تفسير سورة هل أتى - ج ٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة هل أتى - ج ٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩١
الجزء ١ الجزء ٢

تبذله من جهد في مساعدته ، وهي ترى ضعفه وحاجته ، فتسهر عليه ، وتتحمل الكثير من المشاق في سبيله.

أما الأب فإن ما يبذله من جهد وتضحيات مباشرة في سبيل الطفل ؛ لا يصل إلى حد ما تبذله أمه فلذا كان من الطبيعي أن العاطفي بالولد عن درجة التعلق العاطفي به لدى أبيه.

وبذلك يتضح ما يشير إليه قوله تعالى : (جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) فإن المودة ـ كما قالوا (١) ـ هي الحب الظاهر أثره في مقام العمل ..

غير أن علينا أن لا ننسى أن هذا الحب قد يفقد بعض توهجه ، بسبب ضعف أو فقد بعض موجباته ، التي تسللت إلى عناصر الإلزام في قرار الزواج ، مما له صفة غرائزية ، أو ذوقية ، نشأت عن ملاحظة حالة جمالية معينة ، فيكون ضعف تلك الموجبات سببا في بعض الخفوت ، وضعف التأثير في الحركة العملية ، والسلوكية ، الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى تدخل العنصر الثاني ، وهو الرحمة ، التي هي انفعال نفساني ، قوامه رقي في الإدراك الإنساني ، وشفافية ، وصفاء ، وتألق ، في روح الإنسان ونفسه ..

نعم تأتي هذه الرحمة الإنسانية لتكون هي الضمانة الحقيقية لبقاء هذه العلاقة الرحيمة ، والحميمة ، والصادقة ، محتفظة بقوتها ، وبحيويتها ..

والمثال الثالث الذي نذكره هنا ما رواه الكليني رحمه‌الله من أن الإمام الرضا [عليه‌السلام] رأى مع غلمانه شخصا أسود ، يعمل معهم بالطين ، فسألهم عنه ، فقالوا : إنه يعاونهم ويعطونه شيئا ، فغضب [عليه‌السلام] من ذلك.

__________________

(١) عن كنز الفوائد للكراجكي.

٢١

فسأله سليمان بن جعفر الجعفري عن ذلك ..

فقال : «إني قد نهيتهم عن مثل هذا غير مرة ، أن يعمل معهم أحد حتى يقاطعوه أجرته.

واعلم أنه ما من أحد يعمل لك شيئا بغير مقاطعة ، ثم زدته لذلك الشيء ثلاثة أضعافه على أجرته ، إلا ظن أنك قد نقصته أجرته. وإذا قاطعته ، ثم أعطيته أجرته حمدك على الوفاء ، فإن زدته حبة عرف ذلك لك ، ورأى أنك قد زدته» (١).

نعم .. إن جهد الإنسان عزيز عليه ، لأنه يبذله من أغلى وأعز شيء في الوجود عليه ، وهو كيانه وعرقه ، وشخصيته ، وسوف لن يكون دقيقا في تقديره لقيمته ، بل هو سوف يذهب في ذلك إلى أقصى المذاهب ، إنه سوف لا ينظر الى العمل ، بل سوف ينظر إلى من عمل ، فهو إنما يطلب قيمة تفرض عليه أن يتخلى عن العلاقة القائمة بينه وبين بعض منه ، وجزء من ذاته ..

ومعنى هذا : أن التخلي لن يكون سهلا ، إذا قيس بالتخلي عن أمر ليست له به هذه الصلة ، بل هو لغيره ، ودوره فيه ، هو دور الحفظ والأمانة .. فإنه سيلحظ في هذا الحال قيمة نفس ذلك الشيء المؤتمن عليه .. وسوف تنقطع علاقته به بمجرد حصوله على هذه القيمة ..

مقارنة بين الجزاء .. وبين العمل :

ومراجعة الآيات الشريفة تعطينا : أنه سبحانه قد ذكر أمورا يقوم بها الأبرار ، ثم قابلها تعالى بجزاء متعدد المناحي ، والكيفيات ، والحالات ..

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٨٨ وبحار الأنوار ج ٤٩ ص ١٠٦.

٢٢

فذكر أن الأبرار : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً* وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ..)

وأنهم يقولون لمن يطعمونهم : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) وأنهم «لا يريدون جزاء» ، وأنهم «لا يريدون شكورا» .. وأنهم «يشربون من كأس كان مزاجها كافورا» ، وأنهم «يفرجون العين التي يشربون بها تفجيرا» ..

وبعد أن ذكر هذه الأحوال للأبرار قابل ذلك بجزاء بيّن كثيرا من حالاته ، ومفرداته فكان هذا الجزاء «جنة ، وحريرا» ، (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) .. حيث قطوف الجنة دانية عليهم ، ومذللة لهم تذليلا .. (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ) ، وبأكواب إلخ ..

لماذا لم يذكر الحور العين؟ :

وربما يرى البعض : أن الله سبحانه لم يذكر الحور العين في جملة مفردات نعيم الأبرار هنا إكراما للزهراء [عليها الصلاة والسّلام] .. لأن السورة نزلت في علي ، وفاطمة ، والحسنين [عليهم‌السلام] ..

ونقول :

إنه ليس لدينا ما يمنع من أن يكون هذا التكريم مقصودا ، ولكن لا بد أن نضيف إلى ذلك :

أولا : لأن لهذه السورة الشريفة خصوصية تنفرد بها فيما يرتبط ببيان طبيعة الجزاء الذي أعده الله سبحانه للأبرار ، فإن عمدة ما أشارت إليه من مفردات هذا النعيم ، هو حالات من النعيم المعنوي ، واللذات التي يدركها الإنسان بمشاعره ، وفكره ، وعقله ، وروحه ، من حيث إنها تعبير عن مقام سام ، وعن تكريم وإجلال وتقدير ..

بل إنه حتى حينما تحدث تعالى عن أمور حسّيّة ، فإنما ساقها

٢٣

بطريقة توحي بحالات ومعان ، تثير لذات معنوية ، روحية ، وشاعرية ، أكثر مما هي مؤثرة في النعيم الحسي ، واللذة الجسدية ..

فمثلا : جعل جزاءهم نفس الجنة ، لا مجرد دخول الجنة والسكنى فيها ، وذلك يشير إلى أن المطلوب هو إثارة الشعور بالمالكية ، والقدرة ، والتصرف من موقع المالك ، لا من موقع الساكن والنزيل ، فإن من يشعر بملكية الشيء يكون تصرفه فيه أقوى وأعمق ، وتراوده مشاعر طمأنينة ، وثبات وسكينة أقوى.

كما أنه تعالى قد ذكر في هذه السورة لذة الاستحقاق ، ولذة الجزاء .. بعد معاناة الجهد ، والضعف ، والحاجة ، من قبل أولئك الأبرار ، وذكر أيضا لذة رفع الجهد ، وزوال الضعف ، ودفع الحاجة ، ولذة الكمال ، ولذة العطاء بعد المعاناة ..

وبيّن في هذه السورة المباركة أيضا حالات التصرف وآفاقه ، فلاحظ قوله : (مُتَّكِئِينَ) ، فإنها تلمح إلى لذة القدرة على التصرف ، وإلى التصرف الفعلي الذي يحسّ الإنسان بلذته فعلا أيضا .. وستأتي بقية التفاصيل ..

فإذا قارنت هذه اللذات المعنوية التكريمية بأنواع تلك الأعمال التي تصدى الأبرار لها ، فإنك ستجد تناسبا عجيبا فيما بين طبيعة الأعمال وطبيعة الجزاء عليها ..

فإن الوفاء بالنذر ، والخوف من ذلك اليوم ، وإطعام الطعام في تلك الأحوال التي وصفناها ، وبهذه الروحية التي بيّنها القرآن ، وكون الهدف هو رضا الله ، وليس الحصول على النعيم والجنان .. ثم تفجيرهم للعين تفجيرا بالعمل الصالح .. و.. و ـ إن كل هذا ـ يناسب تماما مفردات هذا

٢٤

النعيم المعنوي التي وردت في هذه السورة على أنها جزاء على صبرهم .. وهذا الجزاء هو الذي يحقق طموحاتهم ، وما يفكرون فيه ..

ثانيا : هناك أمور كثيرة ذكرها الله سبحانه في سائر السور القرآنية ، على أنها من مفردات النعيم ولم تذكر هنا ، فهو لم يذكر مثلا أنهار العسل ، وأنهار اللبن ، والنخل ، والرمان ، وغير ذلك ، فعدم ذكر الحور العين هنا لعله لأن المورد ليس من موارد الجزاء بها ..

«جنّة» :

وحول كلمة «جنّة» نشير إلى ما يلي :

١ ـ قد أشرنا آنفا إلى أن الله تعالى قد جعل جزاء الأبرار نفس الجنة ، وليس جزاؤهم مجرد السكنى فيها .. وقد قلنا : إن تصرف المالك في الدار مثلا أقوى وألذّ ، وأرضى له من تصرفه فيه كنزيل ..

٢ ـ لقد قال تعالى : (جَنَّةً) بتنوين التنكير ، ليظهر أنها فوق حدود التصور ، فلا مجال لمعرفة حقيقتها ، ووعي أوصافها وخصوصياتها. فالتنوين إنما هو لأجل تفخيمها ، وتعظيمها بما لا مزيد عليه.

٣ ـ إن نفس إبهام هذه الجنة يهيء لخاطر هؤلاء الأبرار لذة أخرى ، وهي لذة محاولة استحضار ذلك النعيم. لا ليكون خيالا لذيذا ، بل ليكون تصورات لها تطبيقاتها الواقعية ..

فلهم إذن لذتان :

إحداهما : تأتي من خلال التفكير في هذه الجنة وعظمتها وفخامتها.

والأخرى : هي الاستفادة من الجنة مباشرة ..

وحتى حين يكون الأبرار في الجنة ، فإن لذتهم ستتضاعف ، إذا شعروا أن هناك درجات ، وحالات من النعيم ، أعدها الله لهم ، لو طلبوا

٢٥

شهودها لوجدوها ، ولكن هذا الشهود والكشف ، لا بد أن يأتي بصورة تدريجية ، لأن تصوراتهم قد تكون قاصرة عن نيل آفاقها ، وعن إدراك حالاتها الجمالية ، وغير ذلك مما هو فيها ، في آن واحد.

«جنّة وحريرا» ، لماذا؟ :

ويرد سؤال : إنه إذا كان سبحانه قد جعل الجنة جزاءهم ، فإن الحرير سيكون أحد مفردات النعيم فيها ، فلماذا قال : (جَنَّةً وَحَرِيراً)؟!

وقد يقال في الجواب : إن هذا من باب التفصيل بعد الإجمال ، فإن الله سبحانه قد جازاهم بالجنة فقط ، ثم فصل لهم حالاتها وحالاتهم فيها ، فلا يوجد هناك سوى جزاء واحد .. قد بيّنه الله على هذا النحو.

ونقول : قد يناقش في هذه الإجابة بأن هذا الكلام قد يكون صحيحا بالنسبة لما ورد بعد قوله : «وحريرا» .. ولكنه قد لا يكون ظاهرا ، ولا مقبولا ، بالنسبة لهذه الكلمة بالذات التي عطفت على الجنة بالواو ، والعطف يقتضي المغايرة.

غير أننا ندفع هذه المناقشة : بأنه يكفي في التغاير أن يكون بالعموم والخصوص ، فيذكر الأمر الجامع أولا ، ثم تخصّص بعض مفرداته بالذكر لغرض مّا ، وهذا كما تقول لمن تريد أن ترغّبه في زيارتك : إئت إلينا ، وسنقدم لك قصرا مجهزا بكل ما تحب ، وفيه مقاعد وثيرة ، ولوحات زيتية رائعة و.. و.. الخ ..

ويبقى سؤال ، وهو : لماذا اختار الله سبحانه وتعالى هذا النوع من التعبير؟

ولماذا اختص ذلك بالحرير دون سواه من مفردات نعيم الجنة؟!.

والجواب : أن المراد هنا هو الإشارة إلى أن هذا الجزاء على نحوين :

٢٦

أحدهما : ثابت ومستمر. وهو وجود الجنة ، ووجود الحرير ..

والآخر : هو حالات وتصرفات تتصرّم وتنقضي ، لأنها مرهونة بإرادة أولئك الأبرار أنفسهم ، ويتجلى ذلك في قوله : (مُتَّكِئِينَ) ، (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها) ، (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ) ، «ويسقون» ، الخ ..

فهو يذكر تصرفات وأحداثا لها بداية ونهاية ، وهي تابعة لإرادة الأبرار .. أما الجنة والحرير فليسا من هذا القبيل .. بل هما من الأمور العينية ، ولذتهما قائمة في نفس ذاتهما. وليست اللذة بالفعل وبالحدث المتصرّم.

الجنة والحرير أولا :

وقد بدأ بالحديث عن الجنة والحرير باعتبار أن إدراك الإنسان للذة الحسية أسرع من إدراكه للذة المعنوية والروحية التي تحتاج إلى وسائط. فلبس الحرير يلذ للإنسان ، لكن تذليل القطوف ، ودنو الظلال .. يحتاج إلى وسائط لوعي مفهوم التكريم فيه. وهو مفهوم لا يكفي أن يتصوره الإنسان ، بل لا بد لكي تنشرح نفسه له من أن يدرك أنه هو المقصود به ، وأن يدرك أنه لم يأت على سبيل الصدفة ، بل هو عمل مقصود لفاعله المختار.

وحين يطاف عليهم بآنية ، فعليه أن يدرك أولا وجود مخلوق يحمل آنية ، ويطوف عليه بها ، وأن يدرك أن هناك إرادة وراء ذلك التطواف بالآنية ، ثم أن يدرك أن لهذا الفعل هدفا ، وأن هذا الهدف هو تكريمه .. فهذه وسائط عديدة لا بد له أن يمر بها قبل أن تنشرح نفسه لهذا التطواف بالآنية.

والاتكاء على الأرائك أيضا يحتاج إلى وسائط لإدراك لذته .. ومن

٢٧

هذه الوسائط إدراك المتكئ أنه قد حصل على ما يرغب في الحصول عليه ، والتفاته إلى فراغ باله منه .. ثم إرادة المتكى للاتكاء نفسه ، وكذلك إرادة أن يكون ذلك على الأرائك ، ثم إرادة أن يكون هذا الاتكاء تعبيرا عن ذلك الحصول ، وتجسيدا لفراغ البال بهذه الكيفية ، وأن يشعر بأنه يمارس حريته الفردية في الاستفادة من هذا الفراغ الحاصل ..

الجنة أولا :

ومن جهة أخرى ، فقد قدّم ذكر الجنة في الآية على ذكر الحرير .. لأن إعطاء الجنة معناه : إعطاء مختلف اللذائذ الحسية ، فضلا عن غيرها. وهي الأوضح ، والأصرح ، في النعيم ، وفي التكريم.

وتبدأ اللذة فيها بنفس اسمها حيث يشعر من يكون فيها : أنه محاط ، ومغمور بالنعيم وبالنعم ، وأن كل شيء فيها حسن جميل ، ثم هو لذيذ ومحبوب ومطلوب ..

ثم ثنّى بذكر الحرير الذي تكون لذته أيضا حسيّة ، لا يحتاج نيلها إلى أكثر من ممارستها. ولكن الحرير إنما يعبر عن نفسه ، ولا يعبر عن سائر النعم التي في الجنة ..

ثم يذكر بصورة متعاقبة تلك النعم التي يحتاج إدراكها إلى توسيط وسائط ، ويحتاج نيلها إلى حركة نحوها ، والتي هي في الحقيقة تصرفات وممارسات مختارة في تلك الجنة ..

أضف إلى ذلك : أن التنعم بالجنة إنما هو بنفس الكون فيها ، أما التنعم بالحرير ، فيحتاج إلى الالتفات ، والترجيح له ، واختياره ، وإرادة لبسه ، ثم لبسه فعلا ، وإلى التقلب فيه.

* * *

٢٨

الفصل الثالث عشر :

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً)

٢٩
٣٠

قال تعالى :

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ).

«متّكئين» :

ثم شرع سبحانه بذكر تفاصيل مفردات النعيم الإدراكي والمعنوي ، الروحي ، والشعوري ، فبدأ أولا بذكر صفة الاتكاء في الجنة للأبرار ، دون ما سواها من الصفات ، ولعل سبب ذلك : أن الاتكاء هو نتيجة الشعور بالكمال وبالغنى. وهو أول مراتب النعيم ، وهو مفتاح كل لذة في الجنة كما سنرى.

والتنعم بالاتكاء يحتاج إلى التفات ، وترجيح لفعل على سواه ، ثم إلى اختيار وإرادة ، وحركة وفعل ، وأريكة ، وجلوس عليها. وهو ـ كما قلنا ـ يشير إلى العديد من الخصوصيات ، من قبيل : الشعور بالسكينة ، وفراغ البال ، وسكون الخاطر ، والرضا الناشئ عن وصول الإنسان إلى كماله ، وإلى القوة بعد الضعف ، وإلى الغنى بعد الحاجة ، وإلى الواجدية بعد الفاقدية.

إنها جلسة الآمن المطمئن ، الذي لا يحذر شيئا ، إذ لم يعد هناك مجهول .. وليس هناك ما يخاف منه ، ولم تعد هناك أية حالة ترقب ، فقد أصبح الآن في منازل الكرامة الإلهية ، وحقق الاتصال بمصدر القوة ، ومحل الفيوضات.

هذا كله بالإضافة إلى أن في ذلك تعبيرا عن الاعتزاز والغنى ،

٣١

وإعلانا بهذا الإكرام الإلهي .. إنها جلسة تعبر عن الحقيقة ، فلا تصنّع فيها ، ولا يرى نفسه بحاجة إلى أي تظاهر بغير الواقع ، وليست هي جلسة استكبار وجبروت ، كما هو حال الفراعنة والجبارين ..

إنها الحالة الطبيعية ، والعفوية وفيها يتجلى انسجام هؤلاء الأبرار مع كمالاتهم ، ومع كرامة الله لهم ، فهم إذن لا يحتاجون إلى ذلك التصنع ، ولا إلى الاستكبار ، فإنهم الذين يملكون اللذة ولا تملكهم. وهم يدركون أن لذة الاستكبار ، ممزوجة بالخوف من السقوط ، ومن سوء العواقب. أما لذتهم هم فهي العاقبة لهم ، وهي المصير.

«فيها» :

وتأتي كلمة «فيها» بعد كلمة متكئين مباشرة ، حيث قال : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) ولم يقل : «متكئين على الأرائك فيها» .. فيرد سؤال عن سبب هذا التقديم لكلمة : «فيها»؟! ..

وقد يكون الجواب هو : أنه إنما قدم كلمة «فيها» لكي لا يحصل أي شعور بانفصال عن الجنة ، ولو بمثل حد السيف ، حتى في مجال التخيل ، والتصور والوهم ، أو الإحساس العابر. وبذلك تتم لهم اللذة التصورية الفكرية الروحية ، ولا تهتز تلك الطمأنينة التي تتمثل بالحديث عن الاتكاء.

«الأرائك» :

والسؤال هنا هو : أنه تعالى قال : (عَلَى الْأَرائِكِ) ، ولم يقل على الكراسي ، أو المقاعد ، كما أنه لم يقل : «على العروش» ، فإذا كانت كلمة مقاعد وكراسي لا توحي بشيء سوى التجافي عن الأرض ، فإن كلمة العرش تفيد معنى السلطنة ، والهيبة ، والعظمة ، والقدرة ..

٣٢

والجواب :

لعل سبب اختيار كلمة (الْأَرائِكِ) على ما عداها هو أن الأريكة هي الفراش الوثير ، الذي يكون على الأسرّة في حجلة العروس.

فلعله يريد أن يفهمنا : أن لذة الجنة هي للجنة من حيث هي جنة ، وهي لذة حقيقية وطبيعية ، وليست لذة تخيلية ، أو فقل تصورية ، ولا هي لذة الشعور بحالة العنفوان الداخلي ، والاستكبار ، أو الشعور بالعظمة الذي يكون لدى المتسلطين ، فإن هذه لذائذ تخيلية تصورية ، وليست واقعية ..

أما الاتكاء على الأرائك في حجلة العروس. فيعطي الإنسان لذة واقعية ينساق إليها الإنسان بفطرته ، وبأحاسيسه. فهو يلتذ بالمحيط من حوله ، وبالفراش الوثير ، وبوجوده في جو السرور ؛ لذة حقيقية. وليست لذة ناشئة عن تضخيم الأمور بالأوهام والتخيلات ، وبالعناوين الكبيرة والفضفاضة ..

وقد جاءت كلمة (فِيها) لتؤكد على هذا النعيم الحقيقي ، من حيث إن اللذة ناشئة من نعيم في الجنة نفسها.

ومن أن الجلوس على الأريكة كان جلوسا طبيعيا في هذه الجنة بالذات. فلا مكان للتخيل ولا للخيال.

هل هي لذة الفراغ؟

: وقد يحلو للبعض أن يثير سؤالا هنا فيقول : ليس للفراغ والكسل والخمول لذة .. والحديث عن الأرائك يوحي لنا بهذا الفراغ والخمول ؛ فكيف يمكن قبول ذلك؟!.

ونقول :

إن لذة عمل الصالحات ، ليست ناشئة من مجرد الحركة الجسدية ،

٣٣

أو من نفس حركة الفكر ، وإلا لكان يكفي في حصولها مجرد العبث. ولكان أكثر الناس عملا ، وجهدا جسديا وفكريا ، هم أعظم الناس لذة ، مع أن الأمر ليس كذلك ..

فإن الحقيقة هي أن اللذة إنما تنشأ من الشعور بأن بذل الجهد رافع للنقص ، محقق للكمال ، وللتناسق والانسجام في قضايا حساسة تهم الإنسان ، ويسعد بحصولها ، أو بكونها على حالة معينة ..

نعيم الأبرار :

ولتقريب هذا الأمر نقول :

لو أن أشخاصا دخلوا روضة غناء ، رائعة في مباهجها وفي مزاياها. وكان أحدهم رساما ، والآخر عالما ، والثالث تاجرا مثلا ، وهكذا .. ثم كان أحدهم ذكيا ، والآخر غبيا ، والثالث حساسا ، والرابع بليد الإحساس .. فإنك ستجدهم يختلفون في إدراك جماليات تلك الروضة ، وفي الابتهاج لها ، والتلذذ بها ..

كما أن موجبات اللذة لأحدهم قد تختلف عن موجباتها لغيره. فهذا يلتذ بالألوان ، وذاك يلتذ بحالات التناسق ، وثالث يلتذ بالأحجام الكبيرة ، وآخر يلتذ بدقائق الصنع ، ولطائفه .. وما إلى ذلك ..

وفي نفس السياق ، نقول : قد تكون لذة هذا بالأطعمة ، وآخر بالمبصرات ، وثالث بالمقامات ، ورابع بالرضا الإلهي .. وخامس بالحالات والكيفيات ، بل قد تكون اللذة لدى بعض الناس ، بالخضوع للآخر ، والانقياد له ، والعيش في كنفه ، وفي ظله ..

أضف إلى هذا وذاك : أن اللذة في الجنة إنما يصنعها لك عملك ، وجهدك ، ونواياك ، كما أن من خلال عملك هذا ، تتكون لك قابليات

٣٤

وتحصل استعدادات لتلقي هذا النوع من النعم ، أو ذاك ..

فأنت تلتذ بالشجرة التي غرسها لك تسبيحك ، والآخر يلتذ بالقصر الذي حصل عليه بحجّه إلى البيت الحرام ، أو بغير ذلك من أعماله ، وآخر يلتذ بالحورية التي أوصله إليها بره بوالديه ..

وفي مثال آخر نقول :

لو أن النجار دخل بيتا قد صنع هو أبوابه ، وخزائنه ، ومقاعده ، وغيرها ، فسيلتذ بما يراه من جمال الصنع فيها ، وسيشعر بالفخر والاعتزاز ، من خلال إحساسه بأنه هو الذي استطاع أن يرفع نقصا ، ويحقق كمالا ولو بنسبة معينة ، بالرغم من أنه قد أخذ أجره ، وانته من عمله قبل سنوات ..

وإذا رأى فيها خللا أو نقصا ، فسيحزنه ذلك ، وسيأسف له. ولو أنه عرف أن هناك من عبث بتلك الأشياء وشوّهها عن عمد ، فسوف يكون مستاء منه ، لائما له ، ناقما عليه ..

كما أن ذلك الشخص العابث نفسه ، لو دخل على ذلك البيت ، فسيشعر بالإحراج والخجل والضيق أمام ذلك النجار ، رغم أنه قد يكون فعل ذلك امتثالا لأمر سيده الذي حسب أن في هذا التخريب كمالا له ، أو دفع ضرر ، أو نقص عنه.

وبنفس هذه النظرة نعالج الإشكال المتقدم : فإن بذل الجهد ، والتعب ، وتحمل المسؤولية في الجنة ليس هو منشأ اللذة ، كما أن الفراغ ليس منشأ للملال ، والخمول ، والكسل. لأن الذي يجعل العمل لذيذا هو كونه مسبوقا بالتعب ، وبألم الحرمان والنقص. ولا نقص ، ولا فقدان ، ولا حرمان ، ولا آلام ، ولا تعب في الجنة ليكون العمل لذيذا من حيث كونه

٣٥

رافعا له. بل ذلك من خصوصيات عالم الدنيا ، التي هي عالم النقص والفقدان.

بل اللذة في الجنة إنما هي بالشعور بالغنى بالله ، وبالكمال ، وبالواجدية الحقيقية ، وبحالات الجمال الواقعية ، الناشئة عن رؤية الانسجام والتناسق الواقعي بين الأشياء ، وبذلك يتحقق الرضا الواقعي. وليس للجهد الجسدي أي دور في هذا الشعور.

إن الفراغ ليس مملولا لأهل الجنة .. بل هو لذيذ لهم .. تماما كما هو الحال في الفراغ الذي يعيشه من يذهب للنزهة أو للاصطياف ، فإنه يبقى ساعات وأياما ؛ يتلذذ بالمناظر الجميلة الخلابة. وبما يراه من تناسق ، وكمال ، وجمال. ولا يشعر بوجود نقص يدفعه للعمل على رفعه وإزالته.

«لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً» :

والملاحظ : أنه تعالى قدّم كلمة «فيها» على قوله : «شمسا» ، كما قدمها في قوله : (فِيها عَلَى الْأَرائِكِ).

وقد عرفنا بعض ما ربما يمكن استفادته من هذا التقديم. فلا حاجة إلى الإعادة ..

غير أننا نشير هنا إلى أنه قد يقال : لقد كان يمكن الاستغناء هنا عن كلمة فيها. فلماذا آثر الإتيان بها ..

ويمكن أن يجاب : بأن حذف كلمة «فيها» يتضمن تغييبا وسكوتا عن ذكر الجنة ، ولو بضميرها. ولربما يغفل الإنسان ولو للحظة ، فيتوهم أن فقد الشمس ـ التي هي مصدر النور ، والدفء ، و.. و.. ـ سيؤثر على راحته وسعادته ، وسينقص منها ، وسيواجه الإحساس بالحاجة إليها ، فإذا جاء التصريح ، بصورة متتابعة ليذكره دائما بأنه موجود في الجنة ،

٣٦

فإنه سيبقى مطمئنا إلى أن ما سيفقده لا بد أن يكون أمرا لا يناسب محيط الجنة ؛ بل يكون وجوده هو المضر .. وقد استبعد لأجل ذلك.

والخلاصة : أن الشمس حسب ما اعتادوه منها قد تؤذي في حرها ، أو في بعض إشعاعاتها ، وحتى في نورها في بعض الحالات .. فتمس الحاجة إلى الحماية منها. أما في الجنة فإنهم يجدون النور والدفء ، وكل ما يحتاجونه مع أنهم لا يرون فيها شمسا لكي يحتاجوا إلى ما يحميهم منها.

وهذا غاية الغنى .. فإنه إذا كان حصول الإنسان على ما يريد بواسطة شيء بعينه ، فإن ذلك يجعله بحاجة إلى ذلك الشيء ، وأما إذا حصل على ما يريد من دون واسطة فسيشعر بالغنى ، وبالرضا ، وبالاعتزاز. فكيف إذا كان وجود تلك الواسطة ، وذلك الشيء ، سيؤكد الحاجة إلى وسائل أخرى تحمي من بعض آثاره أيضا؟!.

«وَلا زَمْهَرِيراً» :

ثم قررت الآية : أنهم في نفس الوقت الذي لا يجدون فيه الشمس ، فإنهم سوف لا يعانون من أية سلبية تترتب على فقدانها .. فلا مبرر لأية مخاوف من أن يكون فقدانها معناه فقدان دفئها أيضا ، مما سيؤدي إلى مواجهة حالة من البرد الشديد إلى حد الزمهرير ، وهذا سوف تنشأ عنه متاعب لا بد من التخلص منها.

فجاء التطمين الإلهي لهم ليقول : إن عدم رؤية الشمس لا يعني الابتلاء بسلبيات فقدانها. بل الأمر على عكس ذلك تماما.

ومن جهة أخرى ، فإنهم يقولون : إن الزمهرير في لغة طي هو القمر .. فلعل المقصود بيان أن النور في الجنة لا يحتاج في تحققه إلى شمس ،

٣٧

ولا إلى قمر.

غير أن ذلك يحتاج الى إثبات أن يكون القرآن قد استفاد من لغة «طي» في خصوص هذا المورد ، وهو ما يحتاج إلى دليل ، وإلى مبرر ، وكلاهما مفقود.

تعلق النفي بذات ، وبصفة!! :

وملاحظة أخرى هي : أنه تعالى قد نفى الحر والبرد ، ونفى أيضا الليل ، والحاجة إلى الشمس ، بتعبير واحد ، وذلك حين قال : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً).

وقد تعلق النفي للشمس وللزمهرير ، بأسلوب الرؤية لذات الشمس ، ونفي رؤية البرد ، ونفي درجته ومستواه وهو صفة الزمهريرية. لأنها هي التي تسبب الأذى للإنسان .. أما البرد نفسه فإنه لم يرد أن ينفيه ، لأنه قد يكون لذيذا في بعض الحالات ، كما لو جاء في قسوة الحر ، ثم هو يعطي الجو لطافة ولو بدون وجود حرّ ، ولذا توجه النفي في الآية إلى خصوص الحالة المؤذية من البرد ، وهي الزمهريرية .. ولم ينف البرد اللطيف الناعم في أيام الربيع مثلا.

«لا يَرَوْنَ» :

وقد نفى الله تعالى رؤية «الزمهرير» في الجنة ، مع أن الزمهرير لا يدرك بالباصرة ، ولا تقع عليه الرؤية ، بل هو مما يدرك بالحسّ .. لأن المراد هو نفي وجود الشمس والزمهرير ، بواسطة نفي رؤيتها ، وذلك يلازم نفي آثارهما .. لأن الزمهرير وإن كان لا يرى بالبصر ، لكن إحساس الإنسان بالحر والبرد جسديا قد يكون كاذبا أيضا .. فأراد تعالى بقوله : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) ، أن يؤكد على حقيقة : أن الإحساس

٣٨

بالزمهرير ، يكون قويا ، حتى كأنه يتجسد له ، وكأنه يراه بعينيه ، ثم هو قد جسده له بالفعل ، وجعله حقيقة ماثلة له ، يراها رأي العين ، ثم أورد عليها النفي بكلمة «لا».

«شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» :

أما بالنسبة لتنكير لفظي الشمس والزمهرير ، فإنما هو لإفادة عموم النفي ، حتى لا يدخل في الوهم أن لكل عالم من العوالم شمسه التي تناسبه ، وحره وبرده الناشئ عن أسبابه الخاصة به .. فجاء النفي لجميع ما يمكن أن يتوهمه الإنسان في هذا الاتجاه .. ليعيش الإنسان الطمأنينة الحقيقية ، التي هي من موجبات سعادته التامة والحقيقية ، والنعيم المقيم ..

اللف والنشر المرتب :

وقد ذكرت الآية السابقة الجنة أولا .. وفي الآية الثانية ذكر الاتكاء أولا ، لأن الاتكاء يناسب الكون والحضور في الجنة ..

وفي الآية الأولى ذكر الحرير ثانيا .. وفي الآية الثانية ذكر عدم رؤيتهم للشمس ولا للزمهرير ثانيا .. وهذا يناسب لبس الحرير ، الذي هو الأفضل في المواقع التي ليس فيها شمس ولا زمهرير ، ولا حر ولا برد ، فتكتمل لهم بذلك اللذة الجسدية.

ففي الآيتين لف ونشر مرتب لأجل الإشعار بهذه اللطائف ، كما هو ظاهر.

* * *

٣٩
٤٠