كنز الفوائد - ج ١

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي

كنز الفوائد - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي


المحقق: الشيخ عبدالله نعمه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩١
الجزء ١ الجزء ٢

ورابعها أن يكون هو التنور المعهود للخبز وكان في دار نوح عليهم السلام فجعل فوران الماء منه علما له عليهم السلام على نزول العذاب.

فأما قوله (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) فقد قيل من كل ذكر وأنثى اثنين وكل واحد من الذكر والأنثى زوج.

وقال آخرون من كل ضربين اثنين.

وقيل أيضا من كل لونين اثنين.

ومعنى (مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) أي من أخبر الله تعالى بعذابه وحلول الهلاك به والله أعلم بمراده.

فصل :

من التوراة في ذكر الفلك :

قال الله تعالى لنوح عليهم السلام فاصطنع أنت فلكا من خشب الصنوبر واصنع الفلك أدوارا وأطله من داخل وخارج بقار واجعل طول الفلك ثلاثمائة ذراع وعرضه خمسين ذراعا وارتفاعه ثلاثين ذراعا واصطنع في الفلك كوى واصطنع بابه من جنبه واجعل الفلك أثلاثا الأسفل والأوسط والأعلى وسأرسل الطوفان على الأرض ليفسد كل شيء فيه روح من تحت السماء وكل ما في الأرض وأوثقك بميثاقي وادخل الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك ومن كل شيء من اللجم فادخل اثنين اثنين معك.

رسالة كتبتها إلى بعض الإخوان تتضمن كلاما في وجوب الإمامة

(بسم الله الرحمن الرحيم)

الحمد لله ذي الفضل والإحسان الهادي إلى الحق بواضح البرهان وصلواته على سيدنا محمد نبيه المبعوث للبيان وعلى آله الطاهرين أئمة الأزمان.

٣٢١

قد وقفت أيها الأخ الفاضل أدام الله لك التأييد وأوصلك بالتوفيق والتسديد من رغبتك في الاستدلال وحرصك على دفع شبه أهل الضلال على ما أوجب علي حسن مساعدتك وإجابتك عما تلتمسه عند مساءلتك لما بيننا من الإيمان وما يتعين من ذلك على الإخوان.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم. (١)

وقد فهمت السؤال الذي أرسلت وأنا أجيب عنه بما يحضرني حسبما طلبت إن شاء الله تعالى وبه أستعين.

السؤال ذكرت أيدك الله أن أحد المخالفين قال إذا كان الله تعالى قد قال :

(ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الانعام : ٣٨.

وكانت الأمة مجتمعة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بلغ الرسالة إلى الكافة وأدى فيها الأمانة وبين لجميع الأمة فما الحاجة بعد ذلك إلى إمام.

الجواب

فأقول والله الموفق للصواب :

إن الكتاب وإن كان الله تعالى لم يفرط فيه من شيء فإن الأمة لم تستغن به عن تفسير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعانيه وتنبيهه لمراد الله تعالى فيه ولا علمت بسماع تلاوته جميع أحكام الله تعالى في شرائعه بل مفتقرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الإيضاح والبيان معتمدة عليه في السؤال عن معاني القرآن وهو نبيها مؤيد معصوم كامل العلوم يرشد ضالتها ويعلم جاهلها ويجيب سائلها وينبه غافلها ويزيل الاختلاف من بينها ويفقهها (٢) على معالم

_________________

(١) انظر : تحف العقول صلى الله عليه وآله وسلم ٣٠ رواه ما عدا فقرة : (ويجير عليهم أقصاهم)

(٢) هكذا وردت في النسخة ، والأولى : ويوقفها على معالم دينها.

٣٢٢

دينها بقول متفق وأمر متسق وقد علم أن الآتين من أمته بعده مكلفون من شرعه نظيرنا كأنه من كان في وقته.

فوجب في العدل والحكمة إزاحة علل أهل كل زمان لمن يقوم فيه ذلك المقام يفزع إليه في النازلات ويعول عليه عند المشكلات تكون النفس ساكنة إلى طهارته وعصمته واثقة بكمال علمه ووفادته وليس ما تضمنه السؤال من أن النبي عليه وآله السلام قد بلغ الكافة وبين للامة بقادح في هذا الاستدلال لأنه عليهم السلام بين لهم شرعه على الحد الذي أمر به فعين لهم على بعضه بالمشافهة ودلهم منه على الجملة الباقية بالإشارة إلى من خصه الله بعلمها واستحفظه إياها وجعله الخليفة على الأمة بعده في تبليغها حسبما تقتضيه مصالحها في تكليفها في أخبار تواترت على ألسنتها منها قوله :

أنا مدينة العلم وعلي بابها

فكان ما خصه به من تفصيل ما أجمل لهم بحسب ما كلفه من التبليغ دونهم على أنه لو ماثلهم في جميع التكليف لم يلزم اشتراكهم في الإبانة على التفصيل وإنما الواجب عموم المكلفين بالتمليك من الأدلة التي بها تثبت الحجة وتدرك المحجة.

والإمام عندنا أحد الدليلين على الحق من الشريعة فإذا أودعه الذي استخلفه عليهم تفصيل كثير مما أجمل لهم ونص على عينه ومكن منه فقد أزاح عللهم ولم يخرج ذلك عن القول بأنه بلغهم وبين لهم ولا دفع ما قدمناه من وجوب الحاجة إلى إمام يرجعون إليه فيما كلفهم.

ووجه آخر :

لو فرضنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد شمل جميع الأمة بالإبانة على سبيل التفصيل والجملة ولم يخص أحدا منهم ولا أخفى شيئا عنهم لم تسقط مع ذلك الإمامة ولا جاز خلو زمان من حجة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم أهل عصره وبين

٣٢٣

لمن كان في وقته ودهره وكانت أحوالهم مختلفة وأسباب اختلافها معهودة معروفة.

فمنهم الذكي الرشيد والبطيء البليد والمحب للعلم مع شغله بدنياه والمنقطع إلى العمل والزهد دون ما سواه والمتوفر على العلم المواظب عليه والمتضجر منه الزاهد فيه والمجتهد في الحفظ مع كثرة نسيانه والمعتمد يعتبر ما يسعه (١) إيمانه.

هذا مع عدم العصمة عنهم وجواز الغلط منهم ولذلك حصل الاختلاف بينهم وتضادت رواياتهم ووقع في الحيرة العظمى من عول في دينه عليهم.

ولم يكن الله سبحانه ليلجئ عباده بعد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى غير حفظة لما استودعوه ولا منفقين فيما رووه ونقلوه.

ولسنا نجد علما على يد بعضهم يستدل به على أمانتهم وصدقهم ولا عصمة لهم يؤمن معها من تحريفهم أو غلطهم.

هذا مع ما نعلم من عدمهم أكثر النصوص في الأحكام والتجائهم بعدمها إلى الاجتهاد والقياس والأخذ في الدين بالظن والرأي الموقع بينهم الاختلاف والمانع من الاتفاق والائتلاف.

فعلمنا أن الله سبحانه قد أزاح علل المكلفين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الطاهرين بالأئمة الراشدين الهداة المعصومين الذين أمر الله تعالى بالرد إليهم والتعويل عليهم فقال عز من قائل :

(وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) النساء : ٨٣.

وقال النبي ص :

_________________

(١) في النسخة يسمعه.

(٢) يريد بقوله (من عدمهم) عدم إحاطتهم بأكثر النصوص.

٣٢٤

إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي. (١)

ووجه آخر :

ولو قدرنا أن الأمة قد سمعت جميع علوم الشريعة فوعت وأحاطت بتفاصيل أحكامها وحفظت واتفقت فيما روت ونقلت وسقطت معرة الاختلاف عنها واستقر الاتفاق منها لم يغن ذلك عن الأئمة ولا جاز عدمهم على ما يقتضيه العدل والحكمة لأن الأمة على كل حال يجوز عليها الشك والنسيان ويمكن منها الجحد والكتمان.

وعلى ذلك حجج يجدها من أنعم الاستدلال لو لا الغرض في ترك الإطالة لأوردنا طرفا منها في هذا الجواب.

وللمسئول أن يبني جوابه على أصله المستقر عنده على قوله إلى أن ينقل الكلام إليه فتكون المنازعة فيه.

وإذا جاز على الأمة ما ذكرناه لم يكن حفظها واتفاقها الذي قدرناه بمؤمن من وقوع ما هو جائز عليها وحصول ما هو متوهم منها.

وفي جواز ذلك مع عدم الأئمة جواز سقوط الحجة عن الأمة إذ لا معقل يدرك منه الصواب يكون حافظا للشرع والكتاب.

وفي هذا أوضح البيان عن وجوب الحاجة إلى الإمام في كل زمان.

وجه آخر :

ولو أضفنا إلى ما فرضناه وقدرنا وجوده وتوهمناه من سماع الأمة لجميع تفاصيل الأحكام وإيرادها على اتفاق ونظام نفي جواز الشك

_________________

(١) هو مرويّ على اختلاف في بعض ألفاظ في صحيح الترمذي ومسلم ومستدرك الصحيحين ومسند أحمد وغيرهم الكثيرين انظر : فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٢ صلى الله عليه وآله وسلم ٤٣ = ٥٢.

(٢) في النسخة يكن. ولا موجب لجزمها.

(٣) في العبارة قلق واضطراب.

٣٢٥

والنسيان عنها وإحالة الجحد والكتمان منها لم يغن ذلك عن إمام في كل زمان حسبما يشهد به الدليل العقلي والبرهان.

وذلك أنا وجدنا اختلاف طبائع الناس وشهواتهم وتباين هممهم وإرادتهم وميل جميعهم في الجملة إلى الرئاسة ومحبتهم لنفوذ الأمر ووجوب الطاعة ورغبتهم في حرز الأموال وتطلعهم إلى نيل الآمال وارتكاب أكثرهم للمقبحات وتسرعهم إلى ما يقدرون عليه من الشهوات مع وكيد تحاسدهم وشديد تظالمهم الذي لا ينكره إلا من دفع الضرورات وأنكر المشاهدات يقضي ذلك في العقول عند ذوي التحصيل بأن صلاح أحوالهم وانتظام أمورهم وحراسة أنفسهم وأموالهم لا يتم إلا بوجود رئيس لهم ومتقدم عليهم يكون مسددا فيما يمضيه من تدبيرهم موفقا للصواب فيما يراه لهم وعليهم يقيم بهيبته عوجهم ويرد بيده أودهم ويجمع برأيه متشتتهم ويقهر بتمكنه معاندهم ويمنع القوي من الضعيف ويسوسهم بالسوط والسيف.

وفي عدم الرئيس وهم على ما ذكرناه فساد أحوالهم وانقطاع نظامهم وحصول الهرج منهم ووجود الحيرة والفتنة بينهم التي هي سبب تلافهم وهلاك أنفسهم.

وهذا أمر يعلم العقلاء صحته ممن أقر بالشرع وجحده قال الأفوه الأودي وكان جاهليا : (١)

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

وإذا كان الله تعالى إنما خلق خلقه لنفعهم وأحياهم لصلاحهم ومراشدهم فإنه في عدله وحكمته ورأفته ورحمته لم يخلهم في كل زمان من رئيس يكون لهم وإمام في الدين والدنيا عليهم.

_________________

(١) هو صلاءة بن عمرو بن مالك الأودي من بني أود ، والأفوه لقب كان له ، وهو من سادات العرب في الجاهلية المعروفين بالرأي والحزم ، ومن الشعراء المشاهير ، وكان فارسا مغوارا توفي سنة (٥٧٠ م) وفي شعره فكر وحياة.

٣٢٦

ووجه آخر :

ولو رفعنا الدليل العقلي الذي أوردناه مع تسليم ما ذكرناه وقدمناه لم يدفع ذلك وجوب الحاجة إلى الإمام ولا جاز معه أن تعدمه الأنام.

لأن الأمة مجمعة على أن في الشريعة أحكاما تفتقر إلى من ينفذها وحدودا على الجناة تحتاج إلى من يتولاها.

وهي مقرة بأن الله تعالى ما جعل ذلك لها وأنه لا يسع ولا يجوز إهمالها وتركها فوجب أن يكون للناس إمام في كل زمان ينفذ الأحكام ويقيم حدود شريعة الإسلام حافظا للبيضة من الكفار دافعا عن المسلمين أسباب الأذى والمضار يسير فيهم بالهدى والصواب لا يتعدى ما يوجبه العقل والكتاب والحمد لله قد أوردت لك أيها الأخ الفاضل أدام الله توفيقك ما حضرني من وجوه الأجوبة عن هذا السؤال وفي بعضه كفاية وبيان لمن أراد الاستدلال والحمد لله وصلواته على سيدنا محمد رسوله وآله وسلامه وحسبي (اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).

فصل من الحديث :

حدثنا الشيخ أبو الحسن بن أحمد بن علي بن شاذان القمي قال حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الدين عباس قال حدثنا محمد بن عمر قال حدثنا الحسن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن العباس الرازي قال حدثني علي بن موسى الرضا عن أبيه موسى عن أبيه جعفر عن أبيه محمد عن أبيه علي عن أبيه الحسين عن أبيه أمير المؤمنين عليهم السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من مات وليس له إمام من ولدي مات ميتة جاهلية يؤخذ بما عمل في الجاهلية والإسلام. (١)

_________________

(١) روى هذا الحديث الصدوق القمّيّ في كتاب عيون خبار الرضا ج ٢ صلى الله عليه وآله وسلم ٥٨. وروى البرقي في كتاب المحاسن صلى الله عليه وآله وسلم ١ ١ ٦ = ١ ١ ٧ عدة أحاديث بهذا المعنى

وصرّح الشهيد الثاني في حقائق الايمان صلى الله عليه وآله وسلم ١٦١ بأنّه من مشاهير الأحاديث بين السنة والشيعة ، وأن السنة أوردوه في كتب أصولهم وفروعهم ، وصرّح الشيخ المفيد في كتاب الإفصاح صلى الله عليه وآله وسلم ٣ بأنّه هذا الحديث متواتر ، وعن الحميدي أنّه أخرجه في الجمع بين الصحيحين ، وعن الحاكم النيسابوريّ أنّه أخرج عن ابن عمر انظر : منتخب الأثر صلى الله عليه وآله وسلم ١٥ هامش.

٣٢٧

وقال حدثني أبو المرجى محمد بن علي بن طالب البلدي قال حدثنا أبو القاسم عبد الواحد بن عبد الله بن يونس الموصلي عن أبي علي محمد بن همام بن سهل عن عبد الله بن جعفر الحميري عن الحسن بن علي بن فضال عن محمد بن أبي عمير عن أبي علي الخراساني عن عبد الكريم بن عبد الله عن مسلمة بن عطاء عن أبي عبد الله الإمام الصادق عليهم السلام قال خرج الحسين بن علي صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم على أصحابه فقال بعد الحمد لله جل وعز والصلاة على محمد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم :

يا أيها الناس إن الله [والله] ما خلق العباد إلا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه فإذا عبدوه استغنوا بعبادته من سواه.

فقال له رجل بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ما معرفة الله.

قال معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته

اعلم أنه لما كانت معرفة الله وطاعته لا ينفعان من لا يعرف الإمام ومعرفة الإمام وطاعته لا ينفعان إلا بعد معرفة الله صح أن يقال إن معرفة الله هي معرفة الإمام وطاعته.

ولما كانت أيضا المعارف الدينية العقلية والسمعية تحصل من جهة الإمام وكان الإمام آمرا بذلك وداعيا إليه صح القول إن معرفة الإمام وطاعته هي معرفة الله سبحانه كما نقول في المعرفة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وطاعته إنها معرفة بالله سبحانه قال الله عزوجل :

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ).

وما تضمنه قول الحسين عليهم السلام من تقدم المعرفة على العبادة غاية في البيان والتنبيه.

وجاء في الحديث عن طريق العامة عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :

من مات وليس في عنقه بيعة الإمام أو ليس في عنقه عهد الإمام مات ميتة جاهلية.

٣٢٨

وروى كثير منهم أنه عليهم السلام قال :

من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية.

وهذان الخبران يطابقان المعنى في قول الله تعالى :

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) الإسراء : ٧١

وقال الخصوم إن الإمام هاهنا هو الكتاب

قيل لهم هذا انصراف عن ظاهر القرآن بغير حجة توجب ذلك ولا برهان لأن ظاهر التلاوة يفيد أن الإمام في الحقيقة هو المقدم في الفعل المطاع في الأمر والنهي وليس يوصف بهذا الكتاب إلا على سبيل الاتساع والمجاز والمصير إلى الظاهر من حقيقة الكلام أولى إلا أن يدعو إلى الانصراف عنه الاضطرار.

وأيضا فإن أحد الخبرين يتضمن ذكر البيعة والعهد للإمام ونحن نعلم أنه لا بيعة للكتاب في أعناق الناس ولا معنى لأن يكون له عهد في الرقاب نعلم أن قولكم في الإمام إنه الكتاب غير صواب.

فإن قالوا ما تنكرون أن يكون الإمام المذكور في الآية هو الرسول عليهم السلام؟

قيل لهم إن الرسول عليهم السلام قد فارق الأمة بالوفاة وفي أحد الخبرين أنه إمام الزمان وهذا يقتضي أنه حي ناطق موجود في الزمان فأما من مضى بالوفاة فليس يقال إنه إمام إلا على معنى وصفنا للكتاب بأنه إمام.

ولو أن الأمر كما ذكرنا لكان إبراهيم الخليل عليهم السلام إمام زماننا لأننا عاملون بشرعه متعبدون بدينه وهذا فاسد إلا على الاستعارة والمجاز.

وظاهر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مات وهو لا يعرف إمام زمانه يدل على أن لكل زمان إماما في الحقيقة يصح أن يتوجه منه الأمر ويلزم له الاتباع وهذا واضح لمن طلب الصواب.

ومن ذلك ما أجمع عليه أهل الإسلام من قول النبي عليهم السلام :

٣٢٩

إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. (١)

فأخبر أنه ترك في الناس من عترته من لا يفارق الكتاب وجوده وحكمه وأنه لا يزال وجودهم مقرونا بوجوده.

وفي هذا دليل على أن الزمان لا يخلو من إمام.

ومنه ما اشتهر بين الرواة من قوله :

في كل خلف من أمتي عدل من أهل بيتي ينفي عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وإن أئمتكم وفودكم إلى الله فانظروا من توفدون في دينكم.

فصل حديث عن الإمام الرضا

حدثنا الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان القمي قال حدثنا أحمد بن محمد بن صالح قال حدثنا سعد بن عبد الله (٢) ، قال حدثنا أيوب بن نوح قال قال الرضا عليهم السلام :

سبعة أشياء بغير سبعة أشياء من الاستهزاء :

من استغفر بلسانه ولم يندم فقد استهزأ بنفسه.

ومن سأل الله التوفيق ولم يجتهد فقد استهزأ بنفسه.

ومن استحزم [استجاب] ولم يحذر فقد استهزأ بنفسه.

ومن سأل الله الجنة ولم يصبر على الشدائد فقد استهزأ بنفسه.

من تعوذ بالله من النار ولم يترك الشهوات فقد استهزأ بنفسه.

ومن ذكر الله ولم يستبق إلى لقائه فقد استهزأ بنفسه.

_________________

(١) قد تقدم ذكر بعض مصادره.

(٢) هو أبو القاسم سعد بن عبد اللّه بن أبي خلف الأشعري القمّيّ من شيوخ الطائفة وفقهائها له مؤلّفات كثيرة ذكرها الطوسيّ في الفهرست صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٠١ ، عده الطوسيّ في رجاله من أصحاب الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ توفّي سنة ٢٩٩ / ٣٠١ وعن الخلاصة أنّه توفّي سنة ٣٠٠ ه.

(٣) هنا كلمة غير واضحة.

٣٣٠

مسائل فقهية :

مسألة امرأة لها بعل صحيح البعولة أمكنت نفسها من رجل كامل العقل رضي الدين فوطئها من غير حرج في ذلك عليها والبعل المتقدم ذكره كاره لهذا الأمر كراهة الطباع راض به من جهة التسليم للشريعة رضا الاختيار.

جواب هذه امرأة نعي إليها زوجها فاعتدت وتزوجت رجلا مسلما فوطئها بالنكاح الشرعي حيث لا حرج عليها في ذلك لعدم علمها ببقاء زوجها ثم بلغ زوجها الأول ما فعلته فكرهه من جهة الطباع ورضي به من جهة التسليم لشرع الإسلام فهي حلال للثاني وإن كانت في عقد الأول إلى أن يحصل لها وللعاقد عليها علم ببقاء زوجها الذي نعي إليها وهذا الجواب ليس فيه بين الأمة اختلاف.

مسألة أخرى

رجلان كانا يمشيان في فيء فسقط على أحدهما جدار فقتله فحرمت على الآخر في هذه الحال زوجته.

جواب هذا رجل زوج عبده ابنته وخرجا يمشيان فسقط على المولى الجدار فصار العبد بذلك ميراثا للبنت فحرمت عليه في الحال لملكها له وعلى هذا الاتفاق.

مسألة أخرى

رجل غاب عن زوجته ثلاثة أيام فكتبت إليه الزوجة أن قد تزوجت بعدك وأنا محتاجة إلى نفقة فأنفذ إلي ما أنفقه على نفسي وعلى زوجي فوجب لها ذلك عليه ولم يكن له منه مخرج.

جواب هذه مسألة في معنى التي قبلها وهي امرأة زوجها أبوها عبدا له وأعطاه مالا وأذن له في السفر والتجارة بالمال فخرج العبد قبل أن يدخل بالجارية فلما صار على يومين من بلده مات سيده فصار ميراثا لابنته التي زوجه بها مولاه فحرمت بذلك عليه وحلت للأزواج في الحال إذ كان لا

٣٣١

عدة عليها فتزوجت رجلا ورضيت به وأنفذت إلى عبدها بأن يحمل إليها من تركة أبيها التي في يده ما تصرفه فيما تشاء فوجب ذلك عليه وليس في هذا أيضا اختلاف.

أحاديث

حدثني الشريف أبو الحسن طاهر بن موسى بن جعفر الحسين بمصر في شوال سنة سبع وأربعمائة قال أخبرنا أبو القاسم عبد الوهاب بن أحمد بن حسن الخلال إجازة قال حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد العرابي إجازة قال حدثنا الطهراني أبو الحسن وحدثني محمد بن عبيد قال حدثني أبو عبد الله الحسين بن أبي بكر قال حدثنا أبو الفضل قال حدثنا أبو علي ابن الحسن الثمار قال حدثنا أبو سعيد كلاهما عن أبي سعيد واللفظ لمحمد قال حدثنا الطهراني قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثني معمر قال حدثني الزهري قال :

أشخصني هشام بن عبد الملك من أرض الحجاز إلى الشام زائرا له فسرت فلما أتينا أرض البلقاء رأيت حبلا أسود وعليه مكتوب أحرفا لم أعلم ما هي فعجبت من ذلك ثم دخلت عمان قصبة البلقاء فسألت عن رجل يقرأ ما على القبور والجبال فأرشدت إلى شيخ كبير فعرفته ما رأيت فقال اطلب شيئا أركبه فحملته معي على راحلتي وخرجنا إلى الجبل ومعي محبرة وبياض فلما قرأه قال لي ما أعجب ما عليه بالعبرانية فنقلته إلى العربية فإذا هو :

باسمك اللهم جاء الحق من ربك (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) لا إله إلا الله محمد رسول الله وعلي ولي الله صلى الله عليه وآله وسلم وكتب موسى بن عمران بيده.

وحدثني الحسين بن محمد بن علي الصيرفي البغدادي وكان مشتهرا بالعناد لآل محمد عليهم السلام والمخالفة لهم قال حدثنا القاضي أبو بكر محمد بن عمر بن محمد التميمي المعروف بالجعابي سنة ثلاثمائة وخمسين قال حدثنا محمد بن محمد بن سليمان بن الحارث قال حدثنا أحمد بن يزيد بن سليمان قال حدثنا إسماعيل بن أبان قال حدثنا أبو مريم عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله ص :

٣٣٢

الله ربي ولا إمارة لي معه وأنا رسول ربي ولا إمارة معي وعلي ولي من كنت وليه ولا إمارة معه.

وسمعت من هذا الراوي المخالف عدة فضائل لآل محمد عليهم السلام سخره الله لنقلها فرواها راغما حجة عليه بها قد ذكرت في هذا الكتاب طرفا منها.

وحدثني أبو الحسن علي بن أحمد اللغوي المعروف بابن زكار بميافاقين في سنة تسع وتسعين وثلاثمائة قال دخلت على أبي الحسن علي بن السلماني رحمه‌الله في مرضته التي توفي فيها فسألته عن حاله فقال ألحقتني غشية أغمي علي فيها فرأيت مولاي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ بيدي وأنشأ يقول :

طوفان آل محمد

في الأرض غرق جهلها

وسفينهم حمل الذي

طلب النجاة وأهلها

فاقبض بكفك عروة

لا تخش منها فصلها

وحدثني الشريف أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين بن طاهر الحسيني قال حدثني أبي عن أبي الحسن أحمد بن محبوب قال أبا جعفر الطبري يقول حدثنا هناد بن السري قال رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فقال لي يا هناد قلت لبيك يا أمير المؤمنين قال أنشدني قول الكميت :

ويوم الدوح دوح غدير خم

أبان لنا الولاية لو أطيعا

ولكن الرجال تبايعوها

فلم أر مثلها أمرا شنيعا

قال فأنشدته فقال لي يا هناد خذ إليك فقلت هات يا سيدي فقال ع :

ولم أر مثل ذاك اليوم يوما

ولم أر مثله حقا أضيعا

وكثيرا ما أذكر قول شاعر آل محمد عليهم السلام رحمة الله عليه :

جعلوك رابعهم أبا حسن

ظلموك حق السبق والصهر

وإلى الخلافة سابقوك وما

سبقوك في أحد ولا بدر

٣٣٣

القرآن يدل على إمامة علي ع

دليل من القرآن على إمامة أمير المؤمنين عليهم السلام قال الله عزوجل.

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) المائدة : ٥٥

فقوله سبحانه (وَلِيُّكُمُ) المراد به الأولى بكم والأحق بتدبيركم والقيم بأموركم ومن تجب طاعته عليكم.

وهذا هو معنى الإمام بقوله تعالى (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ).

المراد به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام لأنه كان قد تصدق بخاتمه وهو راكع في الصلاة.

فتقدير الآية إنما المدبر لكم والمتولي لأموركم والذي تجب طاعته عليكم الله ورسوله وعلي بن أبي طالب.

وهذا نص من القرآن على إمامة أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله وسلم.

فإن قال لنا المخالفون دلوا أولا على أن قوله (وَلِيُّكُمُ) المراد به ما ذكرتم.

قلنا أما كون لفظة ولي مفيدة لما ذكرناه فظاهر ليس فيه إشكال ألا ترون الناس يقولون هذا ولي المرأة يريدون أنه المالك لتدبير أمرها في إنكاحها والعقد عليها.

ويصفون عصبة المقتول بأنهم أولياء الدم من حيث كانوا مستحقي المطالبة بالدم ويقولون إن السلطان ولي أمر الرعية أجمعين وفي من رشحه بخلافته عليهم إنه ولي عهد المسلمين.

ومن حيث كان إلى الولي النظر والتدبير قال الكميت :

ونعم ولي الأمر بعد وليه

ومنتجع التقوى ونعم المؤدب

٣٣٤

وفي الجملة إن كان من كان واليا الأمر ومتحققا بتدبيره فهو وليه وأولى به.

هذا هو المعروف في اللغة والشرع معا فيثبت به ما ذكرناه.

فإن قال المخالفون قد سلمنا لكم أن لفظة (وَلِيُّكُمُ) تحتمل ما ذكرتم ولكنها قد تحتمل أيضا سواه ويجوز أن يكون المراد بها الموالاة في الدين كقوله سبحانه.

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ). التوبة : ٧١

قلنا لهم إن هذه الآية التي ذكرتموها عامة في سائر المؤمنين والآية التي احتججنا بها لا يصح أن يكون مراد الله تعالى فيها (وَالَّذِينَ آمَنُوا) إلا البعض دون الجميع.

وذلك أنه ميز فيها من أراده من المؤمنين بصفة الزكاة في حال الركوع وجعله وليا للجميع وأنتم لا تخالفون في أن هذه الصفة خاصة في بعض المؤمنين فوجب أن يكون قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا) خاصا كذلك لأنها صفة لهم بظاهر التنزيل ولو أراد بقوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا) العموم بجميع المؤمنين لكان الإنسان وليا لنفسه وهذا لا معنى له.

وقوله في الآية (إِنَّما) شاهد بصحة التخصيص ونفي المثبت عن من سوى المذكورين وهي كقول القائل إنما صديقك من نصحك فقد نفى إنما صحة الصداقة عمن لم ينصح.

وثبوت ما ذكرناه من التخصيص في قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا) يعلم أن المراد بالولي هو المدبر للكافة والإمام القدوة.

ولو كان المراد مجرد الموالاة في الدين لبطل هذا التخصيص.

ووجه آخر في الجواب عما ذكروه وهو أن الله تعالى ذكر في الآية التي احتججنا بها أمرا بدأ فيه بنفسه ثم ثنى برسوله صلى الله عليه وآله وسلم ثم ثلث بمن ذكره من المؤمنين فوجب أن لا يصرف قوله (وَلِيُّكُمُ) إلا إلى ما هو مستحق لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وإذا كان كذلك فالذين آمنوا المذكورون في الآية يستحقون نظير ذلك

٣٣٥

بعينه وفي هذا دليل على أن المراد تولي التدبير ولزوم الطاعة والأمر والنهي في الجماعة.

فإن قال الخصوم فإذا ثبت لكم أن مراده سبحانه في الآية التي احتججتم بها من قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا) هو بعض الأمة دون جميعها وسلم لكم أيضا أن معنى قوله (وَلِيُّكُمُ) فيها هو معنى الإمامة على الصفة التي تذكرونها فما الدليل على أن أمير المؤمنين عليهم السلام هو المراد في الآية والمقصود فيها؟

قلنا الدليل على ذلك نقل أصحاب الحديث من الفريقين أنها نزلت في أمير المؤمنين عليهم السلام وأنه الذي تصدق بخاتمه على السائل وهو راكع.

ولم يخالف في ذلك إلا من نشأ من متكلمي ذي المتكلمين وليس الإنكار يقوم مقام الإقرار ولا مجرد النفي بقادح في الإثبات وإذا اتفق على رواية شيء جميع أهل النقل كان ذلك حجة على من له تمييز وعقل.

فإن قالوا كيف يصح في ذلك الاتفاق وقد روي أن الآية نزلت في عبد الله بن سلام؟

قلنا يصح لنا ذلك من حيث إن هذه رواية واحدة وأخبار الآحاد لا تزيل الاتفاق الحاصل من جملة الأخبار والقول الشاذ لا يقدح في الإجماع.

على أن الذي روي أنها نزلت في عبد الله بن سلام قد تصفحت عليه الحال وأشبهت القصة بشهادة نقاد الأخبار.

وذلك أنه لما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه قالت اليهود والله لا جالسناك ولا كلمناك ولنقطعن ولايتنا منك ومن أصحابك ولا نصرناك فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله تعالى:

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) ٥٥ ـ ٥٦.

٣٣٦

فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد فقال هل سأل سائل فأعطاه أحد شيئا قالوا نعم يا رسول الله رجل كان في المسجد يسأل فأعطاه علي عليهم السلام خاتمه وهو راكع فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله أكبر إن الله تعالى قد أنزل فيه قرآنا وتلا عليهم الآيتين ثم دعا عبد الله بن سلام وأصحابه فقال لهم قد عوضكم الله من اليهود أولياء وتلا عليهم الآيتين فظن بعضهم من أهل الغفلة أنها من أجل ذلك نزلت في عبد الله بن سلام.

ومن رجع إلى كتب التفاسير ونقل أصحاب الحديث علم أن الأمر على ما وصفناه والكاف والميم في قوله سبحانه (وَلِيُّكُمُ) خطاب لجميع الأمة حاضرهم وغائبهم وموجودهم ومن سيوجد منهم وهو كقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) وإنما حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن سلام وأصحابه وتلا عليهم الآيتين ليبشرهم بدخولهم في جملة من يكون وليهم الله ورسوله وأمير المؤمنين.

فإن قالوا إن الآية تضمنت ذكر الجميع بقوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا) فكيف يصح لكم أنها في واحد؟

قلنا لهم قد يعبر بلفظ الجمع تعظيما لشأنه ولا ينكر ذلك في اللغة بل يستعمله أهلها وقد قال الله عزوجل (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) وقال تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) : الحجر : ٩.

وقد علمنا أن الله أرسل نوحا وحده وأنه نزل الذكر وحافظه وحده ونظير ذلك كثير.

فإن قالوا ما أنكرتم أن يكون المراد بقوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا) الجميع ويكون المعني فيه أنهم المؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم في إتيانها خاشعون متواضعون لا يمنون ولا يتكبرون ويكون هذا معنى قوله (راكِعُونَ) دون ما ذهبتم إليه من أن يؤتى الزكاة في حال ركوعه؟

قلنا هذا غير صحيح لأن الركوع لا يفهم في اللغة والشرع معا إلا أنه التطأطؤ المخصوص دون التواضع والخضوع وإنما يوصف الخاضع بأنه راكع

٣٣٧

على سبيل المجاز والتشبيه قال الخليل بن أحمد (١) صاحب كتاب العين كل من ينكب لوجهه فمس ركبته الأرض أو لا تمسها راكع وأنشد للبيد :

أخبر أخبار القرون التي مضت

أدب كأني كلما قمت راكع

فإن قالوا فما تنكرون أن يكون قوله (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) وصفا لهم بإتيانهم وقوله (وَهُمْ راكِعُونَ) ليس المراد أنهم أعطوها في حال ركوعهم وإنما معناه أن الركوع من شأنهم وعاد تهم فوصفهم به وإن كانوا يفعلونه في غير وقت إعطاء الزكاة؟

قلنا أنكرنا ذلك من حيث هو خروج عن ظاهر الكلام المفيد إن الزكاة كان في حال ركوع الصلاة ولا طريق إلى الانصراف عن الظاهر مع الاختيار.

ومثل ذلك قولهم فلان يغشى إخوانه وهو راكب وظاهر هذا يدل على أنه راكب في حال غشيانه إخوانه وأن الزمان في الأمرين واحد.

وشيء آخر وهو أنا متى قلنا إن الزكاة لم تكن في حال الركوع أدى الكلام إلى التكرار لأنه وصفهم بإقام الصلاة فإذا وصفهم بعد ذلك بأنهم راكعون وهو يريد يصلون تكرر الوصف بالصلاة لأن الركوع داخل في قوله (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ).

فإن قالوا فأمير المؤمنين علي عليهم السلام لم يكن يلزمه عندكم زكاة لأنه لم يكن من ذوي اليسار.

قلنا لسنا نقطع على أن الزكاة لم تجب عليه قط وربما ملك أدنى مقادير

_________________

(١) هو الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي ولد في البصرة سنة ١ ٠٠ وتوفّي سنة ١ ٧٠ ه من أئمة اللغة والنحو والأدب والعروض وأخبار العرب ، وهو الذي اخترع علم العروض ووضع قواعده وأحكم أساسه ، وأول من صنف في علم اللغة ، ووضع كتابه (العين) ولم يتمه ، وله مؤلّفات منها : كتاب النغم ، وكتاب العروض ، وكتاب الشواهد ، وكتاب النقط والشكل ، وكتاب فائدة العين ، وكتاب الإيقاع. وكان من الزهاد المنقطعين إلى العلم. وتجد الكلام على كتابه العين في فهرست ابن النديم صلى الله عليه وآله وسلم ٦٤.

٣٣٨

النصاب وأتى وقت الزكاة وهو في يديه وليس يقال لمن ملك مأتي درهم أنه موسر لا سيما إذا اتفق له وجوب الزكاة منها وقتا واحدا.

وقد يجوز أيضا أن تكون هذه الزكاة نافلة لم تكن عليه واجبة ولا مانع أن يسمى النفل من الصدقة زكاة لأنه متناول للفرض منها في كونه إعطاء يستحق عليه النمو في الحسنات والزيادة والمثوبات فإن كان لفظ الزكاة عندكم مشتركا في النافلة من الصدقة والفريضة فقد توجه على الظاهر جوابنا وإن كان عندكم أن المستفاد من ظاهر لفظ الزكاة أنما هو المفترض منها دون ما سواه كنا ممن صرفنا عن الظاهر ورود الأخبار المجمع عليها بأن الآية نزلت في أمير المؤمنين عليهم السلام مع أنه لم تلزمه قط فريضة الزكاة فلا بد من حمل ذلك على زكاة النافلة وإلا خصصنا الأخبار.

فإن قالوا فكيف ساغ لأمير المؤمنين عليهم السلام الصدقة في حال الصلاة أوليس ذلك إبطالا لها واشتغالا بغيرها؟

قلنا أقرب ما في هذا أنا غير عالمين أن جميع الأفعال المنهي عنها اليوم في الصلاة كانت محظورة كلها في تلك الحال فيجوز أن يكون هذا قبل ورود حظر هذه الأسباب.

وقد قيل إن الكلام قد كان مباحا في الصلاة ونهي عنه بعد ذلك ولو لم يكن الأمر كذلك لم يلزم ما ذكرتموه في السؤال لأن الذي فعله أمير المؤمنين عليهم السلام لم يكن شاغلا عن القيام بحدود الصلاة بل جاز أن يكون أشار إلى السائل إشارة خفية لا يقطع بمثلها الصلاة فهم منها مراده وأخذ الخاتم من يده.

فكيف تنكرون هذا وأنتم ترون اتفاق الفقهاء على أن يسير العمل في الصلاة لا يقطعها على حال.

والذي يدل على أنه عليهم السلام لم يشتغل بالإعطاء عن استيفاء شرائط الصلاة نزول المدح له في القرآن والإضافة إلى المدح تقديمه وليا للأنام.

فإن قالوا فإذا ثبت أنه بهذه الآية إمام للخلق فما تنكرون أن يكون المراد استحقاقه لذلك بعد عثمان؟

٣٣٩

قلنا أنكرنا ذلك من قبل أن كل من ثبت له الإمامة بها يوجبها بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل حال ولا يخص بذلك حالا دون حال.

وأنكرنا ذلك من قبل أن الله تعالى ولينا ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في كل حال وقد عطف ذكر أمير المؤمنين على اسم رسول الله عليهم السلام فوجب أن يستحق ذلك أيضا في كل حال كما استحقه الرسول عليهم السلام من غير انفصال.

ولو لا قيام الدلالة على أنه ليس في وقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدوة للخلق سواه ولا إمام لكان أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله وسلم يتسحق هذا المقام مذ نزلت الآية وما اتصل من غير فاصلة بولاية ولا إهمال.

والحمد لله الهادي إلى الحق بواضح البرهان.

فصل من مستطرفات مسائل الفقه في الإنسان

مسألة اثنان تزوج كل واحد منهما أم الآخر فرزقا منهما ولدين ما قرابة بين الولدين؟

جواب كل واحد منهما عم الآخر لأنه أخو أبيه من أمه.

مسألة اثنان تزوج كل واحد منهما بنت الآخر فرزقا ولدين ما قرابة الولدين؟

جواب إن كل واحد منهما خال الآخر لأنه أخو أمه وهو أيضا ابن أخته.

مسألة اثنان تزوج كل واحد منهما أخت الآخر ورزقا منهما ولدين ما قرابة بين الولدين؟

جواب إن كل واحد منهما ابن عمة الآخر وابن خاله.

مسألة رجلان تزوج كل واحد منهما جدة الآخر لأبيه فرزقا منهما ولدين ما قرابة ما بين الولدين وبين الرجلين وما قرابة ما بين الولدين؟

جواب إن كل واحد من الولدين عم الرجل المتزوج أم أبيه لأن الرجل

٣٤٠