تفسير سورة هل أتى - ج ٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة هل أتى - ج ٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩١
الجزء ١ الجزء ٢

الفصل السابع والعشرون :

(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً)

٢٢١
٢٢٢

قوله تعالى :

(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً.)

«إِنَّ هؤُلاءِ» :

ويثور أمامنا سؤال عن السبب في أنه تعالى قد ذكر الآثم والكفور بصيغة المفرد .. ولكنه قد تحدث هنا عنهما بصيغة الجمع ، فقال : (إن هؤلاء يحبون ، يذرون ، خلقناهم) إلخ ..

ويمكن أن يقال : إن الآثم والكفور ، وإن كان مفردا ، لكنه أريد منه الاستغراق للأفراد على سبيل البدل ، ليكون النهي شاملا لكل فرد منهم ، فلا يتوهم متوهم : أن النهي إنما هو عن إطاعتهم فيما اجتمعت كلمتهم عليه ، وليس نهيا عن إطاعة بعض الأفراد في بعض الأمور ، فهو إذن مفرد في قوة الجمع ، فصح وصفه بصيغة الجمع على النحو الذي ذكرناه ..

ويمكن أن يتضح ذلك : إذا لاحظنا أنه حين يريد الآثمون والكافرون أن يطلبوا من النبي أمورا لا مبرر لها ، فإن هذا الطلب إنما يكون بواسطة أفرادهم ، فردا فردا ، حين يتخذون لأنفسهم صفة الناصح ، والغيور ، والمحذّر ، ونحو ذلك .. وهم أفراد كثيرون يصح الإخبار عنهم بصيغة الفرد تارة ، وبصيغة الجمع تارة أخرى ..

فاذا أريد الإلماح إلى كثرة أفرادهم جيء بصيغة الجمع فقيل : هؤلاء يحبون الخ .. وإذا أريد الإلماح إلى نوع صفتهم الظاهرة والتعامل معهم كأفراد ، جيء بصفة الفرد ، فقيل : آثما أو كفورا ، ليكون النهي عن الإطاعة

٢٢٣

مستغرقا لجميع الأفراد ، قطعا لمادة فسادهم ، وإفسادهم ..

أو يقال : إن من الممكن أن يكون تكرر نفس طلب الآثم والكفور من قبل أفراد آخرين ، قد صحح أن يخبر عن جماعتهم بصيغ الجمع هنا ، وأن يقول لنبيه هناك : لا تطع هذا الذي يعرضه عليك الآثم والكفور ..

أو يقال : إنه يريد أن يشير إلى أن هؤلاء الأفراد إنما يطلبون منك ذلك ، لا من عند أنفسهم بل هم متواطئون مع غيرهم على مواجهتك بمثل هذه المطالب.

«هؤلاء» :

ولعلك تسأل : لماذا أتى بكلمة هؤلاء التي تستعمل للإشارة ، ولم يقل : إنهم يحبون ..

وقد يجاب عن ذلك : بأن المقام مقام التحقير ، والاستهانة بهؤلاء المنحرفين ، وقد أريد أن يؤتى بكلمة تتوافق مع هذا الأمر ، وتتناغم معه .. وكلمة هؤلاء إذا وردت في مقام المهانة والاستهانة فإنها تستبطن تحقير المشار إليهم ، والاستخفاف بهم ، وتصغير شأنهم. لأن القريب ، يهمل أمره ، ويحتقر ، حيث إنه لا يعتنى به لابتذاله ، ودنو مرتبته ، وسفالة درجته ، أما من يكون له قدر عال ، فيحتاج الوصول إليه إلى وسائط أكثر ، وإلى معاناة أشد ، ومنه قوله تعالى : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ..) (١) (قبّح الله من قال هذا من المشركين وغيرهم).

والأمر ههنا أيضا كذلك ، فإن وصفهم أيضا ، بأنهم يحبون العاجلة ، ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ، يشير إلى أنهم في موقع المهانة والحقارة ،

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ٣٦.

٢٢٤

لأن فعلهم هذا يتناقض مع ما تحكم به عقولهم ، وما تقتضيه فطرتهم. فهم ينطلقون في موقفهم هذا من دواعي الشهوة ، والغريزة ، والهوى. لا من منطلق الفكر والتعقل ، وحساب العواقب ، كما أوضحه قوله تعالى :

يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ :

أي ما هو حاضر لهم من أمور تلائم الهوى والغريزة والشهوة ، ويتركون اليوم الثقيل الذي يأتي من ورائهم .. وهذا خلاف ما تقضي به عقول البشر ..

وذلك دليل واضح على عدم إمكان الأخذ بأقوالهم ، أو الاستجابة إلى طلباتهم ، فيكون هذا بمثابة التعليل لقوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ..) فإنّ نفس كونه آثما أو كفورا يستبطن عدم جواز طاعته ، بحكم العقل ، والشرع ، والوجدان ، ويدخل قوله : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) في دائرة الأوامر الإرشادية ، والقضايا التي تكون قياساتها معها. ويمكن لكل الناس أن يتخذوا منها عبرة وتوجيها ، ونهجا.

لماذا لم يأت بلام التعليل؟ :

وبعد ما تقدم نقول : إنه لا حاجة إلى الإتيان بلام التعليل بأن يقال : «لا تطع هؤلاء ؛ لأنهم يحبون العاجلة» إلخ ..

وذلك لأن الإتيان بها قد يوهم أنه تعليل للنهي عن الإطاعة ، مع أن المقصود هو بيان حقيقتهم مطلقا. وجعل المورد مصداقا لذلك البيان المطلق ..

وذلك يفيد : أن هذا هو حالهم في كل أمورهم. وأنهم يتعاملون في مختلف الموارد بمنطق الهوى ، والشهوات ، ولا يزنون الأمور بميزان صحيح. ولا يختص ذلك بمورد النهي في الآية ، ولو أنه جاء بلام التعليل

٢٢٥

فلربما توهم البعض هذا الاختصاص.

الاقتصار على العاجلة :

وقد يسأل سائل : عن السبب في الاقتصار على ذكر حبهم للعاجلة ، حيث لم يصف العاجلة بأي وصف آخر ، ولا جعلها وصفا لشيء محدد ، فلم يقل : يحبون الفائدة ، أو المصلحة أو المنفعة العاجلة ، أو نحو ذلك.

والجواب : أنه تعالى لا يريد أن يسجل أي اعتراف بوجود أي نفع ، أو أي حسن ، أو صلاحية في تلك الأمور التي يحبونها ، فكان أن اقتصر على صفة العاجلة .. التي قد تفيد أيضا : تسرّعهم ، وعدم التفكير بالعواقب .. وذلك يحمل في طياته أخطارا حقيقية لهم ، فلعل ما أحبوه من العاجلة كان سما قاتلا لهم. لما فيه من المفسدة العظيمة ، فإن الربا مثلا فيه ـ بنظر هؤلاء ـ منفعة عاجلة ، واستفادة أموال .. ولكنه يسحت البركة ، والدين ، وكل شيء ، كما أن الشراب المحرم أيضا قد ينتهي بالإنسان إلى أوخم العواقب ..

وذلك كله يفيد : أنه تعالى حين اكتفى بكلمة العاجلة ، فإنما أراد أن لا يفسح المجال لأي توهم لأية درجة من الصوابية في اختيارهم هذا .. بل هو تخطئة تامة وشاملة.

وبذلك يسد باب الترجيح ، ولو من خلال التعبير الذي تميل إليه النفوس ، بدوافع شهوية ، أو غرائزية .. وبذلك يكون قد تم التحاشي حتى عن الإيحاء بما يوافق الهوى ..

كما أنه يستبطن درجة من التنفير عن هذا الحال المتناهي في السوء. وذلك لما يتضمنه من الإيحاء بالخطورة الناشئة عن الاندفاع الغرائزي أو الشهوي ، أو نحو ذلك ، بسبب ما تحمله العاقبة من مفاجآت

٢٢٦

صعبة ، وربما تكون كارثية .. وهذه العاقبة ناشئة عن عدم التدبر والتأمل في العواقب ، وعدم معرفة الصالح من غيره ..

والذي دلنا على ذلك بصورة أوضح وأصرح هو قوله تعالى :

«وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً» :

حيث لم يذكر الله سبحانه هنا : إلا حب هؤلاء للعاجلة ، ولم يشر إلى حصولهم عليها ، ووصولهم إليها وعدمه ، ولعله من أجل أن لا يمر في وهم أحد أن ثمة لذة من وراء ذلك الحصول ، تدعو إلى ترجيح اختيار العاجلة .. بل المطلوب هو إفهام الناس أن هذه اللذة مشكوك فيها أيضا ، بل يكون فيها البوار والهلاك لنفس الطالب والراغب ، إذ أية لذة لهم في أن يترك هذا النبي ـ مثلا ـ دعوته إلى طاعة الله ، والتزام أوامره تعالى ونواهيه؟!. إلا الضرر والبلاء ، والبوار للناس جميعا ، ومنهم نفس هؤلاء الدعاة إلى ذلك ..

ولعل ثمة وهما يراود مخيلتهم بوجود لذة مستقبلية فاندفعوا من أجله إلى هذا التصرف ولكنهم بعد أن ظهر لهم : عكس ما توهموه. فما معنى إصرارهم على ممارسة كل هذه الضغوط على هذا النبي الكريم والعظيم ليتخلى عن دعوته؟!. ألا يعد تصرفهم هذا من أقبح الأمور؟! فكيف إذا استمروا مصرّين على ذلك ، إلى حدّ إشعال الحروب ، وإزهاق الأرواح. وربما يكونون هم أول ضحاياها ، وأول من يحترق بنارها ، ويكونون أسوأ وقود لها.

فهل حب العاجلة المستند إلى مجرد خيالات وتوهمات ، يدعو إلى مثل هذه التصرفات غير المعقولة؟ ، حتى قبل أن يتحققوا من صدق هذا النبي ، وصحة ما جاءهم به ، وما وعدهم أو توعدهم به.

٢٢٧

وهل هناك سقوط وخذلان وإسفاف أعظم من هذا؟! ..

ولأجل ذلك جاء التعبير باسم الإشارة الذي قد يفيد التحقير في مثل هذه الموارد ..

«ويذرون» :

ويزيد وضوح هذا الأمر من خلال التعبير بكلمتي «يذرون» و «وراءهم» .. دون كلمة «يتركون» ، لأن كلمة ترك إنما يؤتى بها في مورد يكون للشيء خصوصية وأهمية ، ثم يصرف النظر عنه ، لسبب اقتضى ذلك ، فيقال : ترك.

وأما إذا لم يكن للشيء أية أهمية أو دور ـ بنظر هؤلاء ـ فالتعبير الأنسب عنه هو أن يقال : يذره. ولأجل ذلك قال تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (١). أي لا تشغل بالك بهم ، ولا تهتم لهم ، لأنهم لا يستحقون الاهتمام.

ولذلك قال هنا : يذرون من ورائهم ، أي يتركونه غير مكترثين به ولا مهتمين له ، بل إنهم لم يكونوا قد التفتوا إليه ، أو حصلوا عليه .. رغم أنه ثقيل ، ومهم جدا ، وهذا غاية في تصوير إسفاف هؤلاء الناس ، وسقوط آرائهم ، وخزيهم ، بسبب إيثارهم شهواتهم على كل شيء ..

«وراءهم» :

ثم تأتي كلمة «وراءهم» لتظهر المزيد من قباحة فعلهم هذا وشناعته ، ولو لا أنه سبحانه قد أراد الإلماح إلى هذا السقوط لكان بالإمكان أن يقول : ويذرون يوما ثقيلا .. وانته الأمر ..

__________________

(١) سورة المدثر الآية ١١.

٢٢٨

أضف إلى ذلك : أن كلمة «وراءهم» تفيد : أنهم ليس فقط يذرون ذلك اليوم الثقيل ، وإنما هم يجعلونه وراءهم أيضا ، والشيء الذي يكون وراء الإنسان لا يمكنه أن يراه ما دام كذلك.

ولعل هذا يشير إلى جهلهم به أيضا ، إذ إنه إذا كان هذا اليوم ثقيلا ، فكيف لا يلتفتون إليه ، ليزيلوا ثقله عن أنفسهم ، فهل يمكن أن يكونوا لا يشعرون بثقله هذا؟! .. أليس ذلك دليلا آخر على درجة انحطاطهم ، ومهانتهم ، وأن تفكيرهم قد أصبح معطلا تماما ، بل هو يسير باتجاه معاكس للاتجاه السليم؟! ..

«وراءهم» لماذا؟!

ولا ريب في أن اليوم الذي تركوه آت إليهم ، وهو يستقبلهم ويواجههم ، ولكنهم لا يشعرون به ، رغم أنه يلقي بثقله عليهم كأفراد ، فقد بطل إحساسهم بثقله أيضا ، كما بطلت رؤيتهم له .. وليس ثمة من وسيلة إدراك أقوى من الإحساس والمشاهدة ، فإذا تعطلتا ، حتى أصبح الشيء أو الأمر الحاضر الذي يفترض فيهم أن يروه لأنه أمامهم ـ اصح ـ مستحيل الرؤية ، فإن الإنسان يكون قد بلغ الغاية التي ما بعدها غاية في السوء والسقوط ..

«يوما» :

ثم إنه تعالى أشار إلى زمان ثقيل ، ولم يتحدث عن أحداث ، أو عن مسؤوليات .. مما يعني أن مستوى ثقل تلك الأحوال ، والأحداث ، والمسؤوليات قد تناهى وسرى إلى نفس الزمان الذي تقع فيه ، وأوجب ثقله أيضا ..

والزمان هو البوابة التي لا بد لهم من عبورها ، ولا مناص لهم منها ..

إن الإنسان قد يتمكن من الابتعاد عن موقع أو مكان ، وأن ينأى بنفسه

٢٢٩

عن حدث يعرض له .. ولكنه لا يستطيع أن لا يمر في عمود الزمان .. فالعمى المطبق عن هذا الأمر ، يدلنا على عظيم البلاء الذي هم فيه ..

«ثقيلا» :

وقد أشرنا إلى بعض الحديث عن كلمة «ثقيلا» وظهر أنها تعبير عن عمق الإحساس بهذا الأمر ، وأنه داخل في عمق وجود الإنسان .. فهو ليس من قبيل ما يلمس ، أو يذاق أو يشم ، بل هو ثقل ، والثقل يشعر الإنسان به بكل وجوده ، وبواقع كيانه ، كما لا يخفى ..

* * *

٢٣٠

الفصل الثامن والعشرون :

(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً)

٢٣١
٢٣٢

قوله تعالى :

(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً.)

«نَحْنُ خَلَقْناهُمْ» :

وبعد أن أشار الله سبحانه إلى أن الآثم والكفور يحاولان تعطيل مسيرة الهداية الإلهية ، وتحدث عن بعض حالاتهما ، وعن شخصيتهما غير المتوازنة ، وعن دواعيهما الشهوية والغريزية ، التي تؤثر عليهما في مختلف جهات السلوك. أعطى البرهان الصريح والصحيح على صحة ما ذكره سبحانه عن هذين الصنفين .. فقال : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) ..

فخلق الله تعالى لهم دليل على معرفته بهم ، وبحقيقة ذواتهم ، وبدخائلهم ، وبكل شيء يرتبط بهم ، لأنه في موقع الهيمنة ، والمالكية ، والخالقية ، والإشراف ، والإمساك بكل ذرات وجودهم.

فهو إذن لا يخبرنا عن ظنون وحدسيات استفادها من تقييم ودراسة حركاتهم الظاهرية ، ومقارنتها مع بعضها البعض. كما نفعل نحن البشر ، حين نحكم على إنسان بالشجاعة ، أو بالكرم ، أو بالعدالة والتقوى ، استنادا إلى مجموعة تصرفات وحركات .. جعلتنا نحدس بوجود تلك الصفات فيه ، مع أنه لا شيء ينفي لنا احتمال أن يكون في الأمر خدعة أو رياء ، وقد يتهم الولد أباه بالقسوة والغلظة عليه ، والبغض له ، بسبب معاملة له تهدف إلى تربيته تربية صالحة .. ولا يعرف أن قلبه يفيض

٢٣٣

حنانا وحبا له ، حتى وهو ينهال عليه بالضرب الموجع ..

والخلاصة : أن من بنى شخصيتك ، ومارس تكوينك ، وركّبك وصوّرك ، لهو الأعمق معرفة بك ، ولذلك تحدث الله سبحانه هنا عن الخلق ، لا عن الهيمنة ، ولا عن المعرفة والعلم ..

وقد عبر بكلمة «نحن» ليظهر مقام عزته ، وكبريائه من جهة. وليفهمنا أيضا تسخير كل شيء وانقياده وخضوعه له .. فإذا ما كان لغيره تعالى نصيب من التكوين ، فإنما هو بالله ، ومن الله ، وبإذن منه تبارك وتعالى ..

«وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ» :

ولم يكتف بالإخبار عن مجرد الخلق على سبيل الإجمال .. بل هو تعالى قد أتبع ذلك بالإشارة إلى التدخل في رسم كل تفاصيل وجودهم من الداخل ، وبين لنا مستوى ربط كل شيء بالآخر. وحدد مدى تماسك وانشداد كل إلى كل .. فقال : (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) والمراد بالأسر : الربط بقيد ، وقد يكون هذا الربط ضعيفا ، وربما يكون شديدا ..

وقد بين الله تعالى لنا : أنه قد ربط كل جهات وجودهم بأمور تضبطها ، وتخولها السير بالاتجاه الصحيح ، لو أراد لها الإنسان أن تواصل سيرها في ذلك الاتجاه ..

ومن الواضح : أن ضابطة ورابطة كل شيء بحسبه ، وبحسب ما يحتاج إليه ، فمنها التكويني ، والروحي ، والأخلاقي ، والفكري ، والمفاهيمي ، والاعتقادي .. بل ومنها ما هو اجتماعي ، وعاطفي ، وما إلى ذلك ، مما يكون له تأثير في جعل مسيرة الإنسان في الحياة بالاتجاه الصحيح ..

٢٣٤

فالله إذن .. قد قوّى وأحكم تكوين هذا الإنسان ، ورسم وجوده بصورة قويمة ، وربط كل جهات وجوده بضوابط وروابط صحيحة قادرة على إنشاء علاقات سليمة له بكل ما يحيط به ، وما يعنيه ، وما يطمح إليه ..

ولم يقتصر تعالى على ذكر هذا الربط والأسر وحسب ، بل هو قد تجاوز ذلك ليؤكد على قوته وإحكامه ، وفي هذا دلالة ظاهرة على أن ثمة تعمدا للتوجيه نحو المعرفة الدقيقة ، بكل تفاصيل وجود هذا الإنسان ، وتعريفه بدرجة الهيمنة عليه ، بهدف إقناعه بأن عليه أن لا يتنكّر لهذه العلاقة العميقة له مع الله سبحانه ، وأن يستفيد من التوجيه الإلهي ، الذي لا بد أن يكون أصدق توجيه؟! ..

كما أن عليه أن يبقى في دائرة تلك الضوابط التي جعلها الله تعالى له ، لكي تحفظه من السقوط ، وتصونه من الزلل والخطل ..

إن التخلي عن تلك الضوابط ، التي هي ضوابط وجوده كجسد ، وروح ، وشهوة ، وغريزة ، وعاطفة ، ومجتمع .. و.. و.. إن ذلك تدمير لمواقع القوة في داخل وجوده ، وتمزيق لحقيقته ، وتشويه لفطرته ، وقطع للعلاقة مع تلك الضوابط .. سيؤدي بلا ريب ، إلى الوهن والضعف ، ثم إلى التمزق والتلاشي ، بعد أن كان في غاية الإحكام والقوة ، والانشداد والضبط ..

إن سعي الإنسان للقفز فوق هذه الضوابط والنواميس ـ بدلا من الاعتراف بها ، والانقياد لها ـ لهو جريمة كبرى ، ما بعدها جريمة ، يرتكبها في حق نفسه ..

«وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً» :

ثم أشار الله تعالى إلى استمرار وثبات ، هذا التفضل الإلهي على البشر جميعا ، أفرادا وجماعات بالخلق ، وبشد الأسر ، حتى إذا أراد

٢٣٥

الإنسان أن يتمرد ، وأن يسعى في إتلاف هذه الطاقات والقدرات ، أو إحداث الوهن والضعف في ذلك الأسر المشدود ، من خلال قطع علاقته بتلك الروابط ليصبح في مهب الريح .. ـ إذا أراد الإنسان ذلك ـ فإنه سوف لن يغير شيئا في واقع السياسة الإلهية في الخلق ، ولن يؤدي إلى الحرمان من شد الأسر. بل سوف يبقى ذلك رهنا بمشيئته سبحانه ..

أضف إلى ذلك : أن شد الأسر معناه : أن مجرد إفاضة الخلق على العباد ، ليس هو آخر صلة لله بعباده .. بل الصلة تبقى وتستمر من أجل شد الأسر الذي أشار الله تعالى إليه بقوله : (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) ..

ثم تمتد هذه العلاقة وتزداد تجذرا ، وعمقا بامتداد الزمن ، وبمقدار ما يتعرض له الإنسان من نجاحات وانتكاسات ، فيما يرتبط بشد الأسر ، أو بإضعافه ..

وبذلك يكون سبحانه قد أفهم الكفور والآثم ، أنه بكفره وطغيانه لا يقدر على قطع علاقته بالله ، ولا يستطيع أن يضعف هيمنة الله عليه ، وأن يبطل مالكيته له. فهو دائما في قبضته ، وهو مقهور لإرادته.

وخروج العبد عن زي العبودية لا يعني أن ثمة تفوقا وغلبة لإرادة العبد على الله ، بل هو يعني : أن الله سبحانه يعامله بما أخذه على نفسه ، فيما يرتبط بمعاملة المسرفين والجاحدين ..

الأسر الإلهي :

وغني عن البيان : أن أسر الله للإنسان يختلف عن أسر الناس لبعضهم بعضا ، فإن أسر الناس لبعضهم معناه أن الآسر يقهر إرادة المأسور فقط ، بهدف منعه عن ممارسة حريته ، وسلب اختياره .. ولكن أسر الله للناس داخل في أصل تكوينهم ، وفي واقع خلقهم وخلقتهم ، ثم

٢٣٦

هو في نفس الوقت يعطيهم الخيار والاختيار ..

فمعصية الإنسان لله لا تعني تحرره من السيطرة الإلهية ، ولا إلغاء الهيمنة المرتكزة إلى مقتضيات الخالقية والتكوين. بل هو خروج من طرف واحد وهو العاصي نفسه ، دون أن يسقط إرادته تعالى عن التأثير. وإن عاملك الله باللطف والرأفة ..

أما عصيان الناس لبعضهم بعضا ، ورفضهم للأسر ، فهو يستبطن الخروج عن إرادة الآسر بكل المعاني المفروضة والمقترحة ، وهذا هو الفرق بين عصيان المخلوق لخالقه ، وعصيان الإنسان للحاكم والمتسلط عليه ..

«وإذا» :

وكلمة «وإذا» الشرطية تستعمل في مقام الجزم والحتم بحصول الشرط ، وقد استخدمت هنا ، للإلماح إلى أن هذا التبديل جزمي وحتمي ، بمجرد حصول الإرادة التكوينية الإلهية ..

«بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ» :

وقد دل على ذلك تأكيده بالمفعول المطلق ، وهو قوله تعالى : «تبديلا» .. بالإضافة إلى أن نفس خالقيته تعالى لهم ، وشده لأسرهم ، تدل دلالة صريحة على قدرته على هذا التبديل ، وعلى أنه يفعله حتما ، إذا تعلقت مشيئته سبحانه به ، خصوصا مع بيان أن التدخل الإلهي لا يقتصر على مجرد الخلق ، بل هو تدخل مستمر في جميع التفاصيل والمكونات لحقيقة المخلوق وكنهه ، كما دل عليه قوله تعالى : (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) ..

«بدّلنا» :

وأما لماذا اختار تعالى خصوص تبديل أمثالهم ، ولم يشر إلى مواجهتهم بالعقوبات ، بسبب طغيانهم فلم يقل : نعاقبهم ، نهلكهم ، ننتقم

٢٣٧

منهم ، نقهرهم ، نجبرهم؟ فلعل السبب في ذلك : هو أن هذه السورة تريد أن تؤكد على أن الله تعالى قد رعى مسيرة هذا الإنسان في هذه الحياة ، ولم يرض منه بالعبث في هذا الكون ، بل أراد منه أن يعمره ، وأن يصل به إلى الأهداف الإلهية السامية بالطرق الطبيعية والصحيحة ..

ثم أشار تعالى إلى أنه لن يتساهل مع أولئك الذين يريدون عرقلة هذه المسيرة ، عن طريق الإثم والإصرار على الكفران المتكرر ، مهددا إياهم بأنه قادر على تبديلهم بأمثالهم ، وذلك لكي يفهمهم :

١ ـ عموم قدرته تعالى ، من حيث إنه قادر على التصرف بهم ، كما أنه قادر على التصرف بمن هم أمثالهم :

٢ ـ إن التبديل العام يأتي من موقع البصيرة ، والحكمة ، والهيمنة .. وهذا يعطي : أن ثمة قدرة على الإهلاك ، والانتقام ؛ إذا اقتضت الحكمة والرحمة ذلك ..

٣ ـ إن ذلك يستبطن إعلامهم بأن مشروعهم التخريبي لن ينجح ..

٤ ـ إن عدم نجاح مشروعهم يرجع إلى عجزهم ، وإلى امتداد قدرة الله سبحانه ..

٥ ـ إن هذا معناه الخيبة لآمالهم ، وسقوط طموحاتهم ، وبث اليأس في نفوسهم ، الأمر الذي يفرض عليهم أن لا يتحمسوا لطمس معالم هذا الدين ، وعدم ممارسة الضغوط على الدعاة إلى الله سبحانه ، والعاملين في سبيل بث الهدى في الناس ..

٦ ـ وهو أيضا من موجبات عذابهم ، وبعث الألم في نفوسهم ، ومواجهتهم بعذاب الحرمان من اللطف والهداية ، والسّلام ، والسكينة ، وعذاب الخيبة والفشل .. والعيش في ظل شقاء الضلالة ، والكفران ،

٢٣٨

والإثم ، وعذاب الخزي في الدنيا والآخرة ..

ثم إن مجرد أن يحيق بهم ما كانوا به يستهزؤون ، وخسرانهم لأنفسهم ، سيزيد في آلامهم ، وسيضاعف من عذابهم أيضا ..

وحين يرون نعم الله تعالى تظهر على من كانوا يحتقرونهم ، ويذلونهم ، وينأون بأنفسهم عنهم ، فإن ذلك سيشكل مرتبة أخرى من مراتب عذاب الحسرة والندامة ، والحسد ، وما إلى ذلك .. تماما كما وعد الله سبحانه : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (١).

«أمثالهم» :

ويبقى السؤال عن السبب في أنه تعالى قد ذكر تبديل الأمثال ، ولم يذكر تبديلهم هم أنفسهم ..

ولعل بالإمكان الإجابة عن ذلك بالقول : إنه تعالى أراد أن يعطي قاعدة تشمل الناس جميعا ، من خلال كلامه عن تبديل الأمثال ، فإن التبديل إذا كان ممكنا في النظير والمثيل ، فإنه سوف يكون ممكنا في نظيره ومثيله الآخر ..

وقد قرن هذا البيان بالدليل الحسي ، وهو أن الخالق لهم من العدم ، لا يمكن أن يعجز عن تبديل ما خلق ، كما أن الذي أحكم وشد أسرهم ، لا بد أنه عالم ومتصرف في تفاصيل حقيقتهم ، وواقف على كنه وجودهم. ومن كان كذلك ، فإنه قادر على تبديل أمثالهم ..

ولو أنه تعالى اقتصر على ذكر تبديل خصوص الآثم والكفور ، فلربما يتخيل متخيل : أن ثمة ضعفا في هؤلاء الناس أقدره على هذا

__________________

(١) سورة محمد الآية ٣٨.

٢٣٩

التصرف فيهم ، وذلك لا يعني عموم قدرته إلى من عداهم ..

فجاء هذا التعميم المستند إلى ذلك الاستدلال ، ليشير إلى سهولة مثل هذا التبديل العام ، فضلا عن سهولة تبديل الآثم والكفور الذي قطع روابطه مع الضوابط والمعايير الشرعية ، والتكوينية ، والفطرية .. الخ .. فأصبح على درجة من التراخي والضعف ، تجعل تبديله أيسر من تبديل من عداه ..

«تبديلا» :

وقد جاء التأكيد بكلمة «تبديلا» التي هي مفعول مطلق ، ليدل على أن هذا الكلام لا يجري على سبيل المبالغة ، أو المجاز ، أو الكناية عما هو أدنى من ذلك ، بل هو مقصود بكل تفاصيله ، وهو جار على سبيل الحقيقة.

فلا معنى لتوهم أن يكون المراد تبديل الأوضاع والأحوال المعيشية مثلا ، كتبديل الغنى بالفقر ، والصحة بالمرض ، وتبديل العادات ، أو السياسات .. بل المراد التبديل الحقيقي ، الذي يطال أصل الخلقة والكيان الإنساني كله ..

وهذا يستبطن التهديد لهؤلاء الناس : حتى لا يتمادوا في غيهم ، ولا يستسهل الآخرون طريقتهم ..

* * *

٢٤٠