كنز الفوائد - ج ١

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي

كنز الفوائد - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي


المحقق: الشيخ عبدالله نعمه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩١
الجزء ١ الجزء ٢

أأزعم الغيث يحيي الأرض وابله

أم أزعم البدر قد عم الورى نورا

ما زلت ذاك وذا بالوصف منهية

ولا أتيت بفضل كان مستورا

متى صرفت إليه الشعر امدحه

شهرت من وصفه ما كان مشهورا

وظلت أتعب فيمن ليس يرفعه

مدحي وانشر فضلا كان منشورا

سارت مآثره بالفضل ظاهرة

فما ترى لمديح فيه تأثيرا

وأصبح الوصف منه لاستفاضته

كاللفظ كرر في الأسماع تكريرا

يعد جهدي تقصيرا بمدحته

ولست أرضى بجهد عد تقصيرا

وأظنه بنى على قول المتنبئ :

وتركت مدحي للوصي تعمدا

إذ كان نورا مستقلا كاملا (١)

وإذا استقل (٢) الشيء قام بنفسه

وأرى صفات الشمس تذهب باطلا

وفي هذا المعنى لأبي نواس في الرضا ع :

قيل لي لم تركت مدح ابن موسى

والخصال التي تجمعن فيه

قلت لا أهتدي لمدح إمام

كان جبريل خادما لأبيه

ولبعضهم :

لا يبلغن مدح النبي وآله

قوم إذا ما بالمدائح فاهوا

رجل يقول إذا تكلم قال لي

جبريل أخبرني بذاك الله

ومن مليح ما وجدته لابن الرومي :

لي أحمدان لدنياي وآخرتي

ولي عليان فانظر من أعدت ولي

من خاتم الملك في الدنيا بخنصره

ومن على كتفيه خاتم الرسل

تعلقت راحتي منهم بأربعة

إن عشت أو مت للتأميل والأمل

منهم باثنين ما استسمحت يسمح لي

كما باثنين ما استشفعت يشفع لي

فللشفاعة حسبي أحمد وعلي

وللمعيشة حسي أحمد وعلي

_________________

(١) في ديوان المتني والمحفوظ هكذا : إذ كان نورا مستطيلا شاملا).

(٢) في الديوان والمحفوظ : وإذا استطال الشيء قام بنفسه وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا.

٢٨١

فصل في فضل اقتناء الكتب

قال بعض الحكماء الكتب أصداف الحكم تنشق عنها جواهر الشيم.

وقيل لآخر ما بلغ من شهوتك للكتب ورغبتك في قراءتها فقال إذا نشطت فهي لذتي وإذا اغتممت فهي سلوتي.

وقال آخر ما ورثت الأسلاف للأخلاف كنوزا أفضل من الكتب ولا حلت الآباء الأبناء حليا أجمل من الأدب.

وليم آخر على إنفاذ المال في الكتب وترك الولد بغير عقل فقال إني أعتقد لهم كتب علوم تخلص أرواحهم لأعق أموال تنعم أشباحهم.

وقيل لآخر فلان مات وما خلف لولده إلا كتبا فقال لقد خلف لهم مآثر لا تعفوها الأيام وترك لهم موارث لا تنفدها الأعوام.

وقال بعض المصنفين في فضل الكتب واقتنائها :

اعلم أن الكتاب قيد على الناس علم الدين وأخبار الأولين مع خفة محمله وصغر جثته صامت ما أسكته بليغ ما استنطقته ومن بمسامر لا يبتديك في حال شغلك ولا يدعك في أوقات نشاطك ولا يحوجك إلى التجمل له والتذمم منه.

ومن لك بزائر إن شئت جعل زيارته غبا ووروده حبا وإن شئت لزمك لزوم ظلك فكان منك مكان بعضك.

والكتاب هو الذي إذا نظرت فيه أطال إمتاعك وشحذ طباعك وبسط لسانك وجود بيانك وفخم ألفاظك وعمر صدرك ومنحك صداقة الملوك وتعظيم العوام وعرفت به في شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر.

_________________

(١) في النسخة : جسما.

٢٨٢

قال والكتاب هو الذي يطيعك بالليل كطاعته بالنهار ويطيعك في السفر كطاعته في الحضر لا يقصر عنك بنوم ولا يعتريه ملال وهو المعلم الذي إن افتقرت إليه لم يحقرك وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة وإن عدلت عنه لم يدع طاعتك وإن هب ريح أعدائك لم ينقلب عليك ومتى كنت منه متعلقا بسبب ومعتصما بحبل لم تضطرك معه وحشة الانفراد إلى الجليس السوء.

ولو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إليك إلا منعه لك من الجلوس على بابك والنظر إلى المارة بك مع ما في ذلك من التعرض للحقوق في فضول النظر وملابسة صغار الناس وحضور ألفاظهم الساقطة وأخلاقهم الردية لكان في ذلك السلامة يوم القيامة ونعم الجليس.

وقال في هذا المعنى :

والكتاب نعم الذخر والقعدة ونعم الجليس والعقدة ونعم السيرة والنزهة ونعم الشغل والحرفة ونعم الأنيس ساعة الوحدة ونعم المعرفة ببلاد الغربة ونعم القرين والدخيل ونعم الوزير والزميل والكتاب وعاء مليء علما وظرف حشي ظرفا وإناء شحن مزاحا وجدا إن شئت كان أبين من سحبان وائل (١) وإن شئت كان أعي من باقل (٢) وإن شئت ضحكت من نوادره وإن شئت عجبت من غرائب فوائده وإن شئت ألهتك نوادره وإن شئت أشحتك مواعظه.

وبعد فمتى رأيت بستانا يخمل في ردن وروضة تنقلب في حجر ينطق عن الموتى ويترجم كلام الأحياء.

ومن لك بمؤنس لا ينطق إلا بما تهوى آمن من في الأرض وأكتم للسر من صاحب السر.

_________________

(١) هو من ألسنة الجاهليين وخطباء الإسلام ويضرب فيه المثل في الفصاحة والبيان توفّي سنة (٥٤ ه) = (٦٧٣ م) وفي النسخة (من تيجان وائل).

(٢) هو بأقل بن عمرو بن ثعلبة الإيادي يضرب فيه المثل في العي والفهاهة.

٢٨٣

وقال لا أعلم جارا أبر ولا خليطا أنصف ولا رفيقا أطوع ولا معلما أخضع ولا صاحبا أظهر كفاية وأقل جناية ولا أقل ملالا وإبراما وخلافا وجزافا ولا أقل غيبة ولا أبعد من مرأى ولا أترك لشغب ولا أزهد في جدل ولا أكف عن قتال من كتاب.

ولا أعلم قرينا ولا أحسن موافاة ولا أعجل مكافاة ولا أحضر معرفة ولا أخف مئونة ولا شجرا أطول عمرا ولا أطيب ثمرا ولا أقرب مجتنى ولا أسرع إدراكا ولا أوجد في كل أوان من كتاب (١)

وأنشد بعضهم :

وإذا الهموم تضيقتك ولم تجد

أحدا ومل فؤادك الأصحابا

فاعمد إلى الكتب التي قد ضمنت

أوراقها الأشعار والآدابا

فهي التي تنفي الهموم ولم تجد

أحدا له أدب يمل كتابا

فصل :

حكى شيخنا المفيد رضي الله عنه في بعض كتبه (٢)

قال قد ألزم الفضل بن شاذان رحمه‌الله فقهاء العامة (٣) قولهم في الميراث أن يكون نصيب بني العم أكثر من نصيب الولد واضطرهم إلى الاعتراف بذلك فقال :

_________________

(١) أحسب أن هذا الفصل في وصف الكتاب هو من إنشاء المؤلّف ، لأنّه بأسلوبه أشبه.

(٢) وهو كتاب الفصول المختارة ج ١ صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٢٣ = ١ ٢٤.

(٣) في النسخة : الناحبة والتصحيح مطابق لما في الفصول المختارة. والفضل بن شاذان النيسابوريّ الأزدي المتوفي عام (٢٦٠ ه) وهو من شيوخ الفقه والكلام والآثار الشيعة ، وله مؤلّفات كثيرة أنهاها مترجموه إلى مائة وثمانين كتابا.

٢٨٤

خبروني عن رجل توفي وخلف ثلاثين ألف درهم وخلف ثماني وعشرين بنتا وابنا واحدا كيف تقتسمون الميراث؟

فقالوا نعطي الولد الذكر ألفي درهم ونعطي كل بنت ألف درهم فيكون للبنات ثمانية وعشرون ألف درهم على عددهم ويحصل الذكر ألفا درهم فيكون له ما قسمه الله عزوجل وأوجبه في كتابه من قوله و (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).

قال لهم فما تقولون لو كان موضع الابن ابن عم كيف تقسم الفريضة؟

فقالوا نعطي ابن العم عشرة آلاف درهم ونعطي البنات كلهن عشرين ألف درهم.

فقال لهم الفضل بن شاذان رحمه‌الله فقد صار ابن العم أوفر حظا من الابن للصلب والابن مسمى في التنزيل متقربا بنفسه وبنو العم لا تسمية لهم وإنما يتقربون بأبيهم وأبوهم يتقرب بجده والجد يتقرب بأبيه وهذا نقض للشريعة.

قال شيخنا المفيد رضي الله عنه :

وإنما لزمت هذه الشناعة فقهاء العامة خاصة لقولهم بأن من عدا الزوج والزوجة والأبوين يرثون مع الولد على خلاف مسطور الكتاب والسنة وإنما أعطوا ابن العم عشرة آلاف درهم في هذه الفريضة من حيث تعلقوا بقوله تعالى (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) فلما بقي الثلث أعطوه لابن العم فلحقتهم هذه الشناعة المخرجة لهم من الدين ونجت الشيعة من ذلك والحمد لله (١).

ووجدت في أمالي (٢) شيخنا المفيد رضي الله عنه :

_________________

(١) انظر : الفصول المختارة ج ١ صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٢٢.

(٢) هذا موجود في الفصول المختارة ج ١ صلى الله عليه وآله وسلم ٤٤.

٢٨٥

أن أبا الحسن علي بن ميثم رضي الله عنه دخل على الحسن بن سهل وإلى جانبه ملحد قد عظمه والناس حوله فقال له :

قد رأيت عجبا قال وما هو قال رأيت سفينة تعبر الناس من جانب إلى جانب بغير ملاح ولا ماصر.

قال فقال الملحد إن هذا أصلحك الله لمجنون.

قال وكيف؟

قال لأنه يذكر عن خشب جماد لا حيلة له ولا قوة ولا حياة فيه ولا عقل أنه يعبر الناس ويفعل فعل الإنسان كيف يصح هذا؟

فقال له أبو الحسن فأيما أعجب هذا أو هذا الماء الذي يجري على وجه الأرض يمنة ويسرة بلا روح ولا حيلة ولا قوى وهذا النبات الذي يخرج من الأرض والمطر الذي ينزل من السماء كيف يصح ما تزعمه من أن لا مدبر له كله وأنت تنكر أن تكون سفينة تتحرك بلا مدبر وتعبر الناس بلا ملاح.

قال فبهت الملحد.

فصل أجبت به بعض الإخوان عن ثلاث آيات من القرآن

(بسم الله الرحمن الرحيم)

الحمد لله الموفق للسداد وصلواته على حججه في العباد مولانا محمد خاتم النبيين وآله الطاهرين.

هذه ثلاث آيات من القرآن سأل عنها بعض أهل الإيمان أوضحت معانيها وما يتعلق به المخالفون منها وأجبت عن ذلك بما اقتضاه الصواب على سبيل الاختصار دون الإطناب.

_________________

(١) هو عليّ بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم الثمار الكوفيّ صاحب أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وتوفّي سنة (١ ٧٩ ه) ، وهو من متكلمي الشيعة البارزين في عصر الرشيد. وله عدة مؤلّفات.

(٢) في النسخة : قد أعظم الناس حوله وصوبناه اعتمادا على النصّ الوارد في الفصول المختارة.

٢٨٦

الآية الأولى قول الله عزوجل:

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) الأعراف : ١٥٥

المواضع المسئول عنها من هذه الآية التي يتعلق بها المخالفون منها ثلاث مواضع.

أحدها قول موسى عليهم السلام أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا فيقولون : كيف خفي على نبي الله أنه لا يجوز في العدل والحكمة أخذ العبد بجرم غيره.

الثاني قوله (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) فزعمت المجبرة أن في هذا دلالة على أن الله تعالى يفتن العباد الفتنة التي هي الإضلال.

الثالث قوله تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء قالوا وهذا بيان أنه سبحانه يفعل في طائفة من عباده الضلال ويحرمهم الإيمان ويخص الأخرى بالهدى ويجنبها الضلال.

الجواب :

أما قول موسى عليهم السلام (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) ففيه وجهان :

أحدهما أن الهلاك هنا هو الموت قال الله تعالى (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) (١) يعني مات فكان موسى عليهم السلام قال على سبيل السؤال أتميتنا مع هؤلاء السفهاء وليس الموت الذي سأل عنه عقوبة بل على ما جوزه من اتفاق حضور الميتة كما اتفق هلاك العالمين في طوفان نوح عليهم السلام إلا من حملت السفينة فكان هلاك الكفار منهم عقوبة لهم وهلاك الأطفال والبهائم ومن لا تكليف عليه معهم لحضور آجالهم.

_________________

(١) سورة النساء ١ ٧٦

٢٨٧

وقامت الباء في قوله تعالى (بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ) مقام مع لأنهما جميعا من حروف الخفض.

والوجه الثاني أن يكون قوله أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا خرج منه على وجه الاستبعاد لذلك والنفي والإنكار كما يقول أحدنا للحاكم أتراك تظلمني في فعلك أو تجور علي في حكمك وهو لا يريد سؤاله بل يقصد نفي الظلم والجور عنه واستبعاد وقوعهما منه قال جرير :

أعبدا حل في شعبي غريبا

ألؤما لا أبا لك واغترابا

يريد أن لا يجتمع هذان.

وأما قوله (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) فإن (١) الفتنة على ضروب في الكلام وهي في هذا المكان بمعنى المحنة والاختبار قال الله تعالى :

(وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) (٢) يعني اختبرناك اختبارا وكأنه قال إن هي إلا فتنتك التي امتحنت بها خلقك واختبرتهم (٣) في التكليف لتثبت من اهتدى بها وتعاقب من ضل عنها (٤).

وأما قوله (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) فإنه ذكر في هذه الآية وفي نظائرها أنه يضل قوما ويهدي آخرين مجملا للقول في ذلك من غير تفسير.

وكشف في آيات أخر عمن يشاء أن يضلهم ومن يريد أن يهديهم وميزهم وصف بعضهم من بعض وبينهم فقال في الضلال :

(وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ)

وقال (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ).

فأخبر أنه لا يشاء أن يضل إلا من سبقت منه الجناية واقترف الإساءة.

_________________

(١) في النسخة (تكن).

(٢) طه : ٤٠

(٣) في النسخة : وأخبرتهم.

(٤) في النسخة : عندها.

٢٨٨

وقال في الهدى :

(قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) المائدة : ١٦

وقال (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) التغابن : ١١

فأوضح بهذه الآيات المفسرة عما ذكره في تلك الآيات المجملة.

فأما هذا الضلال منه والهدى فهو يحتمل وجوها منها أن يكون الإضلال العقاب والهدى الثواب وجاز ذلك في الكلام لأن الجزاء عندهم على الشيء يسمى باسم ذلك الشيء على طريق الاتساع وله نظائر في القرآن.

ومنها أن يضل العصاة عن الألطاف في الدنيا التي وعد بها أهل الإيمان.

ومنها للتسمية فقد يقال أكذبني فلان إذا سماني كاذبا وأضلني إذا سماني ضالا قال الشاعر (١)

وطائفة قد أكفروني بحبكم

وطائفة قالوا مسيء ومجرم (٢)

الآية الثانية

قوله سبحانه :

(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ). الأعراف : ١٥٦

المواضع المسئول عنها من هذه الآية.

الذي يسأل عنه من معانيها.

_________________

(١) هو الكميت بن زيد الأسدي من ألمع شعراء الدولة الأموية وكان عالما بلغات العرب وأيامهم خصّ أكثر شعره في مديح أهل البيت (عليهم السلام) وأفضله الهاشميات المشهورة توفّي سنة ١ ٢٦ ه

(٢) هو مذنب لا مجرم ، وهو من قصيدته البائية التي أولها :

طربت وما شوقا إلى البيت أطرب

ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب

٢٨٩

قوله (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) وما في معناه في اللغة.

وقوله (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) فهو مما ينتسب به المجبرة.

وقوله (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فقد قال بعض الملحدة إذا كانت رحمته وسعت كل شيء فكيف لم تسع الكافر الذي لم يرحمه؟

الجواب.

أما قوله (هُدْنا إِلَيْكَ) فمعناه تبنا إليك.

وأما قوله (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) فالكلام فيه كالكلام في الضلال والهدى وقد تقدم من الكلام في ذلك ما يستدل به على أنه تعالى لا يشاء أن يعذب إلا من عصى.

وأما قوله (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) ففيه وجهان.

أحدهما أن نعمه سبحانه في الدنيا قد شملت الخلائق ووسعت العباد وسيكتبها في الآخرة للذين يتقون ويكونون على ما نعته من الصفات.

والوجه الآخر أنه أراد بقوله وسعت كل شيء أن رحمته تسع الخلائق لو دخلوها ولا تقصر عنهم لو عملوا لها غير أنه لا يكتبها إلا لمن اتقى وفعل الحسنى.

الآية الثالثة

قول الله تعالى :

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الأعراف : ١٥٧

المواضع المسئول عنها من هذه الآية

منها قوله تعالى (النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) فقد ظن قوم أنه أراد بذلك عدم علمه بالخط.

٢٩٠

ومنها قوله تعالى (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) ما هذا الإصر والأغلال التي كانت عليهم؟

ومنها قوله (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ) فقد تأول قوم ذلك في أبي بكر وعمر وعثمان.

ومنها النور الذي كان معه عليهم السلام ما هو ليقع العلم به.

الجواب

أما قوله سبحانه (الْأُمِّيَ) فإنما نسبه إلى أم القرى وهي مكة قال الله تعالى (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها).

وأهلها هم الأميون قال الله تعالى

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) الجمعة : ٢

وهذا كاف في إبطال ما ظنوه.

وأما الإصر هاهنا [ف] هو الثقل والأثقال التي كانت عليهم والأغلال يحتمل أن تكون الذنوب التي اقترفوها في حال الكفر والضلال فأخبر الله سبحانه أنه يضعها عنهم إذا آمنوا به وبرسوله عليهم السلام وأما قوله (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

فهو مدح لمن كان على هذه الصفات وليس فيه تسمية لأحد يزول معها الإشكال ولا على ما ادعاه المخالفون في ذلك دليل إجماع.

ومن سبر الأخبار واطلع في صحيح السير والآثار علم أن أبا بكر وعمر وعثمان معرون من هذه الصفات.

وهذا باب يتسع فيه الكلام والواجب مطالبة من ادعى أن هذه الآية فيهم بدليل على دعواه يصح بمثله الاحتجاج فأما الآية نفسها فلا تدل على ذلك.

وأولى الأشياء أن يكون المدح فيها للذين حصل الاتفاق على استحقاقهم ما

٢٩١

تضمنته من الصفات ممن لا ريب في صحيح إيمانهم وعالي نصرتهم وجهادهم من أهل البيت عليهم السلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحرث بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب ومن الصحابة الأخيار والنجباء الأطهار زيد بن حارثة وخباب وعمار بن ياسر وسعد بن معاذ والمقداد وسلمان وأبو ذر وأبو أيوب الأنصاري وأبو الهيثم بن التيهان وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وابنا سهل وعثمان ومن في طبقتهم من أهل الإيمان رحمة الله عليهم أجمعين.

وأما النور الذي أنزل معه فهو القرآن ولم يسم بذلك لأن فيه أجساما من الضياء لكن لما يتضمنه من الحجج والبيان الذي يستنار به في شريعة الإسلام.

وقد سماه الله تعالى نورا في موضع آخر فقال :

(قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) المائدة : ١٥

وقال أيضا :

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) المائدة : ٤٦

ولم يرد أن فيها أجساما من الضياء وإنما أراد ما ذكرنا.

فهذا مختصر من الكلام في معاني هذه الآيات والحمد لله الموفق للصواب وصلى الله على خيرته من خلقه محمد رسوله وآله.

ووجدت في بعض الأناجيل مكتوبا :

أن المسيح عليهم السلام قال وحقا أقول لست الشارب مما لفظته الكروم حتى أشرب ذلك غدا في الملكوت.

وفي هذا على النصارى حجتان :

أحدهما أن المسيح عليهم السلام كان لا يشرب الخمر وهو خلاف ما رووه عنه من قوله في لحم الخنزير والخمر :

هذا لحمي فكلوه وهذا دمي فاشربوه.

٢٩٢

والحجة الأخرى أن في الجنة شربا وإذا كان فيها شرب كان فيها أكل وليست تذهب النصارى إلى هذا.

فأما روايتهم عنه عليهم السلام أنه قال :

هذا لحمي فكلوه وهذا دمي فاشربوه فإنه يحتمل وجها من التأويل ويكون معناه التهديد وإن كان بلفظ الأمر كما يقول أحدنا لمن يتهدده اعمل ما شئت وهو لا يريد أمره.

ويقوي هذا التأويل ما تضمنه الخبر عن قوله :

هذا لحمي وهذا دمي ونحن نعلم أن لحمه ودمه محرمان فيصح بما ذكرناه من أن المراد بالخبر التهديد. (١)

واعلم أنا لم نتأول هذا الخبر توقفا عن رده وأنا لنعلم أنهم متهمون فيما يروون وإنما تأولناه تصرفا في النظر وإقامة الحجة على الخصم فأما ما في القرآن من التهديد الذي هو بلفظ الأمر فواضح أحدها قول الله سبحانه لإبليس :

(أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) الإسراء : ٦٤

وقوله تعالى :

(اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فصلت : ٤٠

مسألة :

إن سأل سائل عن قول الله تعالى في موضع من ذكر موسى عليهم السلام :

(وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) النمل : ١٠.

وعن قوله في موضع آخر :

_________________

(١) وبعبارة أوضح أن المراد به هو الزجر عنهما ، على معنى إن ساغ لكم أكل لحمي فكلوا لحم الخنزير ، وإن ساغ لكم شرب دمي فاشربوا الخمر.

٢٩٣

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) الشعراء : ٣٢

وقال ما معنى هذا الاختلاف في وصف العصا وقد أخبر في إحدى الآيتين أنها كانت كالجان والجان الحية الصغيرة وذكر في الآية الأخرى أنها ثعبان مبين والثعبان الحية العظيمة فكيف تكون في خبر واحد بهاتين الصفتين المتباينتين؟

جواب قلنا قد أجيب عن هذا السؤال بأن موسى عليهم السلام لما ألقى العصا جعلها الله تعالى على صفة الجان في سرعة حركتها وقوتها وكثرة نشاطها وعلى صفة الثعبان في عظم خلقها وهول منظرها وكبر جسمها فاجتمع فيه الوصفان لها فليس تشبيهها لها بالجان في إحدى الآيتين بموجب أن يكون لشبهة في جميع صفاته ولا تشبيهه لها بالثعبان في الآية الأخرى بدليل على أنها تماثله في سائر حالاته وعلى هذا الجواب لا تباين في الآيتين بحمد الله ومنه.

ووجه آخر

وقد أجيب عن ذلك بجواب آخر وهو أن الآيتين ليستا خبرا عن حالة واحدة بل لكل واحدة منهما حال منفردة.

فالحال التي كانت العصا فيها كأنها جان كانت في ابتداء النبوة وقبل مصير موسى عليهم السلام إلى فرعون مؤديا للرسالة.

والحال التي صارت العصا فيها ثعبانا كانت عند لقائه وإبلاغه الرسالة وعلى هذا تدل التلاوة ولم يبق في المسألة شبهة والمنة لله.

فصل

وروي في الحديث أن فضال بن الحسن بن فضال الكوفي مر بأبي حنيفة وهو في جمع كثير يملي عليهم شيئا من فقه حديثه فقال فضال لصاحبه كان معه والله لا أبرح حتى أخجل أبا حنيفة.

٢٩٤

فقال صاحبه إن أبا حنيفة من قد علمت حاله وظهرت حجته.

فقال فضال هل علت حجة على المؤمن؟

ثم دنا منه فسلم عليه وقال يا أبا حنيفة يرحمك الله إن لي أخا يقول إن خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب وأنا أقول أبو بكر وبعده عمر فما تقول أنت يرحمك الله؟

فأطرق أبو حنيفة مليا ثم رفع رأسه فقال :

كفى بمكانهما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كرما وفخرا أما علمت أنهما ضجيعاه فأي حجة أوضح لك من هذا؟

فقال له فضال إني قد قلت لأخي هذا فقال والله لئن كان الموضع ل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دونهما فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما وإن كان لهما فوهبا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقد أساءا وما أحسنا في ارتجاعهما هبتهما ونكثهما عهدهما.

فأطرق أبو حنيفة ساعة ثم قال لم يكن لهما خاصة ولكنهما نظرا في حق عائشة وحفصة فاستحقا الدفن في ذلك الموضع بحق ابنتيهما.

فقال فضال قد قلت له ذلك فقال أنت تعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات عن تسع فنظرنا فإذا لكل واحدة منهن تسع الثمن ثم نظرنا في تسع الثمن فإذا هو شبر في شبر فكيف يستحق الرجلان أكثر من ذلك وبعد فما بال عائشة وحفصة ترثان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة ابنته تمنع الميراث.

فصاح أبو حنيفة يا قوم نحوه عني فإنه رافضي (١)

فصل :

حدثني الحسين بن محمد بن علي الصيرفي قال حدثني القاضي أبو بكر محمد بن عمر المعروف بالجعابي قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن سليمان بن محبوب قال حدثنا أحمد بن عيسى الحربي قال حدثنا إسماعيل بن يحيى عن ابن جريح عن

_________________

(١) هذا مذكور في الفصول المختارة ج ١ صلى الله عليه وآله وسلم ٤٢ = ٤٣. وتجده أيضا في احتجاج الطبرسيّ صلى الله عليه وآله وسلم ٢٠٧ انظر البحار ج ٤٧ صلى الله عليه وآله وسلم ٤٠٠ هامش.

٢٩٥

عطا عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة بدر قائما يصلي ويبكي ويستعبر ويخشع ويخضع كاستطعام المسكين ويقول

اللهم أنجز لي ما وعدتني ويخر ساجدا ويخشع في سجوده ويكثر التضرع فأوحى الله تعالى إليه قد أنجزنا وعدك وأيدناك بابن عمك علي ومصارعهم على يديه و (كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) به فعلينا فتوكل وعليه فاعتمد فأنا خير من توكلت عليه وهو أفضل من اعتمد عليه.

وحدثني القاضي أبو الحسن أسد بن إبراهيم السلمي الحراني نزيل بغداد قال أخبرني أبو حفص عمر بن علي العتكي الخطيب قال قرأت على الحسن بن أحمد البالسي حدثكم (١) أبو أمية محمد بن إبراهيم قال حدثنا أبو عاصم النبيل عن أبي الجراح عن جابر بن صبيح عن أم سرحيل عن أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث عليا عليهم السلام في سرية قالت فرأيته رافعا يده يقول اللهم لا تمتني حتى تريني عليا.

وبإسناده عن العتكي قال حدثني سعيد بن محمد قال أخبرنا محمد بن عبد الحضري قال حدثنا عباد بن يعقوب قال حدثنا علي بن عابس عن الحارث بن حميرة عن القاسم بن جندب قال سمعت رجلا من خثعم يقول :

سمعت أسماء بنت عميس قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثبير وهو يقول :

أشرق ثبير اللهم إني أسألك بما سألك به أخي موسى أن تشرح لي صدري وأن تيسر لي من أمري وأن تحلل (عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) وأن تجعل لي (وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) عليا أخي (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً).

وبإسناده أيضا عن العتكي قال أخبرني محمد بن صفوة قال حدثني الحسن بن علي العلوي قال حدثني أحمد بن العلاء قال حدثنا صباح بن يحيى المري

_________________

(١) هكذا في النسخة.

٢٩٦

قال حدثني خالد بن يزيد عن أبي جعفر محمد بن علي عن أبيه عن الحسين بن علي عن أبيه عليهم السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الأحزاب :

اللهم إنك أخذت مني عبيدة بن الحرث يوم بدر وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد وهذا أخي علي بن أبي طالب (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) (١)

فصل :

روي في الحديث أنه لما أتت الأحزاب وحاصرت المدينة وأقامت عليها بضعا وعشرين ليلة طاف المشركون بالخندق فلم يكن منهم من يقدم عليه غير عمرو بن عبد ود فإنه ضرب فرسه فعبر به عرضه وحصل في حيز المدينة فأخذ يزمجر في ممره ومجيئه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وينادي بالبراز ولا يجيبه أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه وهم مطيفون به أيكم برز إلى عمرو أضمن له على الله الجنة فلم يجبه منهم أحد هيبة لعمرو واستعظاما لأمره فقام علي بن أبي طالب عليهم السلام فقال له اجلس ونادى أصحابه دفعة أخرى فلم يقم منهم أحد والقوم ناكسو رءوسهم فقام علي بن أبي طالب عليهم السلام فأمره بالجلوس ونادى الثالثة فلما لم يجبه أحد سواه استدناه وعممه بيده وأمره بالبروز إلى عدوه فتقدم إليه ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول برز الإيمان كله إلى الشرك كله

وكان عمرو حينئذ يرتجز ويقول :

ولقد بححت من النداء

بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن الشجاع

موقف الخصم المناجز

إني كذلك لم أزل

متسرعا نحو الهزاهز

إن الشجاعة في الفتى

والجود من كرم الغرائز

فتقدم إليه أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول :

_________________

(١) روي بعضه في منتخب الكنز صلى الله عليه وآله وسلم ٣٥ انظر حياة أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله وسلم ٢٤٥

٢٩٧

لا تعجلن فقد أتاك

مجيب صوتك غير عاجز

ذو نية وبصيرة

والصدق منجي كل فائز

إني لأرجو أن تقوم

عليك نائحة الجنائز

من طعنة نجلاء يبقى

ذكرها بين الهزاهز

ثم جادله فما كان بأسرع من أن صرعه أمير المؤمنين وجلس على صدره فلما هم أن يذبحه وهو يكبر الله ويحمده قال له عمرو

يا علي قد جلست مني مجلسا عظيما فإذا قتلتني فلا تسلبني حليتي فقال له أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله وسلم هي أهون علي من ذلك وذبحه وأتى برأسه وهو يتبختر في مشيته فقال عمر ألا ترى يا رسول الله إلى علي كيف يتيه في مشيته فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنها مشية لا يمقتها الله في هذا المقام.

ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أمير المؤمنين عليهم السلام فتلقاه ومسح الغبار عن عينيه فرمى الرأس بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما منعك من سلبه قال يا رسول الله خفت أن يلقاني بعورته فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبشر يا علي فلو وزن اليوم عملك بعمل جميع أمة محمد لرجح عملك على عملهم وذلك أنه لم يبق بيت من المشركين إلا وقد دخله ذل من قتل عمرو ولم يبق بيت من المسلمين إلا وقد دخله عز بقتل عمرو فأنشأ أمير المؤمنين يقول

نصر الحجارة من سفاهة رأيه

ونصرت رب محمد بصواب

فضربته وتركته متجدلا

كالنسر فوق دكادك وروابي

وعففت عن أثوابه ولو أنني

كنت المقطر بزني أثوابي

_________________

(١) روي ذلك أبو جعفر الإسكافي في نقضه العثمانية للجاحظ انظر : رسائل الجاحظ صلى الله عليه وآله وسلم ٦٤ = ٦٥ وانظر : فضائل الخمسة ج ٢ صلى الله عليه وآله وسلم ٣٢٠ = ٣٢٣ فقد روى شيئا منه عن مستدرك الصحيحين وغيره.

٢٩٨

لا تحسبن الله خاذل دينه

ونبيه يا معشر الأحزاب

ولما قتل علي صلى الله عليه وآله وسلم عمرا سمع مناديا ينادي لا يرى شخصه

قتل علي عمر اقصم علي ظهرا أبرم علي أمرا.

ووقعت الجفلة بالمشركين فانهزموا أجمعين وتفرقت الأحزاب خائفين مرعوبين.

فروي عن جابر رحمه‌الله أنه قال ما شبهت قتل علي عمرا إلا بما قصه الله تعالى في أمر داود وجالوت حيث يقول (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) (٢)

فصل من كلام أمير المؤمنين عليهم السلام وحكمه

العفاف زينة الفقر الشكر زينة الغنى الصبر زينة البلاء التواضع زينة الحسب الفصاحة زينة الكلام العدل زينة الإمارة السكينة زينة العبادة الحفظ زينة الرواية خفض الجناح زينة العلم حسن الأدب زينة العقل بسط الوجه زينة الحلم الإيثار زينة الزهد بذل المجهود زينة المعروف الخشوع زينة الصلاة ترك ما لا يعنى زينة الورع.

جاء في الحديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده عن أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أجمعين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال أعبد الناس من أقام الفرائض.

وأزهد الناس من اجتنب المحارم وأسخى الناس من أدى زكاة ماله وأتقى الناس من قال الحق فيما له وعليه.

_________________

(١) روى هذه الأبيات الطبرسيّ في إعلام الورى صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٠٠ = ١ ٠١ وانظر : الإرشاد للمفيد صلى الله عليه وآله وسلم ٤٥ و ٤٧.

(٢) انظر : المصدر صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٩٦ والإرشاد صلى الله عليه وآله وسلم ٤٧.

٢٩٩

وأعدل الناس من رضي للناس ما يرضى لنفسه وكره لهم ما يكره لنفسه.

وأكيس الناس من كان أشد ذكرا للموت.

وأغبط الناس من كان في التراب في أمن من العقاب يرجو الثواب.

وأغفل الناس من لم يتعظ بتغير الدنيا من حال.

إلى حال وأعظم الناس خطرا من لم يجعل للدنيا عنده خطرا.

وأعلم الناس من جمع علم الناس إلى علمه.

وأشجع الناس من غلب هواه.

وأكثر الناس قيمة أكثرهم علما.

وأقل الناس قيمة أقلهم علما.

وأقل الناس لذة الحسود.

وأقل الناس راحة البخيل.

وأبخل الناس من بخل بما افترض الله عزوجل عليه.

وأولى الناس بالحق أعلمهم به.

وأقل الناس حرمة الفاسق.

وأقل الناس وفاء الملوك.

وأفقر الناس الطمع.

وأغنى الناس من لم يكن للحرص أسيرا.

وأكرم الناس أتقاهم.

وأعظم الناس قدرا من ترك المراء وإن كان محقا.

وأقل الناس مروءة من كان كاذبا.

وأمقت الناس المتكبر.

وأشد الناس اجتهادا من ترك الذنوب.

وأسعد الناس من خالط كرام الناس.

وأعقل الناس من أشدهم تهمة للناس.

وأولى الناس بالتهمة من جالس أهل التهمة.

وأبغى الناس من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه.

٣٠٠