الوجود إذ كان لا يصح غيبة من ليس بموجود فمن جحد وجود الإمام فلا يصح كلامه في ما بعد ذلك من هذه الأحوال فقد بان أنه لا بد من تسليم الوجود والإمامة والغيبة أما تسليم دين واعتقاد ليكشف السائل عن السبب الموجب للاستتار وأما تسلم نظر واحتجاج لينظر السائل عن السبب إن كان كلامنا في الفرع ملائما للأصل وأنه مستمر عليه من غير أن يضاده وينافيه.

فإن قال السائل أنا أسلم لك ما ذكرتموه من الأصل لا عن نظر إن كان ينتظم معه جوابكم عن الفرع فما السبب الآن في غيبة الإمام عليهم السلام؟

فقيل له أول ما نقوله في هذا إنه ليس يلزمنا معرفة هذا السبب ولا يتعين علينا الكشف عنه ولا يضرنا عدم العلم به.

والواجب علينا اللازم لنا هو أن نعتقد أن الإمام الوافر المعصوم الكامل العلوم لا يفعل إلا ما هو موافق للصواب وإن لم نعلم الأغراض في أفعاله والأسباب فسواء ظهر أو استتر قام أو قعد كل ذلك يلزمه فرضه دوننا ويتعين عليه فعل الواجب فيه سوانا وليس يلزمنا علم جميع ما علم كما لا يلزمنا فعل جميع ما فعل وتمسكنا بالأصل من تصويبه في كل فعل يغنينا في

٣٦٨

المعتقد عن العلم بأسباب ما فعل فإن عرفنا أسباب أفعاله كان حسنا وإن لم نعلمها لم يقدح ذلك في مذهبنا كما أنه قد ثبت عندنا وعند مخالفينا إصابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جميع أقواله وأفعاله والتسليم له والرضا بما يأتي منه وإن لم نعرف سببه.

ولو قيل لنا لم قاتل المشركين على كثرتهم يوم بدر وهو في ثلاثمائة من أصحابه وثلاثة عشر أكثرهم رجالة ومنهم من لا سلاح معه ورجع عام الحديبية عن إتمام العمرة وهو في العدة القوية ومن معه من المسلمين ثلاثة آلاف وستمائة وأعطى سهيل بن عمرو جميع مناه ودخل تحت حكمه ورضاه من محو (بسم الله الرحمن الرحيم) من الكتاب ومحو اسمه من النبوة وإجابته إلى أن يدفع عن المشركين ثلث ثمار المدينة وأن يرد من أتاه ليسلم على يده منهم مع ما في هذا من المشقة العظيمة والمخالفة في الظاهر للشريعة لما ألزمنا الجواب عن ذلك أكثر من أنه أعرف بالمصلحة من الأمة وأنه لا يفعل هذا إلا لضرورة يختص بعلمها ملجئة أو مصلحة تقتضيه تكون له معلومة وهو الوافر الكامل الذي لا يفرط فيما أمر به.

وليس عدم علمنا بأسباب فعله ضارا لنا ولا قادحا فيما نحن عليه من اعتقادنا وأصلنا.

فكذلك قولنا في سبب غيبة إمامنا وصاحب عصرنا وزماننا.

ويشبه هذا أيضا من أصول الشريعة عن السبب في إيلام الأطفال وخلق الهوام والمسمومات من الحشائش والأحجار ونحو ذلك مما لا يحيط أحد بمعرفة معناه ولا يعلم السبب الذي اقتضاه فإن الواجب أن نرد ذلك إلى أصله ونقول إن جميعه فعل من ثبت الدليل على حكمته وعدله وتنزهه عن العيب في شيء من فعله.

وليس عدم علمنا بأسباب هذه الأفعال مع اعتقادنا في الجملة أنها مطابقة للحكمة والصلاح بضار لنا ولا قادح في صحة أصولنا لأنا لم نكلف أكثر من العلم بالأصل وفي هذا كفاية لمن كان له عقل.

٣٦٩

وهكذا أيضا يجري الأمر في الجواب إن توجه إلينا السؤال عن سبب قعود أمير المؤمنين عليهم السلام عن محاربة أبي بكر وعمر وعثمان ولم يقعد عن محاربة من بعدهم من الفرق الثلاث (١) والأصل في هذا كله واحد وما ذكرناه فيه كاف للمسترشد.

فإن قال السائل لنا جميع ما ذكرته من أفعال الله عزوجل فلا شبهة في أنه أعرف بالمصالح فيها وأن الخلق لا يعلمون جميع منافعهم ولا يهتدون إليها.

وأما النبي عليهم السلام وما جرى من أمره عام الحديبية فإنه علم المصلحة في ذلك بالوحي من الله سبحانه.

فمن أين لإمامكم علم المصلحة في ذلك وهو لا يوحى إليه؟

قيل له إن كان إمامنا عليهم السلام إماما فهو معهود إليه قد نص له على جميع ما يجب تعويله عليه وأخذ ذلك وأمثاله عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولنا مذهب في الإمام وعندنا أن الإمام عليهم السلام يصح أن يلهم من المصالح والأحكام ما يكون هو المخصوص به دون الأنام.

ثم نتبرع بعد ما ذكرناه بذكر السبب الذي تقدم فيه السؤال وإن كان غير لازم لنا في الجواب.

فنقول إن السبب في غيبة الإمام عليهم السلام إخافة الظالمين له وطلبهم بسفك دمه وإعلام الله أنه متى أبدى شخصه لهم قتلوه ومتى قدروا عليه أهلكوه فحصل ممنوعا من التصرف فيما جعل إليه من شرع الإسلام وهذه الأمور التي هي مردودة إليه ومعول في تدبيرها عليه فإنما يلزمه القيام بها بشرط وجود التمكن والقدرة وعدم المنع والحيلولة وإزالة المخافة على النفس والمهجة فمتى لم يكن ذلك فالتقية واجبة والغيبة عند الأسباب الملجئة إليها لازمة لأن التحرز من المضار واجب عقلا وسمعا وقد استتر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غار حراء ولم يكن لذلك سبب غير المخافة من الأعداء.

_________________

(١) وهم الناكثون من أهل البصرة والقاسطون معاوية وأصحابه ، والمارقون هم أصحاب النهروان أي الخوارج.

٣٧٠

فإن قال السائل إن استتار النبي عليهم السلام كان مقدارا يسيرا لم يمتد به الزمان وغيبة صاحبكم قد تطاولت بها الأعوام.

قيل له ليس القصر والطول في الزمان يفرق في هذا المكان لأن الغيبتين جميعا سببهما واحد وهي المخافة من الأعداء فهما في الحكم سواء وإنما قصر زمان إحداها القصر مدة المخافة فيها وطول زمان الأخرى لطول زمان المخافة ولو ضادت إحداهما الحكمة وأبطلت الاحتجاج لكانت كذلك الأخرى.

فإن قال فالأظهر إبداء شخصه وإقام الحجة على مخالفيه وإن أدى إلى قتله.

قيل لهم إن الحجة في تثبيت إمامته قائمة في الأمة والدلالة على إمامته موجودة ممكنة والنصوص من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن الأئمة على غيبته مأثورة متصلة فلم يبق بعد ذلك أكثر من مطالبة الخصم لنا بظهوره ليقتل فهذا غير جائز وقد قال الله سبحانه (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) البقرة : ١٦٥

وقال موسى عليهم السلام (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) الشعراء : ٢١.

فإن قال السائل إن في ظهوره تأكيدا لإقامة الحجة وكشفا لما يعترض أكثر الناس في أمره من الشبهة فالأوجب ظهوره وإن قتل لهذه العلة.

قيل له قد قلنا في النهي عن التغرير بالنفس ما فيه كفاية ونحن نأتي بعد ذلك بزيادة فنقول إنه ليس كلما نرى فيه تأكيدا لإقامة الحجة فإن فعله واجب ما لم يكن فيه لطف ومصلحة ألا ترى أن قائلا قال لم لم يعاجل الله تعالى العصاة بالعقاب والنقمة ويظهر آياته للناس في كل يوم وليلة حتى يكون ذلك آكد في إقامته عليهم الحجة أليس كان جوابنا له مثل ما أجبنا في ظهور صاحب الغيبة من أن ذلك لا يلزم ما لم يفارق وجها معلوما من المصلحة.

وعندنا أن الله سبحانه لم يمنعه من الظهور وإن قتل إلا وقد علم أن مصلحة المكلفين مقصورة على كونه إماما لهم بعينه وأن لا يقوم غيره فيها

٣٧١

مقامه فكذلك أمره بالاستتار في المدة التي علم أنه متى ظهر فيها قتله الفجار.

فإن الخصم هلا أظهره الله تعالى وأرسل معه ملائكة تبيد كل من أراده بسوء وتهلك من قصده بمكروه؟

قيل له قد سألت الملحدة عن مثل هذا السؤال في إرسال الأنبياء عليهم السلام فقالوا لم لم يبعث الله تعالى معهم من الأملاك من يصد عنهم كل سوء يقصدهم به العباد فكان الجواب لهم أن المصالح ليست واقعة بحسب تقدير الخلائق ... (١) وإنما هي بحسب المعلوم عند الله عزوجل وبعد فإن اصطلام الله تعالى للعاصين ومعاجلته بإهلاك سائر الظالمين قاطع لنظام التكليف وربما اقتضى ذلك عموم الجماعة بالهلاك كما كان في الأمم السابقة في الزمان.

وهو أيضا مانع للقادرين من النظر في زمان الغيبة المؤدي إلى المعرفة والإجابة فقد يصح أن يكون فيهم ومنهم في هذه المدة من ينظر فيعرف الحق ويعتقده أو يكون فيهم معاندون مقرون قد علم الله سبحانه أنهم إن بقوا كان من نسلهم ذرية صالحة فلا يجوز أن يحرمها الوجود بإعدامهم في مقتضى الحكمة وليس العاصون في كل زمان هذا حكمهم وربما علم ضد ذلك منهم فاقتضت الحكمة إهلاكهم كما كان في زمن نوح عليهم السلام حيث قال (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) نوح : ٢٦ : ٢٧.

فإن قال السائل إن آباءه عليهم السلام قد كانوا أيضا في زمان مخافة وأوقات صعبة فلم لم يستتروا وما الفرق بينهم وبينه في هذا الأمر؟

قيل له إن خوف إمامنا عليهم السلام أعظم من خوف آبائه وأكثر والسبب في ذلك أنه لم يرو عن أحد من آبائه عليهم السلام أنه يقوم بالسيف ويكسر تيجان

_________________

(١) هناك عدة كلمات غير واضحة المعنى.

(٢) الاصطلام الإهلاك.

٣٧٢

الملوك ولا يبقى لأحد دولة سواه ويجعل الدين كله لله فكان الخوف المتوجه إليه بحسب ما يعتقد من ذلك فيه وتطلعت نفوس الأعداء إليه وتتبعت الملوك أخباره الدالة عليه ولم ينسب إلى أحد من آبائه شيء من هذه الأحوال فهذا فرق واضح بين المخافتين.

ثم نقول بعد ذلك إن من اطلع في الأخبار وسبر السير والآثار علم أن مخافة صاحبنا عليهم السلام كانت منذ وقت مخافة أبيه صلى الله عليه وآله وسلم بل كان الخوف عليه قبل ذلك في حال حمله وولادته ومن ذا الذي خفي عليه من أهل العلم ما فعله سلطان ذلك الزمان مع أبيه وتتبعه لأخباره وطرحه العيون عليه انتظارا لما يكون من أمره وخوفا مما روت الشيعة أنه يكون من نسله إلى أن أخفى الله تعالى الحمل بالإمام عليهم السلام وستر أبوه صلى الله عليه وآله وسلم ولادته إلا عمن اختصه من الناس ثم كان بعد موت أبيه وخروجه للصلاة ومضى عمه جعفر (١) ساعيا إلى المعتمد (٢) ما كان حتى هجم على داره وأخذ ما كان بها من أثاثه ورحله واعتقل جميع نسائه وأهله وسأل أمه عنه فلم تعترف به وأودعها عند قاضي الوقت المعروف بابن أبي الشوارب (٣) ولم يزل الميراث معزولا سنتين ثم ما كان بعد ذلك من الأمور المشهورة التي يعرفها من اطلع في الأخبار المأثورة. وهذه كلها من أسباب المخاوف التي نشأت بنشوء الرجل الخائف ثم بترادف الزمان لعظم ذكره على لسان المؤالف والمخالف.

ومع ذلك فإن النصوص قد نطقت بذكر مخافته كما تضمنت نعت استتاره وغيبته منها ما هو مجمل ومنها ما هو مفصل.

فروي عن أمير المؤمنين عليهم السلام أنه ذكر المهدي صلى الله عليه وآله وسلم فقال :

_________________

(١) هو جعفر بن الإمام علي الهادي المعروف عند الشيعة بجعفر الكذاب ادّعى الإمامة ثمّ بطل أمره.

(٢) هو الخليفة المعتمد على اللّه من ملوك بني العباس.

(٣) هو أحمد بن محمّد بن عبد اللّه الأموي قاضي بغداد من عهد المتوكل إلى زمن المقتدر توفّي سنة ٣٠٧ ه.

٣٧٣

صاحب الأمر هو الشريد الطريد الفريد الوحيد (١)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم :

اللهم إنك لا تخلي الأرض من حجة لك على خلقك ظاهرا موجودا أو خائفا مغمورا كي لا تبطل حججك وبيناتك. (٢)

ومن ذلك قول الإمام الصادق عليهم السلام وقد ذكر عنده المهدي صلى الله عليه وآله وسلم فقال

إن للغلام غيبة قبل أن يقوم فقال له زرارة ولم قال يخاف على نفسه (٣)

وقول أبيه الباقر عليهم السلام :

في صاحب هذا الأمر أربع سنن من أربعة أنبياء سنة من موسى عليهم السلام وسنة من عيسى وسنة من يوسف وسنة من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى جميع الأنبياء فأما موسى فخائف وأما عيسى فيقال مات ويقال لم يمت وأما يوسف فالغيبة عن أهله بحيث لا يعرفهم ولا يعرفونه وأما محمد صلى الله عليه وآله وسلم فالسيف وفيما أوردناه مقنع والحمد لله.

فصل من مسائل الفقه المستطرفة

مسألة امرأة طلقها زوجها ومضت في عدتها حتى قاربت النصف فلما انتهت إلى ذلك وجب عليها استئناف العدة من أولها من غير أن تكون أخلت فيما مضى بشيء من حدودها

_________________

(١) رواه الصدوق في إكمال الدين صلى الله عليه وآله وسلم ٢٩٨ يسنده عن حنان بن السدير عن عليّ بن الحرد وعن الأصبغ عن علي صلى الله عليه وآله وسلم ٢٤١.

(٢) تجد هذا الحديث مرويا في إكمال الدين للصدوق من أكثر من عشرة طرق انظر صلى الله عليه وآله وسلم ٢٨٤ = ٢٨٨.

(٣) رواه الصدوق في إكمال الدين صلى الله عليه وآله وسلم ٣٣٢ بسنده عن عبد الدين بكر عن رزادة ، وذكر القائم بدل الغلام.

(٤) رواه الصدوق في الكتاب المذكور صلى الله عليه وآله وسلم ٣١ ٧. يسنده عن أبي بصير وكذلك في صلى الله عليه وآله وسلم ٣٢٠ بسنده عن أبي بصير أيضا باختلاف في بعض ألفاظه.

٣٧٤

الجواب هذه جارية لم تبلغ المحيض ومثلها في السن من تحيض طلقها زوجها فوجبت العدة بالشهور عليها فلما مضت في عدتها قريب الشهر ونصف حاضت فوجب عليها إلغاء ما مضى واستئناف العدة بالحيض.

وفي هذه من العامة خلاف ووفاق.

مسألة امرأة طلقها زوجها فوجبت عليها العدة أياما معلومة فعمد إنسان إلى طاعة الله تعالى ففعلها فوجب على المرأة عند فعل الطاعة من العدة في الأيام مثل ما كان لزمها.

الجواب هذه امرأة طلقها زوج كان لها فحاضت حيضين في شهر واحد فلما كان قبل تقضي الشهر بيوم أو يومين قبل أن تطهر من الحيضة الثانية أعتقها مولاها فوجب عليها عدة الحرة ثلاثة قروء فلم تستوف ذلك حتى كملت ثلاثة أشهر.

وفي هذا الجواب خلاف من بعض العامة أيضا.

مسألة أخرى رجل تزوج امرأة على مهر غير موزون ولا مكيل ولا ممسوح ولا هو جسم ولا جوهر ولا شيء من الأموال والعروض فتم نكاحه بذلك وكان مصيبا.

جواب هذا العاقد على سورة أو آية من كتاب الله تعالى.

والشيعة مجمعة على هذا وبعض العامة يوافق عليه.

مسألة امرأة أجنبية من رجل قالت قولا حل له به فرجها من غير مهر ولا أجر ولا عقد أكثر مما تقدم منها من القول.

جواب هذه المرأة التي (وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) صلى الله عليه وآله وسلم فنزل القرآن بقصتها وتحليلها له وتحريم ذلك على غيره وجعلها الله سبحانه خالصة له من دون المؤمنين. (١)

_________________

(١) مصدره من الآية ٥٠ من سورة الأحزاب ، وهو قوله سبحانه :«وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ».

٣٧٥

وليس في هذا الجواب خلاف بين المسلمين.

مسألة امرأة عدتها ساعة من الزمان.

جواب هذه امرأة حامل فولدت بعد ساعة من الطلاق والقول في ذلك أيضا إجماع.

مسألة تزوج رجل امرأة على ألف درهم ثم طلقها فوجب له عليها ألف وخمسمائة درهم.

جواب هذه المرأة قبضت من زوجها جميع مهرها وهو ألف درهم ثم أشهدت على نفسها بعد قبضها له أنه صدقة عليه فلما عرف الرجل ذلك طلقها قبل أن يدخل بها فوجب عليها الألف درهم بالصدقة وخمسمائة درهم نصف ما فرضه لها من الصداق وهذا أيضا جواب عليه الاتفاق.

فصل من كلام أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله وسلم في ذكر النساء

إياك ومشاورة النساء إلا من جربت بكمال عقلها فإن رأيهن يجر إلى الأفن (١) وعزمهن إلى وهن وقصر عليهن أجنحتهن فهو خير لهن وليس خروجهن بأشد عليك من دخول من لا يوثق به عليهن وإن استطعت أن لا يعرفن غيرك وافعل.

لا تملك المرأة أمرها ما يجاوز نفسها فإن ذلك أنعم لبالها وبالك وإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة ولا تطعها أن تشفع لغيرها ولا تطيلن الخلوة مع النساء فيملنك وتملهن واستبق من نفسك بقية.

وإياك والتغاير في غير موضع غيره فإن ذلك يدعو الصحيحة إلى السقم وإن رأيت منهن ريبة فعجل النكير وأقل الغضب عليهن إلا في عيب أو ذنب.

وقال :

_________________

(١) الأفن ضعف العقل.

٣٧٦

لا تطيعوا النساء على حال ولا تأمنوهن على مال ولا تثقوا بهن في الفعال فإنهن لا عهد لهن عند عامدهن ولا ورع عند حاجتهن ولا دين لهن عند شهوتهن يحفظن الشر وينسين الخير فالطفوا لهن على كل حال لعلهن يحسن الفعال. (١)

فصل مما روي عن المتقدمين في ذكر النساء

قيل لسقراط ما تقول في النساء؟

فقال ما استرعين شيئا قط إلا ضاع ولا قدرن على شيء وكففن عنه

وقيل له كيف يجوز أن تذم النساء ولو لا هن لم تكن أنت ولا أمثالك من الحكماء؟

فقال إنما مثل المرأة كمثل النخلة ذات السلا إن دخل يد الإنسان فيه عقره وحملها الرطب الجني.

وقيل له كيف تصبر عن النساء وطيبهن؟

فقال هن كالعسل أديف فيه سم قاتل فمن أكله استلذ به ساعة أكله وفيه هلاكه إلى الأبد.

ونظر بعض الحكماء إلى امرأة معلقة في شجرة فوقف تحتها يبكي فقال له بعض تلامذته أيها الحكيم تبكي لهذه البائسة؟

فقال والله ما بكائي رحمة مني لها

قيل له فمم بكاؤك؟

قال أسفا مني كيف لا أرى كل الشجر يحمل من هذا الثمر.

وقال ديوجانس لبعض تلامذته وقد نظر إلى امرأة حسناء متبرجة في طريقه تنحوا عن هذا الفخ الذي قد نصب نفسه لهلاك الخلق.

_________________

(١) هذا من وصايا الإمام (عليهم السلام) لولده الحسن (عليهم السلام) وهو مذكور في نهج البلاغة.

(٢) هو شوك النخل.

٣٧٧

وقيل لسقراط لم لا تتزوج؟

فقال إن كان ولا بد فعلى الصفة التي أصفها لكم.

قالوا صف فلم يترك شيئا من السماجة والقباحة إلا وصفه.

فقيل له أيها الحكيم لقد ناقضت أولي الألباب في صفتك.

فقال ألستم تعلمون أنه شر فشر صغير خير من شر كبير.

ونظر آخر إلى امرأة تحمل نارا فقال الحامل شر من المحمول.

ونظر إلى امرأة تعلم الكتابة فقال أفعى يزداد سما.

وبنى رجل دارا وكتب على بابها لا يدخل شيء من الشر فقيل له فامرأتك من أين تدخل.

ونظر بعض الحكماء إلى تلميذ له ينظر إلى امرأة حسناء فقال له احذر أن تقيدك بشركها فتهلك.

فقال التلميذ إنما أنظر إلى آثار حكمة الصانع فيها.

فقال له انظر إلى آثار حكم الصانع فيما لا تشتهيه نفسك أسلم لك.

فصل من ذكر المرضى والعيادة

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

الحمى تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد.

وقال الصادق عليهم السلام :

ساعات الآلام يذهبن بساعات الخطايا.

وقال عليهم السلام :

إن العبد إذا مرض أوحى الله تعالى إلى كاتب الشمال :

لا تكتب على عبدي خطيئة ما دام في حبسي ووثاقي إلى أن أطلقه وأوحى إلى كاتب اليمين أن اجعل أنين عبدي حسنات.

٣٧٨

وروي أن نبيا من الأنبياء مر برجل قد جهده البلاء فقال :

يا رب أما ترحم هذا مما به فأوحى الله إليه :

كيف أرحمه مما به أرحمه.

وروي أنه لما نزلت هذه الآية

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) سورة النساء : ١٢٣

فقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا رسول الله جاءت قاصمة الظهر.

فقال عليهم السلام كلا أما تحزن أما تمرض أما تصيبك اللأواء (١) والهموم؟؟؟

قال بلى قال فذلك مما يجزى به.

وروى جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :

عائد المريض يخوض في البركة فإذا جلس انغمس فيها

وقال عليهم السلام :

إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل فإن ذلك لا يرد شيئا وهو يطبب النفس

أنشد لبعضهم

حق العيادة يوم بين يومين

وجلسة لك مثل الطرف بالعين

لا تبرمن مريضا في مسائله

يكفيك تسأله من ذا بحرفين (٢)

فصل من خطبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذكر الموت والوعظ

يا أيها الناس كأن الموت على غيركم كتب وكأن الحق على غيركم وجب وكأن الذي نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبؤهم أجداثهم ونأكل تراثهم كأنا مخلدون بعدهم قد نسينا كل واعظ وأمنا كل جائحة طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب غيره وأنفق ما اكتسب في غير معصية

_________________

(١) الشدة وضيق المعيشة ، ويطلق ويراد به القحط.

(٢) في النسخة : هكذا يكفيك من ذاك تسأله بحرفين ، وهو لا يستقيم وزنا وهو خطأ من الناسخ.

٣٧٩

ورحم أهل الضعف والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة طوبى لمن أذل نفسه وحسنت خليقته وصلحت سريرته وعزل عن غيره شره وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله ووسعته السنة ولم يدعها إلى البدعة. (١)

فصل مما روي في القبور والدفائن

وجد على قبر مكتوبا :

قهرنا الأعداء وبنينا الحصون والدفائن واقتصرنا على ما ترون.

ووجد على آخر مكتوبا :

الدنيا فانية والآخرة باقية والناظر إلينا لاحق بنا.

ذكروا أنهم رأوا على قبر أبي نواس هذه الأبيات وهن لأبي العتاهية

وعظتك أجداث صمت

ونعتك أزمنة خفت

وتكلمت عن أعين تبلى

وعن صور سبت

وارتك قبرك في القبور

وأنت حي لم تمت

وروى أنس بن مالك قال أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال كان تحت الجدار الذي ذكره الله تعالى في كتابه :

(وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) الكهف : ٨٢.

لوح من ذهب مكتوب فيه (بسم الله الرحمن الرحيم) عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح وعجبا لمن أيقن بالقدر كيف يحزن وعجبا لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن قلبه إليها لا إله إلا الله (٢)

وروي عن ابن عباس رحمه‌الله في حديث ذكر فيه إتيان رجل جهني إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإسلامه على يده وأنهم تحدثوا يوما في ذكر القبور والجهني حاضر فحدثهم أن جهينة بن القوصان أخبره عن أشياخه أن سنة

_________________

(١) تجده هذه الخطبة في تحف العقول ، وفي أعلام النبوّة للماوردي مختصرا.

(٢) رواه الطبرسيّ في مشكاة الأنوار صلى الله عليه وآله وسلم ٢٧٣ عن الإمام الرضا (عليهم السلام).

(٣) أي سنة مجدية

٣٨٠