تفسير سورة هل أتى - ج ٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة هل أتى - ج ٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩١
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣

٤

الفصل الثاني عشر :

(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً)

٥
٦

قال تعالى :

(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً).

حيث أظهرت هذه الآية حقيقة هامة ، هي أن وقاية الله سبحانه وتعالى للأبرار من شر ذلك اليوم ، ثم ما فعله بهم من أنه قد لقّاهم نضرة وسرورا لم يكن هو الجزاء لأولئك الأبرار. بل هذه كرامات وألطاف إلهية ، حباهم الله تعالى بها ، إمعانا في تشريفهم ، ومزيدا في الرعاية لهم.

وذلك حين منّ عليهم بهذا الجزاء العظيم ، في مثل هذا الحال الشديد ، الذي يواجهه الإنسان بانتقاله إلى عالم الآخرة ، الجديد عليه ، وهو يوم الفزع الأكبر ..

فكانت مراسم الاستقبال لهم هي هذا التشريف الإلهي ، الذي تجلى أولا بالحصانة وبالوقاية التي حباهم بها ، فحقق لهم الأمن الحقيقي ، والاطمئنان النفسي ، ثم حباهم بالنضرة والسرور الذي كان هو الإشارة الحسية الملموسة ، التي تزيد من ثقتهم بأن ما حصلوا عليه ليس أمرا عارضا ، قد يزول ويتغير .. فيما لو فتحت السجلات .. بل هو أمر يدخل في دائرة التكريم والتشريف الإلهي الدائم والمستمر ، وأن عليهم أن ينتظروا مكافآت أعظم ، وألطافا وعنايات أتم ، وأهم ، وأعم ..

ثم جاء الجزاء الإلهي الذي نتج عن فعلهم ، وله أسباب وعلل وفق ما اقتضته السنن الإلهية ، وفرضه النظام الرباني .. الذي لأجله قال تعالى : «جزاهم» ، ولم يقل : أعطاهم ، أو تفضل عليهم.

٧

«وجزاهم» .. أم جازاهم؟ :

ولا نرى أننا بحاجة إلى التذكير بأن التعبير بكلمة جزاهم ، التي هي فعل ماض ، إنما هو للإشارة إلى أن هذا الأمر كأنه قد حصل وانته حتى ليصح الإخبار عن حصوله. وذلك لعدة خصوصيات قد أشير إليها أكثر من مرة ..

ويبقى سؤال هو : أن التعبير هنا قد جاء بكلمة جزاهم ـ لا بكلمة جازاهم ، فما هو الفرق بين التعبيرين يا ترى؟!

ونقول :

قد يمكن الإجابة عن ذلك بأن كلمة «جازى» تستعمل في مورد العقاب غالبا. بل قد يستفاد من قوله تعالى : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) ، أن كلمة جازى متمحضة في الجزاء بالسوء.

أما كلمة جزى فتستعمل في العقوبة والمثوبة على حد سواء ، قال تعالى : (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١).

وقال في مورد المثوبة : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً).

وقد يقال أيضا : إن كلمة جازى تفيد التدقيق والمقابلة بصرامة ، أو فقل : معناها الجزاء وفق ميزان العدل.

أما كلمة جزى فتفيد مطلق المكافأة ، حتى ولو بالزيادة على ما يقتضيه ميزان العدل .. ولذلك ، فإن الله تعالى ، وإن كان في مورد العقوبة ، لا يزيد عن مقدار ما يجازي عليه ، ولكنه في مورد المثوبة يزيد في

__________________

(١) سورة سبأ الآية ٣٣.

٨

المثوبة إلى سبع مئة ضعف ، ثم يضاعف لمن يشاء ، وهذا أزيد مما يقتضيه العدل. وفي المورد الذي نحن فيه ، مذ جاء الجزاء وفق مقتضيات التفضل ، الذي لا حدود للعطاء فيه ، ولأجل ذلك نكّرت كلمة جنة ، وكلمة حرير .. لإفادة أن ما يعطيهم الله إياه يفوق حدود التصور ، كما ألمحنا إليه آنفا في قوله تعالى : (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً).

جزى هي الأوفق بالمقاصد الإلهية :

ثم إن من الواضح : أن كلمة جزى ، تعني إعطاء البدل والمكافأة من طرف واحد ، ولا يلحظ فيها إلا ما يفعله من يريد إعطاء الجزاء.

أما كلمة جازى ، فهي على وزان فاعل ، التي تستعمل عادة للدلالة على وجود فعل من الطرفين ، بصورة متكافئة ومتوازنة ، فهي مثل قاتل ، ولاعب ..

فالجزاء الإلهي إذا كان على سبيل المثوبة ، فإنه لا يلحظ فيه الفعل إلا في طرف واحد ، وهو الله سبحانه .. ولا يلحظ فيه التعادل والتوازن بين ما يعطيه الله سبحانه ، وما يقدمه العبد من عمل ، إذ لا مجال للموازنة بين العطاء الإلهي ، وبين الطاعات الصادرة عن العبد .. وإن كان فعل العبد له دور التسبيب للفيض وللعطاء الإلهي. لكن لا يلحظ فيه أزيد من ذلك .. فيعطي الله مقابل الحسنة عشر أمثالها ، إلى سبعماية ضعف ، ثم إن الله يضاعف لمن يشاء ..

وإنما قلنا : إنه لا مجال للمقابلة ، بسبب الطاعات أيضا ، لأنه إنما يقدر العبد عليها ، ويأتي بها بواسطة قدرات أخرى أنعم الله بها عليه ، وهي لا يمكن إحصاؤها ، ولا شكرها.

أما إذا كان على سبيل العقوبة .. فإن الله سبحانه .. وإن كان قد أوعد

٩

العاصين بالجزاء بالمثل ، لكن يبقى موضوع العفو ، أو التخفيف ، مراعاة لكثير من الأمور واردا في كثير من الموارد .. بل إن المقابلة بالمثل على نحو الدقة المتناهية قد لا تكون واردة إلا في مورد واحد ، وهو ظهور كثرة الكفر وشدته ، كما أشارت إليه الآية الكريمة التي تتحدث عن سبأ ، الذين أرسل الله عليهم سيل العرم ، حيث قال سبحانه : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (١).

ويلاحظ :

أن هذه الآية هي الوحيدة التي وردت في القرآن بصيغة «فاعل» ، للدلالة على المقابلة بين العمل الصادر منهم ، وبين الجزاء الصادر من الله سبحانه لهم. وللدلالة على وجود هتك وتعدّ على الله تعالى من قبلهم ، فناسب ذلك أن يكون في مقابله هتك لحرمتهم ومواجهه لهم بما يسوءهم وفي هذا نوع من التوسع في الإطلاق ، كما هو ظاهر ..

الثواب بالتفضل ، أم بالاستحقاق؟ :

ثم إنه لا شك في : أن التمرد على المولى يوجب العقوبة ، كما أنه بما يمثله من عدوان على نظام الحياة يوجب خللا في هذا النظام ، يستوجب العقوبة أيضا ، لأن ما يفعله الإنسان لا يقاس بحجمه المادي وحسب .. بل تلاحظ فيه الحيثيات الأخرى أيضا .. فمن كسر زجاج شباك الغير خطأ فعليه أن يعوض ما كسره ، وينتهي الأمر ، لكن من يضرب مولاه عمدا ، فإن القضية ليست مجرد ضربة بضربة. إذ يبقى موضوع هتك حرمته من حيث هو مولاه ، بدون تعويض ، كما أن الأمر بالنسبة

__________________

(١) سورة سبأ الآية ١٧.

١٠

لجانب الطاعة كذلك ، فإن البلخي قد ادعى : أن الثواب على الطاعة إنما هو بالتفضل لا بالاستحقاق ..

واستدل على ذلك : بأن التكاليف إنما وجبت شكرا للنعمة ، فلا يستحق فاعلها مثوبة عليها ، فما يعطيه الله للعبد عليها إنما هو تفضل منه.

ونقول :

إن هذا الكلام باطل ، إذ يقبح عند العقلاء أن ينعم أحد على غيره بنعمة ، ثم يكلفه ، ويوجب عليه شكرها ، من دون إيصال ثواب إليه على هذا التكليف ، وهم يعدون ذلك نقصا ، وينسبون من يفعل ذلك إلى حب الجاه والرياسة ونحو ذلك من المعاني التي لا تصح من الحكيم.

وهذا يعني : أنه إذا كلفه ، فإن عليه أن يثيبه على امتثاله لهذا التكليف .. وأن المثوبة بالاستحقاق ، لا بالتفضل.

وبعبارة أخرى :

إن الطاعة مشقة ألزم الله العبد بها ، فإن لم تكن لغرض كانت ظلما وعبثا ، وهو قبيح لا يصدر من الحكيم.

وإن كانت لغرض .. فإن كان يعود إلى الله فهو باطل ، لأنه تعالى غني عن العالمين. وإن كان الغرض عائدا للمكلف .. فإن كان هو الإضرار به كان ظلما قبيحا.

وإن كان هو النفع له ، فإن كان مما يصح أن يبتدئ الله به العبد ، فلماذا يكلفه به .. وإن كان مما لا يصح الابتداء به ، بل يحتاج إلى تكليف ، فإن العبد يستحق أن يعوضه الله عن تلك المشقة التي كلفه بها بمثوبة وأجر ..

وهذا معناه : أن مثوبة العبد إنما هي بالاستحقاق ، وهو المطلوب ..

١١

إستحقاق ناشئ عن التفضل :

والحقيقة هي : أن هذا الاستحقاق ناشئ عن التفضل ، وذلك ببيان : أن مالكية الله للعبد ولكل شيء ، وكون طاعة العبد إنما تتحقق بالاستفادة من نعمه وتفضلاته وفيوضاته تعالى .. ـ إن ذلك ـ يجعل تقرير أصل الثواب للعبد المملوك على أفعاله داخلا في دائرة التفضل ، فكيف إذا جعل له جزاء مضاعفا أضعافا كثيرة؟!.

ولكنه بعد أن قرر الله تعالى ذلك لعباده ومملوكيه بعنوان الجزاء ، وتفضّل عليهم بزيادة مقاديره .. وأصبح هذا قانونا إلهيا مجعولا ، فإن ذلك يدخله في دائرة الاستحقاق بعد أن لم يكن.

ولأجل ذلك لم يجز في حكم العقل أن يحرم الله سبحانه المطيع من هذا الثواب. ولو أنه كان تفضلا ، لجاز ذلك .. فكيف لو أراد أن يحرم المطيع ، ويعطي العاصي؟! فإن الأمر سيكون أشد قبحا ، وأعظم شناعة ، كما هو ظاهر لا يخفى.

وهذا من قبيل ما لو قرر رجل أن يجعل لولده جائزة إذا نجح في الامتحان ، فإذا نجح ذلك الولد ، فسيرى أن له حقا بمطالبة والده بتلك الجائزة. حتى إذا حرمه منها ، فسيجد نفسه مظلوما مهانا ، فكيف إذا حرمه منها ، وأعطاها لأخيه الراسب؟!

وبتعبير أوضح : إن إعمار الأرض ، وتحقيق الأهداف الإلهية في إيصال الإنسان إلى كماله ، يقتضي تزويده بالأدوات التي تمكنه من ذلك ، فكان أن أعطاه الله المشاعر ، والعقل ، والإرادة ، ووفر له جميع أنواع الهدايات : الإلهامية ، والحسية ، والفطرية ، والغرائزية ، والعقلية ، ثم اعتبره أهلا للخطاب الإلهي .. فجعل له قانونا ، وأكرمه ، وكلفه به .. وجعل له كيانا

١٢

وشخصية .. رغم أنه هو المالك له ، فإن مقتضى الأخذ بهذه السياسة هو الالتزام بلوازمها ، والاستجابة لموجباتها ، وترتيب آثارها .. فالذي جعلت له كيانا ، وكرامة ، ورسمت له هدفا ، وكلفته بالعمل للوصول إليه باختياره ، وقررت له حقوقا ، فإنه إذا أنجز ما طلب منه ، سيطالب بهذه الحقوق المجعولة له ، ولا يرضى بأن تعطى لغيره ، حتى لو كان ذلك الغير هو ولده ، أو أبوه ، أو أخوه ، وسيرى نفسه مظلوما إن حصل ذلك فعلا.

«بِما صَبَرُوا» :

ثم إنه مرة يكون الدافع للعطاء هو مراعاة خصوصية في المبذول له ، ككونه عالما ، أو لأجل حسن سلوكه ، أو إلخ .. فيعطيه ، ولو لم يصدر من ذلك الشخص أي فعل يستحق أن يقابل بشيء آخر ..

ومرة يراد بالعطاء أن يكون مقابل جهد يراد أن يكون جزاء له ، فتحتاج إلى تحقيق توازن بين المجازى به ، والمجازى عليه ، من حيث إن هذا أقل ، وذاك أكثر ، أو العكس ..

وقد يكون هذا العطاء أرجح من حيث الصفة التي يراد مراعاتها فيه ، وقد لا يكون كذلك ..

وبعد ما تقدم نقول :

هل يريد الله تعالى بقوله : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) أن يجعل العطاء والجزاء ، على نفس وجود طبيعة وخصوصية الصبر فيهم؟! .. أو أنه يريد أن يجازيهم على فعل صدر منهم ، وقد كان هذا الفعل تجسيدا لمفهوم الصبر في الواقع الخارجي؟!

إن الظاهر أن المراد هنا ، هو هذا الشق الثاني ..

وذلك لأن كلمة (بِما صَبَرُوا) تستبطن ، أو فقل : تصرح ، بأن هذا العطاء

١٣

قد كان بسبب وجود مبرر ، بل لأجل استحقاق واقعي لما تعطيه إياه.

وهذا معناه : أنه لا بد أن يكون مقدار وميزات الفعل الصادر من الأبرار ملحوظا في مقام العطاء ، ليصح أن يقال إن هذا في مقابل ذاك.

فالباء في قوله (بِما صَبَرُوا) إذن تفيد مقابلة هذا بهذا ، والتعويض به عنه ، وتفيد الآلية والتسبيب ، وأن الوسيلة إلى هذا الجزاء ، هي ذلك الصبر.

وهذا يقتضي : أن لا تكون هناك أية منة عليهم بهذا الجزاء ، لأنه أعطى في مقابل عمل .. وأن هذا العمل ليس عاديا بل هو يحتاج إلى صبر ، وتحمل ، وجهد ..

وبذلك يتضح السبب في : أن الله سبحانه قد استخدم نفس هذه الباء أيضا ، في قوله : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (١). وفي قوله : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) (٢).

الجزاء مقابل الصبر ، أم مقابل العمل؟ :

وقد تحسن الإشارة إلى أنه تعالى قد جعل الجزاء هنا ، مقابل الصبر نفسه ، لا مقابل العمل الذي صبروا عليه ، ليشير بذلك إلى شدة معاناتهم ، وأنها قد بلغت حدا أصبح نفس فعلهم صبرا ، وأصبح الجزاء على نفس هذا الصبر ..

وقد جاء بكلمة (صَبَرُوا) بصيغة الماضي ، لعله ليشير إلى أن هذا الصبر هو فعل اختياري لهم ، وليس أمرا مفروضا عليهم .. فليس حالهم

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٤٥.

(٢) سورة الرعد الآية ٢٤.

١٤

كحال ذلك السجين الذي يجبر على بعض الأعمال الشاقة .. بل هو صبر وحصانة قد اختاروها أنفسهم واختاروا هم الفعل الذي ينتجها ..

ويلاحظ هنا : أنه لم يذكر للصبر أي متعلق ، ربما ليفيد أن صبرهم هذا كان شاملا ، فهو صبر على الطاعات ، فلا يملون منها ، وصبر عن المعاصي ، فلا يقربونها ، وصبر على المصائب والبلايا. وصبر على الأذى في جنب الله ، وما إلى ذلك ..

وكل صبر لهم في هذه الموارد لم يأت على أساس العجز عن اختيار الطرف الآخر ، أو الاضطرار إلى التحمل ، بل كما يضطر المحتاج لبيع ما غلا ، بثمن بخس ، من أجل سد حاجته ، بل هو صبر الاحتساب ، وهو الصبر الواعي ، الذي تنتجه إرادتهم ، ويدفعهم حبهم لله لاختياره.

إنه صبر أنتجه لهم إطعامهم الطعام للمسكين ، واليتيم ، والأسير ، على النحو الذي وصف الله ورسوله .. وينتجه لهم الوفاء بالنذر ، وينتجه أيضا خوفهم من يوم كان شره مستطيرا ..

وهذا ما يفسر لنا السبب في أنه تعالى قال : (بِما صَبَرُوا)، ولم يقل : جزاهم بصبرهم ، فإن التعبير بالمصدر قد يوحي بأن هناك أمرا أو شدة قد فرضت عليهم ، وأنهم قد تحملوها. وهذا ما ليس بمراد قطعا ..

كما أن ما ذكرناه في معنى الباء ، إذا أضيف إلى سائر ما أشرنا إليه ، يجعلنا نعرف السبب في أنه لم يقل : «على صبرهم».

لذة الاستحقاق :

ولا بد لنا هنا من بيان : أن الجزاء على عمل فيه معاناة ، وصبر ، وإحساس بالاستحقاق له لذة أخرى تضاف إلى لذة نفس العطاء ، من حيث هو عطاء ..

١٥

فإن الجهد نفسه يجعل للعطاء لذته ، وللشعور بالاستحقاق لذة أخرى تضاف إلى ذلك.

وربما يمكن تأييد ذلك بما نشاهده من تعلق الإنسان ، وحرصه الشديد على كل شيء يناله بعد تعب وجهد. بخلاف ما يحصل عليه بسهولة ويسر ، فإنه لا يكون له ذلك التعلق به ، بل يسهل عليه التخلي عنه ، تماما. قال الشاعر :

ومن أخذ البلاد بغير حرب

يهون عليه تسليم البلاد

ولعل سبب اللذة بما يبذل الإنسان في سبيله جهدا ، هو أن بذل الجهد يكون سببا في الشعور باستحقاق الجزاء .. وهذا يعطي الإنسان شعورا بالعزة ، والكرامة ، وبالانتصار ، وبالاستقلال في شخصيته وكيانه ، ويمنحه ثقة بنفسه.

فعطاء الجزاء إذن له قيمته ، وله لذته المميزة. وربما لا يكون لعطاء التفضل هذا النوع من المزايا ، وإن كانت له مزايا من نوع آخر ..

وهناك شعور آخر قد يتمازج مع لذة الاستحقاق ، وما ينشأ عنها ، ألا وهو شعوره بأن ما يعطى له إنما هو نتيجة ما بذله من جهد وتعب ، فهو بذلك قد أسهم في رفع نقصه ، وتحويله إلى كمال ، وبدّل عجزه بالقوة ، وحاجته بالغنى ..

وهذه مزايا أخرى يحبها ، ويعتز بها ، وترضى روحه بها.

كما أن علاقته بنتاج فعله وجهده الذي كان به كماله ، وغناه وقوته ، ستكون علاقة لها مغزاها العميق ، وأثرها الظاهر في روحه ووجدانه ، وإحساسه بالرضا والغنى ، وبالكمال والقوة.

وخلاصة الأمر : أن للنعمة التي أعطيت له لذة ، وبهجة ، ورونق ..

١٦

وللشعور بأنها عن استحقاق بسبب تعب وجهد ؛ لذة أخرى .. ثم إن هناك أيضا لذة الكمال والشعور به ..

استطراد .. للتوضيح :

ونستطيع أن نستشهد على هذا الذي قلناه بما يلي :

ما ورد عنهم صلوات الله وسلامه عليهم : «تهادوا تحابوا فإن الهدية تذهب بالضغائن» (١).

إذ إن الذي يقدم الهدية ، هو الذي يحب من أخذ الهدية ، ولعله لأن المعطي إنما يبذل له ما حصله بجهده وعرقه ، أو ببذل ماء وجهه ، أي : أن جزءا من كيانه ، ووجوده قد تجسد بهذا النتاج. والإنسان يحب نفسه ، وكل متعلقاتها ، ويتعامل مع كل ما يعود إليها ، أو يرتبط بها ، بصورة أكثر حميمية ، وانجذابا ، من تعامله مع الأغيار.

وهذا يشير إلى أنه حين أمرنا الله تعالى بالبذل للآخرين ، فإنما أراد منا أن ننظر إليهم ، وأن نتعامل معهم على أنهم جزء من كياننا ومن وجودنا ، وما ذلك إلا لأن تعاملنا هذا سيغير الكثير الكثير من طبيعة حياتنا ، وعلاقاتنا ومواقفنا من بعضنا البعض.

أما من يأخذ الهدية ، فقد يكون في حرج وضيق ، حين يفكر بأن المعطي قد يمنّ عليه بما أعطاه ، ويذكّره به حتى بالسلام ، وفي البسمة واللفتة ، والنظرة ، وقد تذهب به أفكاره وخيالاته كل مذهب ، ليصل إلى حد أن يفكر بأن يبعده عنه ، ويتخلص منه ، ولو بالأسلوب السيء

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧٢ ص ٤٤ وج ٧٤ ص ١٦٦.

١٧

والمهين. وقد شاع ذلك القول المأثور : «إتق شر من أحسنت إليه» (١).

وشاهد آخر على ذلك ، هو أن الله سبحانه يقول : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(٢).

فإن الله سبحانه حين شرع أحكام الزواج ، لم يذكر واجبات وأحكاما إلزامية خاصة بهذا الواقع الجديد ، سوى عدد يسير ، ربما لا يصل إلى عدد أصابع اليد الواحدة .. واكتفى فيما عدا ذلك بالأحكام العامة ، الشاملة لكل مسلم ..

مع أن الاحتكاك في الحياة الزوجية فيما بين الزوجين ، يفوق ما يكون في أية حالة أخرى .. والأجواء في داخل البيت الزوجي مهيأة للتدخل في كل شيء يمكن تصوره في مجال تعاطي إنسان مع إنسان آخر ..

وذلك من أعظم الدلائل على أن هذا الدين هو من عند الله تعالى .. وهو من مظاهر الإعجاز التشريعي ، الدال على أن واضعه هو الله العالم بالسرائر .. حيث إنه قد تبين من خلال هذا التشريع أنه تعالى لا يريد بناء الحياة الزوجية على أساس مصلحي ، أو تجاري ، أو سياسي ، أو على أساس الخضوع والانقياد لظروف اجتماعية ، أو غيرها .. لأن المتوقع في هذه الحال هو أن تنتهي العلاقة بمجرد فقدان تلك المصلحة ، أو انتهاء ذلك الظرف السياسي ، أو الاجتماعي ، أو غيره .. أو إذا وجد أي من الشريكين موردا آخر أكثر ربحا ، وأعظم فائدة ونفعا.

__________________

(١) تفسير الميزان ج ٢ ص ٣٥٢.

(٢) سورة الروم الآية ٢١.

١٨

كما أنه لا يريد أن يقيم العلاقة على أساس اقتضاء الغريزة والحب الشهواني ، فإنه تأثير سيتضاءل أيضا إلى حد التلاشي التام ؛ حينما تفقد الغريزة فاعليتها ونشاطها ، أو حينما تخبو جذوة الشهوة ، لأي سبب كان ..

بل يريد أن يقيمها على أساس أقوى من ذلك كله ، يستطيع أن يكون هو الحاكم ، والمؤثر ، في مختلف الظروف والأحوال ، ألا وهو الحب الإنساني ، والنظرة الإيمانية ..

فكان أن سعى إلى إثارة المشاعر الإنسانية ، في كلا الطرفين ، تجاه الطرف الآخر ، وهيأ المناخ لتمازج تلك المشاعر ، لتنتج من ثم حبا إنسانيا صافيا وخالصا ، يحمل في داخله معنى القيمة ، ومعنى الإخلاص ، ويتنامى في ظل الرعاية الإلهية ليلتقي بالوجدان ، فيهبه حياة ، ويقظة دائمة ، ويتأصل ، ويتجذر ، ويتعمق بالإيمان ، والتقوى .. ويصان ويحفظ في ظل الإحساس بالرقابة الإلهية والوجدانية.

ومن هنا نجد : أن التشريع الإلهي لم يقم نظام الحياة الزوجية على أساس الحق والعدل. وقهر الطرف الآخر به ، وفرضه عليه .. إذ أنه لم يشرع واجبات كثيرة يمكن المطالبة بها لأي منهما ، وذلك الذي شرعه وفرضه فعلا ، لن يحقق لهما الراحة ، والسعادة ، والهناء ، إلا بقدر ما يحجزهما عن العدوان والتظالم فيما بينهما ، حين تبلغ بهما الأمور إلى الخطوط الحمراء ، حيث يكمن الخطر ، وتتعمق الهاوية السحيقة.

ولسوف يدركان من خلال التجربة العملية : أن هذا ليس هو طريق نيل السعادة ، بل إن نيلها وسائل وطرق أخرى لا بد من البحث عنها ..

ولن يطول بهما المقام ، إذ سيدركان : أنه لا بد لهما من العودة إلى ما يريد الله لهما أن يعودا إليه ، ألا وهو التوادّ ، والتراحم ، حسبما أشارت

١٩

إليه ، الآية الكريمة : (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (١) أن الملاذ والمنقذ هو الحب الإنساني ، لا الحب الغريزي والشهواني ، الذي ليس هو في الحقيقة إلا تعبيرا آخر عن الأنا الطاغي ، والمتمرد ، الذي يريد أن يستأثر باللذة ، وأن يسعد بها ، بأية قيمة وبأي ثمن.

والحب الإنساني والإيماني : لا يرضى بديلا عن أن يصبح كل من الزوجين جزءا من شخصية الطرف الآخر ، ومتمما لكيانه ، ووجوده : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ).

ولكن : الله سبحانه لا يريد أن يوجد هذا الحب بصورة إعجازية ، وبجبرية قاهرة .. وإنما يريد لهما أن يقوما معا بتهيئة أسباب وجوده ، وموجبات نشوئه. وأن ينتجاه بصورة طبيعية ، وأن يتنامى في داخل ذاتهما ليصبح جزءا من التكوين الحقيقي لشخصيتهما الإنسانية.

وقد اعتمد من أجل تحقيق ذلك عنصر التضحية المتبادلة ، والتي تكون عن إرادة واختيار ، ومن منطلق المعرفة ، والوعي ، والإدراك لحقيقة حاجاتهما الحياتية ، في مختلف المجالات ..

فحين يشعر كل من الزوجين بضعف الطرف الآخر ، وبحاجته للمساعدة والرعاية ، فستتحرك مشاعر الرحمة فيه ، وسيدعوه ذلك لمد يد العون له. حتى إذا تكرر هذا العون والتعاهد له مرة بعد أخرى ، فإن ذلك سيجعله يتعلق به ، لأن جزءا من جهده ، ومن عرقه ، قد تجسد فيه ، وسيزداد هذا التعلق على مر الأيام تبعا لتكرر ذلك بسبب اقتضاء الطبيعة الإنسانية له ..

ولعل هذا يفسر لنا سرّ شدة تعلق الأم بطفلها ، فإن سببه هو مدى ما

__________________

(١) سورة الروم الآية ٢١.

٢٠