تفسير سورة هل أتى - ج ٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة هل أتى - ج ٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩١
الجزء ١ الجزء ٢

والخير هو الفعل الذي ينتج كمالات ، يحتاج أو يسعى إليها الإنسان ، أما الشر فهو الفعل الذي يهدم ما بناه الخير ويتلفه. وذلك ظاهر لا يخفى.

«إنّ الله كان عليما حكيما» :

ويرد هنا سؤال ، وهو : أنه تعالى قد عدل عن ضمير الغائب إلى التصريح بلفظ الجلالة ، فقال : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ..) مع أن الإتيان بلفظ الجلالة يجعلنا نتوقع أن يأتي بضمير الغائب للإشارة إلى ذاته المقدسة ..

وربما يمكن الإجابة عن ذلك : بأنه أعاد لفظ الجلالة ليفيد أنه تعالى قد بدأ كلاما جديدا ، يتضمن قاعدة عامة ، يكون هذا المورد أحد منطبقاتها. أي أنه تعالى يريد أن يثبت العليمية والحكيمية لذاته المقدسة على سبيل الإطلاق ، ولا يريد أن يقيدها بمورد وفعل خاص ، وهو مورد تأثير المشيئة الإلهية في مشيئة البشر ..

فهو يريد أن يقول : إن هذا التأثير مستند إلى صفة العليمية والحكيمية من حيث هي ، ولا يريد أن يقول : إن سبب التأثير هو وجود سنخية خاصة بين هذا المورد وبين هذه الصفات ، وليس ثمة ما يثبت وجود هذه السنخية في سائر الموارد ..

فإعادة لفظ الجلالة قد ألغى هذا الاحتمال الأخير ، ولفت النظر إلى وجود اقتضاء عام في هذه الصفات ، يجعلها قابلة للتأثير في مختلف الموارد.

ولو أنه أتى بالضمير ، فقال : «إنه كان عليما حكيما» ، فقد يوهم ذلك أن العليمية والحكيمية معا قد اقتضتهما ربوبيته تعالى .. مع أن الحقيقة هي أن العليمية من صفات ذاته ، ومن شؤون ألوهيته تعالى ..

أما الحكيمية فهي من شؤون ربوبيته سبحانه ..

٢٦١

وبذلك يكون قد أكد على التوافق والانسجام في كلا هذين الأمرين ، في مقام التأثير الفعلي في الأشياء ، فلا بد من التوجه إليه تعالى على هذا الأساس ..

«كان» :

وكلمة «كان» قد جاءت لتبين لنا أن صفتي العليمية ، والحكيمية ، ليستا عارضتين على الذات ، وقد اقتضاهما فعل بخصوصه. بل هما من الصفات التي لها ثبوت حقيقي للذات ، وهي غير مرتبطة في نشوئها وثبوتها بفعل بعينه ، أو بأمر عارض .. بل هي ثابتة له تعالى على الحقيقة ، قبل ذلك وبعده ، لأن ذلك من تجليات صفات ألوهيته تعالى.

وهذا كقوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) .. فإن الله سبحانه نور على الإطلاق ، قبل السماوات والأرض ، وبعدها .. لا أن نوريته قد اقتضتها حاجة لها كامنة في السماوات والأرض.

«عَلِيماً حَكِيماً» :

وقد جاءت كلمة «عليما» بصيغة المبالغة .. وهي مبالغة من جهتين :

إحداهما : جهة الشمول ، من حيث كثرة مفردات العلم الحاضرة لديه تعالى ، وكثرة موارده.

والثانية : من حيث إن علمه تعالى دقيق ، وعميق ، وهو علم حضوري ، تكون الحقائق حاضرة لديه تعالى ، حضورا حقيقيا فعليا .. فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ..

وهذه الدقة والإحاطة الحقيقية تقتضي التدبير الموافق للحكمة في

__________________

(١) سورة النور الآية ٣٥.

٢٦٢

كل شيء .. لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه ، وهذا يحتاج ـ بالإضافة إلى القدرة ، وسواها ـ إلى العلم الدقيق ، والعميق ، والشامل ، وإلى الحضور التام ، بحيث لا يكون أي وجه من وجوه الشيء غائبا عن الواضع والمتصرف.

فتحقّق صفة الحكيمية بتمام معناها ، وهي من صفات الفعل ، متوقف على صفة العليمية ، التي هي من صفات الذات ، فاقتضى ذلك تقديم هذه على تلك في هذه الآية الشريفة. حيث لم توجد خصوصية أخرى تقتضي تأخير صفة العليمية ،

وفي جميع الأحوال نقول : إن المناسبة هنا تقتضي هذا التقديم .. فإن الحديث إنما هو عن اتخاذ السبيل إلى الله سبحانه ، وعن خلق الإنسان ، وعما تقتضيه خلقته ومسيرته في الحياة كلها. وعن حقيقة الوجود المتكامل في كل حناياه وخفاياه .. وفي بدايته ومنتهاه.

يضاف إلى ذلك : أن المشيئة الإلهية ، إنما تنبثق أولا من موقع الإحاطة ، والعليمية ، ليكون تأثيرها موافقا للحكيمية .. وقد جاءت العليمية والحكيمية هنا متوافقة مع مقتضيات هذه المشيئة ، بصورة واقعية ..

فاتضح من جميع ذلك ، ضرورة تقدم كلمة عليم ، على كلمة حكيم ..

واتضح أيضا : أن هاتين الصفتين هما اللتان يجب التنصيص عليهما ، والتذكير بهما ..

وأنه لا بد من إطلاقهما ، لكي تشملا جميع أحوال النشأة الإنسانية ، ومسيرة الخلق والخليقة كلها.

* * *

٢٦٣
٢٦٤

الفصل الحادي والثلاثون :

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)

٢٦٥
٢٦٦

قوله تعالى :

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

«يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ» :

والآن ، حان الوقت لإعطاء النتيجة النهائية الحاسمة لكل هذه المسيرة الإنسانية ، من بدء الخلق إلى منتهاه. ألا وهي : دخول المحسن في رحمة الله ، ودخول المسيء في نقمته سبحانه.

«من يشاء» :

ويرد هنا سؤال ، يقول : إنه برغم أن الله قد وعد من يتخذ السبيل إلى ربه ؛ بالجنة وبالنعيم ، فإنه تعالى قد علق نيله لهذا النعيم على مشيئته تبارك وتعالى .. فكيف ذلك؟ ولما ذا؟! ..

ونجيب : بأن جميع المخلوقات ملك لله تعالى ، ولا يستحقون مثوبة من مالكهم على طاعاتهم له ، ولكن الله عزوجل قد تفضل عليهم في تقرير أصل المثوبة لمملوكيه ..

مع أن له أن يلغي ذلك متى شاء ، ويعاملهم بمقتضى مالكيته لهم ، وإن كان لا يفعل ذلك ، فإنما لا يفعله لأنه لا يخلف وعده ، ولوجود مبررات استمراره وشرائطه ، لا لأجل أنه لا يحق له ذلك. وإن كان لا يلغي قدرته عليه ، ولا حقّه فيه ، لعدم لزوم أي محذور من استعمال هذا الحق ، وعدم وجود أي قبح في ذلك الإلغاء ، ولا في ذلك الاستعمال للحق ..

٢٦٧

ولكنه ما دام هذا القرار قائما ، فإن العبد يكون مستحقا لتلك المثوبة ، تماما كما لو أن أبا وعد ولديه بجائزة للناجح منهما ، فالناجح سيرى نفسه مستحقا للجائزة ، فإذا حرم منها ، فإنه سيرى نفسه مظلوما ، فكيف لو أعطيت الجائزة لأخيه الراسب؟!

ولعل هذا هو السبب في أنه تعالى هنا قد علق إدخالهم في رحمته على مشيئته .. فإن إعطاء المثوبة إنما هو في ظرف بقاء ذلك القرار الإلهي قائما ، فمن اتخذ السبيل إلى ربه ، فليس له أن يمن عليه سبحانه ، بل الله هو المتفضل عليه ، وله عليه المنة ..

كما أن ذلك يشير : إلى استمرار فتح باب الرحمة لمن أراد الدخول فيه ، فلا مجال لليأس من روح الله ، فإن الطاعة وحدها لا تكفي لإدخال المطيع الجنة لو لا الرحمة الإلهية ، والتفضل بجعل ذلك القرار ، كما أن المعصية لا تمنع من الرحمة ، إذا تاب الإنسان وأناب ، فإن القرار يبقى إليه ، قال في دعاء أبي حمزة :

«لا الذي أحسن استغنى عن عفوك ورحمتك ، ولا الذي أساء واجترأ عليك ، ولم يرضك خرج عن قدرتك» ..

وقد يجاب أيضا : بأن المقصود بقوله : «من يشاء» .. هو الناس ، أي أنهم إذا شاؤوا الدخول في الرحمة ، فإن الله لا يحرمهم من ذلك ..

ولكن هذا وإن كان محتملا في نفسه ، ولكنه خلاف الظاهر ، فإن ضمير الفاعل في قوله تعالى : (أَعَدَّ لَهُمْ) يرجع إليه سبحانه ، وهو نفسه ضمير الفاعل الذي استندت إليه كلمة «يشاء» ، ولو كان الضمير يرجع للناس ، لكان الأنسب أن يقول : «أعدّ» بضم الهمزة ، وكسر العين ، على صيغة المبني للمفعول ..

٢٦٨

«فِي رَحْمَتِهِ» :

١ ـ وقد نسب الله إدخالهم في رحمته إلى نفسه ، ليبين أن عملهم مهما بلغ ، فإنه لا يجعل لهم استحقاقا واقعيا أصيلا ، بسبب مملوكيتهم التي أشرنا إليها .. فإذا تفضل الله عليهم ، بجعل المثوبة لهم ، فإنهم يكتسبون هذا الاستحقاق بذلك التفضل ، فالاستحقاق مرتكز إلى ذلك الجعل ، والقرار الناشئ عن الحكمة والتفضل الإلهي ، ومعتمد عليه ..

٢ ـ ولم تذكر الآية الدخول إلى الجنة ، بل ذكرت أنه تعالى يدخلهم في رحمته.

ولعل ذلك لإفهامنا : أن جميع ما ذكر في هذه السورة من خلق ، ورزق ، وتشريعات ، وذكر ، ورعاية ، وهدايات ، وإفاضات متوالية ، ما هو إلا تفضلات ونعم منه تعالى. وأن جعل الجزاء ، وإن كان يستتبع استحقاقا بدرجة ما ، ولكن تبقى مقادير هذا الجزاء ، في دائرة التفضلات الإلهية أيضا ، إذ لو أردنا أن نقيس عملنا إلى كل تلك النعم والفيوضات ، فإنه مهما بلغ من الصفاء والصلاح لا يفي ولو بنفس واحد نتنفسه ، فضلا عن أن يتوهم أحد أننا نستحق عليه أي جزاء ، فكيف بجنات عدن ، التي وعد الله بها المتقين.

وذلك معناه : أن أي عطاء منه لنا إنما هو برحمة منه سبحانه ، لا باستحقاق منا له ، رغم أنه قد جعل الحسنة بعشر أمثالها ، بل جعلها : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) (١) ..

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٦١.

٢٦٩

الدخول في الرحمة الإلهية :

ولسنا بحاجة إلى التذكير : بأن الجنة رحمة إلهية للبشر ، لأن الرغبة فيها ، والطلب لها ، يدعو الناس إلى فعل الخيرات ، وعمل الصالحات ، وفي ذلك سعادتهم وصلاحهم ..

كما أن وجود جهنم أيضا ، والخوف منها يدعو الناس إلى التزام خط الطاعة والانقياد. وهو سلامة وسعادة لهم أيضا ..

وقد قلنا آنفا : إن الإنسان لا يستحق بعمله ـ من حيث هو ـ أي شيء ، ولا تفي جميع أعماله مهما عظمت بجزء يسير من تفضلات ونعم الله وفيوضاته عليه ..

بل إنما يستحق ذلك بالجعل الإلهي التفضلي ، ولكن أمر هذا الجعل يبقى بيد الله تعالى ، فيمكن له رفعه ، كما أمكن له وضعه .. وذلك حين يوجب استمراره نقضا للغرض ، ولا يكون إخلافا للوعد ، بل يكون متوافقا مع مقتضيات الرحمة والإحسان ..

وبما أن الله هو العليم ، والواقف على حقيقة ، ومدى ، وعمق ضعف ، ونقص ، وعجز ، وحاجة هذا الإنسان ، فإنه بمقتضى رحيميته يبادره برفع نقائصه ، وبسد حاجاته ، وتقوية ضعفه ، ويزيده من فضله ، فيعطيه الجنة ، فيقصر عن نيل نعيمها ، فيزيده من فضله كمالا ، وأهلية ، واستعدادا لنيل ذلك النعيم .. وكل ذلك على أساس الرحمة الغامرة ، التي كانت سببا في الفيض ، والحكمة الظاهرة التي هيمنت على المشيئة ..

وبما أن الحاجة إلى استمرار هذه المعونة قائمة ، فإن الجنة تصبح بمثابة الرحمة له ، وهي مستمرة ودائمة .. فيدخلها ، ويبقى فيها ، تفضلا من الله تعالى عليه وكرما ..

٢٧٠

«والظّالمين» :

قلنا : إن أصل جعل قانون المثوبة والعقوبة ، رحمة بالبشر ، وإحسان لهم ..

واللافت هنا : أنه تعالى حين أشار إلى العقوبة ، أظهر أنه لا مجال لغض النظر عنها ، ولا للتساهل فيها .. لأنها عقوبة نشأت عن الظلم ، والتمرد ، والطغيان ، والتعدي على مقام الألوهية ..

والسؤال هو : لماذا جعل الله الطرف المقابل لمن يدخلهم في رحمته ، هم الظالمون ، ولم يجعلهم الكافرين؟! ..

الجواب : لعل السبب هو : أن الله سبحانه بعد التذكرة لهم لم يترك أمرا ، يمكن الاعتذار عن مخالفته والتعدي عليه بالجهل ، أو الشبهة ، إلا وكشفه ، وبيّنه ، من خلال الهدايات التي زودهم بها ، وبذلك تصبح تعدياتهم ظاهرة في أنها تعديات على حدود الفطرة ، وانتهاك لأحكام العقل ، واعتداء على حرمات الله ، وفعل يسيء إلى مستقبلهم ، وإلى أنفسهم ، ويؤدي بها إلى المزالق والمهالك ..

وبذلك .. يكونون ظالمين أقبح الظلم ، وأسوأ الطغيان ..

وقد يحاول الإنسان أن يتجاهل مقتضيات فطرته ، وأحكام عقله ، وكل وسائل الهداية ، ويحصرها في زاوية ، ثم يسدل عليها ستار التناسي .. ولكن بعد إعادة إظهارها ، وإزالة العوائق عن مشاهدتها .. فإنه لا يعود الوقوع فيها كفرا وسترا ، بل هو محض التعدي والظلم ، والبغي ..

والتصريح بالظلم والظالمية إنما هو لأجل التنفير من هذا الأمر ، الذي تدرك قبحه كل العقول ، ويرفضه كل البشر بفطرتهم ، بسبب ما له من سلبيات واقعية ..

أما الكفر فقد يرضاه الإنسان لنفسه ، تحت ستار من الأقنعة التي

٢٧١

تنسجها له تأويلات وتسويلات شيطانية ، تجعله لا يشعر بالقبح والجريمة ، بصورة قوية وظاهرة ..

ولكنه حين يدرك أن كفره وشركه إنما ينطلق من ظلمه ، بل هو نفسه أعظم ظلم وأقبحه ، فإن النفيرة منه سوف تتأكد لديه ، ولدى كل من عداه ..

«أَعَدَّ لَهُمْ» :

ويلاحظ هنا : أنه تعالى بالنسبة للمؤمنين ، قال : «يدخل». أما بالنسبة للظالمين ، فقال : (أَعَدَّ لَهُمْ) ..

فما هو السبب في هذا التنويع في البيان؟! ..

ويمكن أن يجاب بأنه : لعل من فوائد هذا التنويع في البيان أنه أراد أن يطلع من يريد أن يتخذ سبيل الغي والظلم ، على هول ما يقدم عليه ، من حيث إنه يستحث خياله لتصور ما أعده سبحانه له من عذاب ، فيرتجف له فؤاده ، ويخشع قلبه ، فإذا أعاد النظر في كلمة «أعد» ، فسيجد فيها ما يشير إلى عدم تنجز الأمر ، وإلى وجود فسحة يستطيع من خلالها أن يبحث عن المهرب ، والمخرج ..

تقديم الظالمين لما ذا؟! :

ويلاحظ هنا : أنه تعالى قدم كلمة : «الظّالمين» في الذكر ، حيث قال : (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ) ولم يقل : «أعد للظالمين» ..

ولعل من فوائد هذا التقديم : أنه يكون بذلك قد نص على أن ظلمهم هو المؤدي بهم إلى هذا العذاب الذين لهم هذا العذاب مرتين ، مرة بكلمة الظالمين ، ومرة أخرى بالضمير العائد ، وهو كلمة «هم» ..

بالإضافة إلى أن هذا التقديم فيه إظهار للحرص على مواجهتهم

٢٧٢

بذلك العذاب الأليم .. وإفهامهم : أن هذا ليس كلاما عابرا ، بل هناك مزيد التفات ، وقصد أكيد ، واهتمام ظاهر بمواجهتهم به ..

وحتى بالنسبة لكلمة «أعد» فإنها تشير إلى أن ثمة مزيد عناية في كيفيات ، ووسائل ذلك العذاب ، وليس هو عذاب عشوائي يأتيهم كيفما اتفق .. بل هو عن إعداد ، وتهيئة ، وقد لوحظ فيه سد جميع الثغرات التي ربما تؤدي إلى بعض التخفيف في بعض الفترات ، أو في بعض التقلبات ..

«عَذاباً أَلِيماً» :

ثم إنه تعالى لم يقل : «أعد لهم جهنم» مثلا ، فإن كلمة «عذاب» زائدا على الأمور الثلاثة التي قدمناها آنفا ، تشتمل على إلماحة رابعة إليهم ، وتستبطن الإشارة إلى أعيانهم ، من حيث إشعارهم بالألم هم أنفسهم ..

وكذلك كلمة «الأليم» ، التي هي أيضا من صيغ المبالغة التي تفيد شدة ذلك الألم ، وكثرة توارده على ذلك المعذب ..

ولو أنه تعالى قال : «أعد لهم جهنم» مثلا ، أو نارا ، فقد لا يلتفت إلى ذلك العذاب ولا إلى شدة ذلك الألم ، إلا بعد توسيط وسائط ، واستحضار ملازمات ذهنية ، قد لا تعطي الإيحاء ، ولا تثير الإحساس المباشر والسريع لدى السامع ، بأنه هو المستهدف بذلك العذاب ، كما هو الحال في كلمتي (عَذاباً أَلِيماً) ..

كما أنه ليس فيها إلماحة رابعة إليه ، ولا تشتمل على أي تنصيص جديد عليه.

والحمد لله ، والصلاة والسّلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين ..

* * *

٢٧٣
٢٧٤

كلمة أخيرة :

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله ، والصلاة والسّلام على محمد وآله الطاهرين ..

وبعد ..

فقد كانت تلك نبذة من الكلام حول ظواهر آيات سورة «هل أتى» المباركة .. والتي هي سورة «أهل البيت» عليهم الصلاة والسّلام.

ولا بد لنا قبل أن نودع القارئ الكريم من الإعلان الصريح له بأنها محاولة لا تليق بأن تسمى تفسيرا ، أو حتى مدخلا لتفسير هذه الآيات الشريفة .. كيف! والقرآن بحر عميق لا تفنى عجائبه ، ولا تنفذ غرائبه ، ولا يشبع منه علماؤه. وما علماؤه إلا أهل بيت العصمة ، الذين اختصهم الله تعالى بمعرفة كوامنه وأسراره ، وحباهم بالتقلب بسواطع أنواره ..

وكل من عداهم لا يعدو أن يكون متطفلا ، لا يدرك غاية ، إلا بمقدار ما يدركه طفل ساذج ، يقف على شاطئ البحر المحيط ، ليلقي بنظرة بلهاء كليلة ، على طرف ضئيل من مياهه العذبة ..

فإنه مهما حاول ذلك الطفل العاجز أن يجهد نفسه ، ويثير كوامن فكره ، فلن يكون قادرا على إدراك ما لذلك البحر المحيط من مقدار ، ولا على استكناه ما يحتضنه من خفايا وأسرار ، أو على ما فيه من حقائق ، ودقائق ، وما تشتمل عليه أعماقه من غرائب وعجائب ..

٢٧٥

غير أن الذي جرأني على هذا الأمر هو ثقتي برحمة الله سبحانه ، وبلطفه وكرمه ، وطمعي في أن لا يحرمني من بركات القرآن ، فأفوز منه ولو بنسمة واحدة ، يزجيها إليّ فواح أريجه ، وأسعد بنظرة ساذجة ألقيها على رائع من روائع بهيج نسيجه. وأن ألمح ولو من البعيد البعيد ، سبحات نوره الباهر .. وأنال من بركات فيضه الغامر فعسى ولعل ، أن يكون ذلك سببا في أن تشملني شفاعة أهل القرآن الأطيبين الأطهرين ، وهم الزهراء وأبوها ، وبعلها وبنوها ..

فإنه ليس لي عمل صالح أتكل عليه ، سوى حبي لهم ، ورجاء شفاعتهم ، صلوات الله وسلامه عليهم ، ورحمة منه وبركات ..

وبعد ، فليس لي إلا أن أقول لسادتي وموالي ـ وهم خزان علم الله ـ كما قال إخوة يوسف : (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) ..

وأما ما آمله من إخواني الأكارم ، فهو أن يغضوا طرفهم عما يرونه في هذه الإطلالة من خطأ ، وسهو ، ونسيان ، وأن يتحفوني بملاحظاتهم ، وأن يصلحوا بآرائهم السديدة ، ونظرتهم الرشيدة ، ما أفسدته يد القصور أو التقصير ..

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسّلام على محمد وآله الطاهرين ..

عيثا الجبل (عيثا الزط سابقا)

جعفر مرتضى الحسيني العاملي

٢٧٦

المحتويات

الفصل الثاني عشر

(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً)

«وجزاهم» .. أم جازاهم؟......................................................... ٨

جزى هي الأوفق بالمقاصد الإلهية................................................... ٩

الثواب بالتفضل ، أم بالاستحقاق؟............................................... ١٠

إستحقاق ناشئ عن التفضل..................................................... ١٢

«بما صبروا»................................................................... ١٣

الجزاء مقابل الصبر ، أم مقابل العمل؟............................................. ١٤

لذة الاستحقاق................................................................ ١٥

استطراد .. للتوضيح............................................................ ١٧

مقارنة بين الجزاء .. وبين العمل................................................... ٢٢

لما ذا لم يذكر الحور العين؟....................................................... ٢٣

«جنة»....................................................................... ٢٥

«جنة وحريرا» ، لما ذا؟.......................................................... ٢٦

الجنة والحرير أولا................................................................ ٢٧

٢٧٧

الجنة أولا...................................................................... ٢٨

الفصل الثالث عشر

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً)

«متكئين»..................................................................... ٣١

«فيها»....................................................................... ٣٢

«الأرائك».................................................................... ٣٢

هل هي لذة الفراغ؟............................................................. ٣٣

نعيم الأبرار.................................................................... ٣٤

«لا يرون فيها شمسا»........................................................... ٣٦

«ولا زمهريرا».................................................................. ٣٧

تعلق النفي بذات ، وبصفة!!.................................................... ٣٨

«لا يرون».................................................................... ٣٨

«شمسا ولا زمهريرا»............................................................. ٣٩

اللف والنشر المرتب............................................................. ٣٩

الفصل الرابع عشر

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً)

«ودانية عليهم ظلالها».......................................................... ٤٣

العطف بالواو.................................................................. ٤٥

«ودانية»...................................................................... ٤٧

«عليهم»...................................................................... ٤٨

٢٧٨

مفردات نعيم الجنة.............................................................. ٤٨

تقديم كلمة «عليهم»........................................................... ٤٩

الضمير في «ظلالها»............................................................ ٥٠

«وذللت قطوفها تذليلا»........................................................ ٥٠

«قطوفها»..................................................................... ٥١

«تذليلا»...................................................................... ٥٢

الفصل الخامس عشر

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا)

«ويطاف عليهم».............................................................. ٥٥

الكماليات ، أم الضروريات؟..................................................... ٥٥

التنوع في النعيم................................................................. ٥٧

التسلسل الطبيعي............................................................... ٥٨

شرح الكلمات أولا............................................................. ٥٨

كلمة «من» نشوية ، أم بيانية؟.................................................. ٥٩

كلمة «كانت»................................................................ ٦٠

«من فضة»................................................................... ٦٠

الفصل السادس عشر

(قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً)

«قواريرا من فضة».............................................................. ٦٥

توضيح واختصار............................................................... ٦٧

٢٧٩

«قدروها»..................................................................... ٦٨

الضمير في «قدروها»........................................................... ٦٨

التقدير........................................................................ ٦٩

تنوع الملذات................................................................... ٧٠

الفصل السابع عشر

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً)

«ويسقون» : لما ذا الواو؟!...................................................... ٧٣

«يسقون»..................................................................... ٧٣

«فيها»....................................................................... ٧٤

«كأسا»...................................................................... ٧٤

لما ذا التعدية المباشرة............................................................ ٧٤

بين «يسقون» ، و «يشربون»................................................... ٧٥

«كان»....................................................................... ٧٦

«مزاجها»..................................................................... ٧٦

«زنجبيلا»..................................................................... ٧٧

مواصفات الزنجبيل.............................................................. ٧٧

خصوصيات في الزنجبيل......................................................... ٧٨

لا سلبيات للزنجبيل في الآخرة.................................................... ٧٨

أسئلة تحتاج إلى أجوبة.......................................................... ٧٩

زنجبيل الدنيا .. والآخرة......................................................... ٨٠

٢٨٠