كنز الفوائد - ج ١

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي

كنز الفوائد - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي


المحقق: الشيخ عبدالله نعمه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩١
الجزء ١ الجزء ٢

وأن له صفات يستحقها لنفسه لا لمعان غيره وهي كونه حيا عالما قديما باقيا لا يجوز خروجه عن هذه الصفات إلى ضدها يعلم الكائنات قبل كونها ولا يخفى عليه شيء منها.

وأن له صفات أفعال (١) لا يصح إضافتها إليه في الحقيقة إلا بعد فعله وهي ما وصف به نفسه من أنه خالق ورازق ومعط وراحم ومالك ومتكلم ونحو ذلك.

وأن له صفات مجازات وهي ما وصف به نفسه من أنه يريد ويكره ويرضى ويغضب.

فإرادته لفعل هي الفعل المراد بعينه وإرادته لفعل غيره هي الأمر بذلك الفعل.

وليس تسميتها بالإرادة حقيقة وإنما هو على مجاز اللغة.

وغضبه هو وجود عقابه ورضاه هو وجود ثوابه.

وأنه لا يفتقر إلى مكان ولا يدرك بشيء من الحواس.

وأنه منزه من القبائح لا يظلم الناس وإن كان قادرا على الظلم (٢) لأنه عالم بقبحه غني عن فعله قوله صدق ووعده حق لا يكلف خلقه ما لا يستطاع ولا يحرمهم صلاحا لهم فيه الانتفاع ولا يأمر بما لا يريد ولا ينهى عما يريد وأنه خلق الخلق لمصلحتهم وكلفهم لأجل منازل منفعتهم وأزاح في التكليف عللهم وفعل أصلح الأشياء بهم.

وأنه أقدرهم قبل التكليف وأوجد لهم (٣) العقل والتمييز.

_________________

(١) وخلاصة القول في الصفات أن منها ما هو صفات الذات كالحياة والعلم وسواهما وهي ليست بزائدة على الذات ، ومنها ما هو صفة له باعتبار الفعل كالرازق والخالق وما إليهما ، ومنها ما هو صفة له على نحو المجاز كالغضب والرضا وغيرهما كما أشار إلى ذلك المؤلّف ، مما يدلّ على الانفعال الممتنع في حقه تعالى.

(٢) إشارة إلى الرد على النظام أحد زعماء المعتزلة الذي ذهب إلى أن اللّه لا يفعل الشر لأنّه لا يقدر عليه ، أما الإماميّة فذهبوا إلى أنّه لا يفعله مع قدرته عليه ، لأنّه قبيح.

(٣) في النسخة (وأوجدهم)

٢٤١

وأن القدرة تصلح أن يفعل بها وضده بدلا منه.

وأن الحق الذي تجب معرفته تدرك بشيئين وهما العقل والسمع.

وأن التكليف العقلي لا ينفك عن التكليف السمعي (١).

وأن الله تعالى قد أوجد للناس في كل زمان مسمعا لهم من أنبيائه وحججه بينه وبين الخلق ينبههم على طريق الاستدلال في العقليات ويفقههم على ما لا يعلمونه إلا به من السمعيات.

وأن جميع حجج الله تعالى محيطون علما بجميع ما يفتقر إليهم فيه العباد.

وأنهم معصومون من الخطأ والزلل عصمة اختيار (٢).

وأن الله فضلهم على خلقه وجعلهم خلفاء القائمين بحقه.

وأنه أظهر على أيديهم المعجزات تصديقا لهم فيما ادعوه من الأنباء والأخبار. وأنهم مع ذلك بأجمعهم عباد مخلوقون وبشر مكلفون يأكلون ويشربون ويتناسلون ويحيون بإحيائه ويموتون بإماتته تجوز عليهم الآلام المعترضات فمنهم من قتل ومنهم من مات لا يقدرون على خلق ولا رزق ولا يعلمون الغيب إلا ما أعلمهم إله الخلق.

وأن أقوالهم صدق وجميع ما أتوا به حق.

وأن أفضل الأنبياء أولو العزم وهم خمسة :

نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم.

_________________

(١) إن القول بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع مبني على القول بمسألة عقلية معروفة وهي مسألة الحسن والقبح العقليين ، أما من لم يقل بهذه المسألة فلا تلازم بين حكم العقل والشرع ، ومعنى القول بالتلازم هو أن العقل إذا أدرك حسن شيء أو قبحه وقطع به فإنّه حتما يكون حكم الشرع على طبقه.

(٢) على نحو أن تكون هذه العصمة غير ملجئة له إلى فعل الطاعة ، بل هو قادر معها على فعل الشر كما هو قادر على فعل الخير لم يرتفع معها شيء من الاختيار والقدرة ، وإلّا لما استحق شيئا من الثواب والعقاب ولما صح تكليفه.

٢٤٢

وأن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الأنبياء أجمعين وخير الأولين والآخرين.

وأنه خاتم النبيين وأن آباءه من آدم عليهم السلام إلى عبد الله بن عبد المطلب رضوان الله عليهم كانوا جميعا مؤمنين موحدين لله تعالى عارفين وكذلك أبو طالب رضوان الله عليه.

ويعتقد أن الله سبحانه شرف نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بباهر الآيات وقاهر المعجزات فسبح في كفه الحصى ونبع من بين أصابعه الماء وغير ذلك مما قد تضمنته الأنباء وأجمع على صحته العلماء وأتى بالقرآن المبين الذي بهر به السامعين وعجز عن الإتيان بمثله سائر الملحدين.

وأن القرآن كلام رب العالمين وأنه محدث ليس بقديم. (١)

ويجب أن يعتقد أن جميع ما فيه من الآيات الذي يتضمن ظاهرها تشبيه الله تعالى بخلقه وأنه يجبرهم على طاعته أو معصيته أو يضل بعضهم عن طريق هدايته فإن ذلك كله لا يجوز حمله على ظاهرها وأن له تأويلا يلائم ما تشهد العقول به مما قدمنا ذكره في صفات الله تعالى وصفات أنبيائه.

_________________

(١) هذا إشارة إلى الفتنة التي حدثت بين فرق المسلمين في القرآن هل هو مخلوق أم أزليّ ، بعد اتفاقهم على أنّه تعالى يتصف بالكلام وأنّه متكلم كما هو صريح قوله تعالى :(وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً) وأن القرآن كلام اللّه ، ولكنهم اختلفوا في معنى كلامه فعند المعتزلة والشيعة أنّه حادث وأنّه تعالى أوجده بعد أن لم يكن موجودا في أجسام دالة على المراد ، كما أوجد الكلام في شجرة الطور لموسى (عليهم السلام). وعند الأشاعرة أن الكلام صفة من الصفات اللاحقة له تعالى كغيره من الصفات الأخرى ، من العلم والقدرة والحياة وغيرها وإن معنى كونه تعالى متكلما أن هناك صفة قائمة بذاته كالعلم والإرادة ، وهذه الصفة القائمة تعبّر عنها وتحكيها الكلمات والألفاظ. وهذا المعنى القائم بذاته أمر واحد عندهم ليس بنهي ولا أمر ولا خبر ولا إنشاء ولا غيرها من أساليب الكلام ، ويعبرون عنه بالكلام النفسي ، وما يحكيه من الألفاظ والعبارات بالكلام اللفظي.

وقد نشبت هذه الفتنة في عصر المأمون العباسيّ الذي تبنى القول بخلق القرآن ، واشتد على من يقول بقدمه. وقد كتبنا حول هذه المسألة في كتابنا : هشام بن الحكم صلى الله عليه وآله وسلم ١٤٤ = ١٤٦.

٢٤٣

فإن عرف المكلف تأويل هذه الآيات فحسن وإلا أجزأه أن يعتقد في الجملة أنها متشابهات وأن لها تأويلا ملائما تشهد بما تشهد به العقول والآيات المحكمات وفي القرآن المحكم والمتشابه والحقيقة والمجاز والناسخ والمنسوخ والخاص والعام.

ويجب عليه أن يقر بملائكة الله أجمعين وأن منهم جبرئيل وميكائيل وأنهما من الملائكة الكرام كالأنبياء بين الأنام وأن جبرئيل هو الروح الأمين الذي نزل بالقرآن على قلب محمد خاتم النبيين وهو الذي كان يأتيه بالوحي من رب العالمين.

ويجب الإقرار بأن شريعة الإسلام التي أتى بها محمد عليهم السلام ناسخة لما خالفها من شرائع الأنبياء المتقدمين.

وأنه يجب التمسك بها والعمل بما تضمنته من فرائضها وأن ذلك دين الله الثابت الباقي إلى أن يرث الله (الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) لا حلال إلا ما أحلت ولا حرام إلا ما حرمت ولا فرض إلا ما فرضت ولا عبادة إلا ما أوجبت.

وأن من انصرف عن الإسلام وتمسك بغيره كافر ضال مخلد في النار ولو بذل من الاجتهاد في العبادة غاية المستطاع.

وأن من أظهر الإقرار بالشهادتين كان مسلما ومن صدق بقلبه ولم يشك في فرض أتى به محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان مؤمنا.

ومن الشرائط الواجبة للإيمان العمل بالفرائض اللازمة فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمن.

وقوله تعالى :

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (١)

إنما أراد به الإسلام الصحيح التام الذي يكون المسلم فيه عارفا مؤمنا عالما بالواجبات طائعا.

_________________

(١) آل عمران : ١ ٩

٢٤٤

ويجب أن يعتقد أن حجج الله تعالى بعد رسوله الذين هم خلفاؤه وحفظة شرعه وأئمة أمته اثنا عشر أهل بيته أولهم أخوه وابن عمه وصهره بعل فاطمة الزهراء ابنته ووصيه على أمته علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ثم الحسن بن علي الزكي ثم الحسين بن علي الشهيد ثم علي بن الحسين زين العابدين ثم محمد بن علي باقر العلوم ثم جعفر بن محمد الصادق ثم موسى بن جعفر الكاظم ثم علي بن موسى الرضا ثم محمد بن علي التقي ثم علي بن محمد المنتجب ثم الحسن بن علي الهادي ثم الخلف الصالح بن الحسن المهدي صلوات الله عليهم أجمعين.

لا إمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا لهم عليهم السلام ولا يجوز الاقتداء في الدين إلا بهم ولا أخذ معالم الدين إلا عنهم.

وأنهم في كمال العلم والعصمة من الآثام نظير الأنبياء عليهم السلام.

وأنهم أفضل الخلق بعد رسول الله عليهم السلام.

وأن إمامتهم منصوص عليهم من قبل الله على اليقين والبيان.

وأنه سبحانه أظهر على أيديهم الآيات وأعلمهم كثيرا من الغائبات والأمور المستقبلات ولم يعطهم من ذلك إلا ما قارن وجها يعمله من اللطف والصلاح.

وليسوا عارفين بجميع الضمائر والغائبات على الدوام ولا يحيطون بالعلم بكل ما علمه الله تعالى.

والآيات التي تظهر على أيديهم هي فعل الله دونهم أكرمهم بها ولا صنع لهم فيها.

وأنهم بشر محدثون وعباد مصنوعون لا يخلقون ولا يرزقون ويأكلون ويشربون وتكون لهم الأزواج وتنالهم الآلام والأعلال ويستضامون ويخافون فيتقون وأن منهم من قتل ومنهم من قبض.

وأن إمام هذا الزمان هو المهدي بن الحسن الهادي وأنه الحجة على العالمين وخاتم الأئمة الطاهرين لا إمامة لأحد بعد إمامته ولا دولة بعد

٢٤٥

دولته وأنه غائب عن رعيته غيبة اضطرار وخوف من أهل الضلال وللمعلوم عند الله تعالى في ذلك الصلاح.

ويجوز أن يعرف نفسه في زمن الغيبة لبعض الناس وأن الله عزوجل سيظهره وقت مشيئته ويجعل له الأعوان والأصحاب فيمهد الدين به [و] يطهر الأرض على يديه ويهلك أهل الضلال ويقيم عمود الإسلام ويصير (الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).

وأن الله عزوجل يظهر على يديه عند ظهوره الأعلام وتأتيه المعجزات بخرق العادات ويحيى له بعض الأموات فإذا [أ] قام في الناس المدة المعلومة عند الله سبحانه قبضه إليه ثم لا يمتد بعده الزمان ولا تتصل الأيام حتى تكون شرائط الساعة وإماتة من بقي من الناس ثم يكون المعاد بعد ذلك.

ويعتقد أن أفضل الأئمة عليهم السلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأنه لا يجوز أن يسمى بأمير المؤمنين أحد سواه.

وأن بقية الأئمة صلى الله عليه وآله وسلم يقال لهم الأئمة والخلفاء والأوصياء والحجج وإن (١) كانوا في الحقيقة أمراء المؤمنين فإنهم لم يمنعوا من هذا الاسم لأجل معناه لأنه حاصل لهم على الاستحقاق وإنما منعوا من لفظه حشمة لأمير المؤمنين ع.

وأن أفضل الأئمة بعد أمير المؤمنين ولده الحسن ثم الحسين وأفضل الباقين بعد الحسين إمام الزمان المهدي صلى الله عليه وآله وسلم ثم بقية الأئمة بعده على ما جاء به الأثر وثبت في النظر.

وأن المهدي عليهم السلام هو الذي قال فيه رسول الله (ص) :

لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله تعالى ذلك اليوم حتى

_________________

(١) في النسخة (وإنهم).

٢٤٦

يظهر فيه رجل من ولدي يواطئ اسمه اسمي يملؤها عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا (١).

فاسمه يواطئ اسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكنيته تواطئ كنيته غير أن النهي قد ورد عن اللفظ فلا يجوز أن يتجاوز في القول إنه المهدي والمنتظر والقائم بالحق والخلف الصالح وإمام الزمان وحجة الله على الخلق.

_________________

(١) روى هذا الحديث وأمثاله ابن خلدون في المقدّمة في الفصل الثاني والخمسين عن الترمذي وأبي داود باختلاف في بعض ألفاظه ، وروى حوالي اثنين وثلاثين حديثا ، وقال في صلى الله عليه وآله وسلم ٣١ ١ من المقدّمة :

«إن جماعة من الأئمة خرّجوا أحاديث المهديّ ، منهم : الترمذي ، وأبو داود ، والبزاز ، وابن ماجة ، والحاكم ، والطبراني ، وأبو يعلى الموصلي ، وأسندوها إلى جماعة من الصحابة مثل علي ، وابن عبّاس ، وابن عمر ، وطلحة ، وابن مسعود ، وأبي هريرة ، وأنس ، وأبي سعيد الخدري ، وأم حبيبة ، وأم سلمة ، وثوبان ، وقرة بن إياس ، وعلي الهلالي ، وعبد اللّه بن الحارث بن جزء».

وقد ناقش في سندها تارة ، وفي متنها تارة أخرى على طريقته الخاصّة. وهي إسقاط كل رواية تأتي عن طريق الشيعة ، أو عن طريق من يميل إلى أهل البيت ، أو عن طريق من يتهم بالتشيع وإن لم يكن شيعيا ، أو عن طريق من يروي شيئا من فضائل أهل البيت ، أو شيئا من معاتب أعدائهم الأمويين.

ولكن برغم مناقشات ابن خلدون وغيره ، فإن هناك حقيقة ثابتة ، وهي أن الأحاديث في هذا الموضوع قد بلغت من الكثرة حدّ التواتر المعنوي ، لا يمكن التشكيك في مضمونها ، أو دعوى أنّها موضوعة ، إذ لم يحظ موضوع من المواضيع الإسلامية كموضوع قضية المهديّ المنتظر ، وليس له شبيه من حيث عدد الأرقام الهائلة من الأحاديث في هذا الموضوع ، فقد أحصيت الأحاديث الواردة فيها من طريق أهل السنة وفي مسانيدها ومؤلّفاتها ما يربو على أربعمائة حديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ، وأحصي مجموع الأخبار الواردة من طرق الشيعة والسنة ، فبلغت أكثر من ستة آلاف حديث ، وهو رقم هائل لم يتوافر في أي قضية إسلامية أخرى ، حتى في تلك القضايا الإسلامية الضرورية ، وهو يتحدى كل شك وإنكار.

وقد وضعت عدة مؤلّفات في هذا الموضوع ، ومن أحسنها ، كتاب منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر للشيخ لطف اللّه محمّد جواد الصافي.

٢٤٧

ويجب أن يعتقد أن الله فرض معرفة الأئمة عليهم السلام بأجمعهم وطاعتهم وموالاتهم والاقتداء بهم والبراءة من أعدائهم وظالميهم وأنه لا يتم الإيمان إلا بموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه وأن أعداء الأئمة عليهم السلام كفار ملحدون في النار وإن أظهروا الإسلام فمن عرف الله ورسوله والأئمة الاثني عشر وتولاهم وتبرأ من أعدائهم فهو مؤمن ومن أنكرهم أو تولى أعداءهم فهو ضال هالك لا ينفعه عمل ولا اجتهاد ولا تقبل له طاعة ولا يصح له حسنات (١).

ويعتقد أن الله يزيد وينقص إذا أشاء في الأرزاق والآجال.

وأنه لم يرزق العبد إلا ما كان حلالا طيبا.

ويعتقد أن باب التوبة مفتوح لمن طلبها وهي الندم على ما مضى من المعصية والعزم على ترك المعاودة إلى مثلها.

وأن التوبة ماحية لما قبلها من المعصية التي تاب العبد منها.

وتجوز التوبة من زلة إذا كان التائب منها مقيما على زلة غيرها لا تشبهها ويكون له الأجر على التوبة وعليه وزر ما هو مقيم عليه من الزلة.

وأن الله يقبل التوبة بفضله وكرمه وليس ذلك لوجوب قبولها في العقل قبل الوعد وإنما علم بالسمع دون غيره.

ويجب أن يعتقد أن الله سبحانه يميت العباد ويحييهم بعد الممات ليوم المعاد.

وأن المحاسبة حق والقصاص وكذلك الجنة والنار والعقاب.

وأن مرتكبي المعاصي من العارفين بالله ورسوله والأئمة الطاهرين

_________________

(١) مكان النقاط كلمات غير واضحة.

٢٤٨

المعتقدين لتحريمها مع ارتكابها المسوفين التوبة منها عصاة فساق وأن ذلك لا يسلبهم اسم الإيمان كما لم يسلبهم اسم الإسلام (١).

وأنهم يستحقون العقاب على معاصيهم والثواب على معرفتهم بالله تعالى ورسوله والأئمة من بعده صلى الله عليه وآله وسلم.

وما بعد ذلك من طاعتهم وأمرهم مردود إلى خالقهم وإن عفا عنهم فبفضله ورحمته وإن عاقبهم فبعدله وحكمته قال الله سبحانه :

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) التوبة : ١٠٦.

وأن عقوبة هؤلاء العصاة إذا شاءها الله تعالى لا تكون مؤبدة ولها آخر يكون بعده دخولهم الجنة وليسوا من جملة من توجه إليهم الوعيد بالتخليد والعفو من الله تعالى يرجى للعصاة المؤمنين.

وقد غلطت المعتزلة فسمت من يرجو العفو مرجئا وإنما يجب أن يسمى راجيا.

ولا طريق إلى القطع على العفو وإنما هو الرجاء والتجوير فقط.

ويعتقد أن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من بعده عليهم السلام شفاعة مقبولة يوم القيامة ترجى للمؤمنين من مرتكبي الآثام.

ولا يجوز أن يقطع الإنسان على أنه مشفوع فيه على كل حال ولا سبيل له إلى العلم بحقيقة هذه الحال وإنما يجب أن يكون المؤمن واقفا بين الخوف والرجاء.

ويعتقد أن المؤمنين الذين مضوا من الدنيا وهم غير عاصين يؤمر بهم يوم القيامة إلى الجنة بغير حساب.

_________________

(١) صرح بهذا المفيد أستاذ المؤلّف في كتابه أوائل المقالات صلى الله عليه وآله وسلم ٤٨ ونسبه إلى اتفاق الإماميّة أما الخوارج فتسمي مرتكب الكبيرة مشركا وكافرا ، والحسن البصري أستاذ وأصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ، فيسمهم منافقين ، وأمّا واصل بن عطاء فوضعهم في منزلة بين منزلتين ، وقال أنهم فساق ليسوا بمؤمنين ، ولا كفّار ، ولا منافقين. انظر هشام بن الحكم للمعلق صلى الله عليه وآله وسلم ٢٧.

٢٤٩

وأن جميع الكفار والمشركين ومن لم تصح له الأصول من المؤمنين يؤمر بهم يوم القيامة إلى الجحيم بغير حساب وإنما يحاسب من خلط (عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) وهم العارفون العصاة.

وأن أنبياء الله تعالى وحججه عليهم السلام هم في القيامة المسئولون للحساب بإذن الله تعالى وأن حجة أهل كل زمان يتولى أمر رعيته الذين كانوا في وقته.

وأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الاثني عشر من بعده عليهم السلام هم أصحاب الأعراف الذين لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه.

وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحاسب أهل وقته وعصره وكذلك كل إمام بعده.

وأن المهدي عليهم السلام هو المواقف لأهل زمانه والمسائل للذين في وقته.

وأن الموازين التي توضع في القيامة هي إقامة العدل في الحساب والإنصاف في الحكم والمجازاة وليست في الحقيقة موازين بكفات وخيوط كما يظن العوام.

وأن الصراط المستقيم في الدنيا دين محمد وآل محمد عليهم السلام وهو في الآخرة طريق الجنان.

وأن الأطفال والمجانين والبله من الناس يتفضل عليهم في القيامة بأن تكمل عقولهم ويدخلون الجنان (١).

_________________

(١) وهو المعروف من رأي الإماميّة ، وأول من صرّح به منهم هشام بن الحكم على ما يظهر ، وتدل عليه بالإضافة إلى حكم العقل بعض النصوص عن أهل البيت (عليهم السلام) وخالف الأشاعرة عدا أبا الحسن الأشعري الذين قالوا بأن اللّه تعالى يأمرهم بدخول نار يؤججها يوم القيامة فمن أطاع أدخل الجنة ومن عصى أدخل النار ، وجوز أبو الحسن الأشعري تعذيب الأطفال في القيامة لغيظ آبائهم ، وذهب الخوارج إلى أن حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة من الحكم بكفرهم أو إيمانهم ، ومن نعيمهم أو عذابهم. انظر هشام بن الحكم للمعلق صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٨٧ = ١ ٩٠.

٢٥٠

وأن نعيم أهل الجنة متصل أبدا بغير نفاد وأن عذاب المشركين والكفار متصل في النار بغير نفاد.

ويجب أن تؤخذ معالم الدين في الغيبة من أدلة العقل وكتاب الله عزوجل والأخبار المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن الأئمة عليهم السلام (١) وما أجمعت عليه الطائفة الإمامية وإجماعها حجة.

فأما عند ظهور الإمام عليهم السلام فإنه المفزع عند المشكلات وهو المنبه على العقليات والمعرف بالسمعيات كما كان النبي ص.

ولا يجوز استخراج الأحكام في السمعيات بقياس ولا اجتهاد (٣).

فأما العقليات فيدخلها القياس والاجتهاد ويجب على العاقل مع هذا كله ألا يقنع بالتقليد في الاعتقاد وأن يسلك طريق التأمل والاعتبار ولا يكون نظره لنفسه في دينه أقل من نظره لنفسه في دنياه فإنه في أمور الدنيا يحتاط ويحترز ويفكر ويتأمل ويعتبر بذهنه ويستدل بعقله فيجب أن يكون في أمر دينه على أضعاف هذه الحال فالغرر في أمر الدين أعظم من الغرر في أمر الدنيا.

فيجب أن لا يعتقد في العقليات إلا ما صح عنده حقه ولا يسلم في السمعيات إلا لمن ثبت له صدقه.

_________________

(١) ما ذكره المؤلّف هو رأي جماعة من علماء الإماميّة ، كالشريف المرتضى ، وابن زهرة ، وابن البرّاج ، والطبرسيّ ، وابن إدريس وغيرهم ، فقد ذهب هؤلاء إلى عدم اعتبار الخبر الواحد إذا لم يكن مقطوع الصدور عن المعصوم ، وخصوا اعتباره بما إذا كان قطعي الصدور ، سواء أكان محتفا بقرينة عقلية أو نقلية أخرى ، فالمهم لدى هؤلاء في اعتبار الخبر أن يفضي إلى العلم ، ولو كان ذلك لإجماع أو شاهد عقلي ، بل صرّح المفيد في أوائل المقالات بأنّه لا يحب العمل بخبر الواحد.

أما المشهور بين الإماميّة بل المجمع عليه بين المتأخرين منهم فاعتبار الخبر الواحد لقيام الدليل على حجيته ، ولكل من الفريقين أدلة على دعواه مذكورة في كتب الأصول.

(٢) المراد بالاجتهاد هنا ليس هو استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ، وإنّما المراد به الاعتماد على الرأي والاستحسان والقياس ، من دون الرجوع إلى القواعد والأصول التي ثبتت حجيتها شرعا

٢٥١

نسأل الله حسن التوفيق برحمته وإلا يحرمنا ثواب المجتهدين في طاعته.

قد أثبت لك يا أخي أيدك الله ما سألت واقتصرت وما أطلت.

والذي ذكرت أصل لما تركت والحمد لله وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلم.

فصل في ذكر مولد أمير المؤمنين ص

روى المحدثون وسطر المصنفون أن أبا طالب بن عبد المطلب بن هاشم وامرأته فاطمة بنت أسد بن هاشم رضوان الله عليهما لما كفلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استبشرا بغرته واستبعدا بطلعته واتخذاه ولدا لأنهما لم يكونا رزقا من الولد أحدا.

ثم نشأ عليهم السلام أشرف نشوء وأحسنه وأفضله وأيمنه فرأى فاطمة ورغبتها في طلب الولد وقربانها وقتا بعد وقت فقال لها يا أمه اجعلي قربانك لوجه الله تعالى خالصا ولا تشركي معه أحدا فإنه يرضاه منك ويتقبله ويعطيك طلبتك ويعجله.

فامتثلت فاطمة أمره وقبلت قوله وقربت قربانا مضاعفا وجعلته لله تعالى خالصا وسألته أن يرزقها ولدا صالحا ذكرا.

فأجاب الله عزوجل دعاها وبلغها مناها ورزقها من الأولاد خمسة عقيلا ثم طالبا ثم جعفرا ثم عليا ثم أختهم فاختة المعروفة بأم هاني.

فمما جاء في حديثها (١) قبل أن ترزق أولادها أنها كانت جلست يوما تتحدث مع عجائز العرب والفواطم من قريش منهن فاطمة ابنة عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم جدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبيه وفاطمة ابنة زائدة بن الأصم وهي أم خديجة بنت خويلد وفاطمة ابنة عبد الله رزام وفاطمة

_________________

(١) تجد هذا الحديث في كتاب إثبات الوصية للمسعودي صلى الله عليه وآله وسلم ١ ١ ٤ ، وفي بحار الأنوار ج ٣٥ صلى الله عليه وآله وسلم ٤٠ نقله عن الكراجكيّ في الكنز.

٢٥٢

ابنة الحارث بن عكرمة وتمام الفواطم التي انتمى إليهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة أم قصي وهي ابنة نضر.

فإنهن لجلوس إذ أقبل رسول الله بنوره الباهر وسعده الظاهر وقد تبعه بعض الكهان ينظر إليه ويطيل فراسته فيه إلى أن أتى إليهن فسألهن عنه فقلن هذا محمد ذو الشرف الباذخ والفضل الشامخ فأخبرهن الكاهن بما يعلمه من رفيع قدره وبشرهن بما سيكون من مستقبل أمره وأنه سيبعث نبيا وينال منالا عليا وقال إن التي تكفله منكن في صغره سيكفل لها ولدا يكون عنصره من عنصره يختصه بسره وبصحبته ويحبوه بمصادقته وإخوته.

فقالت له فاطمة ابنة أسد رضوان الله عليها :

أنا التي كفلته وأنا زوج عمه الذي يرجوه ويؤمله.

فقال إن كنت صادقة فستلدين غلاما علاما مطواعا لربه هماما اسمه على ثلاثة أحرف يلي هذا النبي في جميع أموره وينصره في قليله وكثيره حتى يكون سيفه على أعدائه وبابه لأوليائه يفرج عن وجهه الكربات ويجلو عنه حندس الظلمات تهاب صولته أطفال المهاد وترتعد من خيفته من (١) الجلال له فضائل شريفة ومناقب معروفة وصلة منيعة ومنزلة رفيعة يهاجر إلى النبي في طاعته ويجاهد بنفسه في نصرته وهو وصيه الدافن له في حجرته.

قالت له أم علي عليهم السلام جعلت أفكر في قول الكاهن فلما كان الليل رأيت في منامي كان جبال الشام قد أقبلت تدب وعليها جلابيب الحديد وهي تصيح من صدورها بصوت مهول فأسرعت نحوها جبال مكة وأجابتها بمثل صياحها وأهول وهي كالشرد (٢) المحمر وأبو قبيس ينتفض كالفرس

_________________

(١) في النسخة (عن) ، وفي اثبات الوصية صلى الله عليه وآله وسلم ١ ١ ٦ : وترعد من خيفته الفرائض ويوم الجلاد.

(٢) هي الناقة التي تعسرت ولادتها فلا يخرج حتّى تموت ، كذا في هامش النسخة ، وفي اثبات الوصية صلى الله عليه وآله وسلم ١ ١ ٧ : وهي كالشرر المجمر. والشرد جمع شارد وهو البعير النافر والمحمر على وزن مكرم الناقة يلتوي في بطنها ولدها.

٢٥٣

ونصال تسقط عن يمينه وشماله والناس يلتقطون ذلك فلقطت معهم أربعة أسياف وبيضة حديد مذهبة فأول ما دخلت مكة سقط منها سيف في ماء فغمر وطار الثاني في الجو واستمر وسقط الثالث إلى الأرض فانكسر وبقي الرابع في يدي مسلولا فبينا أنا به أصول إذ صار السيف شبلا فتبينته فصار ليثا مهولا فخرج عن يدي ومر نحو الجبال يجوب بلاطحها ويخرق صلادحها والناس منه مشفقون ومن خوفه حذرون إذ أتى محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقبض على رقبته فانقاد له كالظبية الألوف فانتبهت وقد راعني الزمع والفزع فالتمست المفسرين فطلبت القائفين والمخبرين فوجد كاهنا زجر لي بحالي وأخبرني منامي وقال لي أنت تلدين أربعة أولاد وبنتا بعدهم وإن أحد البنين يغرق والآخر يقتل في الحرب والآخر يموت ويبقى له عقب والرابع يكون إماما للخلق صاحب سيف وحق ذا فضل وبراعة يطيع النبي المبعوث أحسن طاعة.

فقالت فاطمة فلم أزل مفكرة في ذلك ورزقت بني الثلاثة عقيلا وطالبا وجعفرا.

ثم حملت بعلي عليهم السلام في عشر ذي الحجة فلما كان الشهر الذي ولدت فيه وكان شهر رمضان رأيت في منامي كان عمود حديد قد انتزع من أم رأسي ثم سطع في الهواء حتى بلغ السماء ثم رد إلي فقلت ما هذا فقيل لي هذا قاتل أهل الكفر وصاحب ميثاق النصر بأسه شديد يفزع من خيفته وهو معونة الله لنبيه وتأييده على عدوه.

قالت فولدت عليا عليهم السلام.

وجاء في الحديث.

_________________

(١) في البحار : سقطت منها سيف في ماء فغيّر.

(٢) في إثبات الوصية : فانثمر ، ولعله تصحيف (فانتثر).

(٣) في إثبات الوصية : مستأسدا.

(٤) جمع بلطح وهو المكان الواسع.

(٥) في البحار : صلاطحها وهو بمعنى بلاطم.

(٦) الرمع بالتحريك شبه الرعدة تأخذ الإنسان.

٢٥٤

أنها دخلت الكعبة على ما جرت به عادتها فصادف دخولها وقت ولادتها فولدت أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله وسلم داخلها وكان ذلك في النصف من شهر رمضان (١) ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثون سنة على الكمال فتضاعف ابتهاجه به وتمام مسرته وأمرها أن تجعل مهده جانب فراشه.

وكان يلي أكثر تربيته ويراعيه في نومه ويقظته ويحمله على صدره وكتفه ويحبوه بألطافه وتحفه ويقول هذا أخي وسيفي وناصري ووصيي. (٢)

فلما تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة عليهم السلام أخبرها بوجده بعلي ومحبته فكانت تستزيره فتزينه وتحليه وتلبسه وترسله مع ولائدها ويحمله خدمها فيقول الناس هذا أخو محمد وأحب الخلق إليه وقرة عين خديجة ومن اشتملت السعادة عليه.

وكانت ألطاف (٣) خديجة تطرق منزل أبي طالب ليلا ونهارا وصباحا ومساء.

ثم إن قريشا أصابتها أزمة مهلكة وسنة مجدية منهكة وكان أبو طالب رضي الله عنه ذا مال يسير وعيال كثير فأصابه ما أصاب قريشا من العدم والإضاقة والجهد والفاقة.

فعند ذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمه العباس فقال له يا أبا الفضل إن أخاك أبا طالب كثير العيال مختل الحال ضعيف النهضة والغرمة وقد ناله ما نزل بالناس من هذه الأزمة وذوو الأرحام أحق بالرفد وأولى من حمل الكل (٤) في ساعة الجهد فانطلق بنا إليه لنعينه على ما هو عليه فلنحمل عنه بعض أثقاله ونخفف عنه من عياله يأخذ كل واحد منا واحدا من بنيه يسهل عليه بذلك بعض ما هو فيه.

_________________

(١) انظر إثبات الوصية للمسعودي صلى الله عليه وآله وسلم ١ ١ ٤.

(٢) المصدر صلى الله عليه وآله وسلم ١ ١ ٧

(٣) أي هدايا تبره بها.

(٤) الكل : الثقل.

٢٥٥

فقال له العباس نعم ما رأيت والصواب فيما أتيت هذا والله الفضل الكريم والوصل الرحيم.

فلقيا أبا طالب فصبراه ولفضل آبائه ذكراه وقالا له إنا نريد أن نحمل عنك بعض العيال فادفع إلينا من أولادك من يخف عنك به الأثقال.

قال أبو طالب إذا تركتما لي عقيلا وطالبا فافعلا ما شئتما.

فأخذ العباس جعفرا وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليهم السلام فانتجبه لنفسه واصطفاه لمهم أمره وعول عليه في سره وجهره وهو مسارع لمرضاته موفق السداد في جميع حالاته. (٢)

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ابتداء طروق الوحي إليه كلما هتف به هاتف أو سمع من حوله رجفة راجف أو رأى رؤيا أو سمع كلاما يخبر بذلك خديجة وعليا عليهم السلام ويستسرهما هذه الحال.

فكانت خديجة تثبته وتصبره وكان علي يهنيه ويبشره ويقول له والله يا ابن عم ما كذب عبد المطلب فيك ولقد صدقت الكهان فيما نسبته إليك ولم يزل كذلك إلى أن أمر صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ فكان أول من آمن به من النساء خديجة ومن الذكور أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعمره يومئذ عشر سنين (٣)

_________________

(١) في مقاتل الطالبين صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٧ أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أخذ عليا ، وحمزة أخذ جعفرا ، والعباس أخذ طالبا.

(٢) تجد قصة ولادة أمير المؤمنين (عليهم السلام) في اثبات الوصية صلى الله عليه وآله وسلم ١ ١ ٥ = ١ ٢٠ مع اختلاف وزيادة.

(٣) وقال الأصبهاني : وكانت سنه يوم أسلم إحدى عشرة على أصح ما ورد من الأخبار في إسلامه (مقاتل الطالبيين صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٧) وتنوزع في سنه يوم أسلم ، فقال فرقة كانت سنه يومئذ خمس عشرة سنة ، وقال آخرون ثلاث عشرة ، وقيل إحدى عشر ، وقيل تسع ، وقيل ثمان ، وقيل سبع ، وقيل ست وقيل : خمس (التنبيه والإشراف صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٩٨).

٢٥٦

ومما عملته لبعض الإخوان كتاب الإعلام بحقيقةإسلام أمير المؤمنين عليهم السلام وبه نستعين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ذي الجود والإكرام الهادي إلى شريعة الإسلام وصلاته على خيرته من جميع الأنام سيدنا محمد رسوله وأهل بيته المطهرة من الآثام وسلام الله على أول السابقين إسلاما وإيمانا وأخلص المصدقين إقرارا وإذعانا وأنصح الناصرين سرا وإعلانا وأوضح العالمين حجة وبرهانا الذي كان سبقه إلى الدخول في الإسلام وكونه بعد الرسول الحجة على الأنام مشابها لخلق آدم صلى الله عليه وآله وسلم في وجود الخليفة قبل المستخلف عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام ذي الفضائل والمناقب ولعنة الله على باغضيه ومنكري فضله وحاسديه.

هذا مختصر جمعت لإخواني فيه من الكلام في إسلام أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله وسلم ما يجب الانتهاء إليه والاعتماد في المسألة عليه

فصل يجب أن يقدم القول بأن أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله وسلم أسلم

اعلموا أيدكم الله أن المخالفين لشدة عداوتهم لأمير المؤمنين ألقوا شبهة موهوا بها على المستضعفين وجعلوا لها طريقا يسلكها من يروم نفي الإسلام عن أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله وسلم.

وذلك أنهم قالوا إنما يصح الإسلام ممن كان كافرا فأما من لم يك قط ذا كفر ولا ضلال فلا يجوز أن يقال إنه أسلم.

وإذا كان علي بن أبي طالب عليهم السلام لم يكفر قط فلا يصح القول بأنه أسلم وهذا ملعنة من النصاب لا تخفى على أولي الألباب يتشبثون بها إلى القدح في أمير المؤمنين عليهم السلام والراحة من أن يسمعوا القول بأنه أسلم قبل سائر الناس.

وقد تعدتهم هذه الشبهة فصارت في مستضعفي الشيعة ومن لا خبرة له

٢٥٧

بالنظر والأدلة حتى أني رأيت جماعة منهم يقولون هذه المقال ويستعظمون القول بأن أمير المؤمنين عليهم السلام أسلم أتم استعظام.

وقد نبهتهم على أن هذه الشبهة مدسوسة عليهم وأن أعداءهم ألقوها بينهم فمنهم من قبل ما أقول ومنهم من أصر على ما يقول.

وقد كنت اجتمعت بأحد الناصرين لهذه الشبهة من الشيعة فقلت له أتقول إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام مسلم؟

فقال لا يسعني غير ذلك.

فقلت له أفتقول إنه يكون مسلما من لم يسلم فقال إن قلت بأنه أسلم لزمني الإقرار بأنه قبل إسلامه لم يكن مسلما.

ولكني أقول إنه ولد مسلما مؤمنا فقلت هذا كقولك إنه ولد حيا قادرا وهو يؤديك إلى أن الله تعالى خلق فيه الإسلام والإيمان كما خلق فيه القدرة والحياة ويدخل بك في مذهب أهل الجبر ويبطل عليك القول بفضيلة أمير المؤمنين عليهم السلام في الإسلام وما يستحق عليه من الأجر.

فاختر لنفسك إما القول بأن إسلامه وإيمانه فعل الله سبحانه وأنه ولد مسلما ومؤمنا وإن ساقك إلى ما ذكرناه. (١)

وإما القول بأن الله تعالى أوجده حيا قادرا ثم آتاه عقلا وكلفه بعد هذا فأطاع وفعل ما أمر به مما يستحق جزيل الأجر على فعله فإسلامه وإيمانه من أفعاله الواقعة بحسب قصده وإيثاره وإن أداك في وجوده قبل فعله إلى ما وصفناه.

فحيره هذا الكلام ولم يجد فيه حيلة من جواب.

ومما يجب أن يكلم به في هذه المسألة أهل الخلاف أن يقال لهم :

لما زعمتم أنه لم يسلم إلا من كان كافرا.؟

_________________

(١) وهو عدم استحقاقه (عليهم السلام) الأجر على إسلامه لأنّه مجبور عليه من فعل اللّه.

٢٥٨

فإن قالوا لأن من صح منه وقوع الإسلام فهو قبله عار منه وإذا عرى منه كان على ضده وضده الكفر. (١)

قيل لهم لم زعمتم أنه إذا عرى منه كان على ضده وما أنكرتم من أن يخلو منهما فلا يكون على أحدهما؟

فإن قالوا إن ترك الدخول في الإسلام هو ضده لأنه لا يصح اجتماع الترك والدخول فمتى كان تاركا كان كافرا لأن معه الضد.

قيل لهم إنما يلزم ما ذكرتم متى وجدت شريعة الإسلام ولزم العمل بها وعلم العبد وجوبها عليه بعد وجودها.

فأما إذا لم يكن نزل به الوحي ولا لزم المكلف منها أمر ولا نهي فإلزامكم الكفر جهل وغي.

فإن قالوا قد سمعناكم تقولون إن الوحي لما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ الإسلام دعا إليه أمير المؤمنين عليهم السلام فلم يجبه عند الدعاء وقال له أجلني الليلة وتعدون هذا له فضيلة وفيه أنه قد ترك الدخول في الإسلام بعد وجوده.

قلنا هو كذلك لكنه قبل علمه بوجوبه وهذه المدة التي سأل فيها الإنظار هي زمان مهلة النظر التي أباحها الله تعالى للمستدل ولو مات قبل اعتقاد الحق لم يكن على غلط وهكذا رأيناكم تفسرون قول إبراهيم عليهم السلام لما (رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) إلى تمام قصته ع.

_________________

(١) هذه الدعوى مبنية على القول بأن التقابل بين الإيمان والكفر تقابل نقيضين أو السلب والإيجاب ، أو تقابل ضدين لا ثالث لهما.

أما إذا كان التقابل بينهما تقابل عدم وملكة ، أو تقابل ضدين لهما ثالث فلا تصح هذه الدعوى. ويبدو أن طبيعة الجواب مبنية على أن التقابل بينهما تقابل ضدين لهما ثالث ، الذي لا يلزم من نفي أحدهما إثبات الآخر.

٢٥٩

وقوله (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). الأنعام : ٧٨ ـ ٧٩.

وتقولون إن هذا منه كان استدلالا وهي في زمان مهلة النظر التي وقع عقيبها العلم بالحق.

فإن قالوا فما تقولون في أمير المؤمنين عليهم السلام قبل الإسلام وهل كان على شيء من الاعتقادات؟

قيل لهم الذي نقول فيه إنه كان في صغره عاقلا مميزا وكان في الاعتقاد على مثل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل الإسلام من استعماله عقله والمعرفة بالله تعالى وحده وإن ذلك حصل من تنبيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتحريك خاطره إليه وحصل للرسول من ألطاف الله تعالى التي حركت خواطره إلى الإسلام والاعتبار ولم يكن منهما من سجد لوثن ولا دان بشرع متقدم.

فأما الأمور الشرعية فلم تكن حاصلة لهما فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لزم أمير المؤمنين عليهم السلام الإقرار به والتصديق له وأخذ الشرع منه.

وإنما قال له أجلني الليلة ليعتبر فيقع له العلم واليقين مع اعتقاد التصديق لرسول رب العالمين فلما ثبت له ذلك أقر بالشهادتين مجددا للإقرار بالله سبحانه وشاهدا ببعثة رسول الله ص.

فإن قالوا فأنتم إذا تقولون إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسلم وهذا أعظم من الأولى.

قيل لهم إن العظيم في العقول هو الانصراف من هذا القول فإن لم تفهموا فيه حجة العقل فما تصنعون في دليل السمع وقد قال الله عزوجل لنبيه عليهم السلام :

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الأنعام : ١٤.

وقوله سبحانه :

(قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) الانعام : ٧١

٢٦٠