تفسير سورة هل أتى - ج ٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة هل أتى - ج ٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩١
الجزء ١ الجزء ٢

هذه الخصوصيات معان تناسب الحال.

إنه تعالى يريد أن يحقق الانسجام بين المعاني التي تتشكل منها ملامح الصورة بجميع عناصرها ، وذلك حين يحقق الانسجام بين الآنية والأكواب التي يقدم بها الشراب .. ليدرك الإنسان من خلال ذلك مستوى من الكرامة والإعزاز الإلهي للأبرار.

ولأجل ذلك : لم يتحدث الله سبحانه عن طعم الشراب هنا ، بل تحدث عن النواحي الجمالية التي يريد لها أن تفرض مستوى أعلى من اللذة التي يعطيها طعم الشراب.

وخلاصة القول : إنه تعالى يتعاطى مع هذا الأمر على قاعدة إيجاد الحوافز ، وانشداد الأرواح إلى نيل هذا الشرف العظيم .. ولأجل ذلك ، فإنه قدم صورة جمالية في مستوى الإعجاز ، حيث أراد أن يرتفع بالإنسان إلى مستويات من الإحساس الأشد رهافة ، والإدراك الأعمق ، والأكثر تجذرا وأصالة .. وهو يهيء له صورة لا بد له من التعاطي معها بإيجابية وانجذاب حقيقي ، وهو يدرك الجمال الساكن في تلك الصورة ، والظاهر بمستوى إعجازي في التناسق والتكامل .. فتلذّ روحه من خلال تذوقه وإدراكه لذلك بعمق ..

* * *

٦١
٦٢

الفصل السادس عشر :

(قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً)

٦٣
٦٤

قوله تعالى :

(قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً).

«قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ» :

وقد ظهر : أن ثمة حالة إعجازية ، تظهر من خلال الصورة التي رسمتها الآيات لآنية من فضة ولأكواب من فضة ، وهي في نفس الوقت قوارير ..

وذلك لأن الفضة التي نعرفها لا ينفذ البصر منها إلى الجهة الأخرى ، بل هو يرتد عنها عاجزا عن اختراقها. فكيف تكون ـ والحالة هذه ـ قوارير؟! ما دام أن القوارير ينفذ البصر منها بسبب شفافيتها!! ..

إن هذه صورة جمالية إعجازية رائعة .. أن تتمازج صفات القوارير مع صفات الفضة ، من حيث الصفاء ، والشفافية ، فقد روي عن الإمام الصادق [عليه‌السلام] : أن البصر ينفذ من فضة الجنة ، بسبب شفافيتها ..

ومن حيث التماسك ، في مواجهة الصدمات ، إذ إنها لا تتحطم كما تتحطم القوارير ، بل هي تحتفظ بتماسكها ، كالفضة ..

وكذلك من حيث اللمعان والبريق ..

ثم من حيث تركيبة العنصر الذي يكون للفضة ..

وأيضا من حيث اللون الخاص بها ..

ثم من حيث ليونة ملمسها ..

٦٥

وكرامة معدنها ، وما له من قيمة اعتبارية ..

إن لكل مفردة من هذه المفردات ، ولجميع هذه الصفات والميزات لذة تناسبه : حسية تارة ، وروحية أخرى ، وذوقية بجمالياتها المختلفة ثالثة ..

ثم هناك لذة رؤية الشراب في داخلها ، والإحساس بالواجدية له باستمرار ..

ثم تأتي اللذة الناشئة عن دقة الصنع ، التي أشير إليها بقوله تعالى : (قَدَّرُوها تَقْدِيراً ..) وما إلى ذلك ..

وعلينا أن لا ننسى أخيرا .. أن هناك لذائذ تنشأ عن ملاحظة كل عنصر بذاته ، فلكل عنصر نعيم يناسبه .. فإن هناك لذة ونعيم بملاحظة المجموع أيضا من حيث هو مجموع مركب متناسق ، يراد له أن يشير بشكله المجموعي إلى أمر ما ..

فإن بعض الأمور إنما تعطي حالة جمالية وإيحائية في خصوص حالة اجتماعها وتركيبها على صفة خاصة ، فإذا انفرد بعضها عن بعض ، فإنها تفقد أي جمال وإيحاء ، بل ربما تصير إلى حالة متناهية في السذاجة ، وفي القبح.

ولكن الأمر هنا ليس كذلك ، إذ إن للعناصر المتمايزة جمالها الأخّاذ ، ولها بالانضمام إلى بعضها البعض جمال آخر رائع ، يضاف إلى ما عداه. تماما كما لو أردت أن تتناول طعامك في داخل غرفتك ، بما هي عليه من حالة الفوضى. أو أردت أن تتناوله في حديقة غناء ، فسوف تجد أنك في الحديقة تحصل على لذة أخرى تضاف إلى لذة الطعام نفسه ..

٦٦

توضيح واختصار :

إن قيمة الذهب في الدنيا لا يجب أن تكون هي نفس قيمته في الآخرة. ومع افتراض كونها كذلك ، فإن لكل معدن قيمته ، تفرضها ميزاته ، وأهميته الخاصة به. التي يفرضها حجم تأثيرها وتأثيره في الهدف الذي يراد الوصول إليه ، وقيمة ذلك الهدف وحساسيته الفعلية ، ومن الواضح : أن ذلك يختلف ويتفاوت .. فقد لا يصلح هذا للموضع الذي يصلح فيه ذاك ، ولا يؤدي وظيفته ، كما أنه قد يكون للمكان والزمان ، والحالات التي يراد الاستفادة منه فيها دخالة ظاهرة في إعطاء القيمة والأهمية والامتياز لأحدهما على الآخر ..

وفيما نحن فيه نقول : إن الذي يناسب الصورة الجمالية التي يراد رسمها ، وتكوينها ، وإظهار التناسق الفريد بين عناصرها هو خصوص أن تكون الأكواب والأواني من فضة ، إذ لا يراد التأكيد على الآنية والأكواب ، من حيث هي ظروف يوضع فيها شيء ما ، كالشراب أو غيره ، كما لا يراد التأكيد على الشراب من حيث طعمه أو نكهته ، أو نحوهما .. بل يراد ـ كما قلنا ـ رسم صورة جمالية ، واقعية ، من خلال إبراز تناسب ، وتناسق ، وتكامل بين عناصرها ، الأمر الذي لا بد أن يترك أكبر الأثر على الذوق ، والإدراك ، والروح ، والشعور ..

فلا مجال للسؤال بعد هذا عن السبب في عدم الاستفادة من عنصر الذهب ، إذ لا مكان لهذا العنصر أساسا في عناصر هذه الصورة التي يتم الحديث عنها ، والتي يراد بها تحريك العقل ، والفكر ، والمشاعر ؛ لتتعلق بالجنة ، ولتندفع للعمل من أجلها ..

٦٧

«قدّروها» :

وإن دقة الصنع وحسن هندسة الشيء ، ومطابقة المراد والمطلوب للضوابط ، لهو أمر ترتاح له النفوس ، وتلتذ به الأرواح ، سواء أكان ذلك الضبط والدقة في ناحية المضمون ، ـ وتركيبة العناصر ، والتقدير للنواحي الهندسية ـ ، أم كان تقديرا لما يوضع فيها ، من حيث اشتماله على المقادير المطلوبة في الطعم ، واللون ، والرائحة ، والاشتداد ، والانسياب ، واللزوجة ، وغيرها من صفات ..

وأما لماذا لم يقل : قدّرت تقديرا ، بل قال : «قدّروها» فلعله لأجل إظهار الاهتمام بالدلالة على فاعل هذا التقدير ..

ثم أكد الفعل بالمصدر ، فقال : «تقديرا» ربما للتدليل على أن هذا التقدير قد جاء عن قصد ، وعناية ، واستجابة لمقتضيات واقعية ، تدخلت في صنعها إرادات للأبرار ، وهي التي فرضت هذه الأشكال ، والأحجام ، والمسافات ، والحالات على ما هي عليه ..

ولو أنه قال : قدّرت ، فلعله يفهم من ذلك : أن الجنة قد خلقت وفق هندسة معينة ، بغص النظر عن إرادات وأفعال العباد ، وأن الله يريد أن يسكن فيها من أطاعه ، لكي يستفيدوا منها ، على ما هي عليه ، من دون أن يكون لهم أي دور أو اختيار في هندستها ، وصنعها ، وطبيعة تكوين الأشياء فيها ..

الضمير في «قدّروها» :

وقد قال : قدروها ، والظاهر أن الضمير عائد إما إلى الملائكة ، أو إلى الأبرار ، ولعل هذا هو الأنسب ، إذ لا حديث عن غيرهم ، ولا يصح إرجاع الضمير إلى لفظ الجلالة ، لأنه ضمير جمع .. ولا إلى الولدان المخلدين ،

٦٨

لأنهم إنما خلقوا ليسعد الأبرار بوجودهم ، وليس لهم دور في صنع الجنة ..

فالأبرار هم الذين لهم دور في هذا التقدير ، وذلك لأن عملهم للصالحات في الدنيا ينتج لهم حالات من النعيم تناسب ذلك العمل ، وتحمل مواصفاته ، وصفاءه ، وخلوصه ، وجهاته ، وميزاته ..

ولذلك اختلفت عليها المثوبات من حيث الكم ، والنوع ، والمواصفات ، حيث تجد في النصوص أن لكل عمل جزاءه المناسب له. فهذا ثوابه قصر ، وذاك ثوابه حور عين ، وذلك ثوابه تكون حدائق وأعنابا ، وهكذا .. وهذا العمل يوصل إلى مقام كذا .. لكن عملا آخر يوصل إلى مقام آخر.

وإذا كانت جارحة بعينها هي التي أنجزت عملا ما ، ـ كالعين حين تغض عن محارم الله ـ فإن الثواب سيكون متناسبا مع ما يتطلبه عمل تلك الجارحة ، ومع مستوى ما بذلته من جهد ، وغير ذلك من حالات ..

التقدير :

وبديهي : أنه لا بد في تقدير الأمور من الاستناد إلى معيار يفرض هذا المقدار أو ذاك ، ولا يكون الأمر عشوائيا .. فمن أراد بناء غرفة ، فإن سعتها سوف يفرضها غرض ما. وهذه السعة تفرض مستوى ارتفاع تلك الغرفة ، ونظام التهوئة الذي يعتمد فيها ، وكميات النور التي تحتاج إليها ، ثم مراعاة ذلك في فتحاتها ، وسعة الباب وارتفاعه ، وما إلى ذلك ..

وحين يزرع الفلاح الحب ، فإن الله هو الذي ينبته ، لكن وفق نظام يراعي فيه الزارع كمية البذر ، وكمية المياه في الري ، وطبيعة التربة ، وموقعها في الأماكن الحارة أو الباردة ، في المرتفعات أو المنخفضات ،

٦٩

وما إلى ذلك ..

فالعمل الصالح ، وحالاته ومستوياته ، ونوعه ، وميزاته ، وما إلى ذلك .. قد أوجد هذا النعيم الذي يحصل عليه ، وأثّر في مقاديره ، وأحجامه ، وأشكاله ، وأنواعه ، ومستوياته ، وميزاته ، وأوجد لشراب الأبرار مثلا هذا الطعم ، وهذا اللون ، وهذه الرائحة ، وذلك المقدار ، وتلك اللزوجة ..

لكن شخصا آخر قد تكون لشرابه ميزات وخصائص أخرى ، ويلتذ به بصورة أقل ، أو أعمق ، لأن هذا هو ما أنتجه له فعله ، وفرضه له عمله في دار الدنيا ..

والتقدير نفسه من أسباب اللذة أيضا ، مع أنه لا ينفصل عن وجود ما تجسد به .. إذ إنه ليس شكلا يدخل في صورة الهيكلية العامة ، ثم يفقد معناه. بل هو باق في شعور الإنسان بهذه المقايسة بين عمله ، وبين ما أنتجه له ذلك العمل ..

تنوع الملذات :

وقد ظهر : أن هناك لذات فكرية تنشأ من إدراك المعادلات ، وهناك لذة ذوقية منشؤها إدراك الانسجام والتناسق في الأشكال الهندسية ، وهناك لذة روحية من خلال الشعور بالكرامة الإلهية ، والرضا ، وهناك لذات حسية ، من خلال الشعور بطعم الشراب ، في قوله تعالى : (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً ..) وكذا الحال في نعومة الحرير ، هذا بالإضافة إلى لذات للمشاعر ، وغير ذلك ..

* * *

٧٠

الفصل السابع عشر :

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً)

٧١
٧٢

قوله تعالى :

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً).

«ويسقون» : لماذا الواو؟!

وقد قال تعالى : «ويسقون» بالواو ، ربما لأجل الإلماح إلى استقلالية هذا النوع من النعيم ، لأن نفس هذه الاستقلالية لها لذتها أيضا .. وقد جعل نفس سقيهم هو محور الحديث ، لا نفس الشراب الذي يسقى ، لأنه لا يريد أن يجعل الشراب نفسه هو المحور في ذلك ، بحيث تكون الأمور الأخرى من حالاته ، وشؤونه التي تزيد في لذته.

ويؤكد هذه الاستقلالية ، إضافة كلمة «فيها» بعد كلمة «يسقون» كما سنرى. إذ إن نفس هذا السقي في الجنة هو الآخر نعيم يضاف إلى ما سواه ..

ولو أنه لم يرد إفادة هذا المعنى ، لأمكن الاكتفاء بكلمة : «يسقون».

«يُسْقَوْنَ» :

ويلاحظ : أنه تعالى قال : «يسقون» ولم يقل : «يشربون» ..

وما ذلك إلا لأن المراد هو تكريمهم ، ليتنعموا بهذا الشعور بالعزة وبالكرامة الإلهية ، ويؤكد هذا الشعور : أنهم في الجنة .. وأن هذا مما هيأه الله لهم.

فهذه المعاملة تشير إلى أنهم موضع عناية ، واهتمام ورعاية ، فهم لا يكلفون بالسعي إلى حاجاتهم ، بل هي تقدّم لهم ، للدلالة على قيمتهم

٧٣

وموقعهم ، وفضلهم ، واستحقاقهم ..

«فيها» :

أما كلمة «فيها» فقد أشرنا إلى أنه تعالى يريد من خلالها ، تحسيس الأبرار بأنهم في الجنة ليزيد ذلك في بهجتهم وسرورهم ..

«كاسا» :

والتنوين في قوله : «كأسا» هو تنوين التنكير ، وهو يشير إلى الإفراد والوحدة ، ولعله لأجل إفهام الأبرار أن ريّهم الدائم يتحقق بشربهم لهذا الكأس ، بحيث لا يحتاجون إلى غيرها. خصوصا وأنها تبقى كأسا مملوءة دائما ، لا ينالها النضوب ، ولا تصير قدحا فارغا حسبما تقدم.

وفي هذا التنوين أيضا ، إبهام لحالات تلك الكأس ، لعل الهدف منه إطلاق عنان الخيال الذي سيذهب كل مذهب في رسم صورة هذه الكأس ، شكلا ، ولونا ، وحجما ، ونوعا. الأمر الذي يوجب درجات غير متناهية من التلذذ بجمالها ..

وبما أن إطلاق كلمة الكأس إنما يصح في صورة كونها مملوءة ، فإن الخيال لا بد أن يسعى أيضا لتلمس حقيقة ما فيها من شراب ، وما يوجبه من لذة غير متناهية أيضا ، وكذلك الحال بالنسبة للتلذذ بذلك المزيج ..

ويؤكد إرادة هذه المعاني ، وتعمد الإبهام والإجمال ، أنه تعالى لم يذكر حقيقة أو نوع الشراب الذي يكون في ذلك الكأس ، بل ذكر لهم مزاجه فقط ..

لما ذا التعدية المباشرة :

إنه تعالى قال : (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً ..) فجاءت التعدية مباشرة ، ومن

٧٤

دون توسط حرف الجر ، فلم يقل : يسقون من كأس ، أو بكأس ، أو نحو ذلك ..

مع أن الشرب إنما يكون لما في الكأس لا للكأس نفسه ، فما هو السبب في ذلك؟!

الجواب :

أنه تعالى يريد أن يشير إلى أن كل ما في هذه الكأس مطلوب ، ومرغوب فيه ، وليس فيها ما يرغب عنه ، فليس فيها ما هو من قبيل الثمالة المتبقية في قعر الكأس ، والتي يعافها الشارب ، لكونها مظنة تجمّع الترسبات ، التي قد تختلف مع سائر ما كان في الكأس ، إما في حقيقتها ، أو في طبيعة تشكلها ، أو نحو ذلك ..

فإذا كان جميع ما في الكأس له حالة واحدة ، فإن هذا يعطي الإنسان المزيد من الطمأنينة واللذة بما يشربه ، حيث يشعر بصفائه وبخلوصه من كل ما يمكن أن تعافه النفس ..

فلا فرق بين الثمالة وبين سواها ، لا في الشكل ولا في المضمون. فلا حاجة إلى «من» التبعيضية. بل لا معنى لإدراجها في الكلام ، لأن ذلك قد يخل في المعنى المقصود ..

واستعمال كلمة «من» وإن لم يكن فيه تصريح بوجود ثمالة في الكأس ، ولكنه لا يلغي احتمالها .. أما التعبير بشرب الكأس ، فهو يلغي حتى هذا الاحتمال .. حيث يدل على أن جميع ما في الكأس لا شائبة فيه ، وسيشربه أولئك الأبرار ..

بين «يسقون» ، و «يشربون» :

إنه تعالى قال : (وَيُسْقَوْنَ فِيها ..) ولم يقل يشربون .. وذلك لتحاشي

٧٥

الإيحاء بأن الأبرار هم الذين يتولون خدمة أنفسهم في هذا الأمر ..

وللتأكيد على أن هناك من يتولى خدمتهم ، وتكريمهم بتقديم الشراب لهم.

«كان» :

وتأتي كلمة «كان» في قوله تعالى : (كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً ..) لتشير إلى أن هذا المزاج له أصالة ، وكينونة وثبات من بدء التكوين. وله رسوخ ، وبقاء ، واستدامة على هذه الحالة ؛ في الحال ، وفي المستقبل.

فليس هذا المزاج حادثا وعارضا على شيئين كانا على حالة الانفصال .. ولا مجال لإطلاق أوهام الإنسان ومخاوفه حول درجة هذا الانضمام والامتزاج ، وعمقه ومداه ..

«مزاجها» :

ويلاحظ أولا : أنه تعالى قد عبر أيضا بكلمة «مزاجها» ، فلم يقل : «ممزوجة» ، ولا «مزجت» ، حتى لا يكون في ذلك أية إشارة إلى فاعل بعينه ؛ قد تولى هذا المزج. لكي لا يثور شعور بأن هذا المزج مرهون بإرادة مازجه ، ولعل هذه الإرادة تغيب لسبب أو لآخر ..

كما أن التعبير بالفعل الماضي ، كأن يقول : مزجت ، غير صحيح ، لأنه يفيد حدوث هذا الأمر ، بعد أن لم يكن .. أما كلمة (كانَ مِزاجُها ..) فهي تفيد أن هذا المزاج ثابت ومستمر منذ نشأة ذلك الشراب. فلا مجال لتوهم عروض المزج على ذينك الشيئين ..

ويلاحظ ثانيا : أنه تعالى لم يقل : «كانت ممزوجة بالزنجبيل».

وربما كان سبب ذلك هو أنه تعالى لا يريد أن يجعل لأي من العناصر أية درجة من الأصالة ، أو المحورية .. فإن ذلك قد يؤثر على

٧٦

النظرة إلى سائر العناصر ، فإذا قيل : الشيء الفلاني ممزوج بالزنجبيل ، فسوف يفهم أن لذلك الشيء أصالة ومحورية ، والزنجبيل طارئ عليه .. حتى ولو كان المزاج في أصل التكوين.

وقيام هذا التوهم معناه : أن يفهم أن لذلك العنصر دور الأصالة ، والأرجحية ، ويكون العنصر الآخر أقل اعتبارا ، وأضعف تأثيرا ..

ويلاحظ ثالثا : أن الضمير في قوله : «مزاجها» يرجع للكأس ، وكأنه يريد الإلماح إلى أن الظاهر من الكأس هو الشراب ، وليس للفضة والقواريرية وجود ظاهر ومتميز تناله الباصرة ، فكأنه يشرب الكأس ، لأن الكأس يحس بها ، باللامسة ، ولكنه يشرب محسوسه بالباصرة ، وهو الشراب في داخلها ، ويذوق الكأس بالذائقة ، فالكأس المحسوسة بالباصرة والمذوقة بالذائقة كان الزنجبيل مزاجها ، أما الكأس الملموسة ، فإنه تجاهلها إلى درجة أنه لم يبق منها إلا الاسم.

«زنجبيلا» :

هذا .. وقد ذكر الزنجبيل بتنوين التنكير ، ـ ربما ـ ليشير إلى أنه زنجبيل لا نظير له ، ولا يخطر حسن لونه وطيب وذكاء رائحته على بال ، ولا يمر في خيال ، ولو أنه عرّفه ب «أل» فقال : «الزنجبيل» ، فلربما يتوهم أنه كهذا الزنجبيل الذي عرفناه ، وألفناه في دار الدنيا ، مع أن زنجبيل الدنيا لا يقاس بزنجبيل الآخرة ، ولعلهما لا يتشاركان بصورة حقيقية بغير الاسم ..

مواصفات الزنجبيل :

هذا وللزنجبيل في هذه الدنيا خصوصيات ، قد يكون في الآخرة ما يشبهها ، ولكن لا شك في أنه بدرجات ومواصفات عالية جدا تزول معها

٧٧

كل السلبيات التي قد تكون في زنجبيل الدنيا ، بل ربما تصل إلى حد المباينة لمواصفاته ..

خصوصيات في الزنجبيل :

ففي الزنجبيل :

١ و ٢ ـ حرارة ، ولذع .. ولهما حين يمازج الطعام أو الشراب ، دور في إثارة الشهية إليه ، وإقبال النفس عليه. لما يثيره في النفس من حالات لا توصف من البهجة والالتذاذ.

٣ ـ طيب رائحته ، وطبيعة نكهته ..

٤ ـ ثم هناك لونه الذي يوجب استقرار النظر عليه ، والتلذذ به ..

وثمة خصوصيات أخرى في الزنجبيل ، من حيث إنه يثير حالة من الانبساط ، ويضاعف مستوى رهافة المشاعر ، ويزيدها حيوية ونشاطا. لكي تستفيد ـ من موقع الطهر ـ من مختلف أنواع النعيم الذي هيأه الله تعالى للأبرار في الجنة ..

لا سلبيات للزنجبيل في الآخرة :

وبعد .. فقد أظهرت الآية الكريمة نفسها ، أنه ليس فقط لا توجد أية سلبيات في الزنجبيل ، بل هو في أعلى درجات الملائمة. فقد ظهر : أن لذع وحرارة الزنجبيل لا يمثل عائقا عن التلذذ به ، ولا من إساغة الشارب له بيسر وسهولة.

مع العلم بأن لنفس السهولة لذتها أيضا .. فإن الله سبحانه قد بيّن أن ذلك الشراب الممازج لهذا الزنجبيل عبارة عن عين في الجنة تسمى سلسبيلا ، وذلك ليبعد عن مخيلة الإنسان أي احتمال يوجب شيئا من التردد في الإقدام على ذلك الشراب ، أو أي تخيل لأية صعوبة في شربه ،

٧٨

بل هو سيكون أدعى للتشوق إليه ، وللإحساس بالهناء والطمأنينة له. والتذاذهم به وبغيره من نعيم الجنة الذي يوعدون به ..

فإذا كان ذلك الشراب من عين في الجنة ، فالجنة أعدت للنعيم ، والتلذذ.

وإذا كان ذلك الشراب سلسبيلا ، فالسلسبيل صفة يراد بها المبالغة في وصف السهولة ، والسلاسة ، والإساغة ، بيسر وراحة ..

كما أن مجرد كونه كذلك ، يجعله أمرا مميزا ، وخارجا عن المألوف والمعروف ، وهو خرق العادة ، حيث جمع بين ما يمنع من الاستساغة والسهولة ، ـ وهو الحرارة واللذع ـ وبين كونه في منتهى السهولة والاستساغة .. وهذه الفرادة من شأنها أن ترفع درجة الرغبة به ، والالتذاذ بالحصول عليه أيضا ..

أسئلة تحتاج إلى أجوبة :

وتبقى هنا أسئلة كثيرة ، تحتاج إلى إجابات ، ومنها السؤال :

ـ عن السبب في اختيار الزنجبيل هنا ، والكافور هناك؟!

ـ وعن السبب في وصف الكأس ، بأنها عين؟!

ـ وعن إعراب كلمة عينا ، فهل هي بدل من قوله : «زنجبيلا» ، أو بدل من كلمة : «كأسا»؟!

ـ ولماذا لم يقل : كان مزاجها زنجبيلا ، كالسلسبيل؟!

ـ ولماذا جاء بكلمة : «فيها» من جديد؟!

وفيما يلي بعض ما يفيد في الإجابة على هذه الأسئلة وسواها ..

٧٩

زنجبيل الدنيا .. والآخرة :

علينا أن نعترف بأن من الممكن أن نعجز عن معرفة السبب الحقيقي في اختيار الزنجبيل هنا ، ليكون هو المزيج للشراب ، دون سواه كالعسل ، أو اللبن مثلا ..

ولكن لا شك في أن للزنجبيل خصوصية بارزة فيه أكثر من سائر الخصوصيات ، وينتقل الذهن إليها بمجرد سماع هذه الكلمة .. كما أن في العسل خصوصية أخرى تكون هي الأبرز ، ويتوجه إليها الذهن بمجرد سماع كلمة عسل ..

وهكذا الحال بالنسبة للبن ، وغيره.

كما أن الحال في أنواع الفاكهة هو ذلك ، وكذا سائر ما يذكر من مفردات النعيم ، وحالات التكريم في الجنة.

والخلاصة : أن ذكر الزنجبيل هنا ، والكافور في ما سبق ، يشير إلى أن تلك الخصوصية التي يريد الله سبحانه أن يفهمنا أنها قد روعيت ، في هذا النوع من النعيم ، وأنه يمكن الاستعانة في إدراكها ـ ولو بصورة مجملة ـ بما يتشارك معه في الاسم في هذه الدنيا .. وليذهب بعد خيالنا إلى أبعد مدى يستطيعه في تصور حقيقة الفرق بين ما هو في الدنيا ، وما هو في الآخرة ، فيما يرتبط بهذه الأمور ، وحالاتها.

وقد تقدمت الإشارة إلى خصوصيات الكافور وأشرنا آنفا إلى بعض خصوصيات الزنجبيل في الدنيا ، والتي ربما يراد الإشارة إليها في زنجبيل الآخرة ، فلا نعيد ..

بين «الكافور» و «الزنجبيل» :

ويبقى أمامنا سؤال عن السبب في اختيار الكافور في قوله تعالى :

٨٠