تفسير سورة هل أتى - ج ٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة هل أتى - ج ٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩١
الجزء ١ الجزء ٢

الفصل الرابع عشر :

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً)

٤١
٤٢

قوله تعالى :

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً).

«وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها» :

ثم إنه برغم أن الشمس غير موجودة فعلا ، فإن الظلال موجودة بالفعل ، لكي تعطي المنظر العام حالة جمالية رائعة ، وتناسقا بديعا ، إذ إن اللذة لا تكون دائما في الظل من حيث إنه من موجبات التوقي من حرارة الشمس أو من نورها ، بل هناك لذة الإحساس بالتناسق العام ، حيث تكمل به الملامح الجمالية للطبيعة.

فالعين التي فيها بياض ، إنما تصبح جميلة ، بالسواد المتحرك فيها ، والخال الأسود على الخد يعطي ذلك الخد المخالف له في اللون المزيد من الروعة الأخاذة ، والجمال البديع .. إذ إن مجرد أن تتشارك الأشكال والألوان ، والظلال في إعطاء الانطباع ، لهو مما يزيد الطبيعة جمالا ، وروعة ، ورونقا ..

ومن الأمور الطريفة ما يذكرونه : أن رساما هنديا أهدى لملكه صورة لعصفور يقف على سنبلة. وكانت رائعة الجمال .. فأعجب بها الملك ووضعها للناس ، وجعل جائزة لمن يظهر فيها عيبا ..

فعجز الناس عن ذلك ، إلى أن جاء رجل عجوز ، وقال : إن في الصورة عيبا مهما ، فسأله الملك عنه ، فقال : إنه حين يقف العصفور على السنبلة فلا بد أن تنحني شيئا قليلا ، بسبب ثقله ، وضعفها ، والرسام لم

٤٣

يظهر هذا الانحناء ..

فربح ذلك العجوز جائزة الملك بهذه الملاحظة. رغم أنه لا توجد أية مشكلة في رسم ملامح العصفور ، ولا في رسم السنبلة ذاتها.

والخلاصة : أن للظلال دورا هاما في تجسيد الكمال ، وإبراز معالم الجمال .. فالانحناءة البسيطة التي فقدتها تلك الصورة ، قد أفقدتها جانبا من الروعة كان منوطا بها ، وبالتالي ، فإن الإحساس باللذة سوف يتضاءل تبعا لذلك ..

وعلينا أن لا ننسى أن عدم إدراك فريق من الناس لفقد تلك الخصوصية لا يدفع حقيقة وجود هذا النقص فيها ، ولا يقاس إدراك أهل الدنيا للأمور بمستوى وحقيقة إدراك الأبرار لها في الجنة ، لأن إدراك أهل الدنيا يحتاج إلى وسائط ، وإلى أهلية واستعداد مع وجود حجب وموانع كثيرة ، تحول بينهم وبين ذلك .. أما الأبرار فلا يعانون من أي شيء من ذلك ، بل هم فوق مستوى البشر من هذه الناحية. حيث يشعرون بحقائق الأمور بصورة أعمق ، وأصبحت لهم علاقة مباشرة مع واقع تلك الحقائق .. لأن أعمالهم الحسنة في الدنيا هي التي أوصلتهم إلى هذا المستوى من الإدراك والوعي في الآخرة ، بعد كشف الغطاء عنهم ، حيث لم تعد هناك حجب دنيوية ، وتساقطت وسائل الإدراك التي قد لا تستطيع إعطاء الصورة ما يكفيها من النقاء والصفاء ..

أما الأبرار الحقيقيون ، وهم أهل البيت عليهم‌السلام ، فإن الغطاء كان مكشوفا عنهم ، منذ أن أشهدهم الله خلق كل شيء ..

وعلى كل حال ، فإن للظلال لذّات عظيمة لا يريد الله أن يحرم الأبرار منها.

٤٤

وما أجمل الظلال الدانية ، دون أن يكون هناك ما يحتاج الإنسان إلى أن يتظلل منه.

وقد جعل الله سبحانه الأبرار هم المحور لهذه الظلال ، فجاء بكلمة «عليهم» مقدما لها على الظلال. فقال : (عَلَيْهِمْ ظِلالُها ..) تماما كما صنع بالنسبة لكلمة فيها .. حينما كانت الجنة هي المحور ، حسبما تقدم ..

أضف إلى ما تقدم : أن وجود الظلال يساعد على إدراك حقيقة النور وقيمته ، ويعطي الفرصة لتنويع الاستفادة من كل الحالات والأوضاع ، فلا يشعر الإنسان أن شيئا ما قد فرض عليه ، ولم يعد بإمكانه الاستغناء عنه.

هذا بالنسبة لغير المعصومين. أما المعصوم فلا يحتاج إلى مساعدته على إدراك أي حقيقة ..

ثم إن فقد الشمس لا يعني أن لا تبقى حاجة إلى بعض آثارها ، لكن الشعور بالغنى عن الشمس مع الحصول على آثارها ، وما يراد منها ، هو الغاية في النعيم التي ما بعدها غاية ..

بل قد يكون وجود شمس لا حاجة إليها في التأثير مسيئا للناحية الجمالية ، ومفسدا للتناسق العام.

العطف بالواو :

ثم إننا إذا راجعنا الآيات الكريمة في هذه السورة فسنجد : أنه تعالى يعطف بالواو جملة ، ثم يأتي بما هو منصوب على الحال ، ثم يعطف عليه حالا أخرى بالواو .. ثم يعود لعطف جملة أخرى على الجملة ، التي سبقت الحالين معا ..

فهو يقول : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً *

٤٥

وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً* مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً* وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً* وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ ..) إلى أن يقول : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ..)

فهو في هذه الآيات يستعمل الفعل الماضى المبني للمجهول «ذلّلت» ، والمبني للمعلوم «وقاهم» ، «لقّاهم» ، واسم الفاعل «متّكئين» ، «دانية» ، والمضارع المبني للمعلوم «يطوف» ، والمبني للمجهول «يطاف» ، ومع الواو «ودانية» ، وبدونها «متّكئين».

ولكل حالة من هذه الحالات خصوصية مستقلة ، أو تابعة يراد إبرازها ، والاستفادة منها ..

ومثال ذلك :

أنك تارة تورد الحالة أو المعنى المستقل ، فتقول : هذا فلان ..

ومرة يراد بيان أحوال وأوصاف متضادة لذلك الموصوف ، كقولك : فلان شجاع وعالم ونجار ..

وتارة ثالثة تورد الكلام لتثبت للموصوف صفة ، ثم تتبع تلك الصفة ببيان تفاصيلها وحالاتها ، كقولك : فلان عالم ؛ دقيق النظر ، متبحر ، محقق .. فالأوصاف الأخيرة إنما هي لبيان حالات العالم. وكذا لو قلت فلان شجاع ؛ يقاتل ساعات طويلة ، يهاجم الألوف ، ولا يلبس درعا ، ولا يهاب الموت .. أو قلت : هو نجار ماهر ، يصنع الأبواب ، والخزائن ، والكراسي ، والمناضد ، وكل ما يطلب منه ..

وقد جاء قوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) وفقا للنحو الثاني ، وقوله : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها)

٤٦

وفقا لهذا النحو الأخير ، لأن فيه بيان حالهم ، من حيث إنهم : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً ..)

«ودانية» :

ثم إنه يلاحظ هنا :

ألف ـ إنه تعالى قدم الحديث عن دنو الظلال على الحديث عن تذليل القطوف. وهذا أمر طبيعي ، فإن لذة الاستقرار والسكينة تطلب قبل لذة الطعام.

ب ـ إنه بدأ بكلمة «ودانية» ، ولم يبدأ بكلمة «ظلالها» ، ربما ليبقى المحور والمرتكز هو الأبرار أنفسهم ، حيث يراد أن يظهر لهم ولغيرهم : أنهم هم مورد العناية ، وأن كل شيء في الجنة إنما هو لأجلهم.

ولو أنه بدأ بالحديث عن الظلال لحدث ـ ولو على مستوى التخيل والشعور ـ إحساس بأن الظلال دانية هناك بطبيعتها ، وليس بالضرورة أن يكون ذلك لأجلهم ، فهي دانية بذاتها ، ثم يستفيد منها من يرغب بذلك ، مع أن المقصود هو أن دنو الظلال قد كان فعلا إلهيا تكريميا هم المقصودون به بأعيانهم وبأشخاصهم.

ج ـ وأما اختيار التعبير بكلمة «دانية» حيث لم يقل : وهم تحت ظلالها ، أو نحو ذلك ، فلعله ليشير إلى أن الظلال قريبة منهم ، وعليهم ، ولكنها ليست بحيث تفرض وجودها عليهم ، أو أنهم مستغرقون فيها إلى حد يجعلها جزءا من واقع حياتهم ، بل إن دنوها منهم وعليهم لا يضر باستقلاليتهم ، ولا في إمكانية الابتعاد عن هذه الظلال متى شاؤوا.

د ـ إن كلمة «دانية» اسم فاعل ، يفيد الثبوت والدوام ، وفعلية الاتصاف به.

٤٧

«عليهم» :

ثم إنه سبحانه قال : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) ، ولم يقل : «دانية إليهم» .. فلعله لأجل أن يشير إلى أن ظلال الجنة ليست مثل ظلال الدنيا .. فظلال الجنة تحتضن الأبرار ، وهي رفيقة بهم ، حانية عليهم.

ولو أنه قال : «دانية إليهم» ، لم يفهم منه معنى احتضانها لهم ، بل يفهم منه مجرد قرب الظل منهم .. كما هو الحال في ظلال الدنيا ؛ التي تنشأ من الحيلولة بين الشاخص ، أو الشيء ، وبين مصدر النور ، أو الوهج ، فيستأثر ذلك الشاخص الحائل بدفقات النور والوهج ، ويمنعها من الوصول ، فلا تصل إلى ما يقع الظل عليه.

وهذا معناه : أن ثمة مؤثرات تتحكم في مدى قدرة هذا الظل على الانتشار والانحسار ، مما يعني أنه قد يستفيد منه فريق ، ويحرم منه آخرون ، لمعنى كامن في الظل نفسه يؤكد قصوره هنا ، أو يفرض انتشاره وحضوره هناك.

أما في الآخرة وفي الجنة بالذات فإن الظل لا يعاني من أي شيء من هذا القبيل ، وليس فيه أي قصور ، بل يكون هو الداني عليهم ، والقاصد إليهم ، والمحتضن لهم. ففعل الدنو والاحتضان صادر منه هو ، وليس نتيجة حركة واقتراب أو حضور وغياب ، يفكرون فيه ، ثم يختارونه ، ويقصدون إليه.

مفردات نعيم الجنة :

وواضح : أن مفردات نعيم الجنة لا تشبه مفردات نعيم الدنيا ، وإن تشابهت الأسماء. فالفضة في الآخرة هي كالزجاج والقوارير في صفائها ، وليست كذلك فضة الدنيا ، وإن كان لا بد من وجود شبه يصحح إطلاق

٤٨

الاسم .. وكذلك الأنهار التي هي من لبن أو من عسل مصفى.

وهكذا يكون الحال بالنسبة لخمر الآخرة ، فإنها ليس فيها غول (أي أثر سلبي) ، وهي أيضا لذة للشاربين ، مهما شربوا ، ولكن خمر الدنيا لا يمكن الالتذاذ بها حين ذهاب العقل.

وقبل ذهاب العقل لا تكون اللذة بخمريتها ، بل بشيء آخر ، كالحلاوة أو الحموضة أو نحو ذلك مما لا يكون هو المقصود للشارب ، إذ المقصود هو غيبوبة العقل ، وحين حصول المطلوب لا توجد لذة لأن العقل إذا فقد ؛ فقد الإحساس باللذة.

وكذلك الحال في طرف العقوبة ، فإن الروايات قد دلت على أن نار الآخرة لا تشبه نار الدنيا ، إلا في الاسم ..

وعلى كل حال ، فإن الله سبحانه قد ذكر في القرآن الكريم مفردات كثيرة ومتنوعة للنعيم ، وفي هذه السورة المباركة شطر منها .. ولا شك أن في بيانها فائدة عظيمة ، من حيث تأثيرها في عمق الإيمان ، وفي إيجاد الحوافز للسعي لنيل رضا الله سبحانه. وفي شفاء صدور قوم مؤمنين ، وغيظ أعدائهم ، وما إلى ذلك ..

تقديم كلمة «عليهم» :

وقد يتساءل البعض عن سبب تقديم كلمة «عليهم» على كلمة «ظلالها» ، حيث لم يقل : ودانية ظلالها عليهم ..

وربما يكون الجواب قد علم مما تقدم ، فإنه تعالى لا يريد أن يدخل في خيال أحد الأبرار ـ ولو للحظة واحدة يفرضها التدرج في التعبير والبيان ـ أن ثمة فصلا بين الأبرار وبين النعيم ، أو أن يتوهم أحد : أن دنو الظلال في الجنة ، إنما هو الحالة الطبيعية ، فأراد أن يعرفنا : أنه دنوّ

٤٩

لهم ، ولأجل إعزازهم ، وتكريمهم. وليس هو حالة ثابتة للجنة ، ولا ترتبط بالأبرار ..

الضمير في «ظلالها» :

والضمير في قوله تعالى : «ظلالها» يعود للجنة ، لا للشمس ، فشجر الجنة له ظلال دانية عليهم ، رغم عدم وجود شمس تكون في هذه الجهة ، أو في تلك ، ويتحكم في بعدها ودنوها نظام بعينه ، بل الظلال الموجودة إنما تتحكم بها إرادة ورغبات أهل الجنة ، فالظلال خاضعة لإرادتهم ، تابعة لرغباتهم ، لأنهم هم المقصودون بالكرامة ، والإعزاز ، ويراد لهم أن يصلوا إلى ما تشتهيه أنفسهم.

فالظلال لا بد أن تكون بحيث ترضيهم ، وتكون سببا في حصولهم على اللذة والنعيم ، لا أن تضايقهم ، وتصبح عبئا عليهم ..

إن تمام النعمة عليهم هي أن يتحكموا بالظلال ، لا أن تتحكم بهم الظلال.

وهذا يعطيهم نعيما آخر من خلال إحساسهم بامتلاكهم لقدرات جديدة ، حيث يرون في أنفسهم القدرة على التصرف في الأمور التكوينية ، بالإضافة إلى لذة الطمأنينة إلى وجدان طموحاتهم ، والشعور بالاستقلالية ، وما إلى ذلك.

«وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً» :

ومن مفردات نعيم الجنة التي يدركها الأبرار ببعض الوسائط ، تذليل قطوفها لهم في حين هم يرون شموخها ، وتحديها ، وتمنّعها .. الأمر الذي يجعلهم يتلمسون هذا الإكرام الإلهي لهم بصورة حسية وعملية ، حيث إن هذا التذليل ليس عملا للأبرار ، كما كان الحال في الاتكاء .. وليس هو

٥٠

مجرد أمر مفقود يدركون فقده ، ويتلمسون آثاره كما هو الحال في عدم وجود الشمس والزمهرير .. بل هذا التذليل فعل يكرم الله به الأبرار ، ويشعرون من خلال حدوثه ، وتجدد حصوله لهم ، مرة بعد أخرى ، باستمرار النظر والرعاية الإلهية لهم ، وهذا يعطيهم المزيد من البهجة والسرور ، والسعادة ، من خلال الإحساس برضا الله ، ومحبته ، ورعايته ، ولطفه ، فإن هذا غاية النعيم لهم.

يضاف إلى ذلك : أن رؤية الأبرار لهذا التذليل يعطيهم إحساسا بأن الأشياء مسخرة لهم ، وهي طوع إرادتهم ، ورهن إشارتهم .. خصوصا وأن ما يرونه مذللا لهم ، قد كان مستعصيا عليهم ، ويبذلون تعبا وجهدا من أجل الوصول إليه. وكل ذلك يفتح أمام أعينهم ، آفاقا أرحب للشعور بمحبة الله سبحانه ، والإحساس بهذا التكريم والتعظيم ..

إن الإنسان حين يعمل عملا ، ويأخذ مقابله ، فإنه لا يحس بالكرامة بمستوى شعور من يرى أن الله يعطيه ليكرمه ، وليظهر له المزيد من حدبه عليه ، وحقيقة رعايته له ..

لأن أخذ الأجر مقابل العمل لا يعبر عن وجود مزايا إنسانية سامية تستحق التقدير ، ولا عن وجود خلق رضي ، أو نبل وشمم ، بل قد يكون العمل نابعا من حبه لنفسه ، ومن سعيه للحفاظ عليها .. وتلك هي عبادة التجار حسب ما ورد عن أمير المؤمنين [عليه‌السلام].

«قطوفها» :

القطوف جمع قطف ـ بالكسر ، وقطف بالضم غلط ـ وهو الثمر الذي اجتني وأخذ. ولكن المراد هنا هو الثمر الباقي على الشجر ، والمؤهل للاقتطاف والتذليل ، مقابل الاستعصاء والتمنع.

٥١

فالقطوف تتمنع بحسب طبعها ، وللتغلب على هذا التمنع لذة ونشوة. ولذلك تجد أنه لو جيء لك بقطف لتأكله ، فإنك لا تهتم له ، ولا تلتذ به بمقدار ما لو قطفته أنت عن الشجرة.

وبذلك يكون الله سبحانه قد بيّن لنا : أن في الجنة لذة التذليل ، ورؤية حالة الانقياد بعد الاستعصاء والتمنع.

«تذليلا» :

وفائدة الإتيان بالمفعول المطلق هنا هو التأكيد على معنى التذليل ، وهي لذة السيطرة والتمكن من الطبيعة. الأمر الذي كان يعجز الإنسان عنه في الدنيا ..

إن النعيم في الآخرة ، ليس بأكل تلك القطوف ، بل هو بالتغلب على امتناعها .. وهو ما كان يطمح له في الدنيا ، ويسعى للحصول عليه ، فكان يخترع له الآلات ، ويهيء الأموال ليستخدمها في ذلك التذليل (١) أما في جنة الآخرة ، فقد أصبح كل شيء مذللا ، فلا يحتاج إلى جهد ، وقد سقط نظام الوسائل بكلمة واحدة هي : (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) ، لأن نظام الجنة يختلف عن نظام الدنيا.

* * *

__________________

(١) إن الأعمال في الدنيا منصبة بصورة عامة على هذا الأمر بالذات ، فالإنسان يطلب الولد ، ويستفيد من الوسائل الموصلة إليه ، ويطلب المال فيتوسل له بالبيع والشراء ، مثلا ، ويطلب الحب والثمر فيتوسل له بالزراعة ، ويطلب الشفاء ، فيستخدم العلم والمال للحصول عليه ، ويطلب الانتقال ، فيستخدم وسائله من سيارة ودابة وغيرهما. ويخترع مكبرات الصوت والطائرة ، ويطلب الجنة فيتوسل لها بالأعمال الصالحة.

٥٢

الفصل الخامس عشر :

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا)

٥٣
٥٤

قوله تعالى :

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا)

«وَيُطافُ عَلَيْهِمْ» :

لقد وردت كلمة «يطاف» هنا بصيغة المبني للمفعول .. ولعله بهدف التوطئة إلى أن يتمحض الحديث عن المطاف به ، وهو الأكواب ، وصفاتها ، وخصوصياتها ..

ولكنه فيما يأتي استعمل نفس مادة «ط. و. ف.» ، ولكن بصيغة البناء للفاعل .. لأن الغرض هناك تعلق ببيان حال الطائفين ..

وكلمة «يطاف عليهم» تشير إلى أن هناك كرامة لهؤلاء ، وأن ثمة احتراما ، واهتماما بهم .. لأن خدمتهم والطواف عليهم بالأكواب ، إما لأجل عجزهم عن الوصول إلى حاجاتهم بأنفسهم ، أو لأجل إكرامهم ، وإظهار الحب والتقدير لهم. ولا شك بأن الأول غير متصور لأنه لا ينسجم مع ما أريد لهم من النعيم ، وراحة البال في الجنة. فيتعين هذا الثاني ..

ومن الواضح : أن إحساسهم بهذه الرعاية الإلهية يعطيهم أعظم الإحساس باللذة والنعيم ..

الكماليات ، أم الضروريات؟ :

وإذا قرأنا آيات هذه السورة المباركة ، فسنجد أن فيها حديثا عن الأمور التي لا بد منها للإنسان في حياته ، كالمسكن ، والطعام والشراب ،

٥٥

ونحو ذلك ، وحديثا عن أمور لا تدخل في هذا السياق ، بل هي من الكماليات ، إن جاز التعبير.

وقد ذكر النوع الأول بما له من مواصفات تثير الشوق والحنين إليه ، والرغبة به ، فذكر سبحانه طهورية الشراب ، ولباس الحرير في الجنة ، والاتكاء على الأرائك في مواضع السكنى والاستقرار ، والوقاية من البرد والحر ، بالإعلان حتى عن عدم رؤية شمس ولا زمهرير ..

مما يعني أن المطلوب الأساسي ، وهو الطعام والشراب ، والظل ، والدفء ، والسكن ، واللباس ، ـ وهي أمور ضرورية في الحياة ـ قد بيّنت بمواصفات راقية جدا ، ومثيرة للانتباه ، ومحركة للهمم للوصول إليها ونيلها من خلال العمل لها في عالم الدنيا ..

ولا بد أن يحصل للأبرار ـ في نيل هذه الأمور الأساسية ـ لذتان ؛ لذة تلبية الحاجة ، والسكون والطمأنينة ، والشعور بالوجدان لحاجات رئيسية. ولذة الحصول على تلك الميزات والمواصفات الإضافية ، وهي كون السكن هو الجنة ، والملبس هو الحرير ، وما إلى ذلك ..

ومن المعلوم : أن كل مطيع لله يدخل الجنة ، وينال من نعيمها الخالد ، لكن هناك مستويات وحالات لهذا النعيم لا ينالها جميع من في الجنة ، بل ينالها أولئك المقربون ، ويفوزون بالتنعم بها ، رغم أنها لا تدخل في دائرة ما هو ضروري لهم ، بل هي من مظاهر النعمة ، ومن تجليات التكريم الإلهي. فإن حياة الإنسان لا تتقوم بوجود من يخدمه ، ويلبي طلباته ، ويقرب له ما يحتاج إليه .. إذ يمكنه أن يمارس ذلك بنفسه ، وربما يكون لهذه الممارسة لذتها أيضا .. كما أنه يمكنه أن يشرب الماء واللبن ، اللذين لا توصف لذتهما .. دون أن يطاف عليه بأكواب كانت قوارير من فضة قدروها تقديرا.

٥٦

وجهد الإنسان في هذه الدنيا هو الذي يحدد مستويات ومواصفات النعيم في الآخرة. فالإنسان العامل هو الذي يتحكم بمفردات النعيم التي يهيؤها الله له ، ويصنع مواصفاتها ، ومقاديرها وأحجامها ، وأنواعها ، وفقا لقوله تعالى : (قَدَّرُوها تَقْدِيراً ..) حيث أعاد الضمير لهم ، أي للأبرار المتنعمين كما يظهر.

التنوع في النعيم :

واللافت : أنه تعالى قد أعطاهم هذا النعيم العظيم ، وحباهم بهذا التكريم لترتاح له ، وتلتذ به الروح والقلب ، والمشاعر ، والأحاسيس الباطنية ، تماما كما أعطى للجسد ما يناسبه من أنواع النعيم المادية.

والنعيم الذي يهتم بإبراز معالمه هنا ، هو نعيم روحي معنوي بالدرجة الأولى ، يرتبط بالإدراك العقلي ، وبالإحساس الروحي للمعاني السامية والشريفة لمعنى الكرامة ، والرضا والقرب من الله ..

وليس هو مما تناله الجوارح بصورة مباشرة ..

وما ذلك إلا لأن الله سبحانه يريد للإنسان أن يسمو في إدراكه وفي عقله ، وفي إنسانيته ، وأخلاقه ، ومشاعره ، ولا يرضى له أن يبقى يعيش في دائرة المحسوسات ، فلا يطيع الله إلا حين يرى العصا ، ولا يحس بالمعاني الإنسانية والروحية إلا حين تنالها جوارحه الظاهرية .. تماما كما يريد للمرأة أن تلبس الحجاب ، ولكن إذا لبسته عن اقتناع بلزوم طاعة الله ، وإحساس بعظمته وبحضوره ، فإن ذلك يوجب لها أسمى مقام عنده ، لأن الحجاب خوفا من العصا ، هو أدنى مراتب الطاعة .. حيث يكون الهدف هو حماية جسدها من الآلام ، لا لأنها تريد أن تتلذذ بطاعة الله سبحانه .. وأن تحمي الجسد من خلال الإحساس بلذة الطاعة.

٥٧

والخلاصة : أنه تعالى يريد للإنسان أن يكون أنبل من أن يخضع للأمر المعنوي من موقع حماية الجسد ..

التسلسل الطبيعي :

وقد ذكر الله تعالى الطواف على الأبرار بالأكواب ليؤكد على هذا الرقي في إدراك الأبرار ، لتكون لذتهم الكبرى هي بالكرامة الإلهية لهم ، لا بالملذات المادية ، والجسدية ، وإن كان الجسد غير محروم من ذلك أيضا.

ولذلك فإنه حين أشار سبحانه إلى ذلك ، إنما عالجه من الناحية الإدراكية لحالات الجمال ، والتي تعطي قيمة اعتبارية معنوية بالدرجة الأولى .. فبدأ بالحديث عن الطواف عليهم في إشارة منه إلى هذا التكريم والتعزيز لهم.

ثم ذكر أن الطواف ليس بالشراب ، وإنما هو بالآنية ..

ثم قال : إن الآنية من فضة ..

ثم أشار إلى الأكواب ..

ثم ذكر أنها قوارير ..

وانته إلى الحديث عن التقدير في الصنع ، والدقة فيه ..

شرح الكلمات أولا :

ولا بد لنا ، أولا : من شرح هذه الكلمات ، ثم نتابع الكلام حول ما يرتبط من مطالب ، فنقول :

الآنية : هي الوعاء. والظاهر : أن المراد هنا هو ما توضع عليه الأكواب ..

الكوب : هو القدح ، الذي لا عروة له ولا خرطوم ، ويأخذه طالبه ويشرب منه من أي جهة أراد.

٥٨

القوارير : هي الزجاج ، أو البلور الصافي ، ولعل سبب تسميتها بالقوارير هو أن الشراب يستقر فيها ..

كلمة «من» نشوية ، أم بيانية؟ :

وبعد .. فهل إن كلمة «من» في قوله : (مِنْ فِضَّةٍ) ، هي النشوية؟! ليكون المعنى : أن الآنية التي كان أصلها فضة ، وكانت من تراب الجنة ؛ هي التي يطاف بها عليهم .. وهذا كما يقال : الإنسان من تراب. أي أنه نشأ من تراب ، من دون إشارة إلى حقيقته الفعلية التي هي : لحم ودم وعظم و.. و..

أم أن كلمة «من» هي الجنسية ، أي هي آنية من جنس الفضة ، كما يقال : خاتم من حديد ، أو من ذهب. أو كما يقال : الإنسان من لحم ودم وعظم .. فتكون «من» لبيان ما هو عليه الآن ، ولا تشير إلى ما كان عليه في السابق ..

ثم إن التصريح بكلمة : «من» ليس ضروريا ، حين تكون الإضافة بيانية ، فيقال خاتم حديد ، أو خاتم فضة ..

وأما لماذا يصرحون بكلمة «من» أحيانا ، فلعله :

أولا : لأجل أن لهذا التصريح فوائد ، منها التنصيص على المعنى ؛ لإزالة أيّ لبس أو شبهة ، ومنها التأكيد على أنه مقصود ومراد ، وأن الالتفات إليه حاصل بالفعل.

وفي هذا تقريب للمعنى المقصود إلى الحس ، فإن ما ينال بالحس المباشر أوقع في النفس ، ويكون التعلق به أشد ، والوضوح له أكثر من ذلك الذي يعلم عن طريق الإشارة إليه ، لأن الإشارة تحتاج إلى جهد عقلي وفكري لربط بعض الأمور ببعضها الآخر .. ليتحقق الانتقال من معنى إلى معنى .. ومن المعلوم إلى المجهول ..

وثانيا : إن المقصود هنا هو إثارة المشاعر والأحاسيس ، وإيجاد

٥٩

البواعث والحوافز لدى الإنسان لنيل تلك النعم الجليلة ، والوصول إلى مقامات الكرامة في الجنة ، ليتعلق بها ويشتاق إليها طالبها ، وتتوجه إليها أفكاره وعواطفه فعلا ..

وهذا يحتاج إلى التصريح ، وإلى الوضوح .. أما الإشارة غير المباشرة فإنها تحمل معها احتمالات الغفلة عن التفاعل معها ، الأمر الذي يعني الغفلة عن المراد ، فلا بد من تحاشيها في مقام كهذا ..

ثالثا : إن الإيصال السريع إلى المراد ـ لأكثر من سبب ـ لا يتلاءم مع الإشارة والإيماء حيث يحتاج ذلك إلى إعطاء فرصة للعقل لربط الأمور ببعضها البعض .. في الوقت التي يحتاج فيه إلى الانتقال المباشر ..

وهذا يدلنا على : أن كلمة «من» مهمة جدا وضرورية في هذا المقام .. الذي يحتاج إلى التأكيد والتنصيص ، وإزالة أية شبهة. ليمكن إثارة الأحاسيس والمشاعر بصورة مباشرة ، وكذلك من أجل تحقيق المزيد من التعلق بالمطلوب ، وليكون وقعه في النفس أشد ..

كلمة «كانت» :

وحول كلمة «كانت» في قوله تعالى : (كانَتْ قَوارِيرَا ..) نقول : هي كان التامة ، لا الناقصة ، والمعنى : «أنها وجدت قوارير» ، فليس ثمة تحول من حالة إلى حالة ، لكي لا يتوهم أحد أنه تحول غير خالص ولكي لا يثير احتمالات في واقع أصالتها التامة والحقيقية ..

«من فضّة» :

وأما لماذا ذكر الفضة بالخصوص ، ولم يذكر الذهب مثلا ، مع أنه الأغلى والأهم بنظر الناس. فلعله لما ذكرناه من أن تراب الجنة من فضة ، وللفضة خصوصيات ، لا توجد في الذهب ، وقد قصد هنا أن يستفيد من

٦٠